الأحد، 25 يناير 2015

العلم والصبر عليه

بسم الله الرحمن الرحيم
لقاء بعنوان :
العلم والصبر عليه
ألقي يوم الإثنين 17/ 4/ 1432هـ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأل الله -عزّ وجلّ- بِمنّه وكرمه وهو الكريم المنّان أن يجعل هذه الاجتماعات مباركة على أهلها، وسبب لرفعة منزلتهم عند ربّ العالمين، تشهد لهم عندما يلقونه يكلمونه -سبحانه وتعالى- ما بينهم وبينه ترجمان، وهذه المجالس الطيّبة التي يسّرها الله عزّ وجلّ بمنّه وكرمه وجعلنا نجتمع من كل مكان! وفي أزمنة لم تكن تخطر ببالنا! ووفقنا لحضور مثل هذه المجالس في أزمنة وأوضاع لم تكن تبلغها آمالنا! فالحمد له وحده، والشكر له وحده -سبحانه وتعالى-.
في هذا اللقاء -إن شاء الله- سيكون كلامنا حول العلم وحول الصبر عليه، وقد قرأنا صفحات مِن صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، وكيف أنهم اعتلَت هممهم الجبال! وهذا من فضله -سبحانه وتعالى- على الخلق، أن وفّقهم إلى العلم ورزقهم الصبر، فالعلم لا يمكن أن يُحصَّل بدون صبر، بل المركب الذي يحمل طالب العلم حقًّا هو الصبر!
فقد كان كثير من أهل العلم يتواصون بالصبر، ويكفينا في هذا أنّ الله جعل الصبر خاتمة الوصايا وخاتمة الأوصاف لمن أفلح ، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[1] فها نحن في هذا المجلس المبارك نتواصى بالصبر على أمْر في غاية الأهميّة، نتواصى بالصبر على طلب العلم سواء كان هذا الطلب سماعًا أو كتابة أو حفظاً أو كان تفرُّغًا من مشاغل الدنيا.
¬     وانظري إلى خبر الإمام الذي عرَفته الدنيا، وقد ذكر عنه الخطيب البغدادي في ترجمته هذا الكلام وهذا الإمام هو إبراهيم بن إسحاق الحربي، ولد في عام 198هـ وهو من القرون الأولى.
يقول عنه الخطيب: "كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث" إلى آخر ما وصف، ثم قال -وهذا شاهدي في الصبر-: "قال إبراهيم الحربي عن نفسه: أفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين! إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعًا عطشانًا إلى الليلة الثانية!".
هذه الثلاثين السنة الأولى من حياته، ماذا يفعل؟ باقٍ في مكانه يطلب العلم، إذا أُمّه أو أخته أتوا له بالرغيفين أكل ذاك اليوم وشرب، إذا لم يُؤتى له بهذان الرغيفان تركهما وبقي عطشانًا جائعًا!.
يقول: "وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي أكلت، وإلا بقيت جائعًا عطشانًا إلى الليلة الأخرى، ثم يقول: والآن آكل نصف رغيف!" فانظري إلى تزودهم من الدنيا!
وأيضاً ذُكر عنه –إبراهيم الحربي- أنه قال: "ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيء، كنت أجيء من عشيّ إلى عشيّ وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو باقة فجل" يعني هذا الطبخ وأنواعه الذي كان في زمانه كان يستنكره! وإنما كان من العشي للعشي يأكل أكلة واحدة.
فهذه النظرة للحياة من المؤكّد أنّها تغيّر تعلقاتنا بالدنيا وتغيّر سقف آمالنا، ونحن عندما نضرب هؤلاء مثلاً نريد من أنفسنا أن تخفّف التعلّقات وتنظر كيف كان تحصيل العلم، إنّ تحصيل العلم من راغبيه قديماً كان طوافًا في البلدان وكان نصبًا للأبدان، لكنه كان كسبٌ للزمان، لا راحة ولا استرخاء، ولا تمنعهم الصعوبات من لقاء العلماء، وأمانيهم في تحصيل العلم وخدمة الدين تحدوهم للمزيد، وتُنسيهم كل ما يلقونه من تعب وعناء!
فأصبح الفارق والسبب في رفع الصبر عند أهله هو: (اختلاف الأماني).
فمن كانت غاية أمانيه في الدنيا أن يبات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يوم، أكيد أنه سيحرّك أمانيه للآخرة بقوة، ويرى كل مفقود في الدنيا لا قيمة له، أما مَن يبات وهو متعلق بالدنيا، راغبٌ بها، متحسّرٌ على فوات شيء منها، فعن أيّ شيء سيصبر؟! بل سيصبر على فراق الطلب، ولا يصبر على فراق شيء من الدنيا!
