عناصر الدرس:
ما هو السقف الأعلى من النعم ؟
الربط بين عبادة الشكر وواقع الناس.
صورة العقل الذي ينكر النعمة والحلول
المقترحة له.
كيف أكون من الشاكرين ؟
أقسام الناس في الشكر.
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد
لله الذي سهّل طرق العلم ويسّر الوصول إليه، وهو سبحانه وتعالى الممتنّ أولًا بهذا
الباب العظيم -باب الوصول إلى العلم-، وهو الممتنّ بانتفاع الخلق بالعلم، فنسأله
سبحانه وتعالى كما شرح الصدور لطلب العلم ويسّر الأمور لذلك نسأله أن ينفعنا بهذا
العلم في الدنيا والآخرة. اللهم آمين.
إنّ
عبادة (الشكر) مهما كُرِّر طرحه لا يملّ من طرحه من جهة، ومن
جهة أخرى فجوانبه لا تنتهي.
وأما
مناسبته للأحداث الواقعة في المجتمع فمناسبة واضحة، فإن غياب هذا الحديث عن عقول
الناس أورثهم الطمع، فإذا ورث الناس الطمع هاجوا لأقل سبب.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًا
فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها))[1] وهذا النصّ
لابدّ من الوقوف أمامه وقوفًا طويلًا حتى لما نتكلم عن الشكر نكون فاهمين نشكر على
ماذا؛ لأن الطمع يجعل النفوس تتجاهل النعم، لا يشعر الإنسان بالنعم التي أنعم بها
الله عليه، فلو أردنا ذكر السقف الأعلى من النعم -كما يعبّرون- أي ما هو الشيء
الذي لو ملكته تكون ملكت الدنيا بحذافيرها؟ في النص لم يوصف الحد الأدنى، لم يذكر
لي في النص: الرضا بما قُسم لك على مضض، وقل هذه قسمتي ونصيبي وأمري لله! لا، هنا
يقال لك: هذا الحدّ الأعلى من النعم، ما دليلي على هذا المفهوم من النص؟
(فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا
بِحَذَافِيرِها) فتصوّر كيف يحدّد في النص لك الحد الأعلى من
النعم، وعلى هذا ستبني مشاعر ذكرك وشكرك وثناؤك على الله ورضاك وانشراح صدرك بكل
شيء أمامك، فكلها مبنية على معرفتك للسقف الأعلى من النعم، يعني أعلى شيء تتمناه،
شيء لو وُجد عندك فكأنما حزت الدنيا كلها.
à ما هو السقف الأعلى من
النعم التي لو جمعت لشخص حيزت له الدنيا بحذافيرها؟
أمور،
وكل شخص منا يضعها أمامه ويرى كم يتحمل من عبادة الشكر في اليوم والليلة، إلى أي
درجة يجب عليه أن يكون شاكرًا..
أسألكم
بالله هل في بيوتنا طعام يوم؟! لا، وغالبنا أصبح يستخدم أسلوب الشراء الشهري
وينتهي الشهر ولازالت الأشياء موجودة! فما واجبنا العظيم اتجاه ربنا الذي أنعم
علينا؟ هذا الحديث يربط بين عبادة الشكر اليوم وبين الواقع الذي نراه.
إننا
نرى واقعًا يتذمّر أهله من النعم، يتذمّرون من نعمة الأمن التي يبدلها الله -عز
وجل- خوفًا، وهذا جراء ما يفعله الإنسان بنفسه، يخرج يخرب أمنه ويجعله خوفًا! وهذا
هو نفسه الذي يخرج فيعرّض بدنه إلى الهلاك وقد كان معافا في جسده! وهذا نفسه الشخص
هو الذي يخرج ومعه طعام يومه ويريد طعام سنين! فما ترى في القوم إلا طامعًا أو
مثيرًا للطمع، وإذا ناقشته أو سألته يشير إلى أصحاب القصور، يقول لك: انظر ماذا
يفعلون وبماذا يتمتعون! فأصبح الطمع حقا هو المحرّك، وأصبح من جهة أخرى عدم الشعور
بالنعمة بل وكراهيتها هو الذي أفنى الخلق، وأذهب نعمهم.
à نحن
الآن محتاجون إلى أمرين:
1.
أن نعرف ما صورة
العقل الذي ينكر النعمة، ما فلسفته بحيث يصل لحد أن ينكر النعمة؟
2.
ما هي الحلول
المطروحة، كيف يحل قضاياه ومشاكله التي يعيشها؟
¿ نبدأ بالعقل .. كيف يفكر الإنسان وهو في حال طمع ؟
لا
شيء يقنعه، كلما مُدّ له بنعمة ما تناسبه، وتكون مشاعره أنّه إلى الآن ما جاء الذي
يريده، فهذا دائمًا كافر بأنعم الله، تفكيره المسيطر عليه، وهذه الصورة الكبيرة
لها صور صغيرة تحصل دائمًا بتكرار، المرأة مع زوجها تكفر النعمة، المرأة مع عشيرها
تكفر النعمة، يعطيها من الخير ثم تقول له: ما فعلت لي شيئًا، وهذا نفسه مع الله،
يكون الإنسان في أثناء الأزمة منكسر ذليل يارب يارب فرّج علي، فإذا فرج عليه {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}[2].
النتيجة
أن تفكير الشخص الطماع يحكمه الطمع بحيث تكون النتيجة أن يكون كافرًا طول الوقت،
كلما مدت له حبال النعم قطعها بعدم الشكر، دائمًا يتطلع إلى ما في أيدي غيره،
يكلمك عن الناس ويقول أن هؤلاء عندهم وهؤلاء عندهم، وفيه أيضًا صفة عجيبة وهي أنه
لا ينظر فقط إلى مَن هو أعلى منه بل إلى مَن هو أدنى منه! يعني يكون موظف محترم في
شركة أو في الحكومة، ثم يسمع عن سائق أجرة يكسب في الشهر مثلا 4 آلاف، ولا حتى
رُبع راتبه، ثم يقول لك: انظر كيف تركوا هؤلاء يأكلوننا! فيتكلم عمن هو أدنى
قائلا: لماذا يكسب كل هذا؟ هذه مواقف حقيقية يعيشها الناس بهذه المشاعر!
فيجمع
بين أمرين :
1.
كفر بكل شيء
يعيشه.
2.
و طمع في كل شيء
بين يدي الناس.
وكلما
كلمته عن أحد يقول لك: لا تدري ماذا عندهم أو ماذا جمعوا وفعلوا! يرون حال كل أحد
أحسن من حالهم. فأنت الآن مستقر وفي بيتك ووظيفتك وتخرج من الدوام وعندك أيام
إجازة وبدلات، كل هذا لا يراه ويرى الذي يأخذ ربع راتبه وهو ليلا ونهارا يعمل!
فهذا كله إشارة إلى مشاعر الكفر بالنعمة، وعلى هذا: هل هذا الشخص عنده سقف أعلى
لمطامعه؟ لا، ولو قلت له: قل الحمد لله. يقول: على ماذا؟! وإن كان ما قال بلسانه
فعيناه تنطقان: ماذا عندي لأقول الحمد لله؟!. والكفر بالنعمة حكمه كفر أصغر، يعني
كبيرة من الكبائر وليس أكبرا مخرجا من الملة.
¿
ما
هي الحلول عند شخص انطبقت على قلبه مشاعر الكفر بأنعم الله؟
سأصورها
بصورة أسرة، بيت، وتصور كيف تأخذ المرأة حلولا هي نفسها يأخذها هذا الذي عنده
مشاعر الكفر.
المرأة
لما تكفر عشيرها، تكفر زوجها، لا ترى له عليها فضل أبدا، لا بالستر، لا بالبيت، لا
بالإنجاب، لا أكلها، ولا شربها، كل هذا ساقط عندها. ما هي الحلول في وجهة نظرها؟
تسعى إلى ماذا؟ تتمرد عليه، تعصيه، تخرج عليه، وفي الحالات البعيدة تصل إلى حد
الخيانة، لكن قبل ذلك تتمرد، ترفضه، فبدأ إحساسها بأنها مشكلة، فترى حل المشكلة
التي تعيشها بالسحب الذي يؤدي إلى الانهيار، مستعدة أن تخرج من بيتها وينطبق بيتها
رأسا على عقب من أجل أنه ما استجاب لطلبها!
