بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
الحمد لله الذي يسّر لنا هذا اللقاء، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءً
مباركًا مرحومًا، اللهمّ آمين.
أسأل الله الذي يسّر لنا الاجتماع في هذا المكان أن يطهِّر قلوبنا، وأن
يجعلنا ممن ينظر إليهم بعين الرحمة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع سببًا
للاجتماع في جنات النعيم، اللهم آمين.
لقاؤنا اليوم بعنوان (الأسرة المسلمة سكن واطمئنان)
لابد أن نتخلى عن الجانب النظري في الموضوع، فلن أتكلم عن الأسرة المسلمة
سكن واطمئنان بصورة نظرية.
(أرغب بأن تكون الأسرة المسلمة سكن واطمئنان): هذه الجملة تقرير؛ بمعنى
أن الأسرة المسلمة يجب أن تكون في سكن واطمئنان؛ فالاستدلالات النظرية لا نهاية لها..
آمنا بالله، الأسرة المسلمة سكن واطمئنان؛ لأن كل النصوص تدل على أن بيوت
أهل الإسلام ألقى الله-عز وجل-فيها من المودة والرحمة...
بعد ما علمنا أن المفروض أن تكون سكن واطمئنان وما أجده في الغالب في نفسي
عن بيتي مثلاً أو ما أسمعه من بيوت الناس أو ما أراه في التعليم من الأسر، لا أرى هذه
الجملة إلا نظريًّا والواقع أن الأسرة هي موطن الاضطرابات!
إما أنها سبب لاضطراب الأبناء أو أنها بنفسها مكان يقع فيه الاضطراب.
السؤال: هذه الجملة التقريرية كيف آتي بها عمليًّا؟
هذه الجملة خبرية، والمطلوب أن تصبح فعلية..
أما التنظير فيكتب فيه كثير، فلو فتحت أي كتاب نظري يتكلم عن الأسر عمومًا
وعن الأسر خصوصًا تجدي فيه الكثير من التنظير، لكن ماذا أفعل من أجل أن تكون الأسرة
المسلمة سكن واطمئنان؟
هذا هو المحور المهم أكثر من كوني أسمع عن الموضوع بشكل عام.
أول اتفاق نتفقه لتحويل هذا المفهوم النظري إلى مفهوم عملي:
أن رؤوس هذه الأسرة هم المسؤولون عن تحويل هذه الجملة من
الفعلية إلى الخبرية: الرؤوس هما (الأب
– والأم).
نفترض أن الأب قرر أن لا يكون سببًا للاستقرار، أي كلام أقوله لأحول الجملة
الخبرية إلى فعلية وأنت في اللقاء هذا ولا يعجبك تطرحيه على الأب! كل ما يقال لك وتشعري
أنه لا يناسبك تقولي: أبوهم!
أريدك أن تفكري معي وتسمعي كلامي -أسأل الله أن يدخل إلى قلوبكم قبل أن
يصل إلى آذانكم- أنني في وضع الأب قرر أن لا يجدف!
أنا وهو في مركب واحد، ومعنا أبناءنا الصغار الذين لا يقوون على التجديف،
والمركب معتمد على أن يجدف طرف من اليمين وطرف من الشمال، وتصوري أن الأب قرر أن لا
يجدف! ماذا ستفعلون؟! سنجدف بكم يد؟
سنجدف بكلتا اليدين، هذا الاتفاق لا تنسوه؛ لأنه عماد كل النقاش القادم،
لو قرر أن لا يجدف سأجدف بيدي الاثنين طلبًا لإنقاذ هذه
الأسرة، لتسكينها، لتأمينها.
هل يوجد أي أم تخالف هذا الاتفاق؟ لا، سنفعل ما نستطيع المهم أن ننجي أولادنا،
ولا يوجد من يفكر أن لا يجدف ويغرقوا هما الاثنان؛ -سبحان الله- لما وضعه الله في قلب الأم من قوة عاطفة تجاه أبنائها، لدرجة أنها
يمكن أن تكون ترابًا للرجل على أن تحفظ أبناءها، وهذا الأمر متفق عليه؛ كل نفوس الأمهات
في الغالب متفقين على هذا لكن بأشكال مختلفة.
اتفقنا أن هذه جملة خبرية، وفيها من الأدلة الكثير، لكن لن نقضي هذه الساعات
في مجرد التأكيد على شيء موجود في أذهانكم، الذي نريده الآن أن تتحول هذه الجملة الخبرية
إلى جملة فعلية: كيف أحول هذه الأسرة على وجه الحقيقة إلى أسرة فيها سكن واطمئنان بالنسبة
لي وبالنسبة إلى أهلها (أبنائي) ؟
واتفقنا أن وصولنا إلى مثل هذا الأمر يعتمد على رؤساء هذه الأسرة، والذي
يرأسها هم الآباء والأمهات، واتفقنا على قاعدة مهمة:
لو كنت أمًّا، والأب قرر -بتصرفاته- أن لا يجدف، تخيلي أسوأ الأحوال، ليكون
كل كلامي عملي، هذا الكلام ينفع أي أحد..
مثّلنا الصورة، كيف؟ تصوري حالك مثل واحد راكب في اليمّ، أنت مسؤولة على
التجديف بيد، وهو مسؤول عن التجديف بيد أخرى، تصوري في هذا المركب الذي يحملك ويحمل
أبناءك قرر الأب أن لا يجدف ماذا ستفعلين؟
الجواب: أنا الأم أجدف بيدي الاثنين، من أجل أن لا يغرق المركب، وهذا
ما وضعه الله وركبه في قلوبنا من قوة الحنان والحب لأبنائنا، رغم كل الآلام التي ممكن
أن تتعرض لها الأم لكن مع ذلك يكون في قلبها مشاعر أنها يمكن أن تجدف بيديها الاثنين
حتى لو قرر الزوج أن لا يجدف.
أنا أفترض أسوأ الحالات، لكن هناك حالات كثيرة وهمية تتصور الأم أن الأب
لا يجدف، لكنه يجدف وهي غير شاعرة، خصوصًا أننا وصفنا بوصف يؤلمنا -لكنها الحقيقة!-
أننا نكفر العشير!
فكفراننا العشير معناه أنه كان يجدف طول العشر سنين الماضية لكن الآن تعب
لسبب أو لآخر أو تخلف لسبب أو لآخر فألتفت على
العشر سنين الماضية وأقول ما أحسنت الدهر قط!
لن أدافع عن الرجل، نبقى في صف أنفسنا، لكن المهم لسنا نحن، المهم الأبناء.
تصوري صورة مختصرة قبل أن ندخل إلى تفاصيل الكلام حول تحويل هذه الجملة
الخبرية إلى جملة فعلية..
تصوري علاقتنا مع الزوج (الركن الثاني في الحياة بالنسبة للأسرة) كيف تبدأ
في أولها ثم كيف تنتهي أو كيف تصرف بعد التقدم..
اشبكي يديك إلى الداخل تمامًا، هذه الصورة هي بداية العلاقة بين الرجل
والمرأة، التشبيك التام، ثم مع الأيام تبعد هذا التشبيك إلى أن يبقى أطراف الأصابع!
بحيث تكون هذه اليد التي من أطراف الأصابع بمثابة المظلة لمن تحتها من الأبناء، وهذه
هي الطبيعة، أن تبدأ الحياة بقوة تشابك ثم تنفصل رويدًا رويدًا إلى أن تصبح بمثابة
المظلة، فكونك تريدين أن تكون الحياة بعد عشرين سنة من الزواج بمثابة نفس الصورة في
أول الزواج أو أول خمس سنوات!
سنأتي بحالة من الإهمال الشعوري لمن تحتها؛ لأن التركيز سيكون على نفسي
وعلى مشاعري وعلى طلباتي، خصوصًا أنك تعلمين أن المرأة لما تبلغ الأربعين -كالرجل وليست
المرأة فقط- المفروض أن تكون وصلت إلى النضج العاطفي الذي فيه تتحول التصورات إلى تصورات
عميقة وليست سطحية، وهذا الكلام يشهد له كلام الله وليس كلامنا، ماذا قال الله عن سن
الأربعين الذي يُستحى منه! مع أنه المفروض يكون إشارة الفخر؟
الذي وصل للأربعين وهو على دينه-الذي هو رأس ماله لم تأخذه الفتن ولم تأخذه
بعيدًا، يكون وصل إلى أمر يسأل الله فيه الثبات ويلتفت إلى الوراء ويقول سبحان الذي
نجاني من المهالك فما فلت! ويوجد أناس في عمري فعلوا وفعلوا من الفواحش ومن ... فسبحان
من نجاني!
