بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، نحمده سبحانه
وهو يستحق الحمد ونشكره ونحن نرى آثار نِعَمِه تترا على الخلق، خصّنا بالإيمان
والتوحيد، وأنعم علينا بالعلم، ورزقنا الفهم عنه سبحانه وتعالى!
أخرجنا
من الظلمات إلى النور، يسّر لنا سبل العلم كلها، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا
من الشاكرين الذاكرين المثنين عليه سبحانه وتعالى بما يستحقه، لا نحصي ثناء
عليه سبحانه وتعالى هو كما أثنى على نفسه.
وبما
أنّ النعم تترًا والعبادة الحق منطوية على شكره سبحانه وتعالى، فكل عابد على
الحقيقة إنما هو شاكر لربه على ما أنعم عليه من نعم، فسكون لقاءاتنا -إن شاء الله-
سلسلة حول عبادة (الشكر) من أجل أن نفكك الموضوع الذي يكاد يكون هو صلب
الدين من جهة، وحَلّ لكثير من المشكلات التي نعيشها على المستوى الفردي في نفوسنا
وأبنائنا وعلى مستوى الدول.
هذا
الموضوع الذي يكاد يكون صلب الدين وهو الحقيقة، لأن الناس كما وصف سبحانه وتعالى :
{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[1]
فانقسامهم على هذا دلّ على أنها قسمة ثنائية، بمعنى أن الناس لا يخرجون عن
هذان الوصفان، إما يكون الشخص كافر وإما شكور لربه، وعلى هذا الناس في هذا الأمر
درجات، في كفرهم درجات وفي شكرهم درجات.
فنسأله
أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين، وأن نكون ممن شكر عن علم وعن صدق، فكم من شاكر
كاذب وكم من شاكر جاهل ما تغلغل إلى أعماق قلبه علمه بما يستحق سبحانه وتعالى من
الثناء، فلذلك
كان شكره باردا وانفعاله ليس في مكانه.
¿ سنطرح هذا الموضوع من ثلاث جهات:-
1. حقيقة الشكر والبواعث عليه، هذا سيكون في لقاءنا اليوم.
2. ثم ننتقل لصورة من صور الشاكرين ذكرها الله في كتابه، هذا سيكون إن
شاء الله في اللقاء القادم.
3. إشارة إلى ضد الشكر وما ضرب الله -عز وجل- له أمثلة في كتابه.
نبدأ
الآن في الكلام حول: (حقــيقــة الشــــــــكر):
هذه
الكلمة وهي كلمة الشكر من الكلمات المكررة التي يستعملها الناس في حق الله -عز
وجل-، ويستعملها أيضا الناس في حق الناس، فنحن نقول (نشكر
الله) ونقول (نشكر الناس)، وفي الحديث كما هو معروف ((مَنْ
لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ، لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لاَ يَشْكُرُ الْقَلِيلَ، لاَ
يَشْكُرُ الْكَثِيرَ))[2].
ü
فما المقصود
بالشكر من جهة عمل القلب؟
ü
وما
المقصود بالشكر من جهة عمل اللسان؟
وهذا
تقرير أن الشكر سيكون: عمل للقلب، وعمل للسان.
أما
من جهة عمل القلب هو الذي سيكون التفصيل فيه، ثم سينتج عن ذلك عمل اللسان.
Ã
الشاكر: شخص شعر بالنعمة، ونسبها إلى المنعِم، وشعر بفضله عليه،
فانفعل بقلبه، ثم انفعل بلسانه.
وسيأتينا
بعد ذلك الانفعال بالجوارح، لكن أولا الشكر عمل يحصل في القلب، يعبر عنه اللسان،
وفي أول فرصة تعبر الجوارح؛ فأصل الشكر الشعور بالنعمة، ثم إذا شعر وانفعل أتى
بعدها انفعال اللسان، ولهذا نلاحظ اقتران الشكر بالذكر.
¿
لماذا الشكر يقترن بالذّكر؟
كما
اتفقنا أن الشاكر منفعل بقلبه على الحقيقة، ثم هذا الانفعال أول مخرج له اللسان،
وبعد ذلك كل فرصة تأتيه من أجل أن يعبّر بالجوارح يفعل، فاقترن لذلك الشكر مع
الذكر.
إذن ما
هو الشكر؟ الشكر عمل قلبي.
- نتيجة ماذا؟ نتيجة
الشعور بالنعمة.
فإذا
شعر بالنعمة أظهرها، نسبها إلى الله وأثنى على النعمة وعلى المنعِم.
¿ وهل شرط أن الناس ينسبون النعم إلى الله لمّا يشعرون
بها؟
نرى
أقسام الناس في هذه النقطة :
1. مِن الناس مَن هو جحود بحيث أنه لا يعترف بالنعمة سواء نسبها إلى الله
أو إلى الخلق.
لا نتكلم
عن جاحد لنعمة الله إنما عن شخص لا يشعر بالنعم، ويهرب قلبه دائما من مشاعر أن لأحد
فضل عليه، وهذا كِبْر دفين في النفس، دائما يهرب أن يكون لأحد فضل عليه، ومن
الطبيعي أن يكون لوالديه فضل عليه، لإخوانه فضل عليه، وهناك فرق بين أن تعترف بأن
لأحد فضل عليك وأن تكون ذليلا لأحد.
