الأحد، 22 نوفمبر 2015

أمراض القلوب - اللقاء الرابع

الحمدلله رب االعالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى ونشكره, ونسأله المزيد من فضله, وهو الذي وَعد الشاكرين بالمزيد, فاللهم زِدنا إيماناً وتوفيقاً وإحساناً, واصرف عنّا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, فإنَ هوانا كثيراً ما يغلبنا فيكون سبباً لهلاكنا.

و لهذا أمراض القلوب -التي هي موضوعنا- داؤها الرئيس الهوى. فإن الهوى من أعظم الشرور التي تتمكّن في النفوس والتي نستعيذ بالله منها, فنحن نقول: نعوذ بك من شرور أنفسنا, وأعظم الشرور الهوى . لماذا؟ لأن أضرار الهوى عظيمة لو تمكن الهوى من القلب.  
الهوى يهوي بصاحبه في لُجج الفتن, فلا يرى حقاً إلا ما وافق هواه, ولا يرى باطلاً إلا ما يُنكره هواه!  وهذا مُستفاد من حديث حذيفة الذي قال فيه: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ: ((تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواه))[1].
فهذا دليل على أن غلبة الهوى تجعل الأمور تتقلب على صاحبها, فلما يسودّ القلب ويستحكم الهوى يصبح لا شيء يضبط الإنسان إلا هواه، فلا يعرف معروف ولا ينكر منكر إلا ما أشرب من هواه!
ولذلك نكرر دائماً: الهوى يُعمي ويُصمّ, فالناس لما يصيبهم الهوى لا يرون ولا يسمعون! بمعنى أنّ الهوى يطمس نور القلب ويعمي بصره, والله يقول: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[2] فإذا نظر العبد إلى من يجتمع معه ويقتدي به أو يعامله, سيكون تقييمه للناس من حوله على حسب متابعتهم لهواهم, يعني هل الحاكم عليهم الهوى؟ أم الحاكم لهم الوحي؟ فإذا كان الحاكم هو الهوى لابد أن يكون أمره فُرطاً, أي لابد أن يكون أمره تضييع! بمعنى : أن رُشد هذا الإنسان وفلاحه ضائع قد فرّط فيه. هذا الإنسان مُسرِف, هذا الإنسان هالِك.
فأنت الآن لما تُقيِّم نفسك أو تُقيِّم من حولك فانظر:
-       إن وجدت نفسك أو من حولك يحكمهم هواهم, ولاتجد نصوصاً أو آيات, ولا تجد تقوى وخوف من الله فاحكم على ذلك الشأن بأنه إلى تضييع.
-       وإذا وجدت القوم ممن غلب عليهم ذكر الله واتباع السنة وليس صاحب انفراط في هواه بل هو حازم في أمره فهذا بإذن الله ممن يساعدك على حفظ دينك.

وقد تكرر التحذير من هؤلاء فكما أن في سورة الكهف : {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فمثله في طه، فالله عزَّ وجلَّ ذكر هؤلاء الغافلين وخاصة فيما يتصل باليوم الآخر. فنبه النبي موسى صلى الله عليه وسلم كما في طه على قرب الساعة، ثم نهاه: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[3], ومعنى أن يصدّه عن الساعة: أي يشغله عنها، فلا يصدنك عنها من اتبع هواه؛ فالآخرة وشأنها عظيم, وهناك قوم غفلت قلوبهم عن الآخرة, والغفلة تكررت في كتاب الله وتجد ذكر هذه الغفلة مع القوم الفاسقين ومع الصُّحبة التي يُخاف منها.