¬     واسمعي خبر المقرئ المغربي أبا القاسم الهذلي، هذا أحد مَن طوّف الدنيا في طلب القراءات، وكان بلده المغرب، فرحل من أقصى المغرب -وأنتم تعرفون المغرب العربي الآن أين- إلى أقصى المشرق إلى بلاد الترك، لكِ أن تتصوري نوع رحلته، وهو معروف في طلب القراءات، وأنت كلما ترى همم السادات في الطلب، تحفّز همّتك عليه، فلا إله إلا الله والله أكبر كيف تعلّقت النفوس بالله وكيف تعلّقت بالعلم، فهذا القارئ كان يدرس علم النحو ويفهم الكلام والفقه، ويرتحل من أجل القراءات، وقد ذُكر أن الإمام القشيري يراجعه دائما في مسائل النحو والقراءات ويستفيد منه، فهؤلاء بذلوا جهدهم وانتفعت الأمة منهم، وكان الذي يحدوهم على ذلك أن مُكّنوا من الصبر رزقًا منه -سبحانه وتعالى-.
¬     وهذا ابن عساكر المشهور رحمه الله كان محدّث الشام في وقته، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، واشتهر ابن عساكر بعلمه في الحديث، رحل وطوّف وجاب البلاد ولقي المشائخ، وقد بلغت تعداد شيوخه سبعة آلاف شيخ! وكان حافظاً صاحب دين، جمع بين المتون والأسانيد، سمع ببغداد ثم رجع إلى دمشق ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور وأصبهان وهرات والجبال وصنف التصانيف المفيدة وخرّج التخاريج.
ولابن عساكر تاريخ مشهور فقال عنه المنذري صاحب مختصر مسلم: "ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال!".
كأنه يقول: أكيد أن هذا الرجل لما كتب تاريخه أكيد أنه كتبه مِن أن وعى على نفسه، يعني مِن أن عرف نفسه، مِن أن عرف مَن هو -طفل يعني- وإلا فالعمر قصير عن أن يُكتب مثل هذا التاريخ، ولقد قال الحق، متى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثل هذا التاريخ؟! يعني كيف كتبها في مسودات ثم ولّفها ثم رتّبها؟! أمْرٌ عجيب! وكتابة ابن عساكر للتاريخ عجيبة، منها كتابه (تاريخ دمشق) في ثمانين مجلدا! فهذه هبة الله لكن مِن المؤكد أنّ العبد لا يصل إلى هذه المنزلة إلا بشيء من الجهد والتفرغ، وأهم أمر كما اتفقنا هو الصبر.
وأنا أريد أن أطوّف بكم قليلاً في هذه الشواهد ثم نتكلم عن برنامج عملي أو على الأصح برنامج قلبي من أجل أن نطهّر قلوبنا من التعلّق بالدنيا وندخل فيها ما يعيننا على طلب العلم.
الحقيقة العلماء كثر، وقد وصفهم المؤرخون، وهم قد وصفوا أنفسهم في مواطن.
¬     وهذا الإمام الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) يتحدث عن الشدائد التي نالته في بدء طلبه وعن محامد صبره على تلك الشدائد فيقول: "ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألاقي من الشدائد  ماهو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو!". واستشهد بقول الشاعر:
ومن تكن العلياء همة نفسه             فكل الذي يلقاه فيها محبب
يقول: "كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى في بغداد فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل للعلم، فأثمر ذلك عندي أني عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم".
ويقول أيضاً: "ولم أقنع بفن واحد بلْ كنتُ أسمعُ الفقهَ والوعْظَ والحديثَ وأتبعُ الزهادَ، ثم قرأت اللغة ولم أترك أحداً ممن يروي ويعظ ولا غريبًا ليقدم إلا وأحضره وأتخير الفضائل ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نَفَسي من العدْوِ لئلاّ أُسبق! -يعني يريد المجلس الأول- وكنت أصبح وليس لي مأكل وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلّني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح!".
انظري إلى هذا الصبر العجيب! كل هذا من أجل ما يجد في قلبه من حلاوة الطلب، على كل حال، يستمتع الإنسان بسماع أخبارهم، ويرى أن لا ينشغل عن أحوالهم، ويرجو الإنسان أن يكون ممن انتفع بهؤلاء الكبار.
وقد ذكر الحافظ السخاوي رحمه الله قصة سندها إليه لكن أذكرها من باب الاستئناس:
يقول: "كان أبو أيوب سليمان ابن داود من الحفاظ الكبار، وتوفى في أصبهان في سنة 234 رُئي بعد موته في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ قال: كنت في طريق أصبهان فأخذني المطر وكان معي كتب ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهدأ المطر -يعني حمى بظهره كتبه-. يقول: فغفر الله لي بذلك".
هذه رؤيا لكن يُستأنس بها في معرفة أن هؤلاء كم صبروا  وكيف الله -عز وجل- نظر لصبرهم، كم كانوا صادقين وكيف الله جازاهم على صدقهم. على كل حال، نلج من هذه القصص لما بعدها وهي:

