الأحد، 22 نوفمبر 2015

أمراض القلوب - اللقاء الثالث

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا هو لقاؤنا الثالث من سلسلة لقاءات أمراض القلوب. نُكمل في هذا اللقاء ما توقفنا عنده من ذكر الجهاد وكيف أن الله عز وجلّ أخبرنا كما في أواخر آل عمران بكيفية الحرب والجهاد, فقال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُ‌وا وَصَابِرُ‌وا وَرَ‌ابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[1]
1.             فكان أول الأمر اصبروا.
2.             و صابروا: بمعنى قاوموا العدو و نازلوه.
3.             و رابطوا : و هذا معناه أن هناك ثغرات علينا أن نلزمها و نحرسها.
4.             و اتقوا الله : و التقوى جماع هذه الثلاثة وعامودها, فالتقي هو الذي صبر وصابر ورابط.
ونحن لازلنا نؤكِّد على هذا المعنى بأنّ الله عزّ وجلّ لما سلّط هذا العدوّ على المؤمن, لم يُسلِّطه إلا لأنّه يحبّ من المؤمن أن يجاهد, فالجهاد أحبّ شيء إلى الله, أحبّ الأعمال إليه, والمجاهدين أرفع الخلق عند الله وأقربهم إلى الله وسيلة، فهذه الحرب دائرة بين القلب وبين العدوّ, والقلب هو محلّ معرفة الله ومحبة الله وعبودية الله, ومحلّ الإخلاص والتوكّل والإنابة، فالله عزّ وجلّ ولَّى القلب هذه الحرب, وأيَّد القلب بجند, فهؤلاء الجند عليك بمعرفتهم للانتفاع منهم. 

وقد ذكر ابن القيم في (الجواب الكافي) كلام جميل حول هؤلاء الجند, ننقله كما هو , يقول :
" ثُمَّ أَمَدَّهُ سُبْحَانَهُ بِجُنْدٍ آخَرَ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوتِهِ، وَمَدَدًا إِلَى مَدَدِهِ، وَعُدَّةً إِلَى عُدَّتِهِ، وَأَمَدَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَزِيرًا لَهُ وَمُدَبِّرًا، وَبِالْمَعْرِفَةِ مُشِيرَةً عَلَيْهِ نَاصِحَةً لَهُ، وَبِالْإِيمَانِ مُثَبِّتًا لَهُ وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، وَبِالْيَقِينِ كَاشِفًا لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ، فَالْعَقْلُ يُدَبِّرُ أَمْرَ جَيْشِهِ، وَالْمَعْرِفَةُ تَصْنَعُ لَهُ أُمُورَ الْحَرْبِ وَأَسْبَابَهَا وَمَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، وَالْإِيمَانُ يُثَبِّتُهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُصَبِّرُهُ، وَالْيَقِينُ يُقْدِمُ بِهِ وَيَحْمِلُ بِهِ الْحَمَلَاتِ الصَّادِقَةَ".
*               النبي : نموذج يسير على هديه.
*               الكتاب : منهج يستقي منه.
*               العقل : ينظر ويتدبّر ويفكّر.
*               المعرفة : التي ستأتيه من الرسول والكتاب, تشير إليه وتنصحه.
*               الإيمان : مما يثبت الإنسان و يؤيد.
*               اليقين : وهو الإيمان القويّ تأتي منه لحظات تكشف الحقائق فكأنه يعاين ما وعد الله، عندما يكون عنده يقين فتهجم عليه الشهوات وتأتيه الأمراض يهجم على عدوه وعلى مرضه فيمنعه.
ابن القيم صوّر المسألة تصويرًا حسِّيًا؛ أن هذا القلب يُهاجَم من قبل العدو,  والله عزّ وجلّ مدّ القلب بجنود (الرسول, والوحي الذي نزل في الكتاب, والعقل, والمعرفة, والإيمان, واليقين).

ثم يقول :
"ثُمَّ أَمَدَّ سُبْحَانَهُ الْقَائِمَ بِهَذِهِ الْحَرْبِ بِالْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ طَلِيعَتَهُ، وَالْأُذُنَ صَاحِبَ خَبَرِهِ، وَاللِّسَانَ تُرْجُمَانَهُ، وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَعْوَانَهُ، وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَةَ عَرْشِهِ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُ أَنْ يَقِيَهُ السَّيِّئَاتِ وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّاتِ، وَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ الدَّفْعَ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ حِزْبِي، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْمُجَادَلَةِ:22].
*               فهذا سمعه وبصره ويديه ورجليه كلها من جنوده إن استخدمها كما ينبغي.
*               وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَةَ عَرْشِهِ, هذه كلها أعوان له لكي يَسلم -سبحان الله- حتى أن الملائكة تستغفر له وتسأل الله أن يقيه السيئات.
*               إذا تبيّن هذا؛ عرفنا وأكدنا على معنا أننا نجاهد، وأننا حقاً في معركة وأن قلوبنا يهجم عليها العدو فيُقاتلها وتقاتله، والقلب عدوّه آفاته, هو يملك جند وهناك آفات تُصيبه, ورأس آفاته عدوه الشيطان.