فمن أمثلة القوم الفاسقين :
ماضرب الله عز وجل مثل في سورة الأعراف : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُ‌كْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُ‌ونَ}[4] إذن هؤلاء قوم فاسقين, كانوا في الطريق المستقيم ثم بسبب اتباع الهوى ضَلُّوا.
فالناس الآن:
1.    إما أصحاب يُضلوك بسبب متابعتهم للهوى.
2.    و إما علماء أعطاهم الله الآيات أيضًا يضلوك بسبب متابعتهم للهوى.
فهذا المثل المضروب في سورة الأعراف, مَثَل عالِم السوء الذي يعمل بخلاف علمه, فهو علِم ثم فارق الإيمان ثم الشيطان أدركه ولحقه. وترى أنه غوى بعد الرشد, وأنه بسبب هواه لم يرفعه الله بالعلم, ثم أخبر سبحانه عن خِسّته وخِسّة همته, وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى، وهذا لم يكن مجرد خاطر أو حديث نفس هذا كان أمر ثابت في نفسه, أخلد إلى الأرض مال إليها.
والخطر كل الخطر في أن يجعل الإنسان إمامه الذي يقتدي به هو هواه (واتّبع هواه)
 فشُبه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات، وشُبه لهثه للدنيا كلهث هذا الكلب.
إذن أنت في خطر عظيم من جهة الهوى, نفسك فيها هوى وقد يكون لك صحبة أيضاً أصحاب هوى, وربما يكتمل عليك الأمر فتلقى من العلماء من هم أصحاب هوى!.

فهذا أمر خطير يسبب في نهاية الأمر إلى سُوء الخاتمة وانسلاخ الدين؛ لأن هذا صاحب الهوى إذا سئل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهو طوال حياته تابع هواه, أكيد سيكون ممن يقول: هاه هاه لا أدري, فيقال له: لا دريت ولا تليت! لا دريت عن الحقّ ولا تليت عن العلم، وهذا من المؤكد سببه الهوى أي لا يدري ولا يتلو بسبب الهوى.
فالهوى يعمي الإنسان ويصمّه, والهوى يقلب على الإنسان الحقائق, والهوى يشغل القلب فلا يستطيع أن يتعلّم.
فهذا القلب مصيبته الكبيرة هواه, لكن لماذا يتمكن الهوى؟ واضح في الأعراف: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} إذن أعظم أسباب تمكن الهوى في القلب هو التعلّق بالدنيا, فمن اغترَّ بالدنيا وبذل كل جهوده في العمل لها، غفل عن الآخرة، ونال من الذلّ والخسارة ما يستحقّه، ولذلك: {وَرَ‌ضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}[5].
وهذه الدنيا دائماً يتنازعنا فيها أمرين :
1.    شعورنا أنه لابد أن يكون هناك شؤون أقوم بها في الدنيا, فكيف أريد أن أزهد فيها وأتحول عنها, وأنا لابد أن أكل و أشرب وأنام وأعايش الحياة؟!.
2.    وما معنى أن أخرج الدنيا من نفسي لكي لا يستولي علي هوايا؟ الدنيا مطية الدنيا, فالسبب الذي يجعل الهوى يتمكّن من الإنسان هو حبّه وتعلّقه في الدنيا.
التوازن في هذا الأمر ورد في حديث النبي صلى الله عليه و سلم, في صحيح البخاري, في كتاب الرقاق:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: ((إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ)) ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُخْرَى فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ –أي كيف تُسمى بركات الأرض وهي شر يخاف النبي صلى الله عليه وسلم منه علينا؟- فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: -يعني الصحابة- يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِمِ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ - ثَلاَثًا - إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ –ثم ضرب مثلاً ليقرب علاقتنا بالدنيا العلاقة الصحيحة- وَإِنَّهُ كُلُّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ -الربيع: جدول الماء الصغير-  مَا يَقْتُلُ حَبَطًا ، أَوْ يُلِمُّ –يعني هذا الجدول ينمو حوله زرع, تأتي الماشية تأكل منه, فالذي ينبته الربيع تقتلها الماشية حبطاً: أي يقتلها تُخمة. أو يلمّ: أي يقترب من أن يقتلها إلا آكلة الخضر، الخضر : نوع من أنواع البقول, والخضر ليس من الجيد من البقول, إنما قريب أن يكون رديء- كُلَّمَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهْوَ كَالآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[6].