آيات من كتاب الله تتلى يجب أن تقع في قلبك موقعها لتعرف ما دورك على الحقيقة،
ماذا يقول الله في سن الأربعين؟
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ }[1]
{رَبِّ أَوْزِعْنِي}: (أوزعني): من أعظم معاني جمع القلب، أوزعني: يعني اجمع قلبي على أن أشكر
نعمتك التي أنعمت علي، تصور لما تبغ الأربعين تقرأ صفحاتك الماضية، تقرأ نعم الله وتربية الله، كيف
أن الله رباه وحماه وأوصله؟!..
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ}: بقوة تفكيرك بنعم الله.
{وَعَلَى وَالِدَيَّ}: كيف أن الله-عز وجل-يسر لي بهما هذه الحال التي أنا فيه.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}: يصبح دورك كله وتفكيرك.
تأتي الآن النقطة المهمة التي هي شاهد لنا: {وَأَصْلِحْ
لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}: يعني كونك تأتي إلى هذا السن
وترى نفسك تحتاج أن تتوب هذا هو الخير والبركة، أما تتبع هواك فتبقى تحت طيشك، هذا
هو الهلاك! لن تهلك نفسك فقط بل حتى من تحتك.
انظري للسياق: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ
صَالِحاً تَرْضَاهُ} ثم أنا عندي هم عظيم، هم أولادي {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} هذه الجملة منطلق كلامنا..
أحد يقول {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}
بعد سن الأربعين كأنه اكتشف الحقيقة، ما هي الحقيقة؟
أنه لا مصلح على الحقيقة إلا الله! لأني أقول يا رب أصلح لي في ذريتي،
معناه أنا عاجزة عن إصلاحهم، وهذه الجملة لا تحتاج إلى شاهد، الواقع الذي نعيشه يشهد
على أني كشخص عاجز عن إصلاح نفسي فكيف أستطيع أن أصلح ذريتي؟!
إذن من هنا يبدأ المنطلق
لتحويل هذه الجملة من خبرية نظرية؛ إلى جملة إنشائية فعلية؛ ما نسميه:
التربية بالاستعانة
حول هذه الجملة سندور، كيف أصل لأن تكون الأسرة سكن واطمئنان؟
الجواب: أن نستعمل أسلوب التربية بالاستعانة.
هذا المفهوم يحتاج إلى تعميق معنى الاستعانة ثم معرفة كيف أستعمل هذه الاستعانة
في تحقيق هذا المراد.
التربية بالاستعانة:
ينقسم الكلام إلى قسمين:
1. الكلام حول الاستعانة.
2. ثم الكلام حول التربية بالاستعانة؛
لأن مفهوم الاستعانة عندنا ضعف فيه، فالتربية بالاستعانة مفهوم صعب مادام الاستعانة
نفسها مفهوم غير واضح..
نقطة البداية التي بدأنا بها كانت من الآية {رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} فخرجنا
بنتيجة أني لما أنضج أتصور الحقيقة أن هؤلاء لا يصلحون بي، هؤلاء لا يصلحهم إلا الله،
لكن ليس كل من نضج فَهِمَ هذا، المفروض أن هذه المسألة تبدأ من أول التفكير، أن الذي
يصلحهم هو الله، فماذا أفعل؟
هل أجلس في مكاني وأقول الذي يصلحهم على الحقيقة هو الله وكل واحد يكون
في طريقه؟!
أشير إليك إلى الطريق فاسلكه، فهمت أن الذي يصلحهم على الحقيقة هو الله
فاسلك الطريق.
كيف نسلك طريق أن يكون مصلحهم هو الله؟
بالتربية بالاستعانة..
مهم جدًّا أن تكون الأفكار مرتبة وتكون عميقة في أذهانكم، لا تملوا التكرار؛
لأن التكرار هو الذي يرتب الأفكار ويربطها في الأذهان، تصوروا أنكم تتحملون توصيل هذا
المفهوم إلى أحد فلابد أن تركزوا لترتيب الأفكار..
نضع خمس قواعد لمفهوم الاستعانة، ثم نلحقه بمفهوم التربية:
القاعدة الأولى:
ابتلاءك في الدنيا ليس لقواك الذاتية، إنما لقوة استعانتك.
الله خلقنا للابتلاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[2] الكلام حول الابتلاء،
ابتلاك الله في الحياة أن تكون مستقيمًا، اختبرك أن تكون راضيًا عن ربك، هل ستنجح في
الاختبار بقواك الذاتية؟
الجواب: من أين لك أصلا قوة ذاتية؟!
نبدأ بأوائل سورة الإنسان: {هَلْ أَتَى عَلَى
الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}[3] يعني أنت لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}
ماذا نفعل به؟
{نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[4]
نخرج بنتيجة من الآيات أنك ما كنت شيئًا، ثم أصبحت شيئًا، ثم أعطيك ملكات،
ثم أعطيت طريقًا سببًا للإسعاد.
فالله هو الذي أوجدك، أعدك، أمدك، أسعدك.
لله عز وجل الإيجاد، ثم الإعداد، ثم الإمداد، ثم الإسعاد، هذا كله ملك
لله {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا
كَفُوراً}.
ماذا تظن في نفسك؟ ماذا تظن في قواك؟ ماذا تعتقد فيها لما الله يخبرك عن
نفسك {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[5]
فلابد أن تتصور حقيقتك، حقيقتك هذه وصفتها النصوص، لا تصفها إلا النصوص:
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[6] هذه حقيقتك، ألم تسمع في وصف نفسك {إِنَّ
الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً}[7]
ثم أتى الاستثناء، كل تفكيرنا فيه وكيف يأتي وما طريقه؟ {إِلا
الْمُصَلِّينَ} هؤلاء المصلين ماذا عندهم يجعلهم يخرجون من صفات النقص؟
عندهم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[8]
كل الكلام الماضي هو وصفك، ليس هذا فقط وصفك، نحن لم نستقرئ كتاب الله في الوصف، لو
استقرأنا كتاب الله في الوصف تفزع من نفسك!
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}[9] وكيف أملك لهؤلاء الذين أربيهم النفع والضر ؟! لا بد أن أملك لنفسي النفع
والضر أولاً، هذه هي صورتك الحقيقة..
إذًا أنت ليس لك قوة ذاتية، من أين لك القوة الذاتية وخالقك يقول عنك هذا
الوصف!؟
القوة هذه من أين تأتيك؟ لما تخرج تقول: ((بِسْمِ
اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ))[10].
يعني يا رب أنا خارج إلى عملي، وأريد أن آتي بمصالحي، أقول: يا رب ليس
لي حول ولا قوة إلا بك.
لما يؤذن ويقول المؤذن ((حي على الصلاة حي
على الفلاح)) ماذا تقول؟ ((لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ)).
ما معنى ((لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ))
في هذا الموطن؟
لما يقال لك: تعالي قومي إلى الصلاة وتردي عليه لا حول ولا قوة إلا بالله،
يعني أنا يا رب لا أستطيع أن أصلي إلا إذا أعطيتني الحول والقوة، حتى طاعتك لا أملك
أن أقوم بها إلا إذا أعطيتني.
من أجل ذلك يأتي نص الذكر المتكرر
في أذكار الصباح والمساء: ((اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي
مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ))[11]
انظري كم نصًّا يدلّ على التوحيد:
1. منك يا رب
2. وحدك يا رب.
3. لا شريك لك.
وحدك لا شريك لك حتى يدخل إلى أعماقك تصورك أن لك قوة، إنما الحقيقة ((مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ
لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ))
يأتي الحمد بعد اعتقاد الحقيقة، ((فَلا تَكِلْنِي
إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) [12]
وفي رواية صحيحة عند أحمد: ((وَأَشْهَدُ أَنَّكَ
إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ
وَإِنِّي لا أَثِقُ إِلا بِرَحْمَتِكَ فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ إِنَّهُ لا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))
لا أثق إلا برحمتك، هذا توحيد الثقة.
من أول الأمر.. لابد أن تتصور من أجل تحقيق معنى التربية بالاستعانة لابد
أن تتصور أن التربية هذه ليست بيدك، إنما لا تأتي إلا بالاستعانة، أنت لا تختبر في
قواك الذاتية، أصلاً ليس لك قوة ذاتية، أنت تختبر في قوة استعانتك، يعني لو يبقى طول
الوقت قلبك يقظ، وكل ما أقدمت تعلقت به سبحانه وتعالى، سيأتيك القوة من الله.
قد تقول أنا لا أستعين ويعطيني القوة! لأنه يعاملك بحلمه ورحمته وهو الأول
((أَنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ
الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ
الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ زَادَ وَهْبٌ فِي حَدِيثِهِ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ
وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ))[13]
يعني أنا لا أملك أن أقضي ديوني، دين يعني كل الحقوق التي علي (حق الزوج – حق الآباء
– حق الأبناء - ...) كل الحقوق تدخل تحت الحديث لأنه من أذكار النوم، يعني الذي ليس
عنده دين لا يقول هذا؟! بلى يقول، يعني اقض عني كل دين يعني كل حقوق، الدين بمعنى الحق.