 وسأنقل بعضًا من كلام ابن القيم أيضاً يصف لنا شيء من هذه المعركة, يقول :
" فَانْظُرِ الْآنَ فِيكَ إِلَى الْتِقَاءِ الْجَيْشَيْنِ، وَاصْطِدَامِ الْعَسْكَرَيْنِ وَكَيْفَ تُدَالُ مَرَّةً، وَيُدَالُ عَلَيْكَ أُخْرَى ؟ أَقْبَلَ مَلِكُ الْكَفَرَةِ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ، فَوَجَدَ الْقَلْبَ فِي حِصْنِهِ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، أَمْرُهُ نَافِذٌ فِي أَعْوَانِهِ، وَجُنْدُهُ قَدْ حَفُّوا بِهِ، يُقَاتِلُونَ عَنْهُ وَيُدَافِعُونَ عَنْ حَوْزَتِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْهُجُومُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُخَامَرَةِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ وَجُنْدِهِ عَلَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْ أَخَصِّ الْجُنْدِ بِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً، فَقِيلَ لَهُ : هِيَ النَّفْسُ، فَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : ادْخُلُوا عَلَيْهَا مِنْ مُرَادِهَا، وَانْظُرُوا مَوَاقِعَ مَحَبَّتِهَا وَمَا هُوَ مَحْبُوبُهَا فَعِدُوهَا بِهِ وَمَنُّوهَا إِيَّاهُ وَانْقُشُوا صُورَةَ الْمَحْبُوبِ فِيهَا فِي يَقَظَتِهَا وَمَنَامِهَا، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ عِنْدَهُ فَاطْرَحُوا عَلَيْهَا كَلَالِيبَ الشَّهْوَةِ وَخَطَاطِيفَهَا، ثُمَّ جُرُّوهَا بِهَا إِلَيْكُمْ، فَإِذَا خَامَرَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَصَارَتْ مَعَكُمْ عَلَيْهِ مَلَكْتُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَاللِّسَانِ وَالْفَمِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَرَابِطُوا عَلَى هَذَا الثُّغُورِ كُلَّ الْمُرَابَطَةِ، فَمَتَى دَخَلْتُمْ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ فَهُوَ قَتِيلٌ أَوْ أَسِيرٌ، أَوْ جَرِيحٌ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحَاتِ، وَلَا تُخْلُوا هَذِهِ الثُّغُورَ، وَلَا تُمَكِّنُوا سَرِيَّةً تَدْخُلُ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ فَتُخْرِجَكُمْ مِنْهَا، وَإِنْ غُلِبْتُمْ فَاجْتَهِدُوا فِي إِضْعَافِ السَّرِيَّةِ وَوَهَنِهَا، حَتَّى لَا تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَصَلَتْ ضَعِيفَةً لَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا".
*               تدال مرة, و يدال عليك : أي تنتصر مرة و يُنتصر عليك.
*               بمخامرة : بغش و مخادعة.
*               ماهو محبوبها : انظروا إلى النفس ما تُحب.
*               فإذا اطمأنت إليه : أي إذا اطمأنت النفس إلى هذا المحبوب وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها, ثم جروها بها إليكم فتصبح شديدة التعلق، ما تريد أن تترك شيئا من الأعمال التي تعلقت بها.
*               الثغور : العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل.
*               لا تمكنوا سرية : سرية من العلم أو سرية من الجهاد.
*سيتبين لنا هذا أكثر في النظر إلى كل ثغرة ماذا يفعل بها
الآن بعد ما يستولي الشيطان على النفس تُصبح هناك معركة بين النفس من جهة –التي استولى عليها العدو الشيطان- و بين القلب من جهة أخرى.  والنفس تستولي على الثغور (العين و الأذن..).

تبدأ المعركة مع الجوارح الآن، فالقلب الذي به السلامة ماذا يفعل؟ يبذل جهوده مع كل جارحة من الجوارح أن يجعلها على سالمة.
 لكن عدوه الشيطان والنفس، - الشيطان ركب النفس –
فاستفاد من صفات النفس و نقصها و طمعها و من حبها للدنيا فأصبح يهاجم الثغرات.

