السبت، 25 أكتوبر 2014

(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)


 
بسم الله الرحمن الرحيم
أخواتي الفاضلات، إليكم سلسلة تفاريغ من دروس أستاذتنا الفاضلة أناهيد السميري حفظها الله، وفّق الله بعض الأخوات لتفريغها، ونسأل الله أن ينفع بها، وهي تنزل في مدونة (عِـلْـمٌ يُـنْـتَـفَــعُ بِــهِ)
تنبيهات هامة:
- منهجنا الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
- هذه التفاريغ من اجتهاد الطالبات ولم تطلع عليه الأستاذة حفظها الله، أما الدروس المعتمدة من الأستاذة فهي موجودة في شبكة مسلمات قسم (شذرات من دروس الأستاذة أناهيد)
http://www.muslimat.net/
- الكمال لله عز وجل، فكتابه هو الكتاب الوحيد الكامل السالم من الخطأ، فما ظهر لكم من صواب فمن الله وحده، وما ظهر لكم فيه من خطأ فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله..
والله الموفق لما يحب ويرضى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

محاضرة أُلقيت في الكويت يوم الجمعة 9 جمادى الأولى 1434هـ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى ونشكره أن شرح الصدور للعلم -ولا تنشرح الصدور إلا بأمره-
ونحمده سبحانه وتعالى ونشكره أن حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا -وهو الذي يحبّب الإيمان ويزينه في قلوب الخلق-
نسأله سبحانه وتعالى أن يزيدنا إيمانا وأن يثبتنا ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))[1].
والإيمان هذا الكنز العظيم الذي وهبه الله -عز وجل- للخلق طريقك إليه بالاعتماد على الله.

نناقش قوله تعالى في سورة النحل:
{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[2].
هذه الآية العظيمة أتت في سياق عجيب، سياق يمتنّ الله فيه على خلقه بنعَمِه، فلما بدأت هذه السورة بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي سيأتي أمر الله، والمقصود به يوم القيامة.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} العظيم الكريم من مثله؟! ليس كمثله شيء.
ثم يقول سبحانه وتعالى واصفًا فعلًا من أفعاله العظيمة: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ} ينذرون ماذا يقولون؟ { أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}.
فنجد في هذه الآيتين التي ابتدأت بها سورة النحل أركان الإيمان:
1.    في قوله تعالى: (أتى أمر الله) الكلام عن يوم القيامة، الإيمان باليوم الآخر.
2.    وفي قوله: (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا ) الإيمان بالله.
3.    وفي قوله: (ينزل الملائكة) الإيمان بالملائكة.
4.    وفي قوله: (بالروح من أمره) المقصود به القرآن، الإيمان الكتب.
5.    وفي قوله: (على من يشاء) الإيمان بالقضاء والقدر، أنه سبحانه وتعالى يشاء ويختار، ومشيئته واختياره تابعة لحكمته.
6.    وفي قوله: (على من يشاء من عباده) والمقصود بالعباد هنا هم الرسل الذين يختارهم الله تعالى، الإيمان بالرسل.

ثم يأتي في السياق ما يدل على استحقاقه سبحانه وتعالى للألوهية، حيث أمر الخلق أن يؤلهوا ويعظموا،  وأرشدهم إلى نعمه عليهم وكيف أنه سبحانه وتعالى يستحق أن يكون وحده المحبوب، وحده المعظم، فقال لنا سبحانه وتعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وكلمة (بالحق) كلمة عجيبة، كأنه يقال (لا إله إلا الله) هي الحق؛ لأن معنى لا إله إلا الله : لا أحد يستحق أن تحبّه وتعظّمه وتتذلّل بين يديه وتكون عبدًا له إلا الله، فأتت السماوات والأرض تشهدان بهذا الحق.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} تدلّك على الحق، وهذه الجملة في الآية سنحتاجها ونحن نشرح الآية التي هي مقصودنا (وعلى الله قصد السبيل) أي لا تنسى أن الله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

ثم يقول سبحانه وتعالى بعدما ذكر لنا أنه خلق السماوات والأرض بالحق من أجل أن تدلّك على الحق {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}.
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} من نطفة حقيرة، { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، وآية النحل تشبه آية سورة يس {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[3] إلا أن هناك فرق في السياق، ففي يس كان على وجه العتاب للخلق الذين يخاصمون ربهم في حقه، وهنا أتت على وجه الامتنان -والله أعلم-.
تصور أنت أتيت من نطفة ثم وصلت حتى بلغت أن تكون لحما وتأتي إلى الأرض ما تستطيع أن تعبر عن حاجاتك إلا بالبكاء، ثم يفصّحك فتنطق فتستطيع أن تعبّر عما في وجدانك، فكان المطلوب أن أول ما تستطيع أن تعبر ما في وجدانك توافق ما فُطرت عليه من التوحيد، لأنك فطرت على التوحيد، فمِنَ المنن العظيمة قدرتنا على الفصاحة والبيان.
ثم انظر لهذه النعم { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} والأنعام خلقها لنفسها؟ لا، بل لكم، ماذا لكم فيها؟ {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
ثم يقول سبحانه وتعالى {وَلَكُمْ} ولكم أنتم، ولكم ماذا؟ { فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ليس فقط مصالح مادية، لا بل أيضا جمال، لذلك لما تسمع في سورة الأعراف لما أنزل الله -عز وجل- آدم إلى الأرض امتنّ عليه بأن كساه لباسًا، وأيضًا وريشًا.
المقصود أنك تعيش على درجة الرفاهية، هذه الحيوانات التي تنتفع منها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون، ليس فقط انتفاعًا ماديًّا بل أيضا معنويًا، وهذا دليل على أن الناس يستمتعون لما يذهبون لحديقة الحيوانات، نستمتع بجمال ما خلق الله.

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا الكلام عن الأنعام، ماذا تفعل في السفر؟ تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس، أرأيت ما معنى شق النفس؟ أي بالتعب، ولم سمي التعب شق الأنفس؟ شق الشيء نصفه، فكأنك أنت ما تبلغ البلد إلا وقد ذهبت نصف قوتك، فالله -عز وجل- سخّر لك هذه الأنعام.

ثم يمتنّ علينا -ولا زال في الكلام حول الانتقال، لاحظوا أننا نتكلم عن السفر-:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} لكننا الآن نسافر ونركب أشياء أخرى غير البغال والحمير، فيقول سبحانه وتعالى {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}فتركبون ما يخلق الله.
السياق كله في الكلام حول المنّة، المنة بالأنعام خلق السماوات والأرض، ثم خلق الإنسان من نطفة والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع.