اختبارك ليس بقواك الذاتية، إنما بقوة استعانتك، لما تريد أن تحقق إياك
نعبد، لا تحققها إلا بإياك نستعين، فأصبحت إياك نعبد غاية، وإياك نستعين وسيلة.
لماذا لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة؟ ما معنى كنز في مفهومنا؟
يعني شيء يأتي وراءه غنى عظيم من غير تعب ولا جهد، تكتشفه.
تخيلي هذا المعنى مع لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني كأنه يقال ستغنى كمال
الغنى وستكون ممن رفعهم الله لو استعملت لا حول ولا قوة إلا بالله، لو تبرأت من حولك
وقوتك، فأصبح كنز ستجده هنا قبل الآخرة، ستجده بركة في حياتك، ستجد قوة في قدرتك وصبرك.
لا تكلموني عن الأموال، ما أكثر الأموال في أيدي الناس، أين البركات؟!
البركات هذه الممحوقة، ماذا تستطيع أن تقول عنها؟ ماذا تقول عن واحد دخله يساوي دخل
أربعة أو خمسة عوائل من الطبقة الفقيرة! الفقراء يعيشون، وهو يأتي وسط الشهر ولا يستطيع
أن يعيش! ماذا نقول في هذا إلا أن الله ينزع البركات! فإذا نزعت البركات لا تنفع الأوراق
المالية، البركة لا تأتي إلا من عند الله.
من أجل ذلك سبحان من يسد أبواب على ناس ويفتح على آخرين أبواب تلتهم أموالهم،
وينزل على هؤلاء الشبع بالقليل وينزل على هؤلاء الجوع بالكثير!
معنى هذا نحن لابد أن نعيد نظرنا أصلاً في اختبارنا في الحياة، أنت لست
مختبر في قواك الذاتية، أنت تختبر بقوة استعانتك، الطاعة لا تستطيعها إلا أن تتمسك
بحبل الله، إلا أن تستعين به، إلا أن يعطيك القوة على أن تفعل هذا الفعل، فإذا لم تستعن
به واستطعت إنما هذا من معاملته لك بحلمه وكرمه وبجميل صفاته تعالى، فهو (الرحمن)؛
ذو الرحمة الواسعة، (الرحيم)؛ ذو الرحمة الواصلة.
إذًا القاعدة الأولى: ابتلاءنا ليس بقوانا الذاتية إنما ابتلاءنا بقوة استعانتنا،
فكلما قويت استعانتك كلما جاءك الخير، كلما كشف الكنوز، كلما نزلت عليك البركات، كلما
انتفعت بصحتك ووقتك وأموالك وزوجك وكل من حولك، كلما بلغت حالات من الاستقرار لا تستطيعها
بكل أموالك.
إذا علمت هذا المفهوم يأتي المفهوم الثاني ..
فهمت أن ابتلاءنا ليس لقوانا الذاتية، اختبارنا لقوة الاستعانة، من أين
آتي بقوة الاستعانة؟
القاعدة الثانية:
قوة الاستعانة تأتي بطريقين من العلم:
1.
معرفة العبد بنفسه،
2.
ومعرفة العبد بربه.
معرفة العبد بنفسه: كلما عرفت نفسك كلما عرفت الحقيقة، هذا يحتاج إلى محاضرة كاملة، لكن سنختصر
..
كيف نعرف أنفسنا؟ كيف الإنسان يعرف نفسه؟
نحن في العادة نقول: لو كنت مكانها كان عملت كذا، لو كان زوجي لربّيته،
لو كان كذا كان فعلت، لو أنا أمامها كنت ردّيت عليها...
ثم ما يتركك الله، ويأتي بك في موقف مثله بالضبط! ثم ترى نفسك من تكون؟!
النتيجة من هذا أنك تقول: أنا كنت مخدوعة في نفسي! كنت أتصور من نفسي أني
لو وضعت في هذا الموقف سأفعل كذا وكذا ثم يأتيني الموقف ولا أفعل شيء!
لو أردت أن تقولي: من أجهل الناس بنفسه؟
نفس الشخص. أنا أجهل الناس بنفسي، لا أحد يعلم عن نفسي، لكن هل أنا أعرف
نفسي على الحقيقة؟!
من يقول أنه يعرف نفسه على الحقيقة، جاهل بحقيقة الموقف؛ لأنه تأتي مواقف
هو يتصور من نفسه ردة الفعل ثم يأتي خلافها تمامًا.
لا تعرف عن نفسك إلا ما أظهره الله عن نفسك.
لما ترى نفسك في تربية الله تكتشف، يربيك الله، تقول أنا لا أحسد أحد،
ماذا عندهم حتى أحسدهم!؟ ثم تأتي في موقف تكتشف نفسك أنك حاسد.
من يكتشف نفسه أنها حاسد ثلاثة أشخاص -ثلاثة ردود فعل بعد
الاكتشاف-:
1-
تنكشف له نفسه فيبدأ بالصراع في علاجها، يكون واضح مع نفسه، اكتشف نفسه
أنه على هذه الكبيرة.
2-
الآخر يكون في صراع لكن مثل لمعة البرق! يصارع قليلاً ثم يقول لا أنا فقط
في ذاك الموقف، وفي الحقيقة لست بهذه الصورة.
3-
واحد يرى بعينيه أنه حاسد ثم يأتي بمبررات من تحت الأرض! ثم لما يلقى ربه
سيحاسبه عن اختبارات وابتلاءات كشفها له ربه وهو تجاهلها!
ربنا لا يحاسبك إلا على ما يظهره لك من نفسك، يظهر لك عيوبك والمفروض لماتظهر
لك تبدأ بالعلاج، أصلاً أنت ليس لك قوة في إصلاح نفسك، يارب نجني، ثم تبدأ المجاهدة.
ألم تسمع في أوائل سورة العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} لابد أن يُفتنوا.
الفتنة تظهر ماذا؟
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ} الكاذبين: يعني يكذبوا على أنفسهم، يصف
نفسه بالكمال، يأتي الموقف يبتليه الله فيه يكتشف نفسه، ومع هذا يكذب على نفسه، هذه
الصورة نفسها في آية (11) قال الله: {وَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} يعني الذين صدقوا هم الذين آمنوا والذين كذبوا هم
المنافقين.
ثم تختم نفس السورة بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إذًا
لما يأتيك الابتلاء لا يوجد إلا طريق واحد، حتى تكون من الذين آمنوا وصدقوا: جاهد،
فإذا سكّنت نفسك بعد الاكتشاف تكون من الذين كذبوا والذين نافقوا، لا تستهن بالذين
نافقوا..
ألم تسمع في سورة الحديد في وصف لحظة المحشر والنور الذي يكون معهم ثم
ماذا يحصل للمنافقين؟
المنافقين يمشوا مع المؤمنين في نورهم؛ لأنهم في الحياة كانوا معهم مختلطين،
فماذا يقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ
أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} ألم نكن ندخل ونخرج معكم ونتعلم وندرس ونتكلم عن ربنا...؟!
{قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم
بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يكفي أن تفهمي {وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ} يعني تعملي أعمال وقلبك
ليس موجود وضائع ولا تدري عن شيء، وتتمنى على الله أن يعاملك معاملة المؤمنين المجاهدين
الصادقين!
على ذلك لابد أن تعرف حقيقتك، لأنك لو عرفت حقيقتك تقول: يا رب أخرج من
قلبي هذا البلاء!
دائما نحن نقول لبناتنا: ((ألا وَإِنَّ فِي
الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ))[14]
أين أنت عن هذه المضغة مادام أنك تعلم أنها سبب الصلاح؟!
هذه المضغة سبب الصلاح والبركات عليك وعلى أهلك وعلى جيرانك وعلى أهل الأرض
كلهم.
ألم تسمع إلى هؤلاء في وصفهم في سورة البقرة: {و َمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} يعني يقول أشهد الله أني صادق وأني أحب الخير ولا يوجد في قلبي حسد...
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} الإفساد معناه المعاصي، ولا تتصور أن المعاصي شرط أن تكوني بدنية أو باللسان!
يكفي معاصي وكبائر القلب!
ألا تعلم أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر حرمت عليه الجنة؟! في الحديث
واضح ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))[16].
ألم تسمع عن إرادة العلو وأن من وصف المؤمنين أنهم لا يريدون علوًّا في
الأرض ولا فسادًا؟! إلى آخر كل النصوص.
على كل حال هذه الزاوية بالذات يطول النقاش حولها..
نأتي برأس النقطة..
كل القضية نحن نريد أن نصل إلى التربية بالاستعانة، ذكرنا قاعدتين:
القاعدة الأولى: أن ابتلاءك ليس في قواك الذاتية إنما ابتلاءك في قوة استعانتك،
أصلاً من أين لك بقوة ذاتية؟!