سنرى الآن من كلام ابن القيم ماذا يحصل :
ثَغْرُ الْعَيْنِ
"فَإِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى هَذِهِ الثُّغُورِ فَامْنَعُوا ثَغْرَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ اعْتِبَارًا، بَلِ اجْعَلُوا نَظَرَهُ تَفَرُّجًا وَاسْتِحْسَانًا وَتَلَهِّيًا، فَإِنِ اسْتَرَقَ نَظَرُهُ عِبْرَةً فَأَفْسِدُوهَا عَلَيْهِبِنَظَرِ الْغَفْلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَعْلَقُ بِنَفْسِهِ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ، وَدُونَكُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ، فَإِنَّ مِنْهُ تَنَالُونَ بُغْيَتَكُمْ، فَإِنِّي مَا أَفْسَدْتُ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِثْلِ النَّظَرِ، فَإِنِّي أَبْذُرُ بِهِ فِي الْقَلْبِ بَذْرَ الشَّهْوَةِ، ثُمَّ أَسْقِيهِ بِمَاءِ الْأُمْنِيَّةِ، ثُمَّ لَا أَزَالُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ حَتَّى أُقَوِّيَ عَزِيمَتَهُ وَأَقُودَهُ بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ إِلَى الِانْخِلَاعِ مِنَ الْعِصْمَةِ، فَلَا تُهْمِلُوا أَمْرَ هَذَا الثَّغْرِ وَأَفْسِدُوهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَهَوِّنُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَقُولُوا لَهُ : مِقْدَارُ نَظْرَةٍ تَدْعُوكَ إِلَى تَسْبِيحِ الْخَالِقِ وَالتَّأَمُّلِ لِبَدِيعِ صَنِيعِهِ، وَحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي إِنَّمَا خُلِقَتْ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا النَّاظِرُ عَلَيْهِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ لَكَ الْعَيْنَيْنِ سُدًى، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِيَحْجُبَهَا عَنِ النَّظَرِ".
*               اجعلوا العين لا تنظر نظر اعتبار, بل اجعلوا نظره تفرجاً واستحساناً وتلهياً, وهذا أول تلاعب من الشيطان بالنفس وبثغرة العين.
*               إذا في الوسط استيقظ بصره و مدّ قلبه بنظر جيد, فكانت نظرة عبرة, أنتم ماذا تفعلون؟ أفسدوها عليه بنظرة الغفلة! فإنه مائل إلى نظرة الشهوة والاستحسان.
*               النظر أخطر شيء تملكه, والشيطان أكثر ما يستعمل عليك النظر, فهو بالنظر يبذر بذر الشهوة في الإنسان ثم يسقيه بماء الأمنية، ثم لا يزال يعده ويمنيه حتى يقوي عزيمته –على الباطل– ويقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من الاستقامة.
*               فالشيطان يقول لجنده لا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم.
*               وهونوا عليه أمره: أي اجعلوه ينظر ولا يرى بأس في النظر، ينظر إلى الأشياء المحرمة ولا يشعر بأن هذا أمر خطير!.
*               وما خلق الله لك العينين سدى، وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر: بذلك هو يغري الرجل بالنظر للمرأة, و يغري المرأة بالنظر للرجل.
إذن أول ثغرة نصاب منها والنفس تكون بمثابة العدو وتأمر بالسوء, تتدخل بين القلب السليم وبين العين, تتدخل بين القلب السليم وبين السمع. فالعين الآن جُند فماذا تفعل هذه الجند؟ تبذر في القلب بذرة الشهوة.