ثم يعود السياق مرة أخرى للكلام على المنن {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} الكلام الذي قبل هذه الآية يتكلم عن نعمة الأنعام؛ وكيف أنها تفيدك في السفر، ثم سيأتي كلام على أنه أنزل من السماء ماء إلى آخر السياق، في الوسط {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يأتي هنا السؤال المهم:
ما مناسبة هذه الآية في السياق؟ فيكون الجواب الذي لابد أن يكون بعد تأمّل وفهم ثم تفهم ماذا يجب عليك.
أولًا كنا نتكلم عن السفر المادي، وعلى أنك تركب مثل هذه الأدوات من أجل أن تصل، الآن تسمع {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي كأنه يقال لك أتشعر بالسفر المادي؟ تشعر كيف تركب الدابة من أجل أن تسافر؟ وبالطبع أنك في سفرك تخاف أن تضيع، تخاف أن تضل، وهذا أكثر شيء يخيفك في السفر، فإذا فهمت هذا في السفر المادي انقل هذا إلى المعنوي!
واعلم أنك في طريقك إلى الله تعالى مسافر، مسافر بأي شيء؟ هناك الخيل والبغال والحمير تركبها من أجل أن تسافر، وهنا تسافر إلى الله بِرُوحك، فأصبح السفر المادي يدلك على السفر المعنوي.
وإذا كنت تستدلّ على السفر المادي وعلى الطرق بخبرة الخلق، فاعلم أن الاستدلال على طريق الله لا يكون إلا بالاعتماد على الله.

ß  ما معنى ومنها جائر؟
عندما تخطئ الطريق وتدفع ثمنًا من وقتك ومن أعصابك ومن أوضاعك ومن مقاصدك... وقد يفوتك مقصدك نتيجة أنك أخذت مسارًا خطأً أو اتجهت اتجاه خاطئ، أرأيت كيف تخاف من الضياع، والضياع دائما له ثمن، ثمن من وقتك وثمن من جهدك وثمن من أعصابك، وأحيانا لا تستطيع أن تعود مرة أخرى إلى الطريق السليم، فماذا يقال لك؟
كما أنك تخاف خوفًا شديدًا من الضلال في الطريق المادي فتسأل الخلق أين الطريق؟! لابد أن تخاف خوفًا شديدًا من الضلال عن طريق الله.
ووقت ضلالك عن طريق الله لا تستطيع أن تعود، غالبًا الإنسان لما يشق طريقه بعيدا عن طريق الله ويُصر أن هذا هو الطريق الصحيح، يحصل له ما قال ربنا في سورة النور {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء}[4] أرأيت كيف الشمس ظاهرة، والسراب لا يأتِ إلا والشمس ظاهرة، فالطريق المفترض أن يكون واضح، ومع ذلك هو مُصرّ على أن هذا هو الطريق ويمشي وهو شديد الظمأ ومع ذلك يسير في الطريق الخاطئ، فلما يصل يجده سرابًا!
ولذلك الله -عز وجل- يقول في وصفه {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} عاش حياته على (يحسبه)، ما معنى ذلك؟ عاش حياته على (أحسب وكنت أعتقد وكنت أظن..) لكن هذا كله لا ينفعه في سفره إلى ربه لو ضلّ وأصرّ على ضلاله ستكون النتيجة في نهاية الأمر يجد نفسه في الهلاك، لابد أن يهلك! مع شعوره بالطمأنينة يظنّ أنه سائر في الطريق الصحيح وهو في أمس الحاجة لأنه ظمآن.
فإذن وأنت تسير إلى طريق الله لا تشتت نفسك، وأنت تسير إلى طريق الله كن على حذر شديد من أن تعتمد على رأيك

ß  ما معنى (قصد السبيل)؟
-      السبيل بمعنى الطريق.
-      والقصد بمعنى أن تصل إلى غايتك أسرع ما يكون وأقصر ما يكون.
مثل ما قال الله -عز وجل- في حق موسى عليه السلام: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ}[5] أي اهدني الطريق السريع الذي يوصلني مباشرة إلى مقصودي، فهذا قصد السبيل وسواء السبيل كلها يقصد بها الطريق التي توصلك مباشرة إلى مقصودك وهدفك، ما تحتاج وأنت تسير إلى أن تدخل متاهات ثم تعود، فلما تدخل متاهات ثم تعود للطريق لابد أن تكون مجهدًا، ولابد أن تكون هناك آثار من ضياعك، لابد يكون وقتك قد ذهب.
فتخيل شخص سائر إلى الله وتاه عن الطريق ست أو سبع سنوات، ويعتقد نفسه أنه سائر على الطريق المستقيم وهو بعيد، وقد دخل في شيء من البدع ودخل في شيء من الضلال المغلف الذي لا يدري عنه، أو ضعف إيمانه أو نقص يقينه ثم يعود، ومن تاب تاب الله عليه، لكن هذه السبع سنوات ماذا تفعل بك؟ لابد أن يكون لها آثار عليك.
فكأنك تقول لنفسك وأنت تقرأ هذه الآية أني أريد أن أعرف الصراط المستقيم الذي يوصلني أسرع ما يكون ويكون سيري فيه بهمة مناسبة للصراط؛ لذلك إن أردت هذه المقاصد يقول الله -عز وجل- (وعلى الله قصد السبيل).
سنخرج بعبادة غاية في الأهمية نحتاجها بعدد أنفاسنا وهي عبادة الاستهداء.
ما عبادة الاستهداء؟ مبنية على أي شيء؟ متى تحتاجها؟ في أي وقت ستمارسها؟