المقصد
أن الشاكر يضادُّه مباشرة الجاحد،، ما هذا الجاحد؟
ليس
في قلبه قَبول أن لأحد فضل عليه؛ وهذا تفسير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ اللَّهَ))[3] أي: من لا يستطيع أن يعترف بالنعم صغيرها وكبيرها
فمن المؤكد أنه لن يعترف بنعمة الله -عز وجل- عليه، فالشكر فضيلة توجب كمال
إنسانية الإنسان، وهو اعتراف بالنعمة، اعتراف إنّ أنا علي نعمة.
فالنقطة
الأولى التي يفترقون فيها هي الاعتراف بالنعمة، فهناك أشخاص فيهم نكران وجحود لا
يعترفون أن نعمة عليهم، كلما
نظروا إلى ما يتمتعون به أخرجوا لك ما ينغص فيه. فالمقصود أن النوع الأول من الناس
الذي يقابل الشكر الجحود -شخص جاحد- فهو غير معترف في الأصل بأن نعمة واقعة عليه.
2. النقطة الثانية التي تضاف في معنى الشكر، الشكر هو: الاعتراف بالنعمة ونسبتها
إلى المنعم.
نأتي
الآن في أصناف الناس في نسبة النعمة للمنعم، وهذا مكان افتراق عظيم بين الناس، فأولا نأتي إلى
التقسيم الثنائي الذي يقسم الناس قسمين :
à أصناف الناس في نسبة النعمة للمنعم :
1. مَن ينسب النعمة لله.
2. مَن ينسبها لغير الله.
أما
غير الله فيتفرع، يعني: مَن غير الله الذي يمكن أن يشكر؟ كثير، ممكن أن يشكر الإنسان
نفسه، ممكن أن يشكر الخلق، ممكن أن يشكر معبودات غير الله؛ ولهذا لو أتيت في هذه
القسمة الثنائية وترى أيهم أكثر أن يشكر الله أم من يشكر غير الله؟
تجد
في كتاب الله -عز وجل- {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يَشْكُرُونَ}[4] { قَلِيلاً
مَّا تَشْكُرُونَ}[5].
(قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) فيها فرق عن (أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) بمعنى أن كثيرا
من الناس في أصلهم لا يشكرون، لا يوجد في قلوبهم شعور بالمنّة، أو لا ينسبون
النعمة إلى الله.
ثم
نأتي للصنف الثاني الذين ينسبون النعمة إلى الله ويشكرونه، هؤلاء الناسبين النعمة
الشاكرين هم في شكرهم قليل، مع نسبتهم النعمة لله -عز وجل- ومع ذلك هم قليل في
شكرهم (قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) إذن ماذا
تفعلون إذا بلغتكم النعمة؟ تلهيكم النعمة فتستمعون ومن ثَمّ تغفلون عن شكره، وهذا
النقاش كله حول من هو في أصله شاكر.
اتفقنا
أن الناس انقسموا قسمين:
o
ناس
يشعرون بالنعم.
o
ناس
يجحدون النعم، لا يوجد في قلوبهم شعور أن هناك نعمة، ودائما يكلموك عن أن هناك نقص.
ثم
من يشعرون أن هناك نعمة ينقسمون إلى قسمين:
o
قسم
ينسب النعمة لغير الله ومن ثم يشكر غير الله.
o
وقسم
ينسب النعمة لله ثم يشكر الله
من
ينسب النعمة لله أيضا ينقسم إلى قسمين في شكره:
o
قسم
قليل ما يشكر.
o
قسم
منّ الله -عز وجل- عليه فكان من الشاكرين.
ما هو العلم الذي إذا دخل إلى القلب يكون سببا لأكون من الشاكرين
لله شكرا كثيرا؟
بمعنى:
ما هو العلم الذي إذا دخل إلى القلب شعرت فيه بالنعمة دائما ونسبتها إلى الله ثم
وقع في قلبي العرفان، بل العجز عن الثناء عليه سبحانه وتعالى، فأكثر اللسان من
الثناء وعجز القلب عن ذلك؟
·
نحتاج
أن نجمع بين ثلاثة أنواع من العلم:
العلم الأول: العلم بحقيقة
النفس، وحقيقة فقرها، وحقيقة عجزها ونقصها، إلى آخر مالها من صفات.
وهذا
علم يجب أن لا ينفك، لابد أن نبقى نذكّر نفسنا دائما بفقرنا، ولا ينفع في هذا
الباب مجرد الكلام العام بل لابد من الأدلة والنصوص ولابد من الانتفاع بلحظات
الفقر والعجز، ولابد من تذكير النفس بها.
وهذا
العلم له عدة موارد:
-
مورد
النصوص الشرعية
-
مورد
الحياة اليومية التي أعيشها
-
مورد
العبرة بما مضى من حياة الخلق.
العلم الثاني: هو العلم به
سبحانه وتعالى وبكمال صفاته.
فإن
الجاهل من المؤكد أنه لن يكون شاكرا، فلا تتصور شخص جاهل بالله يمكن أن يكون حقيقة
ًشاكر لله، ربما وقع منه الشكر لكن ليس كما ينبغي، وإن كنا جميعا نشترك أننا لا
نحصي ثناء عليه، لكن الجاهل تراه يناقض شكره في لحظتها، في لحظتها يكون شخصا آخرا،
يشكر بلسانه ثم تراه ينقض شكره على الفور.