و سنرى الآن ثغر الأذن أيضاً, فيقول ابن القيم :
ثَغْرُ الْأُذُنِ
" ثُمَّ امْنَعُوا ثَغْرَ الْأُذُنِ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ، فَاجْتَهِدُوا أَنْ لَا تُدْخِلُوا مِنْهُ إِلَّا الْبَاطِلَ، فَإِنَّهُ خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ تَسْتَحْلِيهِ وَتَسْتَحْسِنُهُ، تَخَيَّرُوا لَهُ أَعْذَبَ الْأَلْفَاظِ وَأَسْحَرَهَا لِلْأَلْبَابِ، وَامْزِجُوهُ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ مَزْجًا .
وَأَلْقُوا الْكَلِمَةَ فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُ إِصْغَاءً إِلَيْهَا فَزُجُّوهُ بِأَخَوَاتِهَا، وَكُلَّمَا صَادَفْتُمْ مِنْهُ اسْتِحْسَانَ شَيْءٍ فَالْهَجُوا لَهُ بِذِكْرِهِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ هَذَا الثَّغْرِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَلَامِ النُّصَحَاءِ، فَإِنْ غُلِبْتُمْ عَلَى ذَلِكَ وَدَخَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالْعِظَةِ بِهِ، إِمَّا بِإِدْخَالِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِتَهْوِيلِ ذَلِكَ وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ حِيلَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَبَيْنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ حِمْلٌ يَثْقُلُ عَلَيْهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِمَّا بِإِرْخَاصِهِ عَلَى النُّفُوسِ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ أَعْلَى عِنْدَ النَّاسِ، وَأَعَزُّ عَلَيْهِمْ، وَأَغْرَبُ عِنْدَهُمْ، وَزُبُونُهُ الْقَابِلُونَ لَهُ أَكْثَرُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ مَهْجُورٌ، وَقَائِلُهُ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلْعَدَاوَةِ، وَالرَّابِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتُدْخِلُونَ الْبَاطِلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ قَالَبٍ يَقْبَلُهُ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ، وَتُخْرِجُونَ لَهُ الْحَقَّ فِي كُلِّ قَالَبٍ يَكْرَهُهُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فَانْظُرْ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، كَيْفَ يُخْرِجُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي قَالَبِ كَثْرَةِ الْفُضُولِ، وَتَتَبُّعِ عَثَرَاتِ النَّاسِ، وَالتَّعَرُّضِ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، وَإِلْقَاءِ الْفِتَنِ بَيْنَ النَّاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُخْرِجُونَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَوَصْفَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَالَبِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ.
والمقصود : أن الشيطان قد لزم ثغر الأذن، أن يُدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه، ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه، وإن دخل بغير اختياره أفسده عليه .
*               ما يفسد عليكم الأمر : أي ما يفسد عليكم فسادكم, بمعنى ما يصلح هذا الإنسان.
*               خفيف على النفس : هذه النفس التي أصبحت مركبًا للشيطان, يركبها على القلب ويفسد القلب الذي جاء من ربنا سليم وصافي.
*               النفس التي فسدت تستحلي الباطل.
*               الهجوا له بذكره : أي يبقى هذا الشي يتكرر, يقوله ويجري على لسانه يتذكر به من الشيطان.
*               وإما بتهويل ذلك و تعظيمه: أي يحسسوه كيف تريد أن تتدبر القرآن؟ وكيف تتجرأ وتقول أنك تريد أن تفهم كلام الله؟ يعني إذا أراد ان يتدبر كلام الله وكلام رسوله كوّنوا حائل بينه وبين الفهم والتدبر والتفكر, وذلك بإدخال ضده عليه أو تعظيم الأمر و أنه لا سبيل لك.
*               و إما بإرخاصه على النفوس: أي أنه ليس شيئاً مهماً أن تفهم القرآن!
*               وقائله معرض نفسه للعداوة، والرابح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك , فماذا يفعل؟ يكلم الناس بالشي الذي يقبلونه الناس, فيقول: أنا أريد أن يرضى عني الناس, أريد أن أكون محبوباً, تريدني أن أكلمهم عن كلام الله وكلام رسوله؟ فهذا اشتغالي به لن يجعل لي مكاناً عند الخلق! من ثَمّ ينشغل عنه.
*               يجعلون أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وصفه فضول, فلا تتدخل فيما لا يعنيك, و أنك حين تأمره كأنك تتبع عثرات الناس.
المقصود أن الشيطان قد لزم ثغرة الأذن أن يُدخل فيها ما يضر العبد و لا ينفعه,  و يمنع أن يدخل إليها ما ينفع, و إذا دخل بغير اختياره أفسده عليه.