كيف نطهّر القلب من التعلّق بالدنيا ونصل به على مركب الصبر إلى التعلّق بالآخرة ؟
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، كم امتلأت قلوب الصالحين بمعرفته سبحانه وتعالى! فإذا ألّه العبد ربه بمعرفته وصبر على طلب رضاه، من المؤكد أنّ هذا بكلام مجمل الطريق، يعني إذا تأملت في هاتان الكلمتان العظيمتان: (الله أكبر ولا إله إلا الله)، لوجدت أمراً عجباً، فأنت تقول: أنا ليس لي أكبر ولا أعظم منه -سبحانه وتعالى-، فهو أكبر ما في قلبي، وأعظم مافي قلبي، وكل شيء دونه، وهو الإله المحبوب المعظَّم، فإذا كان هذا الأمر حقاً في قلبك، من المؤكد أنك ستطلب رضاه، وإذا أتيت طالباً لرضاه، وأصبحت همتك بعد معرفته -سبحانه وتعالى- همة حول رضاه، أكيد أنك ستصبر لتحصيل الرضا، ومن أعظم أبواب تحصيل الرضا أن تحب العلم، فمحبة العلم دين يُدان به؛ لأن العلم ميراث الأنبياء، والعلماء وُرّاثهم، فمحبة العلم وأهله محبة لميراث الأنبياء وورثتهم، ومحبة العلم في القلب قربى إلى الله بل هي من علامات السعادة.
والمقصود بالعلم هنا علم الرسل الذي جاؤوا به وورّثوه للأمة، لا في كل ما يسمى علماً، فإذا عظمت الله أحببت العلم الذي أتى به أنبياؤه، وتقربت إلى الله بحب هذا العلم، فإذا أحببت العلم ستصبر على تعلمه واتباعه، وأيضاً إذا علمت أن الله -سبحانه وتعالى- عليم يحب كل عليم، وإنما يضع علمه عند مَن يحبه، فمن أحب العلم وأهله فقد أحب ما أحب الله، يعني أنت أحِبّ العلم وأحِبّ أهل العلم، كل شخص عنده علم في الشرع الله -عز وجل- يحبه ولذلك علمه، والله -عز وجل- يضع علمه عند من يحبه.
فأنت الآن تصبر على العلم لأنك تعلم أن الله لو وضع العلم في قلبك معناه أن هذا دليل على محبته لك، فتصبر لتحصيل هذه الفضيلة، وتصبر أيضاً لأنك تعلم أن العلم يكسبك الطاعة، العلم يكسب طالبه الطاعة في حياته، يكسبه جميل الذكر بعد مماته.
فإذا كان علمك سيسبب لك زيادة القرب من الله، ويسبب لك الطاعات، فهو خير ما يُرتجى مادام أنك حقاً تعظم الله وترجوه، ثم اعلم أن صنيعة المال تزول بزوال المال، أما صنيعة العلم فلا تزول.
يعني الناس الآن قد يصنعون لك صنيعاً ويحترمونك من أجل مالك ويكرمونك ويخدمونك من أجل توليك منصباً، إذا زال زال كل شيء! إذاً صنيعة المال صنيعة معاوضة، أما صنيعة العلم والدين، لما يعاملونك الناس من أجل ما معك من علم فهذه صنيعة حب وتقرب وديانة.
فهكذا لابد أن تتصوّر فضل العلم، وهكذا لابد أن تجمع قلبك على الصبر عليه وطلبه حتى الممات، وقد روى الترمذي والحديث في سنده الكلام، لكن نحن نستشهد به لمجرد الاستئناس: ((لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةُ))[2] فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل النهمة في العلم وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان، أن يشبع المؤمن، من أوصاف المؤمنين، فأخبر أن هذا لا يزال دأب المؤمن حتى دخوله للجنة.
ولهذا كان أئمة الإسلام إذا قيل لأحدهم: إلى متى تطلب العلم؟ قالوا: إلى الممات! أكيد أنكم تحفظون كلامًا مثل هذا في الكلام عن الإمام أحمد لما سأله الرجل: إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ قال: إلى الموت.
وقد قال عبد الله بن بشر: "أرجو أن يأتيني أمْر ربي والمحبرة في يدي، ولم يفارقني القلم والمحبرة!". من كثرة حبهم لهذا الأمر وإحساسهم أنه قربى إلى ربهم.
وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عَنْ سِتِّ خِصَالٍ، كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةً، وَالسَّابِعَةُ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يُحِبُّهَا. قَالَ: يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَتْقَى؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُ وَلاَ يَنْسَى. قَالَ : فَأَيُّ عِبَادِكَ أَهْدَى؟ قَالَ: الَّذِي يَتْبَعُ الْهُدَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَحْكُمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَحْكُمُ لِلنَّاسِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: عَالِمٌ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ ، يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ))[3] وهذا موطن الشاهد.