القاعدة الثانية: من أين آتي بقوة الاستعانة؟
بطريقين:
معرفتك عن نفسك
معرفتك عن ربك.
السؤال الآن: كيف أعرف نفسي؟
بطريقين:
1-
التعلم عن وصفك في كتاب الله.
2-
الانتفاع بملاحظة تربية الله.
أولاً: بالتعلم عن وصف الإنسان في كتاب الله:
آية فاطر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ
الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[17]
كيف تقوي استعانتك بالله ؟ لما تعرف أن وصفك الحقيقي هو أنك فقير، لكن ماحدود الفقر
عندنا؟
ليس له أموال! مع أنك فقير على الحقيقة، بمعنى أنك محتاج.
تصوري هذا يوم الاثنين وأنت صائمة ونزلت الحرم أنت وبناتك ، والحرم مزدحم،
ثم ضِعْتُم عن بعض! أتى وقت المغرب، أكلك معهم، ما هو حكمك الآن؟ حكمك فقيرة، يعني
محتاجة..
أغنى واحد في البلد ألا يحتاج إلى من يحضر له كأس ماء؟ ألا يحتاج إلى نفس
الماء!
أفضل واحد في البلد ألا يشعر بالنوم ويحتاج إلى فراشه من أجل أن ينام؟!
كل العباد وصفهم الدائم أنهم فقراء، والله وحده هو الغني الحميد الصمد
الذي يحتاجه كل أحد يحتاج سبحانه وتعالى إلى أحد، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا
نوم.
أنت فقير وطوال الوقت عندك حاجات، تحتاج أن تأكل ، تشرب، أحد يكلمك، أحد
يؤنسك، محتاج إلى نور، محتاج إلى قلم، هل تستطيع أن تجلس مكان ولا تحتاج إلى شيء؟!
لا أبدا، نحن فقراء طوال الوقت، والله وحده الغني الحميد، الغني المغني،
لابد أن تعرف حقيقة نفسك كما وصفك الله، لا تتصور أموالك تغنيك عن الله، بل يأخذك ويأخذ
أموالك!
في كل العالم من الشهادات ما يكفيك أن تفهم هذا الأمر، لما ترى الناس آمنين
ويصبحوا الصباح في البر! أحداث مرت علينا ورأيناها، معنى ذلك أنه لا يملك الغنى على
الحقيقة إلا الله، ولا يؤمِّنك ولا يعطيك ولا يسقيك إلا هو سبحانه وتعالى {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[18] آمنّا بالله.
إذا تبينت تلك المسألة وانكشف عنك الحجاب الغليظ الذي وضعته بينك وبين
الله، الأسباب التي عُظِّمت وهوّلت لدرجة أنك لا ترى عطاء الله من ورائها! إنما ترى
أنها هي بنفسها معطية!
كل هذا ما تتصور معه إلى أي درجة أنت فقير..
هذا هو الطريق الأول لمعرفة نفسك: أن تمر على النصوص فترى وصف نفسك، واكفينا
بوصف واحد آية فاطر..
من طرق اكتشاف الإنسان لنفسه:
ثانيًا: الانتفاع بملاحظة تربية الله.
نتكلم أولاً عن تربية الله ثم الانتفاع بها ..
- تربية الله
من أعظم الأسماء وأشهرها وأكثر النداء بها: يا رب!
ما معنى الرب؟
الرب: المربي لعباده، هذا الاسم يهمّنا جدًّا؛ لأنه مادام أنه المربي لعباده
ونحن نتكلم عن التربية والبيت فيبقى في الأذهان
أنه تعالى هو المُرَبِّي على الحَقِيقة
.
الله-عز وجل-يربّينا، يحوّلنا من حال النقص إلى حال التمام، كل نقائص فينا
يمرّرنا بأقدار تجري علينا لتكشف لنا حقائق نفوسنا، فإذا انكشفت حقائق أنفسنا زدنا
ذلاًّ وانكسارًا عند بابه، هذا المتصوّر، فهو يربّيك، يعني يجري عليك من الأقدار ما
تكشف لك نفسك وحقيقتك.
هذه الأقدار التي تجري عليك من أجل أن تكشف لك نفسك ماذا تحتاج حتى تتعامل
معها؟
لاحظها، انتبه لنفسك، انظر ماذا تفعل في هذه المواقف، كيف تصرفاتك، حتى
تكتشف نفسك، حتى تعرف نقاط ضعفك، لا تغمض عينيك وكأنك لم ترها! كأن الله لم يبيّن لك
من أنت!
لابد أن نعتقد يقينًا أن الله يربّينا، يعني تأتي في مواقف تجري عليك أقدار
فتكتشف نفسك، وتكتشف حقيقة الناس، تضع كل ثقتك في فلان، فلان هذا يخدم كل الناس، ويأتي
عندك ولا يخدمك، لماذا؟! ليس من أجل كذا وكذا من وصوفاته، إنما من أجل أن يقطع الله
من قلبك التعلّق بغيره، من أجل أن يقول لك ليس فلان الذي يأتي لك بالخير، لا يأتيك
به إلا الله.
((وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ
يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ))[19] هذا الذي تعتقده.
من أجل هذا تأتي أحيانًا كثيرة نأتي نتصور أن الناس ممكن أن يصلحوا لو
أحضرناهم أماكن معينة وعلمناهم كلام معين، فيأتوا إلى الأماكن وإلى الأوضاع ولا ينتفعوا
بها! وغيرهم يسمع كلمة واحدة تلقى في قلبه فينفعه الله!
لست أنت من تقرِّر كيف يصلحوا أبناءك ولا كيف تصلح أنت، إنما يربّيهم الله
فيأتي بهم.
حينما نربي نأتي ونقول: لا أعلم كيف أخرج أصحابه من قلبه! أكذب عليه وأقول
له: حلمتُ أن حولك ثعابين...! وهو يزيد تعلقًّا، وأنت تأثمين وترتكبين كبيرة من كبائر
الذنوب؛ لأن من قال رأى وهو لم يرى فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب!
لست أنت من تفعلين هذا الفعل، توسلي بمن يملك قلبه أن يأتي بقلبه، هذا
هو الدور الحقيقي باختصار.
ما الطريق لمعرفة الرب؟
بقوة العلم عن أسماء وصفاته، وهذا ممكن أن يأتي بطريق الإجمال، يعني تعرفي
أن الله رحمن رحيم ملك قدوس... تحفظ أواخر سورة الحشر، وأوائل سورة الحديد، آية الكرسي..
هذا علم إجمالي،
لكن ليس هو المراد هنا، لأن مما يعيبنا -أهل التعليم- أنهم يتعلمون عن
تفاصيل تفاصيل التوافه ثم عن ربهم مالك الملك الذي لابد أن يلقوه، ستلقوا ربكم ما بينكم
وبينه ترجمان، ستكلموه وما بينكم وبينه ترجمان، نأتي إلى هذا العلم المهم ونرى أنه
يكفي أن نتعلم فيه بالإجمال، أما عن التفصيل فنرى أنه أمر لا يستحق! أو بلسان مقالنا
لم نقل ما يستحق لكن بلسان حالنا نقول ما يستحق! لأن العمر يجري ونحن نبحث في كلام
ليس له قيمة وفي مقابل ذلك لا أخصص على الأقل ساعة في الأسبوع أتعلّم فيه عن صفات الله!
أعرف ما صفاته، مع أنه مالك الملك، وهو على كل شيء قدير..
يأتي بك وبمراداتك وفوق مراداتك! يعطيك فوق آمالك، لو عند بابه وقفت، لكن
نسأل الله أن يغفر لنا ما يسّر لنا من طرق التعلّم وما هو واقع بنا من قوة إهمال!
هذه وحدها تحتاج منا إلى توبة! أن يكون كل شيء يسير.
لو سألكم ربكم عن الأمن الذي نعيشه الذي به يتوفر العلم ويسهل، وعن اللغة
التي تملكونها وتجيدونها (العربية)، وعن المصاحف الموجودة في بيوتنا، وعن الوقت، وعن
الصحة... ماذا سنجيب وماذا سنقول؟!!
أنا لا أكلم أي أحد، لا أكلم عوام، لا أكلم أناسًا ليس لهم في التعليم،
إنما أكلّم أناسًا عندهم قدرات ومن النظريات التربوية الشيء الكثير، ويعرفون عن هرم
فلان وفلان... هذه أمانة في عنقي لابد من إيصالها،
ليس من المنطق بصورة أن نترك العلم عن العظيم الكريم الحليم الذي له ملك
السماوات والأرض ونتعلم عن تفاصيل ستأتي لحظة وتقولي عنها تافهة!