مرة أخرى :
الرجل يسأل عن ماذا؟ سمع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ((إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ)) وهذا معناه : يُفتح من عند الله من بركات الأرض. فكان سؤال الرجل: كيف تكون بركات للأرض ثم يخاف النبي صلى الله عليه و سلم منها؟
فجاءه الجواب: أولاً في التقرير: إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ. ثم أخبر صلى الله عليه و سلم أنه كلما أنبت الربيع –الجدول الصغير– يُنبت حوله نباتاً. هذا الجدول الصغير يُنبت كلما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم.
الحبط: التخمة, انتفاخ البطن من كثرة الأكل.  متى يحصل للدابة أن تموت حبطاً؟ عندما تصيب مرعى طيب فتأكل كثيراً حتى تنتفخ فتموت!. فإذا وجدت ما أنبت الربيع ماذا تفعل؟ تأكل حتى تموت أو تقترب من أن تموت.  بعد ذلك أتى الإستثناء: " إلا آكلة الخضر" و هذا ضرب من الكلأ ليس من أحسنه. 
ماذا تفعل آكلة الخضر؟ ((أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ)), ثلطت وبالت إشارة إلى أنها قامت بعملية الإخراج، معنى ذلك أنها لم تصل إلى حد التخمة, إنما أكلت وإذا امتلأت خاصرتها استقبلت الشمس؛ فالشمس تساعدها على عملية الإخراج, تُخرج الوسخ "ثُمَّ رَتَعَتْ" أي ثم تعود فتأكل.
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ)) لماذا؟ ماذا يفعل؟ ((لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ )) ووضعه في حقه فنعم المعونة هو, و من أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل و لا يشبع!.

هذا الحديث فيه مثلين:
1.     مثل للمُفْرِط في جمع الدنيا.
2.    و مثل للمُقتصد في أخذها.
فلما قال النبي صلى الله عليه و سلم : ((وَإِنَّهُ كُلُّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا ، أَوْ يُلِمُّ)) فهذا مَثَل للمُفرِط في أخذ الدنيا, و أن الربيع هذا يُنبت بقولاً مستحسنة, فتأتي الدابة تستكثر منها, ثم تنتفخ بطنها ولا تستطيع أن تحتمل فتنشق أمعاؤها فتموت؛ وهذا مثل الذي يجمع الدنيا من أي باب, فيكون في قلبه الطمع ويقع منه الحسد ويقع منه الكِبْر على من ليس عنده, وتجتمع في نفسه بسبب الدنيا مجموعة أمراض إلى أن ينفجر قلبه فيموت!.