بيت
وأسرة ونعمة عظيمة من الله -عز وجل- مستعدة أن تهدمها من أجل أن مائة طلب ما
نُفِّذ، مائة طلب ألا يقابلها ألف نعمة؟! بل آلاف، لكنك تكلم مَن بهذا الكلام؟
تكلم شخصا لابد أن يكون عنده تفكير الإحساس بالنعمة لا الكفر بالنعمة مطبق على
قلبه، لما يكون تفكير الكفر مطبق على القلب لا خط رجعة مع الأشخاص، إما تسايره على
هواه أو تكون متعصبًا للطرف الثاني!
وهذا
الشخص تجد أنه لا شيء عنده يرضيه، هو بنفسه لا يعلم ماذا يريد! ليس لديه سقف أعلى
لو تحقق له يرضى، فمن ثم مهما أعطيته لا يقتنع، يضع عينه على شيء معين لما تعطيه
إياه يقول لك: ما عاد له طعم، أتعبتوني حتى أعطيتموني إيّاه، بعد ماذا أتيتم به؟!
نقول له: ما الحل؟ ماذا تريد؟ فمباشرة تكون حلوله هي هَدّ هذه النعمة، رفضها، عدم
الصبر لكي يصل إلى مراده، كل ما فات كلام في وصف المشكلة.
ويؤسفنا
أن هذه المشكلة منتشرة على جميع الأصعدة سواء كان هؤلاء مثقفين متعلمين أو خلاف
ذلك، على نفس التفكير، لا يرضيهم شيء، كل هذا الذي نقوله وصف لكلمة واحدة: الطمع
في الدنيا التي نحن على يقين أنها زائلة، والطمع مزيل للعبد مزيل للنعم، كم من طمع
زالت عنه النعمة أو زال هو عن النعمة.
ندخل
مباشرة للحل ثم نعيد من جديد الكلام الذي مر معنا سابقا عن الشكر.
Ã
ما الحل الذي
نقوم به في حال أناس نفسياتهم بهذه الصورة -وهم حولي: ابن - زوج - جار –
قريب- أخ – أخت- لتنخفض نسبة الطمع
الحاصلة في الدنيا؟
نبدأ
بأنفسنا أولًا: سقف الآمال والطموحات، هذا السقف لابد أن يأخذ مسارين من أجل أن
يعتدل: طمعك في الدنيا ما حده؟ وطمعك في الآخرة ما حدها؟
خفّض سقف الطمع في الدنيا
-الطموحات- وعلِّي سقف أطماعك في الآخرة
الجهة
الأولى يسيرة وواضحة، أن تضع سقفك كما في الحديث، ردد على نفسك: أنا أحتاج إلى ثلاثة
أمور كل يوم، واليوم الذي بعده الله أعلم هل أكون موجودًا أو لا..
1-
آمِنًا فِي سِرْبِهِ، ولست خائفًا، ومشاعر الخوف لا توصف في تفتيت النفس والقوى!
والذي شعر بالصغار لما حدث السيل ورأى الخوف وكيف يفقد الإنسان كل قواه في الخوف،
يفهم ما معنى الأمن، والمسألة تحتاج لقراءة شخصية في وضعك والواقع، أو لأجل أننا
مؤمَّنين فلما يُقال لك الأمن ما تشعر به! لابد أن تشعر وتقرأ الواقع.
تحكي
إحدى الأخوات مرت بموقف قريبًا في إحدى أحداث الدول المجاروة، بسبب الانفلات
الأمني الذي حدث ذاك الوقت، قدر الله لها وهي خارجة من بيتها أن ترى حالة اختطاف
لفتاة، والفتاة قدماها خارج السيارة ما استطاعوا سحبها جيدا وهي تصرخ بكل صوتها،
ما استطاعت أن تتدخل، تقول: جثوت على ركبتي، شُلَّت قواي! مع أنها لم تتعرض للموقف
إنما مجرد شاهد رأى.
فالأمن
مسألة خطيرة، لكن لأجل أنا نرتع فيه بمنّة الله وحفظه لا نشعر به ولا نشكر الله
عليه، وكثير من الناس عندهم استعداد ليسببوا الانفلات الأمني، وذاك الوقت يأتي
الندم في وقت لا ينفع فيه الندم، والسعيد مَن وعظ بغيره لكن الله المستعان!
لابد
أن تشعروا بمشاعر نعمة الأمن، فنبدأ بها أولًا، نضعها أعلى شيء في سقفنا، فغاية
طموحاتي في الدنيا أن أبقى آمنا، أستطيع أن أفتح مصحفي وأقرأ وقتما أريد، أستطيع
أن أتوضأ وأجدد وضوئي وقتما أريد، وأستقبل القبلة وقتما أريد، وأدخل مطبخي وقتما
أريد، وأشتري من الدكان وقتما أريد، أستطيع أن أرسل أولادي للدكان، ويذهبون إلى
مدارسهم بكل يسر وسهولة.. هذه يجب أن تكون أعلى نعمة، تتمنى أن تبقى محفوظة، وهذا
ليس كلامنا بل كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكل
مرة أذكّر نفسي به لأن هذا التذكير سيسبّب لك بالطبع الشكر والحمد الكثير، وليس
الشكر البارد والحمد الذي بين جنباته شعور بالتنغص! لا، حقا تقول: الحمد لله
كثيرا.
هذا
الأمن هو الذي يسبّب لنا ممارسة الحياة بصورة طبيعية، بل وأعلى من الحد الطبيعي،
نحن نمارس الحياة في الحد الأعلى من الطبيعي، فها نحن نتنقل لطلب العلم وزيارة
الأهل وأخذ العمرة والحج وزيارة مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل هذا تحت سقف
الأمن، والذي ما عنده سيارة يستأجر أو ويرزقه الله مَن يوصله معه، لكن لو لم يوجد
الأمن فكل الحلول لا تجدي!
من
أجل أن نكون من الشاكرين وليس من الكافرين لابد أن نضع حدًّا صحيحًا لمطامعنا في
الدنيا، يبدأ السقف بأني آمن، وإذا أتى الأمن العام انتفع الإنسان بكل شيء ولو كان
صغيرا.
2-
مُعَافًا فِي جَسَدِهِ، فكم من صاحب مال ولكن شربة ماء لا يستطيعها! فهذه المطامع
العجيبة تدور وتنتهي في لا شيء، فانظر كيف عافاك الله، وانظر كيف لما يصيبك شيء
بسيط من الصداع، وهذا الصداع يصيب غالب الناس بحيث يكون من نعيم الجنة أنهم لا
يصدعون، تصور الصداع البسيط الغالب الذي يصيب حتى الحيوان، كيف ينغص عليك الساعات،
كيف تصبح عصبي لما تكون عندك آلام، و انظر كيف لما يؤلمك سنّك أو ينجرح جزء من
بدنك أو ترتفع حرارتك، انظر كيف تنغص الأشياء بسبب أنك ابتليت في بدنك، فالعافية
التي تعيشها هذه إحدى آمالك التي تراها أملاً وتحمد الله -عز وجل- على وجودها
وتكثر من الشكر ويسبّب لك الإيمان بأنك ملكت الدنيا بحذافيرها.
3- عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ، واندفاع الجوع
يكون بأدنى شيء، وأهم شيء يكون عندك طعام اليوم، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة لابد أن
تفهم داخل نفسك أنك ملكت الدنيا!
لا
يكفي أن تشعر بالنعم الثلاثة، لأن أي شخص يأتي لك بوجهة نظر وقتها قد تغير وجهة
نظرك، أو يحكي لك عن رحلة ذهبها يمنة أو يسرة فيثير مشاعرك!