نأتي للمعركة عند:
ثَغْرُ اللِّسَانِ
ثُمَّ يَقُولُ : قُومُوا عَلَى ثَغْرِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ الثَّغْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ قُبَالَةُ الْمَلِكِ، فَأَجْرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَامْنَعُوهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَنْفَعُهُ : مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْفَارِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَنَصِيحَةِ عِبَادِهِ، وَالتَّكَلُّمِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَيَكُونُ لَكُمْ فِي هَذَا الثَّغْرِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ، لَا تُبَالُونَ بِأَيِّهِمَا ظَفِرْتُمْ :
أَحَدُهُمَا : التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّمَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ جُنْدِكِمْ وَأَعْوَانِكِمْ .
الثَّانِي : السُّكُوتُ عَنِ الْحَقِّ، فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنِ الْحَقِّ أَخٌ لَكُمْ أَخْرَسُ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخٌ نَاطِقٌ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَخُ الثَّانِي أَنْفَعَ أَخَوَيْكُمْ لَكُمْ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ النَّاصِحِ : الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ ؟
فَالرِّبَاطَ الرِّبَاطَ عَلَى هَذَا الثَّغْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَقٍّ أَوْ يُمْسِكَ عَنْ بَاطِلٍ، وَزَيِّنُوا لَهُ التَّكَلُّمَ بِالْبَاطِلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَخَوِّفُوهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ .
وَاعْلَمُوا يَا بَنِيَّ أَنَّ ثَغْرَ اللِّسَانِ هُوَ الَّذِي أُهْلِكُ مِنْهُ بَنِي آدَمَ، وَأَكُبُّهُمْ مِنْهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ، فَكَمْ لِي مِنْقَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَجَرِيحٍ أَخَذْتُهُ مِنْ هَذَا الثَّغْرِ ؟
وَأُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظُوهَا : لِيَنْطِقْ أَحَدُكُمْ عَلَى لِسَانِ أَخِيهِ مِنَ الْإِنْسِ بِالْكَلِمَةِ، وَيَكُونُ الْآخَرُ عَلَى لِسَانِ السَّامِعِ فَيَنْطِقُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَتَعْظِيمِهَا وَالتَّعَجُّبِ مِنْهَا وَيَطْلُبُ مِنْ أَخِيهِ إِعَادَتَهَا، وَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى الْإِنْسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَسَمِي الَّذِي أَقْسَمْتُ بِهِ لِرَبِّهِمْ حَيْثُ قُلْتُ : {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ 16 - 17 ] .
أَوَمَا تَرَوْنِي قَدْ قَعَدْتُ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ كُلِّهَا، فَلَا يَفُوتُنِي مِنْ طَرِيقٍ إِلَّا قَعَدْتُ لَهُ بِطَرِيقٍ غَيْرِهِ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْهُحَاجَتِي أَوْ بَعْضَهَا ؟ وَقَدْ حَذَّرَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ كُلِّهَا، وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ : أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ ؟ فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ : أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟ فَخَالَفَهُ وَهَاجَرَ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ : أَتُجَاهِدُ فَتُقْتَلَ فَيُقَسَّمَ الْمَالُ وَتُنْكَحَ الزَّوْجَةُ ؟
فَكَهَذَا فَاقْعُدُوا لَهُمْ بِكُلِّ طُرُقِ الْخَيْرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى طَرِيقِ الصَّدَقَةِ، وَقُولُوا لَهُ فِي نَفْسِهِ : أَتُخْرِجُ الْمَالَ فَتَبْقَى مِثْلَ هَذَا السَّائِلِ وَتَصِيرَ بِمَنْزِلَتِهِ أَنْتَ وَهُوَ سَوَاءٌ ؟ أَوَمَا سَمِعْتُمْ مَا أَلْقَيْتُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ سَأَلَهُ آخَرُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، قَالَ : هِيَ أَمْوَالُنَا إِذَا أَعْطَيْنَاكُمُوهَا صِرْنَا مِثْلَكُمْ .
وَاقْعُدُوا لَهُ بِطَرِيقِ الْحَجِّ، فَقُولُوا : طَرِيقُهُ مَخُوفَةٌ مُشِقَّةٌ، يَتَعَرَّضُ سَالِكُهَا لِتَلَفِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَهَكَذَا فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى سَائِرِ طُرُقٍ الْخَيْرِ بِالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَذِكْرِ صُعُوبَتِهَا وَآفَاتِهَا، ثُمَّ اقْعُدُوا لَهُمْ عَلَى طُرُقِ الْمَعَاصِي فَحَسِّنُوهَا فِي أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ، وَزَيِّنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلُوا أَكْثَرَ أَعْوَانِكِمْ عَلَى ذَلِكَ النِّسَاءَ، فَمِنْ أَبْوَابِهِنَّ فَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَنِعْمَ الْعَوْنُ هُنَّ لَكُمْ .
ثُمَّ الْزَمُوا ثَغْرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَامْنَعُوهَا أَنْ تَبْطِشَ بِمَا يَضُرُّكُمْ وَتَمْشِي فِيهِ .
*               وهو قبالة الملك: أي وجهاً لوجه أمام الملك.
*               امنعوه من هذا كله : أي (من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع).
*               أخ من أخوانكم : أي أخ من أخوان الشياطين الذين يتكلم بالباطل.
*               يقول كلام عجيب في التفاعل لهذه المسألة : "وأوصيكم بوصية فاحفظوها : لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة" ينطق : أي يجري هذا الشيطان على لسان الإنسان كلمة باطل.
*               "و يكون الآخر على لسان السامع" : يعني الاثنين الآن يجلسون مع بعض و كل واحد لديه شيطان, فالشيطان الأول عند الناطق, و الشيطان الثاني عند السامع.
*               ماذا يفعل؟ "فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها" أي الأول يقول الباطل , فيتعجب الثاني منه و يُسعد به.
*               "ويطلب من أخيه إعادتها": يأتيك مثلاً الضحك بالاستهزاء بالدين أو بأهله أو ببعض شعائره, وتستغرب أنهم يضحكون هذا الضحك, فيكون المتكلم معه شيطانه والسامعين معهم شياطينهم.
*               "و ادخلوا عليهم من كل باب و اقعدوا لهم كل مرصد": هذا من أخطر ما نواجه, أنَّ متى اشتهى الإنسان أن يتكلم تكلم دون أن يُفكر فيما يتكلمه.
*               "واجعلوا أكثر أعوانكم على النساء": المقصود أن النساء لهم أثر عظيم على رجالهم في التحسين والتقبيح و إن كانوا لا يشعروا بذلك.
على كل حال أول معونة بدأت من أول نقاشه كانت النفس الأمارة بالسوء, هذه النفس أعظم عدو, ماذا يفعل الشيطان؟ يركبها ثم يحارب القلب بها, فكأنَّ القلب الذي هو ملك الأعضاء, ماذا يحصل له؟ تأتي النفس الأمارة بالسوء وتعزله عن أن يحكُم بما فيه من صفاء وإيمان, وتنطلق هي في الجوارح.  والشيطان يصب لها وهي تسير. و هناك الغفلة والشهوات التي تُزيَّن, فهذه كلها أمور يُصبح القلب بسببها مريض و لا يستطيع الحركة ويموت, وتصبح النفس الأمارة بالسوء هي المسيطرة.