فتبيّن أن الأعلم هو العالم الذي لا يشبع من العلم، وهذا موسى وهو كليم الرحمن وأكرم الخلق على الله في زمانه وأعلم الخلق، حمله حرصه ونهمته في العلم على الرحلة إلى العالم الذي وُصِف له، فلولا أن العلم أشرف ما بذلت فيه المهج وأنفقت فيه الأنفاس لاشتغل موسى عليه السلام عن الرحلة إلى الخضر بما هو فيه من عمل.
لكن سنعود مرة أخرى نقول: ماذا أعمل لأرفع درجة الصبر في قلبي وأطلب العلم ولا أشتغل عنه ؟
نقول: أولاً هناك جانب اعتقادي: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)، فهذا المعنى لابد أن يكون عميقاً في قلبي، أن الله أعظم شيء وأبحث عن الأشياء العظيمة التي تقربني اليه، وأعرف أن الذي يزيد تعظيمه في قلبي وتعلقي به هو العلم، وأرى القلب وحبه قربة اليه، وأعلم أن الخشية والعبادات القلبية طريقها من باب العلم، فلابد أن يأتي الصبر عليها.
لكن يزاحم دائماً العلم في القلب حب الدنيا، فسنتكلم عن سقف آمالنا وأمانينا الذي أشرنا إليه في بداية اللقاء، ونقول:
لابد أن نخفض سقف أمانينا في الدنيا خفضاً تاماً، بمعنى أنّ الأماني في الدنيا تشغلك عن الله، الأماني في الدنيا تشغلك عن الامتلاء بالطلب والعلم والرغبة فيه وتحقيق كل خاطرة في الطلب، فإن الخواطر في الطلب تأتي على قدر جهدك فيه.
ما معنى خواطر الطلب؟ يعني مرة ترجو أن تعرف معنى هذا الحديث، ومرة ترجو أن تعرف معنى هذه الكلمة في لغة العرب، ومرة ترجو أن تتعرف تفسير هذه الآية، ومرة ترجو أن تعرف ماذا قال الفقهاء في المسألة وكيف اختلفوا فيها وما الراجح فيها، ومرة ترجو أن تعرف ماذا تقول في معنى هذا الاسم من أسماء الله.
فإذا استجبت لهذه الأماني وعظمتها ورعيتها حق رعايتها، كنت ذاك الطالب الذي يصبر على الطلب، كنت ذاك الراغب في العلم المنشغل به.
 ومتى أسكتّ هذا الصوت وأخفضت سقف أمانيك في الآخرة ومتى نسيت أن الملائكة تحيط بك  وأنت تذكر وأنت تبحث وأنت تتعلم، ونسيت أن المطلوب منك أن تهاجر إلى الله، متى حصل هذا فأكيد أن سقف الدنيا وأمانيها سيرتفع، وستسجيب لكن ليس لأماني الطلب إنما ستسجيب لهوى النفس، فإذا رأيت مطعماً اشتقت أن تعرف كيف يُطبخ، وإذا رأيت ملبساً اشتقت أن تشتري مثله، وإذا رأيت فَرْشاً وددت أنك لو اقتنيته، وإذا رأيت ورداً وددت لو أنك نسقته، وكأنك تنسى ما ضُرب في الدنيا من أمثال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[4].
ما أحقر المخلوقات وإن عظُمَت، ما أحقر أماني الدنيا وإن كثُرت، ولهذا الله عز وجل لما يذكر أهل الإيمان، يذكر أنه سبحانه وتعالى خصّهم بخاصية وهي: (ذكرى الدار)، فذكر الدار الآخرة مِن أعظم ما يحفز النفس، ذكر الدار الآخرة من أعظم ما يحقر في النفس أماني الدنيا وإن كثرت، ولهذا ذكر الله عز وجل هؤلاء الخالصين بأنه خصهم بخاصة وهي ذكر الدار.
على كل حال، يعْظُم عليك الأمر بسبب حُب الدنيا، يعْظُم عليك الأمر بسبب استجابتك للخواطر والأماني، يعْظُم عليك الصبر على الطلب بسبب أن المحيطين حولك يعلقونك بالدنيا.
أنت الآن في طريق الطلب ما عليك إلا محاولة جمع شتات نفسك، وجعل الطلب رغبة محبوبة وقربى، والعلم من هبات الله، فالله العليم ويؤتي العلم مَن يحب، فإذا وهبك الله بداية الطريق فلا تشتتي نفسك ولا تسودي صحائفك ولا تشغلي قلبك حتى بالخيالات، فإن القلب هو وعاء العلم، فإذا كان وعاؤك مستعد فارغ، ملأه الله، ولذلك:
مَن كان وعاءًا للخير .. ملأ الله وعاءه
فرّغيه من الدنيا ومشاغلها، وهذا ليس كلامًا عن الزهد، أنت لما تأتيك الدنيا بين يديك عامليها بيدك.
افترضي مثلاً أنك ممن يحب الطعام الحلو، تبقين تشتهينه، تفكري فيه وتفكري في المطعم الفلاني والمكان الفلاني الذي يبيعه، وتوصي زميلتك: (لا تنسيني، اذهبي اشتري لي) لا تفعلي هذه الأمور، لكن قدر الله أنك وجدتيه بين يديك، بأي طريقة، تناوليه لا بأس لكن لما تتناوليه أيضاً لا تفرحي به، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[5] فكيف يمكن أن تفرح بما تجمع والله -عز وجل- يقول: لا تفرح به، إنما افرح بفضل الله ورحمته وفضل العلم ورحمته كما قال أهل العلم هو العلم والقرآن والإيمان، هو خير مما يجمعون، لابد أن تعرف أنه خير مما يجمعون.

لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، حقاً صدقاً لو حققناها في قلوبنا لوجدنا أن قلوبنا لا تستلذّ إلا بذكره، ولا تبحث إلا عن ثنائه وحده لا شريك له، ولا تستلذّ إلا في حدائق العلم وبهجتها، لكن أمات ذكر الدنيا وحبها قلوب الخلق.
فعليك بهذه الوصايا الثلاثة:
1.      اعتني جداً بوعائك، طهريه من التعلّق بالدنيا، لا تستجيبي لخواطر الدنيا واستجيبي لخواطر الدين. كل ما خطر في بالك أن تعرفي معنى آية سجلي هذا الخاطر وأول فرصة تأتيك نفذيه.
2.      اعتني جداً بعباداتك بصلاتك بالأذكار فإن طالب العلم يستعين بهذه العبادة على الصبر وعلى تحصيل المقصود، فإن العبادة تورث القلب صبراً، تمرنه على الصبر، أكثري من الذكر، اجعلي عباداتك أمراً مقدساً لا تمسه يد العابثين ولا تلهيك عن هذه العبادات رنات الجوالات أو محادثات على الأجهزة، لا تلهيك. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[6]
3.      اعتني جداً برفقاء دربك، فإن الرفقة سبب للسموّ إذا كانت صادقة؛ لأن كثيراً من رفقاء الدرب تتحول رفقتهم إلى بلاء، تكون في أول الأمر صحبة من أجل الله ثم تتحول فتصبح من أجل الهوى والنفس والشيطان، فلا تستحي، أزيحيهم من طريقك، أغلقي عليهم الطرق، لا تقبليهم رفقاء ما دام أنهم بالدنيا يذكرونك وبك يستمتعون سواء بأنسك أو بكلامك أو بقربك، الأنس ليس بك وليس بهم إنما الأنس به سبحانه وتعالى، فرفيق الدرب في هذه الحياة هو مَن أعان على طاعة الله. انظري إلى موقف موسى عليه السلام لما طلب من الله أن يرزقه أخاه معه، قال لله عز وجل: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}[7] فهذا الحق في رفقاء الدرب، وإذا لم يكن كذلك فلا أهلاً ولا سهلاً ولا حيّا هذه الرفقة!
نسأل الله أن يعيننا على تنفيذ هذا الأمر، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا حقاً ممن أطاعه وذكره وشكره كما يحب ويرضى، عاجزين عن شكره أن جمعنا بكم، نسأله أن ينفعنا بهذا الاجتماع لما نلقاه، ونقول: ياربنا تركنا ما نحب، وتركنا الاشتغال بالدنيا وأهلها، وتركنا النوم، واجتمعنا في غرفة نعدّها مباركة، كلٌّ منّا له أوضاعه وأحواله، جاهدناها واجتمعنا، فيا ربنا تقطعت السبل مراراً وأعدنا الاتصال مراراً، كل هذا ونحن نرجو منك أن تقبل هذا العمل على ضعفه وهزله وقلة مؤونته، لكن أنت الذي تُبارك في الأمور كلها فبارك لنا في هذا اللقاء نفعاً في الدنيا وبارك لنا فيه لما نلقاك ياربنا.
جزاكم الله خيرا. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن ذكره وشكره سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى.