قبل أن نناقش عبادة الاستهداء التي هي العبادة القلبية أذكركم بأصل الأمر، وهو أن الله -عز وجل- ما خلقنا إلا لنعبده، ونكرر هذا المفهوم مرارا وتكرار ولابد أن يكون واضحًا بيّنًا في ذهنك، الله -عز وجل- ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، ويجب عليك أن تفهم ما هي العبادة؛ أنت ما خُلقت إلا للعبادة أي أن ليلك ونهارك ما دام عقلك واعي معك فوظيفتك العبادة.
على ذلك {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[6] هل المقصود فقط العبادات البدنية؟ لن يكون هذا المقصود، أنت ما خلقت إلا للعبادة؛ من أن يكون عقلك معك لابد أن يكون دورك في الحياة أن تعبد، أي طول ما أنت مستيقظ في النهار أو في الليل وظيفتك العبادة، ولا يمكن أن يكون هذا محقق بمجرد العبادات البدنية، لابد أن يكون محقق بالعبادت القلبية.
فعلى قدر أنفاس يجب عليك أن تقوم بعبادات قلبية، وهذه العبادات القلبية تأتي في أوقات تجتمع مع البدن فتصير عبادات قلبية وبدنية، ولذلك ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[7].
المقصود أنك تعبد الله ليل ونهار بقلبك، وأنت حارث همّام، لا تنفك أبدا عن القرارات، طوال الوقت يكون عندك اضطرابات لتقوم بعبادات، فلما تكون شخصيتك مثلا ذات تردد، شخصيتك هذه تفتح لك بابًا لعبادة مهمة، فلما الله -عز وجل- جعلك من هذا الطبع ليس لتعرض ما أنت فيه على الخلق، لا، وإنما من أجل أن تنتفع من هذا الطبع بأن تقف بين يدي الله -عز وجل- . طوال الوقت أنت عندك حاجات وعندك مستلزمات وعندك هموم وعندك أشياء تهتم بها، فيقال لك سلّط على اهتماماتك وعلى ما تعتني به سلط عباداتك القلبية، فكلما احتجت شيئا افزع لمن يملكه، فإذا لم تفعل ذلك اختيارًا جرى عليك من الأقدار ما يجعلك تفعله اضطرارًا.
 بمعنى: نحن كلنا دول الخليج الماء عندنا من زمن قريب كان الأهل يشربوه بترابه، ما ننكر ماضينا القريب، ولا أحد يقول لك مرض الكلى ولا شيء، إنما (بسم الله) كانت تنفعهم غاية النفع! الآن نحن عندنا مياه صحية، فمال القلب إليها واعتمد عليها، فما قمنا بالوظيفة من أول ما احتجنا ((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ))[8] ما قمنا بالوظيفة من أول الوقت فحصل علينا من الأحداث ما أصبح يضطرنا للقيام بالوظائف القلبية، فَعُد عدد المرضى الذين أصيبوا بالفشل الكلوي أو ضعف في ِكلاهم وهذا من هنا وهذا من هنا، والسبب؟ أن هناك وظائف كان يجب عليك أن تقوم بها اختيارا، فلما ما قمت بها اختيارًا، دُفعت إليها اضطرارًا؛ حتى تتذلل لله وتقف وتقوم بالاستغاثة والاستعاذة والدعاء، فأنت دورك في الحياة أن تبقى عابدًا.
من رحمة الله ورأفته بعباده أن يدفعهم إلى أبواب طاعته، فالدفع لأبواب الطاعة أن يحصل عليك من الأحداث ما يجعلك مضطرًا أن تعبد هذه العبادات بقلبك، المفترض أنك طوال الوقت تشعر كأنك على خشبة في بحر، لكننا نشعر بالأمان، فتأتيك من الاضطرابات المتكررة التي تضطرك لأن تلجأ وتستهدي وتنكسر وتتذلل بين يديه سبحانه وتعالى.
إذا فهمنا أن دورنا أصلا هو العبادة بقلوبنا أتانا أحد العبادات المهمة جدا التي نحتاجها بعدد أنفاسنا والمواقف التي تمر علينا وهي عبادة الاستهداء.
عبادة الاستهداء مفهومها: أن تشعر بضعفك وفقرك وعدم قدرتك على معرفة الطريق الصحيح في كل موقف تعيشه بل وفي الحياة على وجه العموم!
عبادة الاستهداء مبنية على شعورك بالضعف بالفقر. أي نوع من الضعف والفقر تحتاج؟ الضعف والفقر هذا الذي مداره على فكرك، نحن ضعفاء بأبداننا، فقراء، وأيضًا ضعفاء بعقولنا وأفكارنا، كم مرة احتلنا لأنفسنا حيلة أوقعنا نفسنا في مصيبة بحيلتنا التي إحتلناها! فشعورك أنك فقير، ضعيف، تحتاج أن تهتدي في تفاصيل قراراتك، مشاعر الضعف والفقر تدفعك أن تمارس عبادة الاستهداء، لكن لمَ نحن مستغنين عن عبادة الاستهداء وما نشعر أننا نستهدي الله في كل قراراتنا وتفاصيلها؟!
السبب أن كل ما زاد الزمان كلما وثق الناس في أنفسهم، وشعروا أنهم قادرين على اتخاذ قرارات صائبة، والمشكلة أنهم يقولون في أذكار الصباح والمساء ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ))[9] إذن أنت تعرف أنك لو وُكِلت إلى نفسك، لابد أن يحصل الخذلان.
غياب مفهوم أننا فقراء، ضعفاء -في أبداننا وفي فكرنا- جعل عبادة الاستهداء عبادة ضعيفة، ولذلك الله -عز وجل- يقول {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي اعتمد على الله إن أردت أن تقصد أي سبيل يوصلك إلى الله، اعتمد على الله لكي يهديك أي سبيل تسير إليه.
وهذه العبادة نحن الآن في أمس الحاجة لها لما هو حاصل حولنا من كثرة الآراء وتشتتها.
مثلا تقلب القنوات التي تسمى القنوات الدينية، تسمع في القناة الأولى ضد ما تسمع في القناة الثانية، والثالثة ضد ما في الرابعة وهكذا، وفي نفس القناة تأتي بشيخ يقول كلام وشيخ آخر يقول كلام عكسه، وأنت تبقى طوال الوقت تقول ما آخرتها؟ حلال أو حرام؟! هذا واقع والناس تعاني منه، ما الحل؟
أولًا أنت بدأت المسألة خطأ، قلبك يجب أن يكون تام الاعتماد على الله في طلب الهداية.
تقول أن هؤلاء العلماء مصابيح يدلونا في الظلام، نقول نعم مصابيح يدلوك في الظلام لكن أنت تستنير بهدى علمهم بعد أن تتذل بين يدي الله، هم يمدّون يدهم لك ليساعدوك لتصل إلى الله -عز وجل- ولا يقفون بينك وبين الله، فكن حذرا من هذا المفهوم، ضعهم في المكان المناسب، ونحن بحاجة ماسة لعلمائنا الربانيين، لكن لا تجعلهم قاطعي طريق بينك وبين الله، إنما انكسر بين يدي الله، وكن تام الذل له، وهو الذي يشرح صدرك لتصل إلى الطريق المستقيم وينشرح صدرك للحق وتعرف القويم من غير القويم، كل هذا ليس بيد أحد من الخلق، كل هذا بيد الله -عز وجل-.
إذن {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} معنى من المعاني العظيمة التي تدفعنا إلى عبادة عظيمة وهي عبادة الاستهداء، وهذه العبادة ستشعر بقيمتها إن شعرت جيدا أنك في طريق سفر مظلم في الليل لا مرشد ولا دليل ولا أحد ينفعك، ما تستطيع أن تحرك ساكنا إلا أن يهديك الله أين هو الطريق، والله -عز وجل- في كتابه كرر أن الخوف من الظلمة وأن هذا الكتاب يخرجهم إلى النور من الظلمات إلى النور، فإذا تشبعت بمعنى أنك في ظلمة وتشبعت بمعنى أنك في سفر وتشبعت بمعنى أنك تحتاج إلى معرفة الطريق المستقيم وليس لك في معرفة الطريق المستقيم إلا بالاعتماد على الله تعالى، فإذا اعتمدت على الله وطلبت منه الهداية سخّر لك من يمسك بيدك فيدلك الصراط المستقيم.
ولذلك السلف رحمهم الله يقولون "إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسّك -أي إذا أصبح ذا دين- أن يؤاخي صاحب سنة فيحمله عليها" لكن من أين تأتيك هذه النعمة؟ ما تأتيك إلا لما أنت تكون ذا ذل وانكسار بين يدي الله.
إذن عبادة الاستهداء أول موطن تحتاجها هو وقت سيرك إلى الله.  وهذه لن تشعر بها جيدا إلا لما تعرف وصوفات الحياة، أنت في ظلمة تحتاج إلى نور، أنت ميت تحتاج إلى حياة إلى روح، أنت في طريق سفر، التيه أقرب لك من الهداية، فإذا فهمت هذا كله أصبحت شديد التمسك بطلب الهداية من الله.
وأنت تفهم هذا جيدا لو خرجت مثلا في طريق من الكويت إلى المملكة في الليل، وسرت الطريق صحراء ولا تعرف أي مخرج يخرجك أو يدخلك، صحراء وظلمة ولا أدلة، مالك في هذه اللحظات إلا أن تقول (يا الله)!
فإذا كنت تخشى على بدنك أن يهلك وأنت في طريق سفرك، فالواجب أن تخشى على روحك أن تهلك
لأن لو هلكت لا نجاة، لكن إذا هلك البدن آخرتها وأقصاها الموت في الحياة لكن إذا هلكت الروح انتهى أمر الخلق!.
إذن أول موطن من مواطن استعمال هذه العبادة العظيمة هو أن نطلب الهداية على الطريق المستقيم الذي يوصلنا إلى الله، ولا تنسى {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} ما معنى جائر؟ أي وأنت سائر في هذا الطريق المستقيم هناك تحويلة بسيطة زاويتها بسيطة جدا، لكن لو دخلتها ستخرجك من الطريق تمامًا، ستترك الطريق المستقيم فيه تمامًا، وترك الطريق الذي كنت سائر فيه، وأنت في بداية الأمر تقول فقط شيء بسيط، أنا لن أرتكب بدعة أو كبيرة شيء بسيط الذي أفعله، هذا الشيء البسيط ماذا يفعل بك؟ يخرجك تمامًا عن الطريق المستقيم.
إذن أول الأمر وأهمه في عبادة الاستهداء هو أننا ونحن سائرين إلى ربنا يجب علينا أن نستغيث به سبحانه وتعالى أن يدلنا على الطريق المستقيم الذي يوصلنا إليه ونطلب منه أن يحفظ قلوبنا من الجائر من الطرق، وهو وحده الذي يدل خلقه الطريق، وهو وحده الذي يحفظ خلقه من الطرق الجائرة، وحده لا شريك له، فلا يميل قلبك أبدا لأي سبب آخر تظن أنه سبب لهدايتك، ولا يميل قلبك أبدا لأي سبب آخر تظن أنه سبب لحفظك من الانحراف، لا تظن أن أحدًا يدلك على الصراط المستقيم ويحفظ عليه ويمنعك من أن تنزلق قدمك على الطرق الجائرة إلا الله، إذا ما حفظنا سبحانه وتعالى استحسنت عقولنا الطرق الجائرة.
تخيلي أنك سائرة في طريق مستقيم يوصلك للمكان الذي تريديه هذا هو الطريق المستقيم لكنه زحام، طويل، ثم هناك مخرج فارغ فتقول لنفسك –يلعب عليك الشيطان- اذهب من هنا قد تجد طريق تسير فيه، فلما تذهب لن تستطيع أن ترجع، انتهى ..! هكذا نفوسنا تقول.
وهكذا الطريق إلى الله، أنت سائر ومسافر في الطريق وعلى الله قصد السبيل، تسير ووجدت الطريق صعب لأي سبب، وهناك طريق ثاني شكله سهل، وقلبك يميل له، وهناك أشياء فيه تثيرك، فتمسكه، (منها جائر) لو مسكته تذهب بعيدا عن الطريق المستقيم!
في لحظة واحدة ممكن أن تضع قدمك في طريق غير صحيح وينتهي بك الأمر وتكون خارج الطريق المستقيم، ما في أحد يبيت ليلته مستأمن نفسه أن تزيغ إنما بت ليلتك وأنت متعلق بالله أن يحفظ عليك إيمانك.
فإذا كنت تريد الهداية فعليك بتوحيد الله بطلبها، وهذا الكلام نقوله في هذا الوقت لأن عقولنا قد باتت في حال من الضوضاء، وهذا يقول هكذا الطريق وهذا يقول لك هنا الطريق وتعال اتبعني هنا الطريق المستقيم، وهذا خطأ وهذا صح، إلى أن ضجت عقولنا لا ندري أين نذهب! ليس على الخلق قصد السبيل، بل وعلى الله قصد السبيل.