فانظروا إلى قلب مثل هذا القلب المريض! و أتاه الغضب مثلاً – الغضب هذا أحد الشهوات- وينطفيء بالماء والصلاة والذكر والتكبير، فلما يكون القلب مريض و يأتي النفس الغضب, لا يستطيع القلب أن يُرشد الجوارح فتقوم فتستعيذ و تكبر و تتوضأ.
~ و الحقيقة : كفى بالمرء جهلاً أن يكون مع عدوه على نفسه ~
 من هذا النقاش و هذا النقل الذي انتفعنا به من كتاب الداء و الدواء لابن القيم, تبيّن لنا أن هذه المعركة فيها جنود و هؤلاء الجنود يمكن أن يكونوا منقلبين على الإنسان, فبدلاً من  أن يكون السمع و البصر و اليد و القدم من الجنود التي تزيد القلب قوة بما يحصّله الإنسان من أسباب زيادة الإيمان, بسبب لسانه الذي يقرأ القرآن و أذنه التي تعيه و قلبه الذي يتفكَّر فيه و يده التي تُنفذ ما أمر به في القرآن و قدمه التي تسعى في طاعة الرحمن, بدلاً من أن تكون هذه الثغرات للقلب أصبحت عليه ومع الشيطان! والشيطان قد ركب المركب الخطير و هي نفسه الأمارة بالسوء.
فالحل الآن من أجل أن نعرف كيف نعالج قلبنا من أن يكون ضعيف, و أن يُعزل عن حكمه على الجوارح, وتستولي النفس الأمارة بالسوء على نفوسنا فلا نجد إلا الهوى الذي يُعمي و يصم, هذا يجعلنا نبحث في الهوى الذي وصفه الله في كتابه بوصوفات عدَّة كلها تدور حول الذَّم, وأخبر في سورة النازعات عن هذا المستقيم الذي نهى النفس عن الهوى, فكأن الآن العدو تمثل لنا في النفس, أي الشيطان ركب مركب النفس, فهذا العدو الذي تمثَّل في النفس استطاع أن يُسيطر على النفس من جهة الهوى.
فالتفكير الآن في الهوى الخطير, لابد أن نناقشه و نرى أثره في هذه المعركة من أجل إصلاح هذا القلب, لأنه لما تأتي لحظة الاعتصار بين الخير و الشر في نفوسنا و لا نجد نفسنا قوية على رد الشر, تأتي لحظة الشهوة ونستسلم, تأتي لحظة التي تأمرنا النفس الأمارة بالسوء أن ننظر إلى المحرم فننظر, هناك معركة و صوت ضعيف يقول لا تنظر و صوت أقوى يقول انظر و إنما هي نظرة و لن تخسر شيئاً, نريد أن نعرف الحل من أجل أن لا نخسر المعركة!!