العلم الثالث: ملاحظة تدبير
الله وتغير الأحوال، التي نسميها (الاعتبار).
والاعتبار
في الغالب يكون بما قصّه الله -عز وجل- علينا من أحوال
الأمم
(الشاكرين، الكافرين..)، وبما مر علينا من أحوال الناس، فأنت ترى شاكرا زيد له
بسبب شكره، وترى بطرانا أكثر من التعييب في نعمة الله -عز وجل- وترى كيف أُخذت
النعمة منه، فلابد من الاعتبار من أجل أن تسلك مسلك الشاكرين.
كم
عشنا مواقف مع أنفسنا ومع الناس؛ ذُكرت لهم نعمة فأظهروا الاستغناء عنها أو أظهروا
بغضها فرأيناهم بعد سنين يبكون على ما جنوا بألسنتهم، وبما قام في قلوبهم! ومع هذا
كله الذي تراه مكررا، أيضا ترى آثار رحمة ربك، وترى آثار حلمه سبحانه وتعالى ولطفه
بخلقه.
إذن
اتفقنا على تفريعات أوصلتنا لهذه النقطة :
الشكر
في الأصل عمل قلبي، يضعف يكون قليلا أو يقوى فيصبح كثيرًا، أو لا يكون موجودًا فيصبح
صاحبه جاحدًا.
الشكر
لابد أن يتبعه مشكور، فقلوب تشكر الله -عز وجل-، وقلوب تشكر غيره، هذه أيضا نقطة
فيها إشكال يعيشها ناس كثيرين!
نريد
قلبًا شديد الحساسية للنعم، فإذا اشتدت حساسيته انتقل من الإحساس بالنعمة إلى سرعة نسبتها إلى الله، فإذا وجد عنده السرعة في نسبة النعمة إلى الله لابد أن يلهج قلبه ولسانه وجوارحه بشكر الله، وعلى هذا لو نظرت مرة أخرى، ستجد
هناك مشاعر شكر عند الخلق لكن لا يوجد شدة حساسية للنعم، فهناك موت للإحساس، في أحيان كثيرة أنت تحتاج أن تقوم بعملية إنعاش للقلب من أجل أن يشعر بالنعمة! فالقلوب مَوات في الشعور بالنعم.
ولذلك تسمع ألسنة في غاية القبح في ذكر النعمة على أنها نقمة،
وهذا أكثر شيء يحتاج منا إلى تنشيط، وهذا عمل يخص كل شخص فينا، أن ينهض إلى قلبه فينشط فيه فيذوّب فيه الجمود والجليد، البرود الحاصل اتجاه نعم الله -عز وجل-، ثم إذا شعر بالنعمة تأتيني مشكلة أخرى مشكلة النسبة.
·
معالجة مشكلة النسبة ومن أجل أن لا ينسبها إلا لله -عز وجل- فعلينا بما ذكرنا من حلول:
1.
نعرف أنفسنا من أجل أن لا يخطر ببالنا حينما نشعر بنعمة أن ننسبها لأنفسنا أو نستغني في مشاعرنا عن الله.
2.
نعرف الله لنتصور مقدار فقرنا إليه.
3.
نعتبر بأحوال القوم الذين تركوا الشكر، وهذه الصور التي اتخذتها عبرة لك لا تغيب عن بالك وفي نفس الوقت تعلم أن غيرها كثير موجود لكن الله -عز وجل- يعامل الخلق بحلمه سبحانه وتعالى.
بعد
هذا الكلام نقول: كم مشكلة عندنا؟ في الأصل عندي مشكلتين
في الشكر:
1/
مشكلة الشعور بالنعمة.
2/
مشكلة النسبة.
النفوس الآن كثير منها يشترك فيها أنها لا تشعر أصلا
بالنعمة ويدخل إليها البطر! ولهذا ترى أن هؤلاء الجاحدين لهم نفسية معينة تستطيع
أن تميزها دائما؛ أنّهم ليسوا براضين، دائما ينسوا ما عندهم ويفكروا فيما عند
غيرهم، بمعنى أن ينسوا الموجود ويفكروا
بالمفقود، ولهم صفات كثيرة.
¿ نبدأ الآن بالكلام حول النقطة الأولى وهي:
كيف نعرف الله ليصحّ منا نسبة النعمة إليه؟
مثلاً: هذا الشخص يشعر بالنعمة، نجح، سكن في بيت جديد، شفي،
رُزق بمولود (جميل)، لكن في هذا كله إن تكلم عن الله تكلم في ثانية، وتراه يتكلم
عن الأشخاص أو عن ماله أو عن البنك الذي سلفه أو عن صاحب العقار ساعات! هذا عنده
مشكلة في نسبة النعمة.
فهذه أصل المشكلتين التي
نعيشهم: إما عدم شعور بالنعمة وإما في عدم نسبتها لله، وممن ننسب إليه النعمة نفوسنا،
فنفوسنا من المواطن العظام التي نرى نفسنا فيها.
·
مشكلة الشعور بالنعم.