لكن لا توصل نفسك لأن تقول: {يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[20]
عدم قوة الاستعانة بالله نتيجة أننا جاهلين في تفاصيل العلم عنه، ولما لا تعرف عن تفاصيل
العلم لا تبحث عن قلب يحب ويتعلم ويعظم!
كيف يحب قلبك ويعظم بدون أن تعرفه؟!
لا أحد يحبّ أحدًا إلا لما يشتدّ العلم عنه، نحن لو لم نعرف جيراننا لا
يمكن أن نقول أننا نحبه ونوده إلا لما أتعرف عليهم وأقترب منهم ذاك الوقت أحبهم.
لا تكلّف نفسك تحبّ الله وأنت لا تعرفه، وهو سبحانه وتعالى عرّف نفسه إليك
بمزيد تعريف، يكفيك آية الكرسي أن تفهمها بمعمق: أولها {اللّهُ
لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} وآخرها: {وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ} يعني هو الذي يستحق أن تتعلق به على الحقيقة لأنه وحده العلي، وهو
الذي يستحق أن تعظمه على الحقيقة لأنه وحده العظيم، ثم يأتي بعد هذه الآية يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ} تبين الرشد: يعني بعد أن عرفت كل هذه الصفات عن ربك لا يمكن أن يكون
في قلبك تعلق بغيره، لا يمكن أن تعظم غيره، لكن كم مرة نقرأها ولا يتبيّن لنا الرشد
من الغيّ؟!!
كم مرة نجد قلوبنا معلّقة بغيره!؟
بل لما مرّت تجربة الأسهم بيّنت حقائق! القلوب مع الأسهم طالعة ونازلة،
العيون على الشاشات تكاد تقفز القلب بسبب هذا السهم الذي أصبح كلمة معظمة عند ناس كثير!!
لا يعلمون أن الله ابتلاهم، ومن رحمته، ومعروف عند الاقتصاديين أن دولتنا
أسرع دولة ينهار سوق الأسهم فيها، المناخ سابقًا وسوق وال ستريت كلاهما لما سقط أخذ فترة أطول بكثير من فترة سقوط سوق الأسهم
السعودي، هذا يرى بعين الرحمة فقط، أنه من رحمة الله بنا أن السوق انهار سريعًا، حتى
تنقطع هذه التعلّقات، فقط كانت ورقة كاشفة لنا (من نحن؟) أين قلوبنا وكيف معلّقة؟!
لا أحد يقول: معنى ذلك أن التجارة حرام! لا أتكلّم عن هذا، تعلمون جيدًا
ماذا حصل في تلك الأيام من عدم توازن اقتصادي، من تعلّقات ظهرت ، يقومون الليل ويقولون:
يا رب الأسهم ترتفع! وكأن الدنيا هذه نهاية كل شيء!!
بل لما أتت الأحداث أحداث إخواننا في غزة أين نحن عن سورة البروج وعن حسن
الظن بالله..
يخبر الله في سورة البروج {وَالسَّمَاء ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ
الأخْدُودِ}[21]
أصحاب الأخدود كفار ألقوا المؤمنين في النار، ثم يأتي سبحانه وتعالى يصف نفسه
بوصفين لابد أن تكون بكل عمق، المفروض أننا نعيش تحت هذان الاسمان {و َمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ}[22]
عزيز قادر على عزّهم، حميد على ما يجريه من أقدار، لابد أن يبقى في قلبك
حميد محمود على فعله، لا تتكلم عن الله بلسان حالك، الناس لا يتكلمون بلسان مقالهم
لكن بلسان حالهم كأنهم يقولون: أين أنت يا رب لا تنصرهم؟!! أين أنت لا تعزّهم؟!!
ثم قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ} ولا تتصور أنه غائب {وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
ثم يلفت نظرك، ليس كل شيء في الدنيا، من قال أن الدنيا دار الجزاء؟! في
نفس السياق يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} كيف تستهين بعذاب جهنم وعذاب الحريق؟! كل التفكير
هنا في الدنيا؟! يأتي بأنعم أهل الدنيا ثم يغمس فيها غمسة واحدة ثم يقال له: هل ذقت
نعيما قط؟! يقول لا والله!!
ثم تأتي الآية التالية: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} هذا هو الفوز الكبير، الدنيا ليست بشيء.
ثم يعود مرة أخرى السياق يفهمك معنى العزيز الحميد: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ
لِّمَا يُرِيدُ}[23]
يعني أنت لا تؤمن إلا هنا؟!
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}
أم أنك لا تؤمن بالغيب؟! أو تقول يا رب لو لم تعزنا
هنا فلن تعزنا؟!!
إذًا لما تأتي المواقف تكشف ماذا نظن في الله {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[24]
.
من أجل هذا الضعف الشديد لا يوجد قوة استعانة، لا يوجد إحساس أني المفروض
أن لا يقف إلا عند باب الله، قوة الاستعانة لا تأتي بسهولة!
لما تجد نفسك طوال وقتك تفزع إلى الله أكيد أن عندك علم عظيم عن الله،
فكلما أتى إليك الصغير والكبير، فزعت إليه، لكن من هذا الذي يفزع إليه؟
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب الغلام ويقول له: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ
بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ
لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ)) [25]
كم شخص قال: أين الأمة؟!
الأمة هذه لا تسوى شيء إذا لم يجعلها الله تكون، الأمة كلها لو اجتمعت
على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.
ألم تسمع {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[26]
أين كل هذه المفاهيم؟!
{و َمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}[27] كل هذا لا يعني ترك الأسباب لكن لابد أن تفهم من يأتي بالأسباب! لا يأتي
بها إلا الله.
إذًا اطرق باب رب الأسباب، الأول الذي ليس قبله شيء، اطرق بابه وقل يا
رب هات الأسباب.
حالنا مع أبناءنا أعجز ما نكون! لما أحد يقول خذي الأسباب وربيهم، جوابي
بكل سهولة: من أين لي بالأسباب؟!!
أحضروا لي الأسباب لأفعلها، ليس لدي حتى أسباب لأربّي بها!
إذًا اعلم أن رب الأسباب هو الذي
يأتي بالأسباب فتوسل إليه أن يأتي بالأسباب، لذلك أهم كلام في الاستعانة الإيمان باسم
الأول والآخر.
إذًا الطريق إلى العلم عن الله هو معرفة أسماءه وصفاته في كتابه، ثم بعد
ذلك تأتي بقية الطرق، لكن هذا أظهر ما يكون.
ولابد أن نتوب إلى الله من حالة طويلة مرت علينا تاركين ومهملين أن نتعلم
عن الله!
أسأل الله أن يفتح علي وعليكم في العلم عنه؛ لأن الثبات ليس له طريق إلا
أن تتمسك بحبل الله، وعلى قدر ما أعطانا الله من قدرات وقوة عقلية وقدرة على الفهم..
نحن نتكلم عن أناس يعرفون مكانتهم في المجتمع ويعرفون ما هي قدراتهم، ويعرفون كيف يستطيعوا
أن يحصلوا العلم، فليس من المنطق تفاصيل تافهة تكون في عقلي ثم أهمل وأترك الشيء العظيم!
نتوسل إلى الله أن تنكشف غمة الجهل عنه وأن يفتح علينا في العلم عنه سبحانه
وتعالى..
القاعدة الثالثة:
عالِج نقاط ضعفك في الاستعانة
بماذا تعالج نقاط ضعفك في الاستعانة؟
بالتدريب والملاحظة والتركيز.
نقاط الضعف في الاستعانة: متى يكون عندي نقطة ضعف في الاستعانة؟
لو قلت لك: وظيفتك التي لك فيها خمسة سنوات فيها، ذهابك وعودتك لها أمر
عادي، مثلا عينوك في الكلية فبعد أن كنت معلمة في المدرسة أصبحت محاضرة في الكلية،
أول يوم كيف تكون مشاعرك؟
تقولي بسم الله، وتدعين الله أن يكونوا مباركين ... طوال الوقت وأنت في
قلق، تفكري في الموطن وتعرفين أنه لا أحد ينفعك فتسألين الله وحده، فلما تذهبين المدرسة
تجدي الأمر عادي!
هذا منهج أنت متعودة عليه مثلا أولى ثانوي، فأعطوك منهج جديد لتدرّسينه،
ما مشاعرك أول سنة وأنت تدرسينه؟ كل ما دخلت قلت: بسم الله، يا رب يعيننا، يا رب يسر
المسألة، لما تدخلي للمنهج الجديد تقولين: بسم الله، أما لما تدخلي للمنهج القديم لا
تقولين: بسم الله!
فنقطة ضعفك في كل موطن خبرة، كل شيء أنت خبير فيه، أنت ضعيف في الاستعانة
فيه.
أبسط مثل يضرب: لما نتكلم عن الطبخ، الطبخة التي تعودت عليها، لا أحمل
همها ولا بسم الله ولا شيء! أما لو الطبخة جديدة أريد تعلمها علي أذكر البسملة!