نُعرّف الهوى و نرى كيف يحكمنا في المعركة هوى نفوسنا, و كيف نردّه بأمر الله.
ناقشنا في اللقاء الماضي إشارات عن الهوى, لكن نزيد بياناً أن نعرف كيف تضعف هذه الثغرات بسبب هوانا.
الهوى عبارة عن دافع داخل الإنسان يُحرِّكه إلى ما يُحب. وفيه غالباً ميل الطبع إلى أمور خُلقت في الإنسان لضرورة بقائه, فهذه الأمور أصلاً خُلقت لضرورة البقاء, هو عليه أن يستخدم من هذه الشهوات والهوى ما يبقى معه. لكن الزيادة تُفسده.
نرى مثلاً :
*               لولا ميل الإنسان إلى الطعام ما أكل , فلا يقوم بدنه.
*               و لولا ميله للشراب ما شرب.
*               و لولا النكاح ما استمر نسل الخلق.
*               و لو لم يكن عنده شيء من الغضب, ما دافع عن نفسه مما يؤذيه.
فإذن نحن نقصد بالهوى الذي يزيد فيُفسد, و لما تسمع ذم الهوى و الشهوات فهذا المقصود به كيد ماهو زيادة, لأنه لا يأتي في الذهن ما هو أساس!.  و لذلك لا يأتي أحد فيقول : لماذا ركب الله فينا الهوى مادام مطلوب منا أن نجاهد أنفسنا؟ نقول : أصل الهوى نافع لك, تأتي من ورائه مصلحة, لكن الزيادة و تجاوز الحد هو الذي يأتي بالفساد.
الإنسان إذا زاد و اتبع هواه, سيكون أثر ذلك أنه يُعمى ولا يرى الحق, يتحول فيرى القبيح حسن و الحسن قبيح, و يتأذى من كل حُسن و يقبل كل قبيح, يلتبس عليه الحق بالباطل فلا يتذكر و لا يتفكر و لا يتعظ إنما يأتي الهوى فيُضعف نور الإيمان في القلب.

يقول ابن الجوزي : اعلم أن مُطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة, و يحث على نيل الشهوات عاجلاً و إن كانت سبباً للآلام و الأذى في العاجل و منع لذات في الآجل - و مع ذلك النفس تتبع هواها –
قال : فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذة تُعقب ألمًا, و شهوة تورث ندماً, و كفى بهذا القدر مدحاً للعقل و ذماً للهوى –  من لديه عقل لا يأخذ شهوة يلحقها ألم و تورث ندم –.
فلما يأتي أحد يقول : لو استسلمت لنفسك و مارست كبرك كان هذا سببا لذُلّك, والله عز وجل يجعلك في موقف لابد أن تُذل فيه بسبب ممارستك الكِبر في موقف من المواقف. و هذا يجعلك أول ما يطرأ على قلبك لحظة الكِبر أو استحسان النفس أو العُجب تطردها و تجاهدها, لأن هذه لحظة يجب أن يعقبها ندم. مشاعر النشوة التي تأتي عند الإنسان في أنَّ أحدا يراه و يرى عمله - يحصل فيها الرياء – هذه لذة لو فكر الإنسان فيها جيداً سيرى مصيبة عظيمة, فإن هذا العمل سيُحبط و لن يكون له أجر بل يُصبح وِزراً رغم أنه عمِل عمَل ظاهره أنه موافق للشريعة.  فإذن العاقل لا يُؤثر هواه, لا يؤثر اللذة الحاضرة على العاقبة التي تسبب له الندم.
و اسمع ماذا يقول : و بهذا القدر فُضِّل الآدمي على البهائم, أعني ملكة الإرادة , لأن البهائم واقفة مع طباعها, لا نَظر لها إلى عاقبة ولا فِكر في مآل, فهي تتناول ما يدعوها إليه الطبع من الغذاء إذا حضر, و تفعل ما تحتاج إليه من الروث و البول أي وقت اتفق, و الآدمي يمتنع عن ذلك بقهر عقله لطبعه, و إذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل, فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة, و يأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كفِّ الهوى إلى أن يتيقن سلامة الشر في العاقبة.
و ياتي الآن كلام مهم جداً من كلامه – أرجو أن تكونوا في غاية التركيز –
يقول : و ينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى, المأمون العواقب ليستمر بذلك على ترك ما تؤذي غايته. و ليعلم العاقل أن مُدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذُّونها و هم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري, و لهذا ترى مدمن الخمر و الجماع لا يلتذ بذلك عشر التلذذ ممن لم يدمن , غير أن العادة تقتضيه ذلك. فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوّده!