الآن سنتكلم عن أمر آخر وهو أننا نطلب الهداية من الله في كل شأن يخصنا..
أنت تريد أن يهديك الله -عز وجل- للطريق إليه، عندنا أمور كثيرة حولنا نحتاج فيها الهداية، اهتدي ما الذي يرضيك يارب في تعاملي مع هذا الزوج، في هذا الموقف، في هذه الحالة، اهديني لما يرضيك عني.
مثلا نسبة الطلاق ترتفع في المجتمعات لأن الناس يعتقدون أن آراءهم في هذا الموقف هي الصحيحة وأن انتقادهم للرجل أو المرأة هي الصواب، وأن ردود أفعالهم تجاه ما يحصل من أحداث هي الموفقة الصحيحة، ثم اسأليه أو اسأليها، كم استهديت الله وأنت تتصرف هذا التصرف؟ كم استهديت الله وأنت تقول هذا الكلام؟ كم استهديت الله وقت ما أردت أن تخرج من بيتك أو تخرجي من بيتك أو تفعلي وتفعلي؟ كم حصلت عبادة الاستهداء!!
وعبادة الاستهداء لها شروط، لا أكون مصر واتبع هواي ثم أقول يارب وفقني واهديني لأصل للصراط المستقيم وأنت مليء بهذه المشاعر المانعة لك من أي تفكير صائب، تكذب على الله إن قلت اهدني للصراط المستقيم وأنت في وجدانك ما تريد إلا ما تريده، ما تريد إلا هواك!
المقصود إننا نحتاج لعبادة الاستهداء في كل قرار نأخذه في حياتنا، مهما كان عندك من حيثيات ومعطيات على أساسها نتخذ القرار، الناس في فلسفة اتخاذ القرار يقولون أعطني معلومات أنا أعطيك قرار، نقول مهما جمعت من معلومات وصار عندي شيء كثير من الحيثيات وفهمت كثير عن الموقف في نهاية المطاف لن أستطيع أن آخذ قرارًا سليمًا إلا إذا عبدت الله بعبادة الاستهداء، فأنا أحتاج عبادة الاستهداء وأنا أسير إلى الله، أنا أحتاج عبادة الاستهداء وأنا أتصرف في حياتي وأتخذ قراراتي..
ومثله في تربية أولادنا، كثير من الأحيان نتخذ قرارات تحت الضغوط من أبنائنا أو من عوائلنا دون أن نمارس عبادة الاستهداء، فنطلب من الله أن يهدينا كيف نتصرف تصرفًا سليمًا تجاه هؤلاء كما ينبغي وكما يرضي الله.  عندنا أبناء كثيرا ما تكون شخصياتهم نعبر عنها بأنها مترددة، هكذا ربنا خلقها وابتلاك بهذا الشيء، أفعل أو لا أفعل، أذهب أو لا أذهب، فدائما معتمدين على المشاورة، أسأل هذا وأشاور هذا، فأين عبادة الاستهداء بحيث تكون هذه الاضطرابات والتغييرات والظروف التي تمر عليك أدخلتك أنواعا من العبادة!
إذن تغيب عبادة الاستهداء في أمور خطيرة، في أمور مصيرية، نحن ندعوا الله -عز وجل- أن يهديهم هم وما نطلب من الله أن يهدينا كيف نتصرف معهم، فأنت استهدي الله اطلب الله أن يهديك كيف تتصرف، الشخص الذي أمامك له مفتاح، فاطلب الله أن تمسك مفتاحه، فيكون في ميزانك.
هي عبادة ليس فيها دعاء، هي عبادة تفعلها بقلبك..
انظري كيف نفسياتنا مختلفة وطباعنا مختلفة، هناك أشخاص شخصياتهم ستولد لهم العبادات من جهة أنهم دائمي الخوف، عندهم اضطراب من جهة الخوف، فالعبادة دائما التي يعيشونها الغالبة على حياتهم هي طلب الأمان، اطلب من الله -عز وجل- أن يُؤمِّنه، أن يُسكِّنه، وشخص سيء الظن فيقوم بعبادة يسأل الله -عز وجل- بها أن يحسن ظنه.
فنحن شخصيات مختلفة تساوي أنواع من عبادات مختلفة كلها تدور حول استغاثة بالله، والذل بين يدي الله، والفقر له سبحانه وتعالى، والشعور بالحاجة التي لا تنقطع، فأنت لو وضعت يدك على مشكلتك وشعرت نفسك أنك متردد فتأتي في نفس الموقف تعرف أن عبادتك الآن أن تستهديه وتطلب منه أن يدلك الطريق ولا تحتاج إلى الجماعة الذي كنت تشاورهم ولا تشعر بمشاعر الندم بعد الاستهداء أبدا.
طباعك الشخصية تدفعك إلى أنواع من العبادات، هذه نعمة من الله؛ لأن لما يكون إنسان قوي العقل حاد الذكاء يكون مكانا للفتنة العظيمة، وفي عبادة الاستهداء كلنا بلا استثناء مهما طالت خبرتنا في الحياة مهما كنا شديدي الفهم لابد أن نقف مواقف نشعر فيها بالحرج، ما أعرف أن آخذ قرار على اليمين أو على اليسار، أمنعه من الخروج أو أأذن له، أعطيه أو أمنعه، أشتري أو أبيع، دائما نحن نعيش هذه المواقف، في النهاية أنت على قدر قراراتك على قدر حاجتك إلى عبادة الاستهداء.
تصوري لو كنت مثلا مسؤولة عن خمسة أطفال كل واحد من هؤلاء لابد أن تقومي معه في تربيته بعبادة الاستهداء، ولو كنت مديرة لمدرسة؟! كل هذه القرارات التي تتخذينها بدون استثناء تحتاج إلى عبادة الاستهداء، وهكذا.
إذن أنت تحتاج إلى عبادة الاستهداء وأنت سائر إلى ربك تريد الصراط المستقيم.
وفرع من هذا أنت تحتاج إلى عبادة الاستهداء في كل قرار تأخذه في حياتك.  
وأكثر شيء يؤثر علينا قراراتنا في علاقاتنا، إن مما ينقصنا خاصة النساء وقت تكوين علاقاتنا مع الناس الذين نعيش معهم، قريبين بعيدين، زملاء، غالبا ما نترك أمر اتخاذ القرار هذا زميلي وأدخله بيتي وأعايشه أو لا، غالبا ما نترك هذا القرار مائلا إلى الهوى! وما ندري أن (ومنها جائر) الطرق التي منها جائر من أخطر ما يجر الإنسان إلى الجائر من الطرق هو الصحبة.
وفرع من استهدائك أن تستهدي الله -عز وجل- أن تسير في الطريق الذي يوصلك إليه.
إلى أن نصل إلى أمر دقيق جدا من الاستهداء وهو استهداؤك في اختيار الصحبة التي تقبل عليك؛ لأن من أعظم أسباب السير في الطرق الجائرة الصحبة التي يصاحبها العبد، فلذلك هذا قرار خطير في حياتنا، يجب أن نقوم فيه بعبادة الاستهداء.
ثم اعلم أن هذه العبادة لو دربت قلبك عليها تدريبا صحيحا ومنعت نفسك من اتخاذ القرار قبل أن تفعلها بعد ذلك ستكون تلقائية تفعلها مباشرة، تشعر نفسك أنك لا تستطيع أن تتخذ قرار قبل أن تفزع إلى الله، هناك تدريبات تدرب الناس أن تخرجهم عن فطرهم وتجعلهم يعتمدون على أنفسهم اعتمادا كاملا! وهذا يخالف فطرتك؛ لأن فطرتك السوية فيها نداءات قوية تقول أنا ضعيف أحتاج إلى قوي، أنا فقير أحتاج إلى غني، أنا عاجز أحتاج إلى قادر، أنا جاهل أحتاج إلى عالم، فتأتي عبادة الاستهداء موافقة للفطرة السوية، ولما نترك عبادة الاستهداء نخرج منها إلى الضد ويصبح عندي مشاعر الثقة بأن قراري سليم، وأن دائما كل ما أفكر بنوع تفكير نتيجة خبرتي ونتيجة معرفتي أُسدد، فلما نخرج إلى هذا النوع من التفكير تصبح قد خالفت فطرتك التي في أصلها تحملك على طاعة الله والانكسار بين يديه.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله يعلمه دعاء يوافق الفطرة يقول له ((قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي))، ثم يقول له صلى الله عليه وسلم واصفا الأمر ((وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ))[10]
-        اهدني : أي اجعل قلبك يشعر بها، وانظر كيف أنت بحاجة وأنت سائر في الطريق إلى الهداية وكيف تخاف من الضلالة، وكيف تخاف من الضياع، وكيف تخاف من الطرق الجائرة..
-        ثم سددني يعني أن آخذ قرار سديد.
-       (واذكر من سدادك سداد السهم) كأن الشخص يرمي السهم ويأتي في موطنه.