[1] العصر.
[2] قال الترمذي:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وقال الألباني: ضعيف.
[3] قال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن.
[4] يونس:24
[5] يونس: 58.
[6] التكاثر.
[7] طه:33، 34.

الثلاثاء، 20 يناير 2015

امتلاء القلب بمحبة الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نبدأ بالكلام على مسألة هي غاية في الأهمية لكل شرائح المجتمع، سواء كانوا طلاب علم أو عوام أو طلاب علم مبتدئين، وهذه المسألة نكررها دائمًا لأهميّتها.
الموضوع هو موضوع (القلب) وامتلاؤه بحبّ الله، وما يزاحم هذا الامتلاء.
خلق الله -عزّ وجلّ- العباد لتبقى قلوبهم موحّدة له تعلّقًا وتعظيمًا، بمعنى أن لا يقع في قلب العبد غير الله متعلّقًا يتعلّق به، أو معظّمًا يعظمه.
وهذا الكلام كُرّر مرارًا عليكم، لكن نريد أن نطرحه الآن بطريقة أخرى، نتكلم عن ما يزاحم التوحيد في القلب، يعني عن ما يدخل شراكة مع الله في التعلّق أو التعظيم. والمسألة الأكثر خطورة وأكثر ملامسة هي الشراكة في التعلق، بمعنى أنه يقع في قلب العبد محبوب أو محبوبات تزاحم انفراد الله بالمحبة والتعلّق. وهذا الذي يقع في القلب ممكن أن يكون متغيّرًا، لكن يبقى وصفه أنه أمر يُتعلّق به، بمعنى أنّ الإنسان يبقى يتعلّق، لكن كلّ يوم له متعلّق جديد.
أيضًا الأشياء التي نتعلّق بها ممكن أن تُبادلنا هذا التعلّق، وهؤلاء هم بنو آدم (الأشخاص)، وممكن أن لا تبادلنا مثل الجمادات من بيوت أو أموال أو مجوهرات...
أحيانًا المتعلّق به هذا يكون صعب المنال، فيبقى التعلق بِنَوْلِه، يعني هذا متعلِّق بمرتبة معينة أو وظيفة معينة أو درجة علمية معينة، فيكون بذله -تعلّقه- من أجل أن ينال هذا الشيء، وممكن يكون المتعلق موجودًا ومتوفّرًا.
إذًا أشكال التعلّق التي تزاحم التعلّق بالله لو حُصرت سيكون مجموعها لها صورة واحدة، ما صورتها؟
صورتها: أن القلوب تلتفت لهذا المتعلّق به متلذّذة بالالتفات، تنتظر من المتعلق به الإسعاد، هذا الضابط مهم جدًّا، وسنبني عليه بقية الضوابط.
الآن نحرر الموطن التي يحصل فيها التفات للقلب عن الله.
الضابط: أن الشخص يلتفت قلبه عن الله، ماذا يريد؟
يلتفت وهو متلذذ بهذا الالتفات ينتظر من هذا الالتفات أن يكون سببًا لإسعاده!

نقدّم المحبة الطبيعية لئلا يشكل:
يخرج من هذا: أن يكون الشخص ينتظر من الله أن يسعده بما وهبه من نِعَم.
مثلاً: المحبة مع الأبناء محبة طبيعية، كيف تكون علاقتي بهم؟
متمثّلة بقوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}[1].
إذًا قلب العبد المتّزن يستمتع بما جعله الله وسائل للاستمتاع، لكنه ملتفت إلى الله أن يجعل هذا سببًا لإمتاعه.
واحد يلتفت عن الله للإمتاع، وآخر يلتفت لله من أجل أن يقع الإمتاع:
الذي يلتفت إلى الله: يعلم أنّ الأمر أمر الله، وأن الملك ملك الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء، معتقد يقينًا أنّ تحصيله للمصالح ما كان إلا بأمر الله، وأن إمتاعه بها لا يكون إلا إذا أذِن الله.
هذا الفارق الدقيق يجعل الموحِّد المتعلّقات ليست محطًّا لآماله، ولا يصِف لله من أي باب ستكون سعادته، ولا يقترح على الله حلولًا لمشاكله، بل هو ملتفت إلى الله، متعلّق به أن يهبه ما يصلح حاله.

التعلّق بغير الله هو الالتفات عن الله، كأنّ العبد لمّا يجد المتعلّق به يركن إليه، ويتصوّر أن سعادته بين يدي هذا المتعلّق به، وما تكون إلا حال وجوده، وإذا فُقد فَقد الأنس والسعادة!.
يشكل على هذا أننا نقول: من الطبيعي أن يكون في قلوبنا محبة للأشخاص والأبناء والأزواج ...؟
الجواب: أن هذه المحاب الطبيعية كلها وُجدت ابتلاءات للقلوب، هل يركن إلى محابه هذه ويتصوّر أن وجودها أو تحقّقها غاية مراده؟! أم أنه يجعل مراداته ومحابه وسيلة لزيادة التعلق بالله؟