ما
سبب مرض عدم الشعور بالنعمة؟ ما صفات صاحبه؟
أولاً عدم الشعور بالنعمة عند كثير من الخلق مرض غير مُدرَك، يعني يكون الإنسان مصاب بعدم الشعور بالنعمة وهو لا يشعر؛
يأتي كثير من الخلق إلى أرزاق الله وعطاياه فيكون لهم أحد مواقف ثلاثة
(أسباب نسيان النعم):
Ü الموقف الأول:
ينظرون إلى النعمة على أنها نقمة.
وهذا ربما لا يستثنى فيه أحد في عصرنا، فيما نحن فيه الآن ترى كثير ممن
أنعم الله -عز وجل- عليهم بعظيم النعم ينظرون إلى كثير من نعم الله على أنها نقمة!
فهذه
تحت رجل مثلا زوج أو
أب شديد صعب المراس، يمنعها من الاختلاط والخروج لزميلاتها، هي تحزن على نفسها
والناس يحزنون عليها، وما يعلمون أن ربًّا عليمًا حكيمًا جعل طبيعة ولي أمرها بهذه
الصورة حفظًا لها ومنعًا لها من بلاءات عظيمة، وهي لا تدرك طبيعة نفسها ولا تدرك
أنها لو تُركت ستنفلت! هي تقول لك: فلانة تخرج ومحفوظة وما حصل لها شيء، نقول: الذي
سلط عليك مثل هذا عليم بحالك، وجُر هذه النقطة على غالب الحياة..
تجد
كثير من الخلق ابتلوا بما هو غير مناسب لهم، ولا يأتي على هواهم، وكان نعمة لكنهم
ما أدركوا ذلك! وعلى هذا ستكون مشاعري تجاه الأقدار التي تجري علي هي مشاعر شخص
يعرف مجريها، ويعرف أن من أسماء مجريها (الطيّب)
فإذا كان سبحانه وتعالى طيّبا مقدسًا منزهًا عن النقائص والعيوب كلها؛ فمن المؤكد
أنه لا يأتي من الطيب الذي اكتمل طيبه إلا الطيب.
وانظر
إلى كثير ممن نضجوا وعبروا سن المراهقة أو أوائل الشباب ورأوا حكمة الله في أن
يكون لهم مثلا ولي أمر بهذه الصورة، في أن يكون لهم أُمّ بهذه الصورة أو أوضاعهم
الاجتماعية بهذه الصورة، يروا آثار لطفه وطيبه سبحانه وتعالى.
فالمقصود
أننا أولاً لابد أن نحرر نفسنا من النظرة السلبية اتجاه ما قدّر علينا من أمور
تأتي على خلاف هوانا، ولقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقيرًا يرعى الغنم،
فكان فقره ورعايته للغنم سبب لمجده وسبب لقدرته على تسييس الخلق لما كلف بالرسالة،
وكان هروب موسى عليه السلام إلى مدين وبقائه تلك السنين يتحمل ويتحمل ثم عودته في
ذاك الوقت سبب لأن يكون كليم الرحمن.
فإنّ
في طيَّات ما لا تهوى كثيرًا مما تهوى، لكن لن تراه إلا لما تكون من الشاكرين.
إذن
هذه المسألة الأولى في هذا المقصود، يعني: عدم شعورنا بالنعمة أحد أهم مواقفه أن
النعمة تنقلب عندي إلى نقمة لأنها لا توافق هواي، فأصبح مصدر رضاي هو هوايّ، وحسابي
لهذه الأمور التي تدور حولي أنها نعمة على حسب موافقتها لهواي.
الموقف
الثاني الذي نرى فيه أثر هذا المرض -عدم الشعور بالنعمة-:
Ü الموقف الثاني: الاعتياد على النعمة.
كثير
من الناس لا يشعرون بالنعم لأنهم اعتادوها، وهذا يطول النقاش فيه وتكثر الأمثلة
عليه ويتباين الناس فيه، فأنت الآن تملك من أمرك أن تتحرك وقتما أردت لأن الله -عز
وجل- سلم أعضاءك، وتملك من أمرك أن تقلب صفحات كتابك أو تكتب بقلمك مثلا لأن الله -عز
وجل- مكَّنك من هذه النعمة، فإذا نظرت لمن فقد شيء من أطرافه (أصبعه، إبهامه..)
فقط، ستعرف في أي نعمة أنت؟ وبماذا تتميز؟ وكيف أنك تتقلب بالنعم!
فالاعتياد
قتَل الشعور بالنعم، وأضعف عند كثير منا الشكر، مشاعر أن النعمة مستقرة أذهبت من
قلوبنا الخوف من فقدانها، فالآن الله عاملك هذه المعاملة وأقر عليك النعمة ولم
يذهبها منك، فهل كان ردك نسيان النعمة؟!
وعلى
هذا ستقول: أنا سأعجز عن الشكر! لماذا؟
لأني
لو أردت أن أفكر فيما عندي من هذا النوع من النعم المنسية المعتاد عليها، سأجد
نفسي عاجزًا عن العَدّ أصلاً، ومن ثم عاجزًا عن الشكر، وهنا نقول قد أتيت بقلب
الشكر لو عجزت عن شكرها.