هذا الحديث الآن سينقلنا إلى ما هي الطريقة التي بها أعبد الله بعبادة الاستهداء؟
هناك مشاعر داخل القلب لهذه العبادة.
ß  ما هي العبادات القلبية؟
العبادات القلبية عبارة عن الانفعالات الشعورية التي تشعر بها.  هي حركة للقلب وشعور، أشعر بالرجاء، أشعر بالوجل، أشعر بالخشية، تحصل لي حالة من الإنابة تحصل لي حالة من التوبة والندم.
لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي رضي الله عنه (وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ)، ما الذي يجمع في قلبك هداية الطريق؟ الخوف من الضلال.        إذن:
à  أول عماد للعبادة القلبية التي هي الاستهداء : أن يكون في القلب خوف من الطرق الجائرة
خوف من أن نسير طريق يبعدنا عن طريق الله، عبادة الاستخارة موجودة ومطلوبة، لكن مع عبادة الاستخارة هناك عبادة الاستهداء، أي تطلب منه سبحانه وتعالى أن يهديك إلى القرار الصحيح، وهذه عبادات مساندة بعضها لبعض تعيّشك طوال الوقت مع الله، وتجعلك محققا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، تحقق هذا بأن يبقى قلبك طوال الوقت مع الله.
ü    تستخير فعلًا.
ü    تستهدي قلبًا.
ü    تتوكل عليه عزمًا.
تخاف أن تتصرف مع ابنك هذا التصرف فتكون سببا لرده عن الطريق المستقيم، خائف أن تتصرف مع الزوج فيكون غضب الله عليك لأنك تصرفت بهذا التصرف، خائف أن تشتري هذا البيت فيكون سببا لذهاب البركة... إذن الخوف مصدر عبادة الاستهداء.
الذي يمنعك من عبادة الاستهداء عكسه: الطمأنينة للنفس، الطمأنينة لقراراتنا.
لو وصفنا الأخوة كطريق تسير به إلى الله، إن تركتِ عبادة الاستهداء في علاقتك مع الأخوات اللاتي تصاحبيها وتريدي منبر من نور معهم ستذهب بك هذه العلاقة إلى الطريق الجائر (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)، فنفس الطريق الذي سرته من أجل أن تصل إلى الله يسير بك فيمنعك عن باب الله، فتصبح بدل ما هي أخوة في الله يصبح حب مع الله، ويحصل حالات من الشرك والتعلق والانفلات، أو بالعكس تصبح حالات من الحقد ومن الكراهية ومن البغض ومن التنافس الممنوع، وهذا كله كانت بداية الطريق يريد أن يصل الإنسان إلى الله فجار فيه الطريق؛ لأنه لم يعبد الله بعبادة الاستهداء.
حتى ضيوفك في البيت الذين يأتوك استهدي الله ماذا تفعل معهم، استهدي الله يسد ثغرتك ويستر عليك ويوصلك ولا يصبح الضيوف الذين هم قربى إلى الله بعد عن طريق الله! لأن الضيف هذا أصبح كالهم الثقيل والسبب المجاملات، فبدل ما تستهدي الله ماذا نفعل مع ضيوفنا بحيث نصل للطريق المستقيم الذي يرضي الله وأصبحت عندنا مجموعة خانات نفعلها من أجل أن نرضي أنفسنا وليس كطريق أتقرب فيه إلى الله، ومن أجل ذلك الطريق التي هي إلى الله أصبحت جائرة بنا، في الحديث: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))[11] شرطين عظيمين، وإن حصل الإكرام قد يحصل بدون استهداء، بل من أجل تحقيق الذات تحقيق النفس، من أجل (أنا) وليس من أجل الوصول إلى الله.
تفاصيل كثيرة في حياتنا سنجد أن الطريق إلى الله الواجب علينا هو الاستهداء، فما تسير أول الطريق على أنك في الطريق ثم تجد نفسك قد خرجت من زاوية بسيطة ..