نضيف مفهومًا جديدًا، معروف لكن نصله بمسألة التعلق: ألا وهو مفهوم (الابتلاء).
العبد موقن يقينًا -كما ورد في سورة العنكبوت وغيرها- أنه لن يترك إلا وهو مبتلى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[2]، لا بد أن يُفتن، يُفتن بماذا؟
أعظم الفتن تكون في المحبوبات التي تعلّقت القلوب بها، وقد ذكرنا أن المتعلقات قد تكون مادية وقد تكون معنوية. يعني قد تكون أشخاصًا محبوبين، وقد تكون أموال، أو بيوت، أو جمادات أو أحياء، قد يكون المتعلق به موجودًا ويبادلني أو لا يبادلني، وقد يكون المتعلق به بعيدًا وأبقى متعلقة بنَوْله!
المتعلقات هذه أشكال وألوان: متعلق بدرجة علمية، متعلق بمكانة اجتماعية، متعلق بخيال لا يعرفه! عشق الصور! ... كل هذه أنواع عجيبة من التعلق.
تأتي وراءها مفاهيم غاية في الخطورة: أهمها: مفهوم الابتلاء.
ميل القلب لغير الله تلذّذًا بهذا الميل، طلبًا للسعادة، هذا هو التعلّق.
المطلوب أن يكون أُنْسُك التامّ بالله، مطلوب أن لا تزاحم لذّة التعلّق بالله لذّة، ولا يزاحم الشوق إلى الله وإلى مراضيه شوق.
الواقع أنه يُقطع علينا بابتلاءات تسبّب لنا الالتفات، فنشتاق لغير الله! نتلذّذ عند غير الله...!

هناك مفهومان متناقضان:
1.     أن يصبح لك تلذذ لكن يلتفت قلبك إلى الله.
2.     أن لا تبعد فتتلذّذ فتأنس بغير الله.
رأس المفهومين: التفكير في نهاية العبد وفيما سيحاسب عنه.
أنت لمّا تنتهي من الحياة أول شيء يحصل لك تنقطع عن كل المتعلقات، بحيث لا يكون لك أُنس إلا بما جعلته لك أُنْسًا، من العمل الصالح -نسأل الله من فضله-، أو خلافه.
أمر آخر: يوم القيامة ستحاسب على إحسانك في عبادة ربك الذي من أجلها خُلقت.
هذه النهايات تجعلنا ننظر إلى البدايات، مادام أني لن آنس إلا بعملي، إذًا مطلوب مني في الحياة أن لا آنس بغير هذا على الحقيقة.
الأمر الثاني: أنا سأحاسب يوم القيامة على أعمالي وعلى تعاملي مع الناس، ففي الدنيا لابد أن أراقب هذه المسألة وألاحظ أين مكان قلبي.
المقارنة بين المفهومين:
أنك يا عبد يسمح لك بالتلذذ بما رزقك الله من المحاب الطبيعية حبك للمال للأولاد ... بشرط أن لا يقع قلبك بالالتفات به.
قلبك ملتفت بالأنس بالله والتلذذ بالتعبّد له، وهذه المحاب الطبيعية الالتذاذ بها رزق من عند الله، فاطلب من الله أن يرزقك ما يؤنسك ويصلح شأنك ويبعدك عن الحاجة إلى الناس، ما يشبعك، ما يهنئك وقت نومك ... فكل المحاب طبيعية مطلوب منك أن تعلم أنها حاجات أوجدها الله في نفسك ابتلاءً. هذا الذي تحبه حبًّا طبيعيًّا لو كان من أكل وشرب، مطلوب منك أن تطلب من الله أن ينفعك بها، أن يجلبه إليك، فأين البلاء؟
هذا المفهوم الثاني: تأتي هذه الأشياء في حياتنا تدخل كأنها بلاء يلفت قلوبنا لها.
مثلاً: يفتح لك باب المال، يفتح لك باب الزوجة أو الزوج وحبّه، ابتليت بأن قلبك بدلًا من أن يكون ملتفتًا إلى الله يلتفت لهذه الأشياء الطبيعية الموجودة.
ماذا يجب عليك أن تفعل؟
لا تجعل غاية الأُنْس عندهم، لا تصفهم بالنفع الدائم، لا تتصوّر أنهم سبب الراحة المطلقة.
مثال آخر: اجتمعنا ببعضنا، وحصل في هذا الاجتماع شيئًا من الأُنْس والسعادة، الذي أتى به هو الله، وليس شرطًا أن يحصل هذا الأنس وهذه السعادة كلما اجتمعت بهم، ففي المرة التالية اطلب من الله أن يشرح صدرك، وهو وحده الذي سيشرح صدرك كما يشاء.
لا تتصور أن هذا الشخص شرط أن يكون موجودًا حتى يشرح صدرك.
لا تعش لهذا، ولا تكن رهنًا لأحد، وليس شرطًا أن تكون في هذا المستوى المادي أو هذا المصروف موجود أو هذا المال موجود حتى تكون سعيدًا، أو هذا الأكل كافٍ حتى تكون سعيدًا، أو هذا الشخص موجود في حياتي حتى أكون شخصًا متّزنًا وسعيدًا! لا.

توجد جهة أخرى: يُبتلى الإنسان بالفَقْد، ويكون في قلبه حب لهذا المفقود، فيأتيه البلاء من جهة تعلّقه بالله أن يصبّره، تعلّقه بالله أن يجبر قلبه.