فبعد
أن تعرف أن هذه الثلاثة هي سقفك الأعلى في الدنيا، بقي أن تجعلها في مشاعرك أنك
ملكت الدنيا حقيقةً بحذافيرها، وهذا الشعور حتى يقع لابد فيه من تذويب مطامعك في
الدنيا، اشعر أنها لا شيء، وكل نعيم في الدنيا فهو منغص، وعُد إلى الوراء وانظر
كثير من الموقف التي كنت فيها سعيدًا بشيء من الدنيا وانظر كيف دخل عليك ما ينغصك
وأنت تقول: (أنا ليس لي حظ، كلما أردت أن أكون سعيدا أتى ما ينغصني!)، ما فهم أن
هذه سنّة الله أن لا تصفو الدنيا لأحد من أجل أن تبقى الآخرة هي الأعلى، فلما
تجتمع هذه الثلاثة ما نريد أن تقول: نحن حالنا طيبة والحمد لله بدون مشاعر، نريد
المشاعر الأعلى، نريدك أن تشعر أنك ملكت الدنيا بحذافيرها، فأين هذا الشعور؟! نادِه،
لأن هذا الشعور معناه أنك حقا تشعر بنعمة الله فلن تسكت أبدًا عن الشكر.
حدِّد
ما هي الأمور التي تشكِّل سقفك الأعلى، ثم ستنتقل لمشاعر جديدة: وهي أنك لو وجدت
هذه الأمور الثلاثة فأنت الآن ملِك.
للأسف
أكثر من 8 أو 10 سنوات ونحن نسمع هذا الكلام في دورات كثيرة منتشرة في العالم
الإسلامي، يقول لك: (لابد أن لا ترضى بوضعك، لابد من التغيير)، ويرمون لك قنابل!
النتيجة أن الطمع دخل في قلوب الناس.
¿ لما يدخل الطمع ماذا يحصل؟
سأبدأ
بالنساء، ترى نفسها في المرآة فلا يعجبها حالها، تذهب في الصيف وتعود امرأة أخرى! ..
من
الذي يشعر بالنعم الثلاثة؟ شخص مَلّ الدنيا وأعلى آماله في الآخرة وفكّر ماذا
سيؤنسه في قبره.
¿ يأتي من يقول: إذن هل نتوقف عن الانجاز؟
فارق
شاسع بين قناعتك بما رزقت وبين: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ
وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ))[3] فهذه كلها حرث
للسقف الآخر الذي نريد أن نعليه، يعني في الدنيا أنا قابل لهذه الثلاثة، أما في
الآخرة فأنا لا أقبل بالحد الأدنى، أريد الفردوس الأعلى، لكن كيف سأصل له؟! ((كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))[4].
فإذا
كنت طبيبًا فالفردوس الأعلى سيأتيك من عند الطب، بالأمانة، والإخلاص، وتعليق الناس
بربنا، وإرشاد كل مريض إلى الله.
ولو
كنت مدرّسًا تعلمهم أن الأمر أمر الله، والعلم من الله، وإلزامهم بشيء من العلم عن
الله، تفهّمهم أنّ عبادة مثل الاستخارة مهمة في اتخاذ القرارات.. فالمعلِّم باب
لتشكيل المجتمع، كلامه يحفظ على الصدور كأنه نقش لاينتزع.
وهذا
مُحاسِب.. إلى آخر أصناف المجتمع، كلهم
بلا استثناء مكانهم الذي هم فيه طريقهم إلى جنات عدن، وليس من مكان آخر.
ألم
تسمع عن التاجر الذي وصف في الحديث أنه كان يتجاوز عن المعسر فتجاوز الله عنه؟!
وهذا
ماشي في الطريق فوجد غصن شوك فأزاحه، فشكر الله له فغفر له.
وهذه
صورة الحياة وأنت سائر في طريقك ستصادفك أبواب خير فلو فتحتها شكر الله لك فغفر
لك.
من
الاستشهاد هذا كله نريد منك أن تفهم أن ترك السقف الأخروي لا يعني ترك الدنيا وعدم
الاجتهاد فيها، كُلٌ منا يحرص على ما ينفعه، لكن افهم ما ينفعك، ومتى ينفعك،
وينفعك في ماذا.
وماذا
عن مطامعي في الآخرة؟ لا يقل طمعك عن الفردوس الأعلى، لا يقل طمعك عن ثناء الله،
طول ما أنت تسير في الحياة اجعل السقف الأعلى في مطامعك أن ينظر الله إليك فيرضى
عنك، طوال الوقت تفكر أنا من أكون عند الله؟ فلما تقول لك نفسك: (تجمّلي لأن فلانة
ذوق وتفهم في الذوق ولو رأتك ستثني على ملابسك)، هذا الحوار دائر في نفسك رُدّه
وقل: (والله لا أريد إلا ثناء الله). ففي سقف الدنيا بقدر ما تستطيع اخفضه، أما
سقف مطامع الآخرة فعلّيه. طول الوقت فكر أن كل الفرص أتتك من أجل {سَارِعُواْ}، {سَابِقُوا}،
في مكانك، فيما فُتح لك.
-
أبناؤنا وصلاة
الفجر، هذا مكان لسارعوا وسابقوا.
-
أبناؤنا وحفظ
آيات من كتاب الله، هذا مكان لسارعوا وسابقوا.
-
أبناؤنا
والاستقامة على ذكر الله، هذا أيضا مكان لسارعوا وسابقوا، وهكذا.
المقصد
أن يُفهم جيدًا أن الطمع يُنتفَع به لو جعلته طمعًا في الآخرة، لو وصلت لدرجة
اليقين في أن النفع حقيقة هو النفع في الآخرة.
مثال:
الحياة البرزخية، ماهي الحياة البرزخية؟ قبورنا، لكن اسمها حياة! فما الفارق بين
الحياة الدنيا والحياة البرزخية؟
الحياة
البرزخية لا عمل فيها، وأيضا الحياة البرزخية الفارق بينها وبين الحياة الدنيا أنك
في الدنيا كنت مع الناس، تأنس بهم، في القبر لن يكون إلا عملك، فنحن في الدنيا
دائما نحاول أن نأنس، نبحث عن أنيس، ولا أحب أن أذهب إلى هذا المشوار إلا ومعي مَن
يؤنسني، ولا أدخل على الناس إلا معي مَن يؤنسني، وماذا بعد ذلك؟! انظر إلى قبرك،
لا أنيس إلا عملك! فلابد أن يصبح من مطامعك أن تجعل لك أنيسًا في قبرك، مثلما أنت
حريص أن يؤنسك فلان وفلان في دنياك، ونحن نشعر بهذا ونشعر بكلمة الوحشة، تمر علينا
مواقف فيها وحشة، فاجعل من مطامعك الحقيقية أن يكون لك أنيس في قبرك.
¿
ما
الذي يجعلنا ننقطع عن هذه المفاهيم ولا نعلي سقف أطماعنا في الآخرة؟
1.
رفع مستوى الطمع
في الدنيا، مثل شخص يقول: (السبت سأزور فلان والأحد سأشتري كذا والاثنين، وإن شاء
الله في الجمعة أقرأ آيتين من كتاب الله) فيأتي الجمعة وهو كسلان فينام! هذا
الأسبوع هو صورة كل أسابيع حياته، بل صورة كل سنينه، صورته إلى أن تنتهي الرحلة!
2.
ضعف اليقين في
الآخرة، هناك يقين ضعيف في أننا سنلقى ربنا ونخرج من هذه الدنيا في لحظة وأننا
سنحاسب على قليل العمل وكثيره، فجأة نسي المجتمع أن الغيبة حرام! لدرجة أن خطبة في
الحرم المكي تتكلم عن الغيبة، لماذا نسي الناس أن الغيبة حرام؟ لأنهم استحلّوا كل
شيء أمام شهواتهم، تقول: (لا يجوز أن تتكلم عنه). يقولون: (لا، بل هو فاسق يحق لنا
الكلام عنه). أنا أريد دليل واحد فقط يدل على جواز غيبة غائب لفسقه بدون سبب! نحن
لسنا في محكمة ليقول لي فاسق، لأنّ في محكمة ترفع دعوى وتتكلم لأنك ظلمت، هناك ناس
لا علاقة لهم في شيء إنما يتفرجون فقط ويسمعون الكلام وينقلون ما يتناقله
الكذابون، وهذا أقل وصف لهم إذا ما قلنا عملاء، وأنتم تعرفون ما وصف الكذابين.