à  الأمر الثاني الذي نحتاجه من أجل أن يدفعنا لعبادة الاستهداء: شعورنا تجاه الأبواب التي توصلنا إلى الله.
علاقتي بوالدي باب من الأبواب التي توصلني إلى الله فأحتاج أن أستهدي وأنا أعاملهم، وأنا أعامل إخواني زملائي أو أشقائي،كل هؤلاء أعرف أنهم أبواب توصلني إلى الله، ما أستثني باب استهدي فيه، ولا أشعر أن هذا الباب أنا لست بحاجة إلى الاستهداء، كأنه نقول تبصّر بالأبواب التي توصلك إلى الله واطلب الله فيها أن يهديك؛ لأن أحيانا كثيرة تغلبنا طباعنا أو تغلبنا خبرتنا فنشعر أن هناك أشياء لسنا بحاجة إلى استهداء فيها، كما تأتينا أشياء نشعر أننا لسنا بحاجة لعبادة الاستعانة فيها.
الاستهداء والاستعانة عبادتين متوازيتين.
مثاله: لما تكوني خبيرة في طبخ طعام معين عبادة الاستعانة تكون ضعيفة، لماذا؟ لأن خبرتك غلبتك في هذه اللحظة، فكذلك ونحن في مواقف كثيري التعامل مع أحداث، أتعامل مع أحد وأقول (يا رب اهدني معه) فيقال لك : ابتعدي أنت، أنا أعرف لهم هؤلاء، وهذا قانون: (أنا أعرف لهم) أو أنا أعرف أن أتعامل مع هؤلاء، أو أنا التي تقضي لك الشأن.. كل هذه الكلمات تقطع عليك عبادة الاستهداء.
إذن أنا أخاف أن أعمل عمل يجعلني بعيدا عن باب الله، وأيضا يجب علي حتى أعبد الله بعبادة الاستهداء أتلمس الأبواب التي توصني إلى الله وأتحسس ضعفي، كلما شعرت بالقوة حصل لك الاستغناء  {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[12] فهذا شيء يخيفنا أن نأتي في لحظة ونشعر أننا في حال غنى عن الله.