بدأنا بمقدّمتين:
1-    سُمح لك أن تكون لك علاقات مع الناس بالمحبة الطبيعية، ومسموح لك أن تتلذّذ بها، لكن نقطة البداية أن لا يلتفت قلبك إليها شاعرًا أن اللذّة عندها! هذا الخطأ، إنما قلبك معلّق بالله، هو سبحانه الذي يسخّر لك ما يجعلك في حال طمأنينة، قلبك طوال الوقت معلّق بالله أن يجلب لك ما يكون سببًا لإسعادك بالمحاب الطبيعية أو بغيرها.
2-    نحن قوم نُبتلى بأشخاص، بمرغوبات، بمحبوبات، بمتعلّقات... تأتي تصادمنا في طريقنا، نُبتلى هل يلتفت قلبنا لها أم تبقى قلوبنا معلّقة بها؟! تأتي بقوة هذه المتعلقات -البلاءات-.
مثلاً: ابن، أب، أخوة، وهذه دائمًا يحصل فيها إشكال، علاقة دخلت على العبد فيها نوع تلذّذ، هذا نوع بلاء؛ لأنه المطلوب منك أن لا يلتفت قلبك على هذا الشخص على أنه مصدر للأُنس والراحة والتلذذ!

تقول: أنا آنس لما أراه وأكلمه. نقول: لابد من التفريق بين المفهومين وهما غاية في الدقّة: لا يلتفت قلبك للشخص، اعتبر الشخص كأنه مال لتتصور المسألة، ليس من المنطِق أن تشعر أن هذه الأوراق سبب لسعادتك! تشعر أنها شاغلة فكرك، ملتفت إليها، لكن تصوّر أنك مُبتلى، المبتلى ماذا يفعل؟
المبتلى يزيد تعلّقًا بالله أن يجاوز به البلاء، يزيد تعلّقًا بالله أن يصلح له ما ابتُلي به ويجعله سببًا للبركة عليه، ليس شرطًا أن يفقده، نحن نتكلم عن بداية المسألة وليس وقت ما تصل لحدّ العشق!
مال دخل علي في حياتي، بيت، منصب، درجة علمية... هذا يلفت نظري، يبقى قلبي متعلقًا بالاستمتاع به، أشعر أني لما ملكته كل مشاكلي حُلّت!
كل هذه تفكيرات باطلة، كل لذائد الدنيا زائلة، آلامها قبل لذاتها!
ماذا أفعل؟
تصور هذا الشخص، أو المال، أو البيت، أو الدرجة العلمية... بلاء، لا يجب زواله، لكن من أول الأمر تعامل معه على أن الله ابتلاك بهذا المال، فتوسّل إلى الله أن يبقيه سببًا لصلاحك، لا تركن له، لا تشعر أنه موجود إذًا حلت مشاكلك! لا تتصور أنه ملجؤك ومدّخلك وهو الركن الشديد .. بل تصور أنك لكل شيء فاقد، وأن الله بمنّته وكرمه ينفعك بهؤلاء.
لما نفعك به في صحبة أو جلسة أو لقاء... ليس شرطًا أن يكون في كل لقاء سببًا لصلاحك، لا تصفهم بالنفع الدائم، ولا تصفهم بأنهم سبب للراحة الدائمة!، هذا الموقف كان فيه سبب الراحة، لعلم، انشراح الصدر (رزق من الله)، الموقف الثاني لن يكون فيه الراحة إلا إذا توسّلت إلى الله أن يجري لك انشراح الصدر، قد يجري على يديهم أو على غيرهم..

أعلم يقينًا أن هذه المفاهيم صعبة وتحتاج إلى مناقشة عدة مرات حتى تتفكك مفاهيمها..
في الحقيقة أن هذا المفهوم مهما كرّرنا فيه نشعر أن المفاهيم جديدة، لكن المطلوب الآن في هذا اللقاء ليس مجرّد المعرفة، المطلوب من هذا الكلام شدة التصوّر له.

نحتاج أن تفكّر في أن المفروض والحقيقة أن يكون أُنسك بالله، وهؤلاء الموجودون عبارة عن أشياء جعلها الله سببا للأنس، ابتليت بها، لا يميل قلبك لها أُنسًا! استأنس بها على قدر ما يعطيك الله فيها أُنسًا، وإذا نقص شيء منها من الأنس لا بأس، فأُنْسك الحقيقي بالله.
كلما نضجت اضمحل في قلبك الأنس بشيء غير الله، إلى أن تُقبض أرواحنا ولا أُنس إلا به -نسأل الله من فضله- فيدخل قبره مستأنسًا!
وهذا هو الهمّ، الهمّ: أني ماذا سأفعل لما أكون وحدي؟! بماذا سآنس إذا اعتدت على عدم الأنس بالله؟!

ونسأل الله تعالى أن يتفضّل علينا بالفهم والعلم عنه أن يشرح صدورنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل قلوبنا مستأنسة به سبحانه وتعالى، وأن تبلغ قلوبنا معرفة الطريق للأنس به سبحانه وتعالى.
انتهى اللقاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




[1] الفرقان: 72.
[2] العنكبوت: 2.