نقطة ضعفنا كل شيء لك خبرة فيه يصبح في المقابل نقطة ضعف في الاستعانة،
فماذا تحتاج؟
تحتاج تدرب نفسك أن تبقى مستعينًا بالله في صغير الأمور قبل كبيرها.
كيف أدرب نفسي؟
أولاً: أبدأ بعملية الملاحظة:
- لاحظ نفسك أين النقاط التي لا تستعين فيها؟ كل شيء لا تحمل همّه على
أنه سهل.
- أو الأمر المعتاد عليه الذي تألفه وتعمله دائمًا.
هذان يحتاجان إلى ملاحظة، اجمع قلبك فيه، هذه النقاط التي ترى نفسك أنك
تستطيع ثم فيها تخذل ولو بعد حين!
لو أراد بك خيرا يخذلك، حتى تفهم أنك لست عليه قدير، بل أنت بحول الله
وقدرته أصبحت قديرًا.
عالج نقاط نفسك في الاستعانة:
بالتدريب على صغير الأمور قبل كبيرها،
وبالملاحظة لكل شيء سهل عليك وأصبح من العادة.
ثانيًا: بالتركيز:
عندنا نقاط ضعف أخرى في الاستعانة لما نقول بسم الله لكن لسنا مستحضرين
أي نوع من أنواع الاستعانة ولا المشاعر القلبية.
مثال: شرب الماء، في الغالب أننا نقول بسم الله ولا يقع في القلب شيء،
بسم الله يعني أنا أستعين بك يا رب أن تنزل علي البركات في شربة الماء، فيأتي الجواب
في العقل: وما الذي سيحصل لو شربت الماء؟!!
أهل الطب والعلوم يفهمون هذا، وكيف أن شربة الماء ماذا تفعل للشخص! غصة
تنتهي بها الحياة! ليس شرطًا أن أصل إلى هنا، يكفي أن تفهم بركة الماء لا يأتي بها
إلا الله.
لابد أن تركز وأنت تقول: بسم الله. درب نفسك ، وكلما دربت نفسك أحيا الله
قلبك؛ كأنك تأتي إلى أرض موات فتحييها، لابد أن يكون السقي ببطء، ولا تعقد القضية،
كلما كنت محبًّا للقرب فعلت أفعال القرب، إذا كنت تحب أن تقرب إلى الله ويعطيك القوة،
افعل أفعال القرب.
إذًا القاعدة الثالثة: عالج نقاط ضعفك في الاستعانة بالتدريب على صغير
الأمور قبل كبيرها، وبالملاحظة، وبالتركيز.
القاعدة الرابعة:
احذر العدو
عندك ثلاث أعداء للاستعانة:
أول شيء وأهمها: نفسك عدوك؛ لأنك لا تريدك أن تتعب نفسك، فالاستعانة تحتاج
إلى قلب، وحتى تعصر قلبك وتأتي بالاستعانة تشعر بجهد، أسير على قدَميّ أحسن من أن
أُتعب قلبي، ولو أردت أن أقول لأحد ساعدني وكان يتعب قلبي أقول: أفعل بيدي ولا أتعب
قلبي!
نفسك الآن كذا تقول لك: اشرب فقط، تريد أن تحضر قلبك؟! أول عدو هذا.
ثم اعلم أن النفس مركب الشيطان، لما
تصير ضعيفة يركبها الشيطان، لا تنسي القاعدة {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} حتى في شربة الماء حتى
تقول: بسم الله؛ تجمع قلبك لا تعلم تلك الحسنة التي يبارك الله لك فتجتاز الصراط بهذه
الحسنة، ربما هذه لحظة المجاهدة أن تستعين؛ لأن الاستعانة بنفسها عبادة.
احذر من عدوك: نفسك.
الثاني: الشيطان.
وهناك عدو ثالث لابد من تصوره: الصحبة.
الصحبة من أعدى أعداء الاستعانة لكن بدون أن تشعر لا أنت ولا هي؛ لأن عندنا
قوانين النفخ، يمشي معك ويجعلك مثل البالون منفوخ!! يثني عليك؛ "أنت ما شاء
الله عليك، ليس هناك أحد مثلك، أنت تعرف تعمل كذا..." إلى أن تصبح مثل البالون!
فيأتي أبسط موقف ولا نجد حتى قطع البالونة من قوة الانفجار!
الصحبة هذه لا تجعلك تنكسر بين يدي الله، تقول لك امشي فقط.. فتأتي الصحبة
دون أن تشعر وتهلك استعانتك، تقول مادام معي فلان ما عليّ من أحد! هذا واسطة قوية!
الواسطة القوية هذه عند موقف بسيط لا تستطيعه، هذا لو أراد الله لك خيرًا،
أما إذا كنت ممن خُذل تأتيك الواسطة بنتيجة وتعمل ما تريد، وتبقى معتمدًا على غير الله!
توجد صحبة النفخ، وتوجد صحبة أخرى تقول لك: والله أصبحت درويش! على كأس
الماء الآن تريد أن تستعين وتجمع قلبك!! وأنت موسوس و...
وكلاهما بلاء، أنت كلما اكتشفت نفسك، تجاهل الآخرين، المهم أن تكتشف نفسك.
القاعدة الخامسة:
اعلم أن من تعرّف إلى الله في الرخاء، يعرفه في الشدة؛ فمن
استعان الله في الرخاء، ألهمه أن يستعين به في الشدة؛ وإذا ألهمه؛ وفّقه.
هذه النقطة المهمة هي التي ستبتدئ منها مسألة التربية..
استعن بالله في الرخاء، درّب نفسك ولاحظها في الرخاء ... إلى آخر ما ذكرنا،
ماذا يحصل؟
يلهمك أن تستعين به في الشدة، فإذا ألهمك وفّقك؛ أعطاك مرادك فعلي أن أدرب
نفسي طول الحياة على أن أستعين به في الرخاء، في الشدة سيلقي الله في قلبي أن أستعين
به، إذا ألقى الله في قلبي أن أستعين وأنا استجبت لهذا الإلقاء سيأتي من ورائه التوفيق،
فإذا أتى من ورائه التوفيق حدّث ولا حرج عن البركات التي تنزل على العباد.
من هذه النقطة نبدأ نتكلم عن معنى التربية بالاستعانة..
الآن نأخذ قواعد في نفس مفهوم التربية بالاستعانة:
- ذكر مفهوم كلمة: ( التربية
)؛ ما معنى التربية؟
تحويل الشيء من حال النقص إلى حال التمام.
هذا المفهوم يحتاج إلى مناقشة، لما أربي أحد لابد أن أفهم ما هو النقص
وما هو التمام؟
ننظر لحالنا في تربية أولادنا، هل واضح لنا ما هو النقص وما هو التمام؟
لا، على قانون من نأخذ النقص والتمام؟
الواقع: متنازع، على حسب الثقافات، والعادات، والعيب، والفشلة، مثل الناس،
لا أحد يشمت بنا، ...
فمن أول الموضوع هنا مشكلة، تقول: أريد أن أربي ولدي وأحوله من حال النقص
إلى حال التمام، فهل تعلم ما هو النقص وما هو التمام؟!
نضرب مثال مهم، وهذا المثال لابد أن تقف فيه عند النص وليس على أهوائكم
وإن كان فيه شيء من الصعوبة من أجل أن يستوعب..
مثال: شاب في المرحلة المتوسطة أو الثانوية، أصحابه أهل مكائد، وهو لا
يعلم بشيء، يذهب ويعود وأصحابه دائمًا يضحكون عليه، أمه تقول أنه متفوق في الدراسة
لكن لا يفهم مكائد أصحابه، تقول: أنا طوال الوقت أدعو يا رب! قوِّه على أصحابه ولا
يكن غبيًّا! وتصوّري أنها تفكّر بأنه أهبل، ولا يفهم، وأحسن تعبير يوصف به أنه على
نياته، وطوال الوقت تحطّمه في البيت... ثم يأتي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في
الأدب المفرد يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-فيه: ((الْمُؤْمِنُ
غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ)) ثم ابحثي عن معنى (غرّ) في شروح
الحديث أو في لسان العرب، فيتبين لك أن من صفات المؤمن أنه لا يتفطّن إلى مواطن المكائد؛
لسلامة قلبه، والفاجر عكسه.
فتأتي الأم وأبنائها الباقين ويعدّلون وصف إيمانه ووصف كماله! ثم لما تواجه
بالحديث تقول: الدنيا لا ينفع فيها هذا! كل هذه إشكالات، كأنها تتصور أنه سيكون لوحده،
ما كأن له ربًّا يدفع عنه، ولا كأنها تؤمن أن الله بدافع عن الذين آمنوا، ولا كأننا
نؤمن أن الله -عز وجل- هو الذي يأخذ حقوقنا، ولا كأننا نؤمن أن استيفاء الحقوق في الدنيا
أمر مستحيل...