فالمعنى
أن هذا الباب أخذ ناس كثيرين، اعتادوا على صحة في أبدانهم وعلى طعام في بيوتهم،
وعلى نوم هادئ في ليلهم، وعلى ذرية يسيرة ينجبونها، فأخذ الأمر في قلوبهم حد
العادة، فماذا فعل بهم؟ لما اعتادوه مات الشكر في قلوبهم، ولما تأتي تقول لهم:
احمدوا لله! وهؤلاء غالبهم سفهاء، يموت شعورهم بالنعم ويقعوا أيضًا في البطر، تقول
لهم: اشكروا الله، يجيبون عليك: على ماذا نشكر؟! يتصورون أن الشكر لا يكون إلاّ
على نعمة جديدة أما المستقر عندهم فلا يشكرون.
فكان
هذا السبب الثاني، وهذا لا يُتهم به أحد، هذا أمر كلنا نحن مشتركين فيه، في
الموقفين، مشتركين في النظر إلى كثير من النعم على أنها نقم، ومشتركين في الاعتياد
على النعمة، وسنذكر أسبابا للوقوع في هذه الأمور.
Ü الموقف الثالث: الانشغال بالدنيا جعلهم ينسون حقيقة النعم.
نرى
كثير من أحوال الخلق الذين يشتغلون بالدنيا، يُفتح لهم من لطف الله -عز وجل-
ورحمته أبواب للآخرة تحيط بهم، لو ما كانت مفتوحة وقريبة لم يعتنوا بها.
مثلا:
شباب ورزقهم الله أن يسكنوا قريبا من المسجد، فأصبح المسجد نقطة تجمعهم حول المسجد
أو قريب من المسجد، يدخلون المسجد بعد الركعة الأولى أو الثانية ويصلون مع الجماعة
-أسأل الله أن يشرح صدور شبابنا أجمعين-، فقربهم من المسجد نعمة، ووجود صاحب أو اثنان لقاءهم في المسجد
نعمة، لكنهم لا يشعرون بهذه النعم، لا يشعرون أن جارا صالحا أو مسجدا قريبا أو
حلقة أو مدرسة تحفيظ مفتوحة
من النعم، لماذا هذا النسيان؟
مثالاً آخر من أجل أن تتصوروا خطورة هذه الحال:
إقامة التوحيد ومنع مظاهر الشرك من عند منع التبرك بالأشجار والأحجار إلى منع جعل القبور مزارات،هذه
تعتبر نعمة عظيمة، لا يدركها إلا من اعتنى بدينه، لكن كلِّم أهل الدنيا عن هذه النعمة، كلِّم المشتغلين بالمأكول عن هذه النعمة، تجدهم لا يحركون ساكنا،
لا يشعرون، موتى!
وهذا النوع من النعم المنسية حدّث به ولا حرج، حدّث من كثرته،
وكثرة الواقعين فيه،
وكلهم يشتركون في أمر خفي وهو أن دنياهم أهم من أخراهم، فهؤلاء عدم شعورهم بالنعمة سببه الانشغال بالدنيا، سببه أن دنياهم أهم من أخراهم، سببه الطمع،
فالطمع يُورِث الإنسان موت في الشعور بالنعمة!
فالانشغال بالدنيا أنساهم أن نعما كثيرة في دينهم تحيط بهم لكن هم ليسوا لها بشاكرين،
وربما يكون هناك أسبابا أخرى لنسيان النعم والشعور بها لكن ما يظهر لي أن هذه الـثلاث هي الأصل وقد تقرؤون في ذلك تقارير-أسأل الله يفتح على الجميع-
v
هذه
الثلاث ما الذي يغذيها ويزيدها، وما الذي يكشفها عنا؟
سنحدد عوامل هي السبب إما في وجودها وإما في إزالتها:-
¿ أولًا: طبيعة نفوسنا.
الناس طبائع، فهناك طبائع من الخلق طبائع مُنكِرة، تَكْفُرك دائما بالنعم، يعني بعض الخلق ابتلوا في طبائعم أن فيهم كفران للنعمة، كفران النعم هذا طبع مشترك بين الخلق لكن يزيد عند أشخاص وينقص عند أشخاص، لما تعرف هذا
الأمر سيكون الحل أن تعالج كفران النعمة، تردّ نفسك، ما تخرج نفسك على هواها،
والمشكلة أن النساء أكثر كفرانا لمن يعاشرهنّ، فالعشرة بمعنى الملازمة، والنساء من طبعهم يكفرن العشير زوجًا كان أو غيره، شخصا كان أو نعمة؛ فإذا فهمنا هذا عن نفسنا بدأنا نتلمس جروحنا.
فلابد من مراجعة النفس من أجل أن لا أكون ذاك الكفور الذي يكفر نعمة الله وينكرها ويجحدها، وبعد ما وصلت لي أقول أنا في غنى عنها! أو ستصل ستصل! أو أقول إذا ما
جاء بهذا الطريق يأتي بطريق غيره؛
فيبتلى الإنسان بتعبيرات عن كفر النعمة.
فطبائعنا مستعدة للكُفران؛
ولهذا وصف الله -عز وجل- جنس الإنسان بأنه هلوع،
منوع، جزوع، ثم استثنى منه المصلين، يعني هناك طريق لتهذيب نفسك، لكن أنت في الأصل ليس هذا حالك.