ورد
في حديث في صحيح البخاري قال: ((الْهَرْجُ: الْقَتْلُ))[5]،
وفي رواية الإمام أحمد قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَالَ: ((الْكَذِبُ
وَالْقَتْلُ))[6]
وهذا والله ما رأيناه، كذب ثم قتل! في وسط هذه الدوامة التي لا نعرف لها أولا من
آخر! يستحل الناس الغيبة ولما تنبههم أننا سنأتي يوم القيامة وكُلٌ مِن هؤلاء
سيأخذ حقه، وكثير مما تنقله لا تستطيع أن تثبته! ولو قيل لك: ما مصدر كلامك؟ تقول:
سمعت وقالوا، كل هذا ستأتي بين يدي الله وتُسأل عنه فانظري كيف فعل الطمع في
الدنيا في الإنسان، يسّر عليه المحرمات المتفق على تحريمها، فنسيان الآخرة سبّب له
ممارسة المحرم وهو لا يظن أنه على هذا سيحاسب!
لما
وقعت فتنة الجمل وما جرّت وراءها من بلاءات على المسلمين، ومعروف كيف أن عائشة رضي
الله عنها كلما تُذكّر بها تبكي حتى تبلّ خمارها، والصحابة الذين اعتزلوا وعلى
رأسهم ابن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما، فلما عاد القوم من هناك وأصبحوا
يتكلمون في الموضوع وضعوا قاعدة لا استثناء فيها، قالوا: (فتنة سلّم الله منها أيدينا
فلنسلّم منها ألسنتنا)، الأمر يحتاج منا إلى مراجعة النصوص، الأمر يحتاج منا إلى
التقوى، أول ما ذكرنا موضوع التقوى كان رأس الجملة أننا ماذا نفعل في الفتنة؟
التقوى، تتقي الله، تخاف، تفهم أنك مسؤول، الفتنة تأتي عمياء صماء لماذا؟ لأن
الناس لا يرون الحق.
فكروا
بالعقل الذي ستوافقه النصوص مباشرة،
لو
قيل لك أن هذا الطريق يوصل إلى أمر فاضل، وقيل لك من شخص آخر: هذا الطريق مهلك،
أحدهما يقول فاضل والآخر مهلك، ماذا سيقول عقلك؟ يقول: أتقي هذا الطريق مادام أنه
ليس شرطًا أن أمرّ عليه، خصوصًا أنه ليس لي حاجة بسلوك الطريق، عندي مائة طريقة
يوصلني للفضل غير هذا الطريق.
لذلك
السلف لما تكلموا على مواقف في الخروج على ولي الأمر فيأتون ليقنعوا بعض كبار
العلماء أو التابعين، كان يقول لهم: أنا أفترض جدلا أن ما تأمروننا به جهاد، هل هو
واجب أو فضل؟ بالطبع لا يمكن أن يقولوا أن هذا فرض عين، فقالوا: فضل، فقال: هل
أترك السلامة وأذهب للفضل وأنا أعلم أن فضلاً لا يمكن أن يعدل سلامة؟!
ثم
أن هذه الأكف التي ترتفع في الثلث الأخير من الليل تسأل للمسلمين السلامة وانتشار
العلم وانتشار السنة هي أكف أهل التقوى، لكن مَن تشوش لن تجد منه إلا الدخول في
حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ
فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ))[7].
¿
أحتاج لأعيش
حياة مطمئنة وأكون من الشاكرين أن أقوم بعملين:
1.
أخفض
سقف الأطماع الدنيوية.
2.
أرفع
سقف الأطماع الأخروية.
لما
تقول للناس: خفضوا سقف أطماعكم الدنيوية يردون بكلام فيه انتقاد للتفكير وإشعارك
بأنك سلبي، أنت تحفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ
أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًا فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ طَعَامُ
يَوْمٍ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها))، وهناك
كلام لابن عمر أنه قال: "لو كان له خادم أصبح ملكا متوَّجًا!" على رأسه
تاج، هذا أعلى شيء، أن أجد عندي ما آكله وبدني طيب وآمن في بلدي.
هل
هذا يعني أنّ ليس هناك طموح؟ هناك طموحات لكن في شأن الآخرة.
يأتي
مَن يقول: وما علاقة أمور الدنيا -كوني طبيب أو مهندس- بالأطماع في الآخرة؟
كل
مكان أنت فيه لو حرصت فيه على ما ينفعك وتعبدت الله بعبادة الاستعانة وأردت بعملك
أينما كنت أن تتقرب به إلى الله كان هذا من ضمن أطماعك الأخروية.
لو
كنت معلمًا وعندي 45 دقيقة مع الطالب أمانة في عنقي، أشرح الدرس بالصورة المثالية
وأنتظر ثناء الله، بذلك أصبحت أمارس الدنيا لكن طمعي في الآخرة، لابد أن تفهم هذا
من أجل أن تجعل أطماعك كلها في الآخرة. طمّع نفسك في ثناء الله، في جنات النعيم،
فيما وصف سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله من نعيم أهل الجنة، ثم اعلم أن
كل الكربات في الدنيا لاشيء في كربة الآخرة، لكن تمر بكرب الدنيا من أجل أن تستغيث
منها ومن كرب الآخرة، كأنه يقال لك: هل ذقت كربة الدنيا هذه؟ بالنسبة للآخرة هي لا
شيء، فالمطلوب أن تستغيث من كربة الدنيا وكربة الآخرة، كنت تعمل ومطامعك للآخرة
فجاءتك كربة فتحمل هَمّ كرب الآخرة، لو أنت في عمل اجعل مطامعك للآخرة، لو أنت في
ضيق ونقص افهم أنك مررت بها لتستغيث، فإذا استغثت من كرب الدنيا فكّرت في كرب
الآخرة.
نحن
الآن نتكلم عن حل لشخص امتلأ قلبه كفرانا بالنعمة وكان الحل عنده دائما أن يهدم
النعمة التي عليه، فقلنا المفروض أن أخفض سقف أطماعي الدنيوية وأعلي الأخروية.
¿ ما السبيل إلى رفع الأطماع الأخروية وخفض الأطماع الدنيوية؟
عندي
شخص انطبق قلبه كفرًا بأنعم الله، كلما مدّه الله بالنعمة ما يشعر بها، وينظر لكل
شيء يعيشه أنه ناقص، ومن ثم كلما طمع أكثر ابتلي أكثر ونغّص عليه أكثر..
كان
صغيرًا ويتمنى أن يسوق سيارة ولو مستعملة، أعطاه الله هذا السيارة، ركبها وما
ناسبته، فأتته الجديدة، ما ناسبته، يطمع ويطمع ولا شيء يقطع طمعه! كل شيء يأتيه
ينغّص، ومن ثم كل نعمة تأتيه يكفرها! ما الحل؟ خفض سقف طمعك في الدنيا وارفع سقف
طمعك في الآخرة. كل الناجحين المخلصين كان إخلاصهم من هذا الوجه: أني لست طامعًا
في ثناءك، ولا في ثناء مدير ولا وزير، أنا أفكر في ثناء الله، ولهذا إذا كان هناك
مدير أو وزير أحسنت، وبدونهما أنا محسن.
إذن
كلما تفكرت في الكون وتدبير الله له وأحداثه، كلما زاد انخفاض سقف الدنيا.
انظر
لأغنى شخص في تفكيرك، بَرّاً كان أو فاجرا، أين ذهب؟ إلى قبره، مَن هذا الذي نفعه
ملكه؟ لما تتفكر في الكون فتش عن أعلى قيمة عندك وانظر إلى أفعال الله فيه، وانظر
إلى دقيقتين تُزيل ملكًا كانوا يظنونه ملكًا عظيمًا، الذي أجرى السفن في البحر
حملها إلى البر! من المصالح أن هذه الصور تنتقل إلينا، ومن المصالح أن ينهد إعجاب
المعجبين.
التفكر
يجعلك تقول: ماهي آخر آمالي؟ أبني قصرا؟ لكن في دقيقة يمكن أن تهتز الأرض وينتهي
كل شيء، يبلعني هذا القصر الذي أحبه وفنيت عمري من أجل بنائه! ثم انظر، تبني لك
قصرا في الجنة بكذا وكذا من الأعمال الصالحة وأنت في مكانك، والقصر الذي في الجنة
لا هزة أرضية تزيله ولا سُراق يدخلون عليه ولا جهدا تبذله إلا التعلق برحمة الله -عز
وجل-، فهذا التفكر يجعلك تخفض مستوى الطمع الدنيوي وترفع مستوى الطمع في الآخرة.