وكأنك مرميٌّ في غابة وليس لك ربًّا يكون معك!! لما نعجز نقول: يا رب!
وأصلاً لنا قوّتنا! هذا المفهوم خاطئ، أنت ليس لك قوة {وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[28]،
ليس لك قوة ذاتية، لذلك نقطة التعقيد كلها أنه ما هو الكمال الذي أريد أن أوصل أولادي
إليه؟ هذا أمر غير مفهوم! غير واضح، معالمه غير منضبطة.
لو تتصورين ما معنى الاستعلاء في الأرض، هذه كبيرة من كبائر الذنوب، وصف
الله المؤمنين أنهم {لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ
وَلا فَسَاداً}[29] إذًا من وصوفات الفجّار أنهم يريدون العلوّ في الأرض،
انظري إلى هذا المفهوم المُشْكل، وأنا أتبرأ إلى الله أن أقول على الله ما لا أعلم
-أسأل الله أن يسددنا في ذلك-.
مفهوم الاستعلاء فيه من الخطورة ما لا تتصوره، داخل في قلوبنا ونحن لا
نشعر! دائمًا عندنا إرادة العلو على الناس، نريد أن نكون أفضل من كل أحد ثم نقول: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ))[30]
، هل تريد أن تكون أفضل من كل أحد أو تريد أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟!! الاثنان لا
يجتمعان، ومن أراد أن يفهم هذا فليراجع كتب الكبائر، رسائل مختصرة تتكلم عن الكبائر
ومن بينها كبيرة الاستعلاء في الأرض..
تعالي وانظر ماذا نبثّ في أبنائنا طوال الوقت؟! لابد أن تكون أفضل واحد!
تأتي الاختبارات، يدخل الجامعة، لا تفشلنا! لن تجعلني أرفع رأسي بين الناس! على أن
كل شيء في الدراسة والنتيجة والشهادة...
فبدأ عدم الاستقرار والطمأنينة من جهة أن مقاييس الصواب
والخطأ غير واضحة، وغير متّفق عليها..
هذا لا يعني هدم الأعراف؛ لكن أي عرف يخالف الشرع لابد من إلقائه في الخارج،
لابد من محاولة حقيقية لسحب الأعراف المخالفة من نفوسنا أولاً، الناس أصبحوا مقياسنا
لدرجة أنه لا يوجد شيء نعمله لوجه الله!! كل شيء من أجل الناس!
طوال النهار الأم تقول لولدها: اجلس مثل الناس، كل مثل الناس، نام مثل
الناس. لكن لو قال لها الولد اشتري لي جوال مثل أصحابي مثل الناس، تقول: مالك ومال
الناس!!
هذه الكلمة (مثل الناس) أتت من مفاهيم انعكاسية في داخل القلب..
مثلاً: منزلنا خمس غرف، غرفة للأولاد، وغرفة للبنات، وغرفة لي، وغرفتان
للضيوف مقفلة!! كلنا نحبس هناك لماذا؟!
لذلك يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((فِرَاشٌ
لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لامْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَان))[31]!!
هذه هي الصورة، لكن المواجهة بهذه الحقائق صعبة! لابد أن أبرئ ذمّتي أمام الله، أقول
لكم النصوص، ولما تلقى ربك ستُسأل عن كل هذا! على أقل تقدير أوسعوا على أولادكم.
نحن نريد أن نصل لهذا المفهوم: أن التربية هو تحويل الشيء من حال النقص
إلى حال التمام، أول مشكلة نعانيها في النقص والتمام، هذه المشكلة تحتاج تعديل، وتغذية،
تحتاج إلى أن أتحمل مسؤولية التربية، أشعر أن التمام ليس من مقاييس الهوائية، ليس المقياس
أني أريد أن أقهر ولدي أو أقهر زوجي أو جيراني ... حتى لا يشمت بي هؤلاء!!
المسألة الثانية: من المربّي على الحقيقة؟
الجواب يحتاج مني إلى يقين وليس مجرد كلام، الرب-سبحانه وتعالى-هو المربّي
على الحقيقة.
المسألة الثالثة: مادام الله هو المربي على الحقيقية فما هو دوري؟
يقول الله-عز وجل-في سورة الفرقان: {وَجَعَلْنَا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}[32] هذه أول قاعدة في دوري،
يعني كل الناس المحيطين بك اسمهم (فتنة) فلابد من تصور أن الأبناء فتنة.
ثانيًا: ما معنى فتنة؟ يعني يختبرك الله ماذا تفعل بهم ومعهم؟
هل أعطيت أدوات معينة لدخول هذا الاختبار؟
نعم، أعطيت ثلاثة أدوات:
1-
الرحمة: هذه
أول أداة تجعلك تقومين بدورك؛ فمِن دورك أن ترحميه، يكون في قلبك رحمة له وعطف واحتواء...
لا أحد يتحمّله غيره، لا أخوانه ولا أحد يتحمّله، وهو صغير بما فيه من قاذورات.. لا
يهمّني شيء، كل مشاعر الرحمة موجودة، هذا عطاء وضعها الله في قلبك من أجل أن تقوم بالاختبار
كما ينبغي، لما تحمل هذه الرحمة وتضعها عند الجيران، وتحمل هذه الرحمة وتضعها على الهاتف،
تصرف رحمتك عن غير هذا، تكون أذهبت أداة تربيتك!
2-
الدعاء المستجاب: أنت من دون كل الخلق مع هذا الابن لك باب مفتوح في أي وقت ليلاً أو نهارًا،
متى أردتِ أن تربيه تطرقين هذا الباب، وتقولين: يا رب، فدعاؤك فيه مستجاب! هذه الآلة
الثانية التي مُلِّكتها من أجل أن تدخل هذا الاختبار.. لكن فينا تجاهل هذا الطريق واستبطاؤه!
هذا يدلّ على أنه يوجد إشكال في تفكيري، قيل لك لا تنتظر الساعة المستجابة يوم الجمعة،
ولا تنتظر ليلة القدر، ولا تنتظر بين الأذان والإقامة، قيل لك متى ما دعوت، استجيب
لك، فماذا تنتظر؟!!
ابتلاك الله بأصعب المهام، أن تأتي إلى نفْس وتشكّلها، لم يرمِ بك في البحر،
لما أعطاك المهمة، أتى لك بأعظم أدوات الإعانة، وهي مسألة الدعاء المستهان به، كيف
تستهين بالدعاء وأنت تعلم أن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟!
المهم لما تدعوا حرّر نيتك ماذا تريد من وراء الدعاء؟! تريده أن ينجح من
أجل أن تفتخر به وتعلو؟!!
في المواقف والأحداث الناس مختلفين، تحرير النية والصدق أمر مهم، وكونك
تدعو، لابد أن تدعو بالصلاح والاستقامة، ادعوا الله أن يحبّب إليهم الإيمان، ويزينه
في قلوبهم، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} هذه
هنا، أن يكون في قلبي قوة إرادة الصلاح.
3-
العجز: يعني
من عوامل تربيتهم أنك عاجز عن تربيتهم! العجز عن التربية هو الذي يأتي بعامل الاستعانة.
العجز هذا عامل إيجابي وليس سلبي، فلو استعنت، تعطى، العجز يسبب الاستعانة.
أُعطيتَ ثلاثة:
فيك رحمة، باب مفتوح بينك وبين الله، أنك عاجز، فالعاجز لما يكتشف أنه
عاجز يستعين، ويهب إلى الاستعانة.
يا أم! لا تتصوري القدرة على إصلاحهم، {قُل
لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}[33]
، نفسي أنا!
يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ
مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[34]
، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[35]، إلى آخر ما تحفظونه
من نصوص.
يعني وصفي العجز، كما أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم العجز، عاجز أن
يهدي أحدًا هداية توفيق، وإن كان يهديهم هداية إرشاد، فأنا عاجزة عن هداية التوفيق،
الهداية نوعان:
1)
هداية إرشاد، أن أقول لهم هذا هو الطريق.
2)
هداية توفيق، أن أضعهم عليه وأسيّرهم، هذا أنا عاجزة عنه.
إذًا ماذا أعطيتَ ؟
أعطيت الاستعانة.
ما معنى الاستعانة؟
هي لحظة قرار في داخلك، لو قلت له اخرج، سيجد مصائب في الخارج، لو قلت
له اجلس سيحرق الداخل! ماذا أفعل؟! هذا أو هذا!
في هذه اللحظة افزع إلى الله، وأنت في مكانك في الموقف افزع إلى الله بقلبك،
اعلم أن لحظة الفزع تساوي لحظة التوفيق؛
لأن التفويض ß يولد التسديد
لا تنسى هذه قاعدة ، لحظة الفزع تولّد لحظة التوفيق..