¿ ثانيًا: المجتمع.
الناس المحيطين بنا، تراهم يشعروك بنقص وأنت في حال كمال، يقنّطوك وأنت قريب من الفرج، يزهدوك في أمر يجب عليك الطمع فيهم، يطمعوك في زائل، يزيِّنوا لك باطلا، ويقبحوا لك حقا، فالمجتمع له أثر كبير في عدم الشعور بالنعمة، تقبيحها، تقليل قيمتها، في الغفلة عنها، في قلبها نقمة، ومن المؤكد أن في ذاكرة الناضجين كثير من هذه المواقف،
فوجب التحرر من مقاييس المجتمع على النعمة.
المعنى: أن كثيرا من مفاهيم المجتمع حولت النعم إلى نقم، وانظر إلى نعمة مثل نعمة الإنجاب، وكيف جعلها المجتمع نقمة!
وانظر إلى نعمة مثل نعمة ولي الأمر كيف حولها المجتمع إلى نقمة! وعُدّ ما أردت من مقاييس باطلة ليست شرعية ورّثها المجتمع لأهله وأصبحوا بذلك يحكمون على النعم،
فلم يرضوا عما أنعم الله به عليهم وكانوا سببا في عدم رضا الناس عما هم فيه.
ولهذا لما تنظر إلى كثير من الثورات على الحق، كالثورة على الحجاب، وكالثورة على التحاكم بما أنزل الله، ترى كيف أن المجتمع أو مقاييسه تسبب تحويل النعمة إلى نقمة.
·
كيف تحولت هذه النعم إلى نقم؟ من تلاعب بعقلهم؟ من أورثهم هذا الأمر؟
هذا كله له خلفياته وأسبابه وسياسته وتفكيره
وتسريبه، لكن في النهاية أنا أمام مجتمع، أنت أُنعم عليك بنعمة مثل الحجاب، وتجد
أن هناك من يراك قد ابتليت بمصيبة ويبذل جهوده أن يحررك منها! ويأتون لك من زاوية فيها شيء من الحقيقة،
من زاوية مثلًا أنك ستفقدين كثيرًا من المُتع نتيجة أنك بهذه الصورة!
فهم لا يستطيعون أن يضغطوا إلا على مَن عظمت الدنيا في نفسه.
·
فكيف يستطيع المجتمع أن يحول النعمة إلى نقمة في وجهة نظرنا؟
له طرق كثيرة، من بينها طريقة تصلح لمن طمع في الدنيا، لمن لم يعرف ربه، لمن لم يحسن في التعامل مع أوامر الله -عز وجل-، فيأتيك أحد يشعرك أنك لو صبرت فأنت ضعيف، ولو امتثلت للأمر فليس لك شخصية، ولو دفعت بالتي هي أحسن سيستضعفك الخلق، ولو رأيت أن انتظار الفرج من الله -عز وجل- عبادة وقربة فهذا معناه أنك سلبي!
ولطالما عظّموا الأسباب في قلوبنا وبذلوا جهودهم في جعلها قائدًا ورائدًا، وأنسونا وتناسوا أن الأسباب بيد الله، فالأسباب بيد المسبب سبحانه وتعالى، هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[7] فما قام في قلب العبد من الحق يلحقه الضَعف لو استسلم للمجتمع!
كل هذه عوامل تزيد نسيان النعمة.
¿ العامل الثالث: الابتلاءات.
فقد يبتلى الإنسان في حياته وفي طريقه إلى ربه -ولا بد أن يُبتلى- بما ينغص عليه الحياة، فلما يبتلى بما ينغص عليه الحياة ينسى في طيات ذلك ما أعطاه الله من نعم، فتتكدر بنقص
نعمة فتنسى النعم، وهذا للأسف كثير، كثير! وهو ما وصف سبحانه وتعالى في كتابه من حال العبد اليؤوس القنوط من رحمة ربه، ما سبب يأسه وقنوطه؟
بسبب أن نقصًا حصل فيما أعطاه ربه، وهو الذي أعطاه، وهو الذي منعه اختبارًا {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ
الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ
ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ
مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[8] هذا حاله بعدما أنعم الله -عز وجل- عليه بالنعم، أي حاله بعدما بدلّ الله -عزّ وجلّ- عليه النقمة وجعلها نعمة،
لكن وقتما ابتلي بهذا، وقتما نقص عليه هذا الأمر كيف كان حاله؟ كان حاله يؤوسًا كفورًا بنعمة الله -عز
وجل-، ينسى ما أنعم الله -عز وجل- به عليه لأن نقصا أصابه!
من
أكثر ما نخشى على أنفسنا أننا لما نفقد نعمة من النعم، رزقنا الله إياها ثم
ابتلانا بفقدها، فيكون ردنا على الله أن ننسى باقي نعمه، وأن نكون ممن كفر النعمة
وما ذَكَرَها؛ ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ
أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ
لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[9] المعنى:
أنه ييأس من رَوح الله أن يبدله، ويستسلم لليأس، وينقاد للقنوط، فلا يرجو رحمة
الله، وفي نفس الوقت هذا الحال يكون الإنسان فيها كفورًا، أي أنه يكفر بنعم الله -عز
وجل-، وينسى المنعِم سبحانه وتعالى، فأنت تجد أن كثيرًا من البلاءات التي يعيشها
الإنسان سبب لنسيان النعمة، وهذا كما مرّ معنا من أكثر ما نخشاه، أن يكون الإنسان
مستقيمًا في حياته، صاحب دين، ثم بسبب نعمة نقصت عليه يُصاب باليأس من رَوح الله -عز
وجل-، فيتحول إلى يائس من رحمته، كفور به سبحانه وتعالى!