آخر
ما وصلوا إليه في الحضارة أن الناس بدؤوا يتجهون إلى الشرق، وأكيد مُورِس عليكم
لمدة سنتين أو ثلاث محاولة لجذب النفوس لها، وأنك يا مسلم ما فعلت شيئا وانظر
هؤلاء ماذا فعلوا! لسنا بحاجه إلى هزيمة
نفسية، ثم لو الناس طمعوا في الآخرة والله ليفتح الله عليهم أبوابا لا يعرفون من
بركاتها إلا ما يعرفون من العلم عنه سبحانه وتعالى.
ألم
يقل سبحانه وتعالى في كتابه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ}[8]
وقد مَرّ معنا شرح الآية وقلنا كما قال المفسرون: أن بينك وبين البركة باب يفتح لك
لو آمنت واتقيت، فكل ما تريده من حضارة بيد الملك سبحانه وتعالى فآمن واتقيه يقيك
الله ويعطيك من حيث لا تحتسب، لكن الناس متصورون أن كل شيء يأتي بالبذل والجهد
والحول والقوة من أنفسهم، لا يعرفون أن الذي يفتح الأبواب هو الله -عز وجل-.
1.
إذن تحتاج إلى التفكر في كل شيء حولك من مخلوقات الله وآياته، وانظر كيف
يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
2.
ثم هذا التفكر
يحتاج من جهة أخرى للتدبر في آيات الله -عز وجل-، اقرأ كتاب الله، وانظر
لآياته سبحانه وتعالى، انظر لكلمة زلزال وارفع قناعتك أن هذا كله الذي في كتاب
الله حق يقين ولابد أن يكون.
لازلنا
في موضوع الشكر ومهما كررنا في النقاش حول الشكر لن ينتهي الموضوع لأن الشكر نصف
الدين، والناس وُصفوا بأوصاف كثيرة حول الشكر، وُصفوا أن قليلًا منهم الشاكرين،
وُصف الشيطان بأن جهده مبذول أن لا يجعلهم من الشاكرين، وانقسم الناس إلى قسمين:
شاكر وكفور، فعُلم من ذلك أن الشكر له مكانة عظيمة في الدين، وإذا تأمَّلت جيّدا
تجد أن الشكر بالضبط هو حقيقة العبادة لأن العابد إنما هو شاكر، فكل ذكر وصلاة
وصيام وطاعات وزكاة وصدقة إنما هي شكر لله.
ونتأمّل
في العقيقة التي هي إراقة دم شكرًا لنجاة المولود وأمه، فالذي يذبح عقيقة ويريق
الدم المفروض تجتمع في قلبه هذه المشاعر، أني أريق الدم هذا الثمين من أجل أن أشكر
الله أن سلّم المولود وسلّم أمه، وعلى هذا قس جميع العبادات: أنها شكر متجدد
للمولى سبحانه وتعالى الذي أولى الخلق النعم، ولذلك تجد الناس {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[9]
إما شاكرا للنعمة وإما كافرا بها.
Ã
نطرح الموضوع من
ثلاث جهات:
1. حقيقة الشكر وبواعثه.
2. نماذج من الشاكرين في كتاب الله.
3. نماذج من الكافرين في كتاب الله.
أحسن
نموذج في الشكر هو سليمان عليه السلام، والله عز وجل في سورة سبأ أخبر عنهم ووصف
حالهم {اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }[10] فعُلم من ذلك
أمران:
كل
عمل تقوم به طاعة لله هو شكر، والناس في مقابل نعم الله قليلا ما يشكرون، فصنف لا يشكر،
وصنف إذا شكر فشكره قليل.
فتلخص
الصنف الأخير وهو الشاكرين، هؤلاء الذين يلهجون بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى
وحمده واستشعار معنى اسم الحميد، هذا
الاسم غاية في الأهمية، وهذا ما استقر في قلب الشاكرين، وهذا ما انتفى عن الكافرين.
لو
نظرت لنموذج الكافرين ستجد أحسن مثال في ذلك: قوم سبأ، رزقهم الله -عز وجل- بلدة طيبة، وعاملهم
الله عز وجل بمغفرته {وَرَبٌّ غَفُورٌ}[11]ومع ذلك ما
استعملوا مع الرب الغفور إلا البطر! فوقع منهم البطر على أنعم الله، والبطر من
أخوف المشاعر وأكثرها إهلاكا للنعم، وهذا المقياس قبل أن أتكلم عن حقيقة الشكر
اجعله في عقلك: كل أمر صغيرًا كان أو كبيرا أنعم الله -عز وجل- به عليك تشعر أو
تُظهر أنك لست بحاجة له فقد آذنتَ هذه النعمة بالزوال، كل مرة تقول فيها على نعمة:
(أنا أستطيع أن أعيش من دونها، هي ليست
ضرورية لي) وكثير من النساء يقولون لأزواجهم: (أموال عندي، وسيارة عندي،
وسائق عندي، ماذا أريد بك!) أليس هذا الكلام يقال؟! هذا إيذان بزوال النعمة! وانظر
لها عندما تزول ماذا تفعل!
فنحن
نحكم على صغير ممتلكاتنا وكبيرها بالزوال بهذه الصورة، وكم مِن نعمة كـُفرت فكان
كفرها إيذانًا بزوالها! ومع ذلك يعاملنا الله بحلمه، برغم كثير الكفر لكن ترى قليل
الإزالة.
أكثر
ما يخيفنا أن نسلك مسلك قوم سبأ ونحن لا ندري! لأن قوم سبأ ما كانوا يظنون أن ما
هم فيه من النعم سيزول، ما كان يمر على خاطرهم أن مرة واحدة ينقلب الأمن إلى خوف،
وتنقلب البساتين... والذي حصل لهم هم جنوه على أنفسهم! أنتم على يقين بأن الله -عز
وجل- لا يظلم أحدا، وهذا اليقين يجعلنا نؤمن أن كل الذي يزول من النعم إنما هو
جزاءات، فمتى استقر في قلبك عدم الرضا في أمر سينقص عليك الأمر.
واعلم
أنّ حلم الله طويل وهذا الذي يغرنا، قبل عشرين سنة تقول المرأة: 2 أو 3 أطفال
يكفونني، وبعد عشرين سنة تدور في المستشفيات تطلب علاجًا لما أصابها، لذلك لما
تنجب المرأة ثم لا تأتي بأطفال نقول لها: راجعي ماذا قلتِ سابقا! لأن غالبها تكون
جزاءات، وأكيد في عقل غالبكم صور من هذه، الذي يحتك بالمجتمع يرى هذا الأمر، وهذه
تقول لك لما ولدت قلت: (محرم علي أن أنجب مرة أخرى، ومَن هذه المرأة التي عندها
عقل وتنجب مرة أخرى؟!) وكل هؤلاء دفعوا
ثمن أفعالهم.
فالناس
لا يشعرون بآثار بطرههم على النعمة. أنواع من البطر: بطر على الأزواج، على البيوت،
على الأبناء، على الأمن والأمان، على أشياء كثيرة، لكن الله المستعان.
ß نبدأ بحقيقة الشكر أولًا:
الشكر
عمل مبدؤه عمل القلب ثم ينطلق على اللسان.
§
بماذا سيشعر
القلب من أجل أن يحقق عبادة الشكر؟
الشاكر
وقع في قلبه ثلاثة أمور:
1.
شعر بالنعمة، فهناك
مواتًا عن النعم.
2.
نسبها إلى
المنعم.
3.
شعر بفضله عليه.
1) الشعور أنها نعمة؛ لأن كثيرًا من
الناس يشعرون بأن النعم نقم، كثير من الناس ينظر إلى النعم على أنها نقم، مثل
الزوج، الأبناء، الخَدَم، الإقامة في ديار المسلمين، هذه من النعم العظيمة، بقاؤك
في ديار المسلمين مهما كنت تراها ضعيفة في تقدمها وحضارتها، كثير ممن يعيش في ديار
المسلمين أهم أحلامه أن يخرج يمنة و يسرة إلى ديار الكفر، ولا يشعر بقدر نعمة
بقائه في ديار المسلمين وسماعه للأذان وإقامة شعائر الدين إلى آخر النعم التي
نتمتع بها، فعندما تقول له:
أنت في نعمة كونك في ديار المسلمين، يقول لك: (أي نعمة هذه؟!) فيشعر بأن النعمة
نقمة!