بمعنى أن تفويضك الأمر إلى الله، يولد التسديد، يسددك الله.
إذا فهمت هذا الأمر ماذا تفعل لما يأتيك الموقف؟ مباشرة افزع بقلبك، فالاستعانة
لحظة في داخلك تطلب من الله أن يرشدك ويلهمك، حتى بدون لسان مقالك، فقط قلبك يفزع إليك،
أما لو استعنت بلسان مقالك فخير وبركة.
ننظر للنصوص القرآنية..
{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} هذا دليل على أني لا أستطيع أن أصلحها إنما مصلحها على الحقيقة هو الله.
ننظر إلى آية سورة الفرقان: {رَبَّنَا هَبْ
لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}[36] هب لنا يعني هي موهبة يهبها الله، فتوسّل إلى (الوهاب)
أن يهبك هذه الموهبة، لابد أن نتصور حقيقة الموقف أني عاجز، لكن العجز والنقص هنا طريق
الكمال، العجز هو طريق القدرة، أنت عاجز، إذًا استعن بمن له ملك السماوات والأرض وهو
على كل شيء قدير، لابد أن نتصور كمال صفات الرب حتى نقف عند بابه وليس عند باب غيره.
نعود للكلام حول التربية:
السؤال الأول: ما معنى التربية؟
تحويل الشيء من حال النقص إلى حال التمام، لابد أن يتعدل هذا في نفوسنا
ونعرف ما هو النقص وما هو الكمال، لأن ولدي ممكن أن يكون في طريق الكمال وأنا أدعو
الله وأرجعه إلى النقص ولا أعلم!
من أجل ذلك {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}
لا أخصص مسائل وأقول يا رب يبعد عنه فلان وفلان! هذا التوصيف كأن ربنا لا يعلم!
أنت اطلب منه أن يُهيّء له البطانة الصالحة، يُهيّء له الصحبة الصالحة، يصلح له قلبه،
يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه... استعمل أدب الدعاء ولا تستعجل.
فالتربية تحويل الشيء من حال النقص إلى حال التمام، هذه الجملة هي بداية
المشكلة، ما الذي يسبب عدم السكن والاطمئنان؟ لأني أنا وهو والمجتمع في اعتصار شديد
ما هو النقص وما هو التمام، من ثمّ كل واحد معه قانون والمجتمع عنده قانون وندور حول
القوانين هذه وقد تكون أفسد ما يكون!
السؤال الثاني: من المربي على الحقيقة؟
الله عز وجل هو الربّ الذي يربّي عباده فيحوّلهم من حال النقص إلى حال
التمام، يربّيهم بما يجري عليهم من أقدار، يجري عليهم أقدار تمتلئ نفوسهم يقينًا بالمسائل.
يأتي ولدي فأبغّضه في أصحابه ولا يبغضهم، ثم يجري الله عز وجل عليه موقف،
فينزعهم من سويداء قلبه، فتقولي أنا لو صنعت ما صنعت لما أخرجتهم من قلبه! ألا تعلم
أن القلوب بيد الله، هو وحده الذي يهيء الأسباب من أجل أن تصل إلى مرادك.
اعلم أن المربي هو الله، هو الأول الذي ليس قبله شيء، هو الذي يسبب الأسباب
للصلاح، ثم ينفعك بهذه الأسباب، كم من المرات في بيوت أهل الصلاح يخرج الفجار! لماذا؟!
لا تثق بنفسك، لا تعتقد أنك أنت المربي، لابد أن تشعر أنك عاجز، لا تتصور
أنك لما دفعت آلاف الآلات من الفساد، فصلح الأمر، لا أبداً، هذه بداية الصعوبة، أن
تنزع من قلبك الثقة أنك أنت الذي تربي، لابد أن تشعر أنه لا يربي على الحقيقة إلا الله،
وهو الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء.
وليكن على بالك: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[37] ، هذه البذرة من أعطاك؟
ما أعطاك إلا الله، هذه البذرة في الأرض الخصبة من مالك الأرض الخصبة؟ لا مالك لها
إلا الله، حرث هذه الأرض الخصبة بقدرتك أو أنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله؟ حرثها
ليس لي قدرة فيه، سقيها بالماء، والماء ليس بقدرتي، كله من الله..
فإذا أتتك هذه البذرة ووضعتها في هذه الأرض الخصبة التي وهبك الله إياها،
وسقيتها بالماء الذي وهبك الله إياها، وهذه كلها قدرة وطاقة أعطاك الله إياها، ثم انتهى
دورك، من فالق الحب والنوى؟ لا فالق للحب والنوى إلا الله، من يخرج الثمر؟ لا يوجد
إلا الله، إذًا هو فالق الحب والنوى، هو مخرج الثمرات، هو الذي وهبك البذرة، ووهبك
الأرض الخصبة، ووهبك الماء ووهبك الطاقة... في النهاية: {أَأَنتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟!
وهذا ولدك نفس الصورة بالضبط، هل تتصور أنك أنت الذي تربيه أو الله؟ المربي
على الحقيقة هو الله.
إذا كان المربي على الحقيقة هو الله، فما هو دورك؟؟
دورك أنك مبتلى به، يختبرك الله ماذا تفعل، ما هي أدوات الاختبار المعينة؟
ثلاثة:
رحمة –باب مفتوح واصل في أي وقت– العجز الذي يفتح لك الباب الواسع، باب
الاستعانة.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ذليلين منكسرين عند بابه لا نغادره أبدًا،
نستعين به الليل والنهار.
ما هي صورة النجاح في الابتلاء؟
كيف أكون شخص ناجح؟
أولاً: أن تنتظر الفرج:
أول الأمر: حقق معنى ((رَضِيتُ بِاللَّهِ
رَبًّا)) ما معنى تحقيق معنى ((رَضِيتُ بِاللَّهِ
رَبًّا))
أنت تدعو وتقول يا رب ثم تأتي الأقدار على غير ما تتصور، الرضا هذا مع
انتظار الفرج، يعني يكون في قلبك قوة رجاء أن الله لا يخذلك، لابد أن يصلح هذه الذرية
على قدر ذلّك، حتى نصل إلى حدّ الاطمئنان ونكون ساكنين، ويكون عندنا قوة رجاء، وليس
بأن نغلي على كل ردة فعل! حتى تكون ساكنًا مطمئنا لابد أن تتصور أن الله لا يخذلك،
بل انتظار الفرج بنفسه عبادة؛ إذًا صورة النجاح أن تنتظر الفرج.
ثانيًا: قوة الذلّ والانكسار والطاعة لله-عز وجل-:
حتى يكون الله سمعك الذي تسمع
به، وبصرك الذي تبصر به، ويدك التي تبطش بها، وقدمك التي تمشي بها.. حتى يتحقق لك معنى
المعية.
تقرّب، تذلّل، انكسر؛ كلما تقربت وتذللت وانكسرت، كلما سددت، أصبحت حكيما،
نظرك للمسائل، سمعك للكلام، قرارات كلها تقرب من الحكمة؛ لأنه هو-سبحانه وتعالى- سيكون
سمعك الذي تسمع به، بصرك الذي تبصر به، كلما تقربت إليه، كلما سددك.
أنت تقرَّب لأنك مبتلى بالتقرُّب، وأحد المصالح من التقرُّب أن يسددك الله
ويلقي على لسانك الحكمة فتتصرّف كما ينبغي.
ثالثًا: الصبر:
واعلم أن الله مع الصابرين، هنا يظهر حقيقة معية الله.
يكون الله معك، يسددك، يوفقك، أنت ارضَ بالله، تقرّب إلى الله، اصبر على
أقدار الله،
ß نتيجة هذه
الثلاثة كلها أن يقع في قلبك الرجاء في الله، أن يسددك الله، أن يكون معك،
ç
كل هذا يخرج أسرة غاية في السكن والاطمئنان،
لكن لمّا تعتمد على نفسك تأتي مصيبة المصائب، تأتي النتائج السلبية، تأتي
الآراء، كل يوم أحد ينازعك في الرأي.. إلى آخر ما نجده من الآراء المفسدة، قد أسمع
رأي ينفع مع ولد شخص، ولما أطبقه على ولدي يكون أفسد ما يكون! وهذا أمر ملاحظ.
افزع إلى الله وحده وبه استعن..
هذا ما تيسر ذكره في هذا اللقاء المبارك، أسأل الله عزّ وجلّ أن ينفعني
وينفعكم..
انتهى
اللقاء ولله الحمد والمنّة..
[13] [صحيح مسلم/كتاب:
الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار/ بَاب: مَا يَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ وَأَخْذِ
الْمَضْجَعِ]
[19] [سنن الترمذي/ كِتَاب: صِفَةِ الْقِيَامَةِ
وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ]
[25] [سنن الترمذي/
كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.