à  الأمر الثالث الذي يأتي بعبادة الاستهداء: أن أنظر إلى وجه آخر لعطايا الله وهي أنها فتنة واختبار.
أي أن العطية التي أتتك على طاعتك تعتبر فتنة واختبار، الدليل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} نتيجة أنهم طائعين، بعدها ربنا يقول: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}[13] فكونك ربنا يعطيك عطية على استقامة سرت فيها لابد أن تنظر إلى وجه الفتنة في هذه العطية، فتستهدي الله كيف تتصرف معها.
فلو طلبت الولد فوهبك إياه، هذه عطية لها وجه آخر وهو أنها فتنة، فلما ترى الوجه الآخر تشعر أن مطلوب منك أن تخاف وتستهدي الله وتطلب منه أن يدلك على الطريق الذي عليك أن تسيره وأنت تتعامل مع هذه العطية، لماذا نستهديه في هذا الموطن؟ لأن أحيانًا كثيرة نحن نتعامل مع الله بطباعنا! فلما تعامل الله بطبعك بعد ما كنت شديد اللهفة عليها وأنت طبعك ملول، فأنت في غاية الشوق إلى هذه النعمة لما تأتيك النعمة وما تستهدي الله كيف تعامليها، يذهب عنك شوقك إلى النعمة وتعود طباعك، يحصل الملل من النعمة، فيحصل بعد الملل البطر على النعماء!
كم من طالب علم ومحب للعلم بقي يقول يا رب علمني، يا رب دلني على الطريق، يا رب أجد أحد يعلمني.. ربنا رزقه من يعلمه وجلس أمامه ودرس يوم ويومين شهر شهرين وهو مشتاق ومتحمس، ثم بعدها ملّ! نزل منحنى عنايته بالنعمة وسار على طبعه.
إبليس يركب طباع الخلق، ولو أن الخلق استهدوا الله كيف يعاملوا النعمة، دلَّهم الله وأعطاهم الحول والقوة للمعاملة، لكن نحن نعامل النعمة أول الأمر بالشوق، بعد ذلك تختفي ويبقى طباعنا.
انظر كيف لما تكون امرأة لم يهبها الله ذرية ثم وهبها الله ذرية، أول ما تأتي الذرية تعتني بهم ثم يكبروا قليلا وتبدأ الصعوبات في الحياة، فماذا يحصل؟ تعامل النعمة بالبطر وبالملل! وتجد أنه يشعر في لحظات أنه أفضل له لو ما رُزق هذه النعمة!
مثلها التي تكون بدون زوج وبعد زمن من الدعاء يرزقها ربي زوج ولما تطول الأيام بينها وبين الزوج تقول أنا كنت عند أهلي مرتاحة معززة مكرمة!
هذا كله بسبب عدم الاستهداء، لكن لو علمت أن هناك وجه آخر للنعمة وأنها فتنة واختبار يجعلني أهلًا لبقاء هذه النعمة لا أن أتبطر عليها، لا تثق في نفسك أنه لما تأتيك النعمة ستبقى محافظًا على شكر الله؛ لأن أمامك من الأمثلة والأحوال الشيء الكثير الذي لا يحتاج أن يكون شواهد لأن ترى غيرك يعيش مثل هذا، انظر فقط لغيرك كيف كان يتمنى وأنت كنت حاضر أمنيته ثم تسمعه كيف يبطر على النعمة..
مثلا تشعرين بمشقة لأنك ما تملكي خادمة وعشت كم شهر وأنت تعاني، ثم جاءت الخادمة من بلدها ما تتقن لا لغة ولا شيء وتحتاج منك جهد، أنت أول ما عرفت أنها أتت دخل السرور إلى قلبك، بعد قليل وبعد ساعات محددة تأتيك خيبة الأمل! أين عبادة الاستهداء؟! وطلب الله أن يدلك كيف تتصرف؟! وفقير تسنده وضعيف تقويه، وتقوي إيمانه وتفعل وتفعل، أين طلب الاستهداء بحيث يكون هذا في ميزانك؟!
ß  متى أقوم بعبادة الاستهداء؟
*   لحظة شعورك بالحيرة.
*   لحظة شعورك بالضيق.
*   لحظة شعورك بالتردد.
*   لحظة شعورك أنك أمام اختيار.
أول ما تشعر أنك أمام اختيار لا تأخذ قرارك على أساس ميلك إلى هواك أو إلى خبرتك أو لحساباتك أو لقاعدة معلوماتك أو بياناتك هذا كله كلام ليس لنا علاقة به، نحن نعرف تماما أننا أتتنا لحظة التردد أو أتانا المفرق في الطريقين من أجل أن يكون من الأرض إلى السماء وليس من أجل الحسابات..
أرأيت لما تكون في طريق سريع والمفرق أمامك، هل أذهب يمين أو أسير، ليس هناك مجال أن تحسب هذا الطريق يؤدي إلى أين، ليس لك إلا أن تقول يا رب!
ولذلك نحن نتفق أن عبادة الاستهداء لن تكون فعالة إلا إذا دائما رددت على نفسك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فكأنك تقول: لِمَ أنا في مجلس ويكون هناك زحام؟ حتى أقول يا واسع وسع لي، أو لِمَ أذهب للطواف وأجد نفسي في زحام؟ حتى أطلب لله باسمه الواسع أن يوسع لي، واطلبه أن ييسر لي، ولِمَ آتي عند الجوازات وأجد المسألة معقدة؟ حتى أقول يا رب سهل لي، فهنا تستغيث، وهنا تستعين، وهنا تستعيذ، وهنا تُنيب، وهنا تتوب.. فهذه الأقدار تجري عليك من أجل أن تقوم بعبادة حتى يكون مجمل حياتك عبارة عن عبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
فالمطلوب بدل أن ندخل أنفسنا بهذه الأزمات نبدأ نحن بالاتجاه إلى الله، نبدأ بالفزع إلى الله، وهناك فرق كبير بين أن تكون مضطر للفزع إلى الله وبين أن تكون مختارًا محبًا تعرف وظيفتك، تعرف أن المطلوب منك الآن أن تفزع فتستهديه، والآن تفزع إليه فتستغيث به، وهنا ترجوه وهنا تخاف منه وهنا تطلب منه أن يقبل منك، فتصبح أمام مجموعة من العبادات القلبية التي لا تنفك عنك أبدا، ومن ثمّ تكون حققت هذا المعنى العظيم وهو {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
في نهاية النقاش حول هذه العبادة العظيمة التي لم نستوفيها حقها، فقط إضاءة، نتكلم عن:
ß  الشروط التي تتحقق بها عبادة الاستهداء :
1-               لا تتحقق عبادة الاستهداء وأنت في حالة من الاستغناء أبدا، إنما شرطها الرئيس هو الشعور بالفقر الشديد، فإن العبد لو شعر بحقيقة نفسه وأنه لا يملك أن يحرك لنفسه أو لغيره مقدار ذرة لابد أن يكون حاله أنه فازع إلى الله، يطلب منه أن يدله الصراط المستقيم.
2-               ثم يأتي بعد الفقر الذل، أي أن هذه العبادة لا تكون عبادة كما ينبغي إلا إذا كنت تام الذل والانكسار بين يدي الله -عز وجل-، كأنك تقول لنفسك أنا لا شيء، إنما الأمر كله لك والشأن كله في التدبير لله.
ومن أجل أن يتحقق هذان الأمران ومن أجل أن تُحسِن في عبادة الاستهداء علينا أن نغذي أنفسنا باسم الله الذي سيجمع لك المعاني وهو اسم (القيوم).
هذا الاسم العظيم أنت تحتاجه في هذه العبادة وفي كل العبادات القلبية، لأنك تقول ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ))[14].
ß   ما معنى أن الله قيوم؟
أنه سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت؛ فهو سبحانه وتعالى الذي يقوم على الخلق يرشدهم ويدلهم، ويحفظهم ويؤويهم، ويبعدهم عن الشرور، فهو سبحانه وتعالى القيوم المدبر للأمور.
فمتى شعرت أنه سبحانه وتعالى يدبر وأنه سبحانه وتعالى قائم على هذه النفوس يدفعها ويمنعها وييسر لها، كانت ثقتك كلها به، وفهمت مامعنى قوله تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ}[15] فتكون كل ثقتك بالله أن يدلك على الطريق الذي يرضاه، وهو قائم على الخلق يدبر شؤونهم سبحانه وتعالى وييسر أمورهم، فكان هذا الاسم مناسب جدا أن تفهم وراءه أمرًا مهمًّا.
اتفقنا أن من أجل أن أقوم بعبادة الاستهداء علينا بالفقر والذل، والفقر والذل معناه أنك تؤمن معنى أن الله قيوم، فإذا فهمت هذا فاعلم أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