آكلة الخضر : هذا مثال للمقتصد, تأخذ الدابة هذا الخضر, - و لما تقرئي في الشروح تجدين أنهم يقولون: أن هذا الخضر من أحرار البقول, و منهم من يقول: أنه ليس من خيرها – المقصود أن هذا نوع من أنواع البقول. ماذا تفعل الماشية؟ تأكل منه, لكنها لا تصِل إلى حد أن تمتليء به فمن ثَمّ ستنجو مادام لم تصل إلى حد أن تنشق أمعاءها, فهي ماذا تفعل؟ تأكل إذا امتلأت خاصرتها استقبلت الشمس فثلطت وبالت, يعني إذا شبعت تبرُك مستقبلة الشمس لكي تأتيها الحرارة فتقوم بعملية الإخراج. هذا مثل الإنسان, مُقتصد لا يصل إلى حد أن يملأ يده وقلبه من الدنيا, إنما تأتيه يُنفقها ويصرفها فيما ينبغي ثم يُرزق فيستحسن الرزق ويأخذ منه وينفق وهكذا.
فالمقصود أن الإنسان إذا دخل في قلبه آفة الدنيا حتى لو كان من أهل العلم والفضل, حتى لو كان من أهل الاستقامة سيكون أثر الدنيا عليهم عظيم. فأهل الاستقامة تدخل الدنيا عليهم بحب التريّس وحب المكانة, يحب الثناء و المدح, يريد أن يجلس في كل مجلس والناس يشيرون إليه.
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "كنت أجلس يوم الجمعة في مسجد جامع فيجلس إليّ الناس, فإذا كانوا كثير فرحت و إذا قلُّوا حزنت, فسألت بشر ابن منصور – صاحب المسند- فقال: هذا مجلس سوء لا تعُد إليه – لأنه يعتني بعدد الناس الموجودين- قال : فما عدت إليه!".
~ فالمقصود أن الدنيا تتزين لكل أحد, فقليل من يشعر برحلة السفر ~
وقد قيل للشافعي: مالَك تُدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ فقال: "لأذكر أني مسافر" –يقصد في الدنيا-.
ومن أقواله: "من غَلَبته شِدَّة الشهوة للدنيا لزِمته العبودية لأهلها, ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع!".
ومعنى ذلك : إذا طمعت في الدنيا يجب أن تلزم عبودية أهلها فيفسد قلبك, و يتعطل سَيرك إلى ربك. لكن إذا كان الإنسان قنِع و ما يشتدّ طلبه للشهوات، فهذا يُرجى أن يكون للسلامة أقرب, ويُرجى أن يكون أهل الدنيا عليه أخف, ولا يستولي الشيطان على الإنسان إلا إذا عرف شهوته و هواه.  و لهذا قبل أن يكتشف الشيطان شهوتك وهواك عليك أن تعرفها أنت, و قبل أن يستغل الشيطان عثراتك عليك أن تلاحظها أنت, و إذا كانت نفسك تحتال فأنت عليك أن تكون شديد التنبُّه, فلذلك نعود مرة أخرى لتقرير ماذكرناه أمس:
أن النفس التي لها هوى, الشيطان يفحص هوى النفس ويختبره ثم يركبه ويستمر فيه, فلذلك علينا أن نلاحظ أنفسنا من جهة، وعلينا أن نعرف عداوة الشيطان من جهة.
فلما سمعنا وصف الشيطان أنه وسواس خنّاس، فهمنا أنه يخنس بمعنى يتستر ويختفي, وفهمنا أنه يظهر؛ لأن الخَنس من الظهور والاختفاء, فمتى ذُكر الله خَنس ومتى غُفل عنه عاد.
وعرفنا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. معناه : أنّ له من الدخول على النفس سُبل  فملاحظة هذه السُّبل من لوازم نجاة العبد من الهوى.
فمثلاً:
*      لما نسمع حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ))[7] خيشومه: فتحتي الأنف؛ هذا مكان الشيطان.  يأتي عند الخيشوم ويبات.
*      و لما تسمعي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ يحبُّ العُطاسَ ويكرهُ التثاؤبَ ، فإذا عطس أحدُكم وحمِدَ اللهَ ، كان حقًّا على كلِّ مسلمٍ سمِعه أنْ يقولَ له : يرحمُك اللهُ ، وأمَّا التثاؤبُ : فإنَّما هوَ مِن الشيطانِ ، فإذا تثاءَب أحدُكم فليرُدَّه ما استطاع ، فإنَّ أحدَكم إذا تثاءَب ضَحِك منه الشيطانُ))[8].
هذا كله أدلة على أن الشيطان قريب من ثغراتنا ( الأنف, الفم)
*      أيضاً كما مر معنا (مجرى الدم): ((إنَّ الشيطانَ يَجري منَ ابنِ آدَمَ مَجرى الدمِ))[9]
*      أيضا في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما في البخاري: ((كلُّ بني آدمَ يطعنُ الشيطانَ في جنبيهِ بإصبعِه حين يولدُ، غير عيسى ابنِ مريمَ، ذهب يطعن فطُعن في الحجابِ))[10] يعني حتى في حال الولادة , من حال الولادة وهو يؤذينا!.
*      والناس يدخلون إلى بيوتهم فيتربصهم، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما في صحيح البخاري ومسلم: ((إذا كانَ جُنحُ اللَّيلِ أو أمسَيتُم فكفُّوا صِبيانَكم فإنَّ الشَّياطينَ تنتشِرُ حينئذٍ فإذا ذهبَ ساعةٌ منَ اللَّيلِ فخلُّوهم فأغلقوا الأبوابَ واذكروا اسمَ اللَّهِ فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتَحُ بابًا مغلقًا))[11].
*      وأيضا الحديث المشهور الذي عند مسلم : ((إذا دخل الرجلُ بيتَه ، فذكر اللهَ عند دخولِه وعند طعامِه، قال الشيطانُ : لا مَبيتَ لكم ولا عشاءَ،  وإذا دخل فلم يذكر اللهَ عند دخولِه ، قال الشيطانُ: أدركتُم المَبيتَ . وإذا لم يذكر اللهَ عند طعامِه، قال : أدركتُم المَبيتَ والعَشاءَ))[12].
*      وأيضا عند نومه, قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة))[13].
*      أيضًا في حال النوم يأتي الشيطان فيتلاعب ببني آدم بالرؤى, وأخطر من ذلك ان يأتي الشيطان إلى الصلاة فيأمره بالالتفات, و النبي صلى الله عليه و سلم يقول عن الالتفات: ((هو اختلاسٌ ، يَخْتَلِسُهُ الشيطانُ من صلاةِ العبدِ))[14].
*      أيضاً من أفعال الشيطان إلقاء الهواجيس والتفكير الذي يُفسد على العبد عقيدته.
*      إلقاء الغضب.
*      حتى الإيذاء البدني كما في الحديث عند الترمذي أن حمنة بنت جحش رضي الله عنها قالت: "كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة, فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم أستفتيه و أخبره, فقال : ((إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان))[15] ركضة : أي ضربة تسبب الأذى.