اتفقنا
في هذا اللقاء على أننا سنناقش حالنا مع الشكر، وكيف أن هذه العبادة العظيمة
مبدؤها (القلب أولًا)، بالاعتراف بالنعمة، ثم نسبتها إلى المنعِم، فإذا
اعترفنا بالنعمة كان هذا مبدأ المسألة، لكن كم معترف بالنعمة أخطأ في نسبتها، فلم
يكن شاكرًا على الحقيقة.
فكان
اللقاء لمناقشة هذين الأمرين :
Ü الأمر الأول: ما
الذي يمنعنا من الإحساس بالنعمة؟
اتفقنا
على ثلاثة أمور:
1) إما
أن تكون نِعمًا اعتدنا عليها.
2) نِعماً
انقلبت في نفوسنا فأصبحنا نراها نقمة.
3) نعِماً
بسبب اشتغالنا بالدنيا لا نشعر بها، من نعم الدين والتوفيق إلى الأعمال الصالحة وتهيئة
البيئات المناسبة، كل هذه نعم الناس ينسونها.
Ü الأمر الثاني: ما الذي يغذي هذه الأمور الثلاث؟
ماذا
يغذي عند الناس الشعور بأن نعمة نقمة؟ وعدم المبالاة بنعم الدين؟ ونسيان النعمة
الموجودة والتعلق بالنعم المفقودة؟ ماذا يسبب هذا؟ وما الذي يغذيه؟
أيضا
اتفقنا على ثلاثي يغذيه :
1)
الطبائع النفسية سبب لنسيان النعم ولعدم
الشعور بها، هناك في النفوس طبيعة الكفران، فأنت محتاج إلى المجاهدة من أجل أن
تخرج من طبيعة الكفران.
2)
المجتمع من
أقوى المسبّبات لنسيان النعمة والذي يقلب الحقائق، ويجعل كثيرا من النعم نقما، وكثيرا
من الأخلاق الممدوحة مثل الصبر، ومثل الرضا، ومثل التعلق بالله وانتظار الفرج منه،
يحسبها في قاموسه بالسلبية، وبالإتكاليّة، وبعدم الإيجابية، إلى آخر ما نتصور من
قلب للحقائق، فكم من بيوت كانت في عمار وبسبب ما كان من الخلق، من المجتمع هُدمت،
وكم من امرأة راضية عن حالها وما قـُسِم لها حوّلوا رضاها إلى سخط.
فكان
المقصود أن نفهم أن كثيرا مما أنعم الله به على الخلق من صفات حميدة يمكن للمجتمع
أن يحولها إلى صفات ذميمة، وكثير من النعم التي أنعم الله بها على الأشخاص من حلم،
وصبر يحولونها إلى هيجان وإلى عدم انضباط، وكم من مُصلِح تصور أنه سيذبّ الذباب عن
وجه أخيه فقتله، ونيته لا يُعذر بها، لأن من تصدى للإصلاح وجب عليه مراعاة الشرع !
وهذه
النقطة غاية في الخطورة، وهي أن يكون المجتمع سببا لتحويل النعم إلى نقم، وأن تكون
مقاييس المجتمع سببا لتحويل النعم إلى نقم! أن يأتي أحد فيثير نفسيتك بعدما كنت
راضي عن الله، راضي عما قسم الله لك، مؤمن أن الله هو الرزاق، مؤمن أن الله هو الذي
يهيء الأسباب ويبارك فيها، وتعيش طمعانا في أمر الآخرة، يأتي أحد فيثير في داخلك
عدم الرضا، ويثير في داخلك عدم شكر النعمة، ويفتح عينيك على أمور في الدنيا أنت
عنها غافل، ويريك في ثوبك الذي كنت تتجمل فيه من الصبر والرضا، يريك فيه عيوبا،
فيُخرِّقه عليك ! وهو طامع أن تكون في يده مثل اللعبة، يحرك مشاعرك ويثيرك.
وكما
ذكرنا كم من بيوت كانت عامرة بالرضى، والقبول للحال، وهي تعلم أو لا تعلم أن وراء
هذا القبول والرضى عن الله خير كثير، ونِعَم، ورضى من الله وبركة، وفرج في الدنيا
قبل الآخرة، والآخرة وما أدراك ما الآخرة!
وقد
كانت الصفة التي مُدح بها بني إسرائيل وهم في عهد فرعون والتي سبَّبت لهم النصر
هي: الصبر {لَمَّا
صَبَرُوا}[10]
فكيف يتحول الصبر والرضا والإحساس بالنعم والرضا عن المنعم وانتظار الخير منه
وتبديل السيئة بحسنة، كيف يتحول هذا كله إلى سلبية؟! إلا أنّ المجتمع يتلاعب في
تفكير الناس!