نأتي الآن إلى هذه القضية الخطيرة التي يتناولها الناس تناولات تزعجهم، وهي أنك الآن تعبد الله بعبادة الاستهداء وتظهر فقرك وذلّك بين يدي الله، وتعلم أن الله قائم على كل نفس بما كسبت ويدبر الشؤون ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فربما لم أكن العبد الذي شاء هدايته؟! أبدا لا تقل هذا الكلام إنما اعلم أن الله مشيئته تابعة لحكمته.
اسمعوا جيدا واحفظوا هذه الكلمات علَّها تكون لي ولكم نور في حياتنا وتنفعها ونحن في قبورنا ويوم نلقى ربنا:
الله -عز وجل- مشيئته تابعة لحكمته سبحانه، وهو الذي وعد خلقه إن تقربوا إليه شبرا تقرب إليهم ذراعا، فلا يمكن أن تظن بالله لثانية واحدة أنك تتقرب منه طالبًا الهداية ولا يعطيك، مستحيل! {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[16]، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[17].      إذن نحن أمام ثلاث مفاهيم متتابعة:
1- إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن اعلم أولًا أن مشيئته تابعة لحكمته.
2- ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى أخبرك عن نفسه أنه من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، فلا يمكن أن تسيء الظن بالله وتظن أنك تطلب منه الهداية وهو لا يهديك، ولا تقول أبدا (ربي ما أراد أن يهديني) هذا الكلام كذب على الله، أنت لو استهديت الله اعلم يقينا أنه يهديك لأنه سبحانه وتعالى يقول (والذين اهتدوا) أي طلبوا الهداية ماذا فعل بهم الله؟ (زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، وفي مقابل أولئك (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
3- أن الله سبحانه وتعالى جعل حولك أسباب الهداية :
*   خلق السماوات والأرض بالحق فجعل كل شيء حولك يدلك على الهداية.
*   أن الله فطرك فطرة مائلة إلى الهداية.
*   أرسل إليك رسولا وأنزل معه كتابا، وهذا الكتاب فيه النور لو أقبلت عليه وطلبت الهداية من طريقه ماذا يحصل؟ يهديك الله.

فهذه كلها اسمها هداية الدلالة، لما تنتفع بهذا كله مع بعضه تأتيك هداية التوفيق.
إذن استهدي الله واعلم أن طريق الله لا يكون إلا لما تخطو أنت الخطوة الأولى في طلب الهداية، في أي شأن كان تطلب الهداية، تبدأ الخطوة الأولى وأنت صادق تريد الهداية لابد أن يهديك الله، لماذا لابد؟ لأن وعده حق سبحانه وتعالى وهو (المؤمن) الذي إذا وعد لا يخلف وعده، فكيف يرسل إليك رسولا ويجعل الكون كله شاهد على صدق هذه الرسالة ويفطرك فطرة تدلك على هذا كله ثم تقبل عليه فيردك؟! مستحيل، لا تسيء الظن بالله. إنما الناس يستخدمون هذه الحجة لأنها توافق هواهم، بمعنى أن الواحد فيهم لا يريد أن يبذل جهده في طلب الهداية، ولا يريد أن يقف بين يدي الله ذليلا منكسرا، ثم يقول ربنا ما هداني! نقول اعلم أن الله من كمال رأفته ورحمته يعامل الخلق بحلمه فلا يعاجل عليهم بالعقوبة علَّهم يتمسكوا بطريق الهدى ويقبلوا في لحظة، فكيف تقول وقفت بين يدي الله طالبا الهدى وما اهتديت؟!

إذن هذه العبادة العظيمة اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل لها أبوابًا ومن أهم أبوابها التي لا ننفك عنها في طلب الهداية هو ما نقرأه في سورة الفاتحة ونقول {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} عليك الآن أن تحققها وقت ما تقرأ هذه الآية، تشعر بتمام ذُلّك وفقرك وعدم استغنائك وتحارب شعور الاستغناء في قلبك، ومهما كان حولك من عوامل تقول أنك في الهداية، لأن من علامات قرب الساعة أن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا.
وأهم سبب في ذلك الثقة في النفس، الشعور أن قلبه لا يتقلب، ولذلك مما يساندك في عبادة الهداية أن تطلب الله في الفاتحة تقول (اهدنا الصراط المستقيم) وأن تكثر كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).

أسأل الله أن يجعلنا من أهل الهداية والنور والطريق المستقيم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 [1]رواه أحمد في مسنده وسنن الترمذي ، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم.
[2] [النحل9]
[3] [يس:77]
[4] [النور:39]
[5] [القصص22]
[6] ]الذاريات56[
[7] رواه مسلم.
[8] رواه مسلم.
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم،  هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه.
[10] رواه مسلم.
[11] رواه البخاري ومسلم.
[12] [العلق7]
[13] [الجن17]
[14] المستدرك على الصحيحين للحاكم،  هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه  
[15] [يونس107]
[16] ]محمد17[
[17] ]الصف5[