فهذا
الأمر على مستوى حياتنا أو على مستوى الأمم، أو على مستوى المجتمعات موجود، كثير
من النعم التي يتمتعون بها لا يشعرون بقيمتها إلا بعد زوالها، مثل من خرج على ولاة
الأمر واستبدل الأمن بالخوف، وقد يحدث ظلم من الإمام لكن كما قال كلام ابن مسعود رضي الله عنه لما يقول: "إن
ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة" فهناك أمور نكرهها في
الجماعة، فعندما تكون الجماعة تكون هناك قوانين صارمة.
ترى
حولك حصلت الفرقة، وحصلت الفوضى في العالم الإسلامي، ووجد الناس هامش حرية كما
يعبرون، كان الناس يُضيّق عليهم في أمور معينة حتى أهل الدين و الدعوة وجدوا هامش
حرية، فهناك أشياء نحن نراها نقمة وهي في حقيقتها نعمة، لكن أصل القصة اللعبة
الكبيرة، وهي إقناع المجتمع بمفهوم الديمقراطية على أنه مفهوم حرية، وهو في
الحقيقة مفهوم فوضى، وليس من المفاهيم الشرعية، فالقصة من أولها فيها خطأ في الفهم
ومن ثم ترتب عليها الباطل فوق الباطل.
يؤسفنا
أن بعض الناس وخصوصا من طلاب العلم لا يعلمون أن هذه الأمور مسيسة ولها مقاصد،
وأنت في أعظم نعمة وأنت بعيد عن هذه المصيبة.
كثير
من المصلحين يظنون أنهم لو عدلوا الأعلى وهم الحكومات يتعدل الأدنى وهم الشعب،
والواقع والحقيقة وما مَرّ به المسلمون يدل على خلاف ذلك، وكذلك المنطق يدل على
خلاف ذلك، بمعنى أن الإصلاح يكون من الأدنى إلى الأعلى وليس العكس،كلما أصلحت
النفوس، وحبب الدين إلى الخلق، واشتاق الناس لرضا ربهم، فُتحت لهم أبواب الرضا، و
كلما خالفوا ذلك اختلف الأمر وسُلط عليهم.
فالمقصد
أن تكون شاكرا حقًّا وتشعر بالنعم، ولابد أن تكون واعيا من أجل أن تشعر بالنعمة، فلما
تكون هناك بلاد تحفظ بناتها من الاختلاط وتمنعهم من مصيبة كبيرة اسمها الزنى،
يأتون ويحاربون في هذا! واسمع وانظر واقرأ في كثير من التقارير والبرامج الوثائقية.
مثلا:
في جنوب أفريقيا تحصل 132 حالة اغتصاب في اليوم، هل تتصورون؟! السبب معروف، انفلات
أمني مع اختلاط، أصغر أم كانت طفلة في بريطانيا عمرها 9 سنوات وقع عليها زميل لها
في المرحلة المتوسطة، هي مدرسة مشتركة بين أولاد وبنات وابتدائي ومتوسط، كتبوها في
مقالة في جريدة: (أصغر أم)! وصل الأمر إلى أن يصبح عاديا، لذلك لما كانت تركيا
دولة إسلامية أيام الدولة العثمانية، فأتى بريطاني يقول: (ما بال نساؤكم لا يجالسن
الرجال وليس عندهم جرأة على الخلطة؟) بكلام يتصنعه، فردوا عليه: (نساؤنا لا يريدون
أن يختلطوا بالرجال لأنهن لا يردن أن يحملن من غير أزواجهن) بكلام واضح، لأن
النهاية هكذا، وشخص إما غبي أو يتغابى الذي يرى أمرا غير هذا، هذه حقيقة، والذي
شَرَع أعلم بما في نفسك.
فالمقصود
أننا نعيش في نِعَم، الشريعة متّعنا الله بها، وزاد قبولها في قلوب المسلمين، وشرح
لها الصدور، فهل تمتعت بها؟ وهل شعرت أنها نعمة عليك؟ وهل رأيت أن من واجب الشرع
عليك أن تنشر محاسنه بين الخلق؟ وأن تعظمه بين الخلق؟ وأن تُشعِر الناس إلى أي
درجة هم يتمتعون بنعمة الحكم بما أ نزل الله؟
وقد
رأينا عيانا مَن يتكلم على الدين على أنه تخلف، بل كما حملوا الشعارات يقولون فيه:
(لا للدين، لا للتخلف)! ومثله في قنوات فضائية ومقابلات مع مشاهير أو مَن يُعتبرون
رموزًا، بدون أن يدركوا يخرجون ما في أنفسهم ويبينون أن أخوف ما عندهم أن تكون
الشريعة هي الحاكمة.
فنحن
نحتاج من الأدنى إلى الأعلى، أن نشعر بنعمة أن الله شرّع لنا شرعا، يُفهم هذا
الشرع، يقترب من الناس، يُبيَّن، فغالب مَن يتكلم باسم الشرع يشوهه، أي يعطيك
مثالا يقول لك: (أنت يا امرأة ليس لك في الورث إلا أقل من الرجل، أنت لك نصيب وهو
نصيبان)، قبل أن يتكلم عن الأحوال ومتى يكون لك نصيب وله نصيبان وكأنه في كل
الأحوال هو هذا الحكم!
المقصد:
أن الشعور بالنعمة يسبّب الشكر، هناك أمور كثيرة ونعم كثيرة حولك من أعظمها أنك
مسلم، وأن لك شرع شـُرِّع، لابد من الشعور بذلك.
فمشاعر
الشكر مبدؤها أولا الشعور بالنعمة، وعدم كفرانها، وعدم الوقوع في مصيدة مَن يثيرك
على النعمة، فنحن عندنا أناس كافرون ويبثون الكفر في نفوس الناس (كفر النعمة).
إذن
أول الأمر: لابد أن نشعر بالنعم، وهذا الكلام الكبير يشعر به فيبثه فيمن حوله، ولو
عشت مع متشائم سيكون تفكيرك متشائمًا، عش مع مَن ينظر للأمور بنظرة سوداء سترى كل
الأمور كما يراها، عش مع شخص يشعر بنعم الله ويحمده على كل شيء يأتيه، سيكون هذا
الأمر، ولذلك بدأنا بالحديث أن هذا سقف النعم الذي لابد أن أذكّر أبنائي به.
هذا
الحديث: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ
، مُعَافًا فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا
بِحَذَافِيرِها)) من المهم نشره؛ ليسمع الناس ما هو السقف الأعلى في الدنيا،
ثم كلمهم عن جنات النعيم، هناك كثيرون يعيشون الغفلة، هناك مَن يعيشون كالإمعة: إن
أحسن الناس يحسنون، وإن أساؤوا يسيئون.
هناك
أناس يتكلمون في ما لا يفقهون وتريد منهم كلمة واحدة قرؤوها أو درسوها في علم
السياسة مثلًا، لا يعرف ما تعريف الديمقراطية أو الدكتاتورية في الحكم، سمع الناس
يتكلمون فأطلق لسانه ونسي: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ
تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ))[12].
2) نسبة النعمة إلى المنعم: بعد أن شعرنا
بالنعمة لابد من نسبتها إلى المنعم، أنت الآن في أمن وأمان، وعندك قوت يومك بل
أسبوعك بل شهرك، أنت معافى في بدنك، مَن صاحب كل هذه النعم؟ هو وحده لا شريك له،
وإذا كان هو وحده لا شريك له الذي أعطاها، فهو وحده لا شريك له إذا أراد أن ينزعها
نزعها، وهذا الفهم يجعلك لو أردت أن تعالج فقرًا، بطالةً، جوعًا، جهلًا، تعرف إلى
أين تتجه، فهو الذي يفتح على الخلق بركات من الأرض والسماء، وهو الذي يمنع هذه
البركات، ومَن يعرف العصر الحديث فقط يفهم هذه المسألة جيدا.