وقد
مررت بامرأة تعدت الخمسين أتت تذكر لي أنها عانت من مرض في شبابها في سن 25 و30 من
حالة نفسية لم تعرف ما معناها، وكان في وقت كلامها لم يكن منتشر الكلام حول
الحالات النفسية، مع المناقشات تبين أنها امرأة لها بنات من العمومة، وقد أنعم
الله -عز وجل- عليها وبُكّر لها بالزواج وكان تعليم المرأة في أوله، فأنعم الله -عز
وجل- عليها وبُكّر لها بالزواج ولم تستطع إكمال دراستها، بنات عمومتها أكملوا إلى
أن وصلوا درجات عالية لكن ابتلوا بالعنوسة، وهي رزقت بأبناء وبنات عائلة ثم
أبناءها وبناتها تزوجوا مبكرا فأنجبوا لها، فأصبحت بنشاطها جدة، وأولئك بنات
عمومتها بقوا في حال عنوسة، هذه المرأة لما تقدم بها العمر وكبرن بناتها ساعدوها
على إتمام الشهادة الابتدائية ثم دخلت مدارس التحفيظ وبدأت تحفظ القرآن، وقد أتمت
منه جزءا كبيرا، لكن تقول الذي أصابني في ذلك السن لازال يراودني .
ما
الذي أصابها؟! وما السبب؟
أصابها
حالة من الاكتئاب والله أعلم، والسبب كلما تلتقي ببنات عمومها يحقّروا حالها، وينظروا
لها ولأبناء أولادها وبناتها بنظرات، ويلقوا كلمات -كما تتصورون- يشعرك أن هذه
قبيلة آتية، يشعرك أن كيف تؤكلينهم وتشربينهم هؤلاء وأنت أصبحت الآن مجرد خادمة؟ ثم
يبذلون جهودهم أن يلمّعوا حياتهم التي يعيشونها.
تقول:
لما تقدم بي العمر أذهب الله الاكتئاب الذي كنت أشعر به وعدم الرضا، أذهبه بصورة
لا أعلمها، لكنه الآن يراودني في لحظات
في نهاية
النقاش كيف يكون الحل مع هذه المرأة؟ أن نعد النعم الآن، نعد النعم التي عاشتها؛ فمن
وجود الذرية، وأنسها إلى حفظ القرآن المؤنس في القبر، مع صلاح الذرية، وبقاء المُثل
العليا مع المرأة نتيجة عدم انفتاحها على المجتمعات الخارجية، وقد جعل الله لهذه
المرأة من الذرية الطيبة من أولادها الذين لهم أماكن في المجتمع بارزة،فجمع الله
لها الخيرات، ذرية طيبة، وحفظ لكتاب الله -عز وجل-، وأنس في الدنيا، وإن شاء الله
يكون أنسا لها في القبر، في مقابل من كان يكثر عليها اللوم وهو في مثل سنها ها هو
تقاعد من العمل، وها هو يعيش في بيت طويل عريض لا ذرية له ولا أنيس، والله أعلم
بما بينه وبين ربه.
فالشاهد
من هذه القصة، ولأن هذه حال احتجنا فيها إلى مناقشات، تبين كيف يحول المجتمع النعمة
التي خصك الله بها إلى نقمة، وربما يكون السبب حسدا في القلب أو عدم رضا، أو قد
يكون السبب انقلاب الموازين.
المقصود:
أننا نتأمل المسألة جيدا، ولا يسرق عقلنا أحد، لا أصبح مؤمنا وأمسي كافرا بنعمة
الله، ولا أمسي مؤمنا بنعمة الله وأصبح كافرا بها، لأن هذا تخطفني، وهذا انتقد
النعمة التي عندي، أو لأن هذا قال لي: أنت فرحان بالآيات التي تحفظها، أو العلم
الذي تجلس عليه؟! انظر إلى الناس حصلوا على شهادات وحصلوا على مراكز! فلا يتخطفك
الناس بكلامهم، بل اجمع قلبك على الحمد له، وعلى تنشيط نفسك في الإحساس بدقائق
النعمة.
الأمر الثالث الذي يسبب تغذية نسيان النعم: البلاءات
التي يعيشها الإنسان فيتحول من ذاكر للنعمة إلى يائس كفور ناسٍ لنعمة الله عليه.
هذا
الموضوع يطول النقاش فيه ويتفرع، ويلامس الواقع، وهو في الحقيقة موضوع لا يبلى من
طرحه ولا تنتهي زواياه، إن شاء الله في اللقاء القادم نتكلم عن نماذج للشاكرين
ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، وفي اللقاء الذي بعده نتكلم عن نماذج للكافرين
الذين وقعوا في بطر على النعم التي أنعمها الله -عز وجل- بها عليهم وكيف كان
جزاءهم.
نسأله
سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين الذين امتلأت قلوبهم معرفة به
سبحانه وتعالى وامتلأت رضا عنه، وامتلأت يقينا بأنه مالك الملك، يؤتي الملك من
يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يُعز من يشاء، ويُذل من يشاء بيده الخير وهو على كل
شيء قدير.
[1] الإنسان3.
[2] رواه مسند البزار، قال الألباني: حسن.
[3] رواه الترمذي (كتاب البر والصلة، باب
مَا جَاءَ فِى الشُّكْرِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، 2081) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الألباني: صحيح.
[8] يونس:12.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.