كلام عجيب إنما صدر من فهم دقيق للشريعة و لواقع الناس.
*               "وينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب" يعني فيه هوى أنت تستسلم له و تفعله و هو مأمون العواقب , يعني ما تشعر أنه يأتي بمهالك, ما تشعر أنه سيصيب منك مقتل, مأمون العواقب, تأكل أكثر, تنام أكثر, فوقت ما تشتهي تقول أنا أشتهي أن أكل كذا, فهذا مأمون العواقب , ماهي مصيبة كبيرة.
*               "ليستمر بذلك على ترك ما تؤذي غايته" يعني يجب أن تُمرِّن نفسك أنه ليس كل ما أمرتك ائتمرت. مثلاً تفتح عينيك في الساعة التاسعة صباحا من يوم إجازة, فتقول لك نفسك (نم قليلا, خذ غفوة) فتطيع, و أنت ترى أنه ليس شهوة عظيمة التي فعلتها, فنقول أن هذا الشيء المأمون العواقب معناه أنك تعايش نفسك بأسلوب تأمر و أنت تقول سمعاً و طاعة! كل ما أمرتك قلت لها سمعاً و طاعة فأفسدتك ولابد.
*               ثم يبين حقيقة لابد من فهمها, فيقول:" و ليعلم العاقل أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها و مع ذلك لا يستطيعون تركها " مثل الإدمان, فأنت عندما تترك نفسك و لا تمسكها من البداية, ستجد نفسك قد أدمنت.
o                فالذي يدمن النظر للتلفاز, ممكن أن يأتي شيء ليس له قيمة لكنه يفتح عينيه و أذنيه لأنه أصبح مدمن لا يستطيع أن يقضي الوقت إلا بهذه الطريقة.
o                الذي أدمن أن يذهب للأسواق فحتى لو ليس لديه حاجة, أو حتى لو كان يشعر بالتعب من الدوران في الأسواق يشعر أن هذه حاجة لا يمكنه أـن يعيش إلا بها.
o                مثلا الناس الذين يمسكون جوالاتهم, و جوالاتهم فيها مصائب و فيها أشياء تحزنهم و أشياء تقهرهم من زميلاتهم , ليس لديها قدرة أن تغلق جهازها, أو تترك جهازها و تخرج من البيت, ليس عندها قدرة أن تحذف أي برنامج تواصل يؤذيها, تشعر بأنها رهينة لا تستطيع.  و هذا من سيطرة الهوى, حتى أن الإنسان يصبح يرى هذه الأشياء من العيش الاضطراري لا يستطيع أن يعيش من دونه.
o                مدمنة على أن تكلم زميلاتها أو زيارة جاراتها, تكون مثل الآلة تتصرف, تذهب لهم يؤذوها و تؤذيهم, يملوا منها و تمل منهم ثم يأتي اليوم الثاني تفعل نفس الفعل كالمدمن!! و الإنسان بذلك يلقي نفسه في المهالك.
*               يقول : "ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته لرأى انه قد شقي من حيث قدّر السعادة و اغتم من حيث ظن الفرح, و ألِم من حيث أراد اللذة, فهو كالحيوان المخدوع بحب الفخ لا هو نال ما خُدع به و لا أطاق التخلص مما وقع فيه" و لذلك إما تختار أن تكون مع الهدى الذي من الله, أو مع الهوى الذي ابتلي به الخلق. والله يقول : {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ}[2] لا تتبع الهوى فأكيد أن النتيجة هي الضلال عن سبيل الله. و لهذا قال علي رضي الله عنه :" ألا إنَّ الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد, فإذا انقطع الرأس بان الجسد, ثم رفع صوته و قال : ألا لا إيمان لمن لا صبر له".
ما العلاقة ؟! لأن الذي ليس له صبر ما يطيق أن يتوقف عن عاداته و شهواته, ما يطيق أن يؤدب نفسه ويُسكِّتها. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَ‌بِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}[3], فاتباع الهوى مما يضر بعبادة الله.
و إن شاءالله يكون نقاشنا غدا حول أثر الهوى على القلب و كيف يفسده.

~ نسأل الله أن يُسلِّم قلوبنا من الهوى و من كل مرض ~





[1] آل عمران 200
[2] سورة ص 26
[3] سورة النازعات 40

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.