ها
هي أرض القصيم قبل 80 أو 90 سنة كان أهلها في حالة من الجوع والفقر لا يعلمها إلا
الله، حتى أنهم أتتهم سنة كانوا يموتون من الجوع و العطش! فكان الرجل منهم يرحل
على جمل يبحث عن الماء، فالذي يفهم كان يربط نفسه على الجمل؛ لأن الجمل يعرف طريق
الماء فيمشي، وهم من كثرة الجوع والعطش قد يغمى عليهم، فالذي لا يربط نفسه يموت
ويسقط في الصحراء، والذي يربط نفسه يسير به الجمل حتى يصل لواحة فيسقيه الناس
الماء ويطعموه فيعود! والآن القصيم أكبر واحة في الجزيرة تصدّر التمر، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ}[13] هي نفسها
الأرض، لكن لما فُتحت عليها البركة أصبحت مباركة، والذي يفتحها هو الذي ينزعها،
فلو عاملت واحدًا لارتاحت نفسك وعلمت أين العيب والمشكلة.
فأنت
الآن شخص شعر بالنعمة، المطلوب منك أن تنسبها إلى المنعم، وإذا أتت النقمة تفهم
لماذا أتت، ولذلك لا تنس هذا الحديث أبدا: ((إِنَّ مِنْ
ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى
رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذِمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ)) ثم يختم
النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث بقوله: ((إِنَّ رِزْقَ
اللهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ))[14]
فهذا الكلام يجعلك على يقين أنك تعامل واحدا، والقوم لو وحّدوا لأصلحت دنياهم
وأخراهم، لكن القوم عندهم شركاء متشاكسون في نفوسهم، وحتى أكون شاكرًا فأنا بحاجة
أن أكون شخصا أشعر بالنعمة، وأنسبها إلى الله، وأشعر بفضله سبحانه وتعالى عليّ.
3) تشعر بفضل الله عليك: إذا نسبت النعمة
إلى الله تشعر أن كل نعمة أتتك تناسبك، مِن فضل الله عليك أنه منع عنك كذا وأعطاك
كذا، أنه قرّبك من كذا وأبعدك عن كذا، وطيلة الوقت تقول: الذي أعطاني فهو من فضله
أنه فتحه، وما منع عني فهو من فضله أنه أبعده عني.. ومع الأيام ومعرفة الله ومعرفة
النفس أقول سبحان الله يعلم ماذا يصلح العبد، أنا لا يصلحني إلا أن يبتعد عني كذا،
أنا لا يُصلحني كلما غفلت إلا أن يأتيني ذاك الألم حتى أفيق. فكل شخص منا يعامله
الله -عز وجل- بتمام فضله، وكم نحن اليوم نحمد الله -عز وجل- بعد كل هذه السنين أن
كثيرا من دعائنا لم يستجب، لأننا كنا في أول أمرنا مخدوعين في الدنيا نريد ونريد
ونريد، ولما تقدم بنا العمر حمدنا الله أن كثيرا من أمانينا لم تستجب وإلا غرقنا!
المقصد
أن الشاكر حسّاس جدا تجاه النعم، ينسبها إلى الله ويشعر بفضله في العطاء والمنع،
والناتج أنه سينفعل قلبه بهذه المشاعر وينفعل لسانه.
¿
إذن
ما هو الشكر؟
الشكر
عمل قلبي نتيجة الشعور بالنعمة. فإذا شعر بالنعمة نسبها إلى الله وأظهرها وأثنى
على النعمة وعلى المنعم، هذا هو الشكر، ليس بأن يكلمك الناس طيلة النهار عن
أبدانهم وأموالهم وأبنائهم وبيوتهم بصورة محتقرة، يكلمونك عنها وهم يحتقرون
النعمة!
Ã
ضد الشاكر هو
الجاحد للنعمة، الكافر بها.
أول
صفة في هذا الجاحد أنه لا يشعر بالنعمة، فالجاحد ليس في قلبه قبول أنّ لأحد فضلًا
عليه، ولذلك ورد في الحديث ((مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ،
لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لاَ يَشْكُرُ الْقَلِيلَ، لاَ يَشْكُرُ الْكَثِيرَ، وَالتَّحَدُّثُ
بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ))[15] ما علة هذا؟ لماذا لا يشكر القليل ولا الكثير ولا
الناس ولا الله؟
لأنه
لا يشعر أن هناك نِعَم، ومن ثم لا يشعر أن أحدًا له منّة عليه، حتى الله لا يشعر
أن له منة عليه! وهذا يغيب عنه اسم (الحميد)، فلا يرى في أفعال الله -عز وجل- ما
يوجب الحمد، هذا طيلة الوقت ساخط لا يرضيه شيء.
à أقسام الناس:
1. شاكر
2. وجاحد.
الجاحد
قطع على نفسه الطريق، يجحد النعم ولا يشعر أن عنده نعم
أما الثاني فيشعر بالنعم، فبعد أن يشعر بها هناك
قسمان:
- قوم ينسبون النعم لغير الله.
- وقوم ينسبون النعم لله.
نبدأ
من عند النسبة: القوم الذين يشعرون بنعمة الأمن والأمان والعافية، من أين لكم
العافية؟ يكتب لك قائمة بالأعمال التي يقوم بها: (أنام الساعة كذا وأأكل كذا وألعب
الرياضة)، فيعطيك قائمة على أنه هو الذي يحافظ على صحته! هل هذا يعني أن لا نعمل
هذه الأعمال؟ اعمل ما أردت لكن كلها أسباب قد تنفعك وقد لا تنفعك، هل كل مَن قام
بها نفعته؟! كم موسوس في الصحة هو أكثر شخص يبتلى بأمراض، وكم من محافظ على صحته
يموت في عمر مبكر عن أمثاله، وهذا مكرر، معناه أن هذه الوسائل وإن أُخذت فإنما هي
أسباب، والأسباب تنفع أو لا تنفع بأمر الله، فراجع نفسك.
كثير
من النعم التي تعيش وترتع فيها في قلبك مانع عن شكرها لأنك تنسبها إلى نفسك أو
تنسبها لغير الله على وجه العموم، فانظر إلى إقبال قلب زوج إلى زوجته، طيلة الوقت
تقول لك: (أنا أعمل له وأعمل له وكذا وكذا من الصفات) ثم تتحداك أنه لا يجد مثلها!
بكل ثقة على أنها هي سبب بقاء قلبه إليها، وانظر إلى هذه لما يربيها الله، وكيف
أنها تحتقر أي أحد آخر، فتقول لك: تلك الأخرى التي التفت قلبه لها أو تزوجها ليس
فيها ولا فيها ولا فيها، وتقول: من المؤكد أنها سحرته وإلا فلا يمكن أن يتركني!
وهي لا سحرته ولا غيره لكن هذه أتت تربية لأن نعمة إقبال قلب الزوج إليك لست أنت
التي تملكيها، ولا مرآتك ولا عنايتك وإن كانت هذه كلها أسباب لكن والله أسباب قد
تقع في قلب الزوج وقد لا تقع، وكم من المرات لا تقع لأن الله هو الذي يشرح الصدور.
تحكي
أخت من العراق عن بداية استقامتها بصورة عجيبة، وهي تتعلم قليلا قليلا، ووصل إلى
علمها حكم نمص الحواجب وكانت لا تعلم، فقررت أن تتبع سنة النبي -صلى الله عليه
وسلم- ولا تفعل، فتصور أنها تتغير على الزوج فجأة، وهم يرون عمل الحواجب شيء مهم
جدا، جعلوه الحياة وسعادة الزوج! ومرة واحدة تغيرت هي عليه فهو أخذ المسألة كأنها
عناد، فيقول لها: تفعلين أي تفعلين، فتقول -والعهدة على القائل لكن أروي القصة كما
تكلمت-: أنها بكت بين يدي الله وطلبت منه أن يفرج لها هذا الأمر وأن يجعل لها من
هذا الضيق مخرجا، وهذا في الليل، وأصبحت في الصباح فقال لها ستذهبين، وطأطأت رأسها
وخرجت وتركته، أتى من العمل وهي لم تذهب، نظر في وجهها فبدأ يثني عليها ويقول لها:
أرأيت كيف عندما عملت أصبحت كذا وكذا!
فانظر
كيف مالك الأبصار يقلّب الأبصار، وهي تحكي أنه بعد زمن لما زاد إيمانا أخبرته
بأنها لم تفعل وهو تيقن بنفسه، لكن الشاهد في القصة كيف قلّب الله بصره.
هذه
النعم لابد أن تعرف إلى مَن تُنسب، قلب الزوج ملك لله وليس ملك المرآة والأعمال
التي يتصورونها! وإن كنا نقول: اعملي قربة إلى الله، لكن لا تظني أن هذا العمل هو
الذي يأتي بالقلب، فكم من قلوب أغلقت عن الشرح لأن الداخل عليها كان واثقا من
نفسه، دخلت على زوجها وهي واثقة من نفسها فكان الجزاء من جنس العمل، والأمر بيد
الله.
¿
هل من الممكن أن يشعر الشخص بالنعمة ثم ينسبها
لغير الله؟!
الجواب:
نعم، الناجحون يشعرون أن النجاح نعمة عظيمة عليهم وبسببه تفوقوا، يشعرون أن معهم
نعمة وليس مثل الجاحد.
أضرب
مثالا بامرأة لا تنجب ثم أنجبت عن طريق طفل الأنابيب، هي تشعر أن الطفل نعمة وأنه
يشرح صدرها، لكن طيلة الوقت تكلمك عن الطب الحديث وكيف تطور، وتقول لك: لا مشكلة
تواجه الطب الحديث! إلى درجة أن إحدى الطبيبات تحكي لي أن امرأة في آخر حياتها في
سكرات الموت، وأهلها قبل أسبوع شعروا أنها اضطربت جدا فطلبوا من الطبيبة أن تحقنها
بمادة مهدئة لتهدأ ولا تكون في حال خارجة عن السيطرة، فحقنتها، ففي آخر الأسبوع
الثاني رأوا سكونها الزائد، فقالوا للطبيبة: احقنيها بحقنة تستطيع أن تتحرك فيها.
فقالت: ماذا تعتقدون؟ أن الأمر بيدي؟! لكن الناس في الموقف تختلط عليهم الأوراق،
تظهر عقائدهم في المواقف، مَن الذي بيده الأمر؟!
المقصد
أن هناك أناس يشعرون بالنعمة لكنهم ينسبونها لغير الله، وهذا شعور لا يفيدني،
مادام نسبها لغير الله فانقطع بيني وبينه الطريق لكنه يشعر بالنعمة، تقول له: هل
أولادك نعمة؟ فيجيب: نعم، إذن كن لله شاكرًا، تجده يشكر الأسباب، وبذلك يكون عنده
شركاء متشاكسون.
فالناس
مستويان في الشكر:
1-
شاكرون:
ينسبون
النعمة إلى الله وهؤلاء الموحدون الذين نسأل الله أن نكون منهم، هؤلاء يشعرون
بالنعمة وأن ليس لأحد فضل إلا الله وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوني بهذه
النعمة لن ينفعوني بها إلا إذا شاء الله إجراءها على أيديهم.
2- قليلو الشكر:
يشعر
أن الله هو المنعم، ويعلم أن لا مُنعِم غيره وأن النعمة جاءت على يدك لأن الله
أجراها على يدك وإذا ما كانت هنا ستكون هنا، أنا على يقين أن الله لو أراد أن
يعطيني سيعطيني على يد مَن كان، وأغمض عيني عن اليد وأفكر فيمن سخرها، لكن تجده بعد
أن يمسك النعمة، لحظة التقائه بالنعمة يغيب عقله، يستلذ بالنعمة وينسى الشكر، وهذا
حال كثير من الموحدين، يصل النعمة ويباشرها ثم يشتغل بها عن شكر الله.
كم
من فتاة تدعو ليلا ونهارا أن يزوّجها الله ثم ربنا يوفقها ويأتيها الزوج الصالح،
إلى هنا هي تعلم أن ما سخر لها الزوج الصالح إلا الله، لكن لما باشرت النعمة قَلّ
شكرها!
انظر
للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما فتح مكة، كان ذليلا منكسرا صلى الله عليه وسلم،
يعرف أنه لم يفتح له مكة إلا الله، ثم لما دخل كيف صلى في ذاك الضحى، حتى أن بعض
أهل العلم قال: هذه صلاة الفتح، وآخرون قالوا هذه صلاة الضحى..
لكننا
نكاد نكون كلنا لما تباشرنا النعمة ننشغل عن الشكر. مثلًا ابنتي حامل وولدت، وكنا
في هَمّ وهذا يقول لك عملية، والحمد لله أخرجها الله بالسلامة، ثم تركنا ذلك
وأمسكنا الأم ونرضع في هذا ونُؤكل هذا، ونسينا أن نبقى شاكرين ذاكرين حامدين،
المفروض كلما أنعم عليك نعمة تُحْدِث عبادة لهذه النعمة، وكلما استمرت النعمة أبقى
مع العبادة التي أحدثتها، وكرر: ((اللَّهُمَّ أَعِنِّى
عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))[16].
وغالب
الذي يتعلم بُثّ في قلبه التوحيد، أصبح واضحا أنك وحدك الذي أنعمت علي، لا طبيب
ولا صاحب مال، إلى هنا جيد، أنك حافظت على قلبك ألا يلتفت لغير الله، لكن المشكلة
لما باشرت النعمة نسيت المُنعِم، ونسيت الشكر.
¿
ما
الذي يجعلنا وقتما نباشر النعمة ننشغل بها؟
قوة
حب الدنيا والشغف بها، كلما ضعف حب الدنيا في القلب شعرت أن هذا طريق أنت سائر
فيه، وهذه الآمال ليست منتهى آمالك، إنما منتهى آمالي أن تُفرج عني كرب الآخرة، أن
يقال لي: (ربٌ راض غير غضبان)، أن يقال لي: (ادخلوا الجنة بسلام)، أن أُنادى مع
مَن يُنادى في جنات النعيم، لما تكون هذه الآمال دائرة في عقلك ويمر عليك شيء من
عطايا الدنيا تغتنمها لذاك اليوم، أما إذا كانت هذه النعم فقط هي التي في شاشتك،
لا ترى غيرها، تشتغل بها.
المطلوب:
أن تعود لأول الكلام وتخفـِّض سقف عنايتك بالدنيا، وترفع سقف عنايتك بالآخرة، كلما
كان عندك ذكرى الدار، أصبحت العطايا في الدنيا سبب لورود الآخرة.
¿
لو
توسلت وجاءت النعمة وشكرت ونسبتها إلى الله، ماذا أفعل بعد ذلك؟ هل أذكّر نفسي طول
الوقت أن النعمة من الله؟
الجواب:
تُحْدِث عبادة لهذه النعمة، أما سجود الشكر فيكون وقت النعمة، لكن تُحدِث عبادة
كالصدقة.
مثلا:
كنت تقوم الليل بتسليمتين وتوتر، اجعلها ثلاثا، أحدث عبادة تكون مشروعة بالطبع.
لابد
أن تتصوروا قضية مهمة وهي: أن كل هذه النعم مجرد ذوق لنعم الآخرة، فكأنه يقال:
اغتنم نِعَم الدنيا التي تذوقها من أجل أن ترقى في الآخرة، فهذه وسيلتك، ومن ثم
سيكون الشكر ديدنك طيلة الوقت، ومن ثم تهرع إلى الصلاة شاكرا، وليست ثقيلة عليك!
وهكذا ينصرف عنك وصف المنافقين، وتنحاز للمؤمنين، لأن المؤمن عنده تركيبة تفكيرية تقول:
(أنا عبد ورزقت نعمة الإسلام والبدن والأمن والأمان، الشكر على هذا كله أن أقف بين
يدي الملك وأنا محب للقائه أشعر أن لقاؤه نعمة)، فانظر كيف أنت في دائرة النعمة لا
تنفك عنها.
نسأله
سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين المثنين عليه بما يستحق سبحانه
وتعالى، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه سبحانه وتعالى.
يتبع
اللقاء الثالث..
[5] رواه البخاري في صحيحه
[6] رواه الإمام أحمد في مسنده، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح
رجاله ثقات رجال الشيخين غير أسيد بن المتشمس فمن رجال ابن ماجة وهو ثقة
[7] رواه مسلم في صحيحه
[8] [الأعراف : 96]
[9] [الإنسان : 3]
[12] رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وأحمد (1/201) (1737).
وصححه الألباني.
[14] هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي
وأعله بمحمد بن مروان السدى وقال : ضعيف وفيه أيضا عطية العوفي : ذكره الذهبي
الضعفاء والمتروكين ومعنى الحديث صحيح
[15] رواه البزار في مسنده وقال : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ، ولم أسمع أحدا سمى
أبا عبد الرحمن الذي روى هذا الحديث عن الشعبي.
[16] رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.