فهذا كله من أفعاله التي علينا أن نشعر منها بعداوته.  وهذه العداوة يستخدم فيها ثغراتنا, يستخدم فيها حبنا لنفسنا, يستخدم فيها هوانا, فالأمر جدّ خطير, عدوّ متربّص، ونفس مستسلمة، وقلب مريض, فتصبح النتيجة لابد أن تكون الهلاك!.
المفروض نشرع في مناقشة حال الشيطان وشروره وكيف أن كل معصية وبلاء إنما هي من الشيطان. نفعل هذا الفعل من أجل أن نعبد الله بعبادة الاستعاذة, فأنت الآن تأكل يسرق من طعامك , تشرب يشرب من شرابك , تُعاشِر (يعاشر الرجل زوجته) يأخذ حظّه من الإيذاء, يبيت في بيت الرجل, يأكل طعام الإنس بغير إذنهم, يطلّع على عوراتهم, يأمرهم بالمعصية, إلى أن تسمع كلاماً عجيبًا سأنقله لكم من كلام ابن القيم في وصف الشيطان على الإنسان , في كتاب بدائع الفوائد :

"فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظةً ومنامًا إنه فعل كذا وكذا، ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم, فأوقعه في الذنب ثم فضحه به، فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقلّ من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة!".
يعني أن العبد يفعل معصية ثم الشيطان يُلقي في قلوب الناس أن هذا العبد فعل المعصية.
خطر عظيم! عدو خطير! عدم تنبّهنا له يجعله يصطادنا في كل طريق ونهلك بسببه، فمن المعلوم ما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان يترصّدنا فيه, أيّ طريق من طرق الخير يعيقه علينا ويشوشنا بالمعارضات و القواطع. 
إذا اكتفينا شرّ المعارضات والقواطع الخارجية تجد نفسك فجأة من داخلك لديك عوارض و قواطع!، وهذا طبعاً تحقيقه للقسم أنه يأتي لبني آدم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.


موقفه من الأنبياء:
*      ويكفينا أن نفكر في الحيلة التي احتالها على آدم عليه السلام وأخرجه من الجنة!
*      تصدى لإبراهيم عليه السلام حتى رماه إبراهيم عليه السلام.
*      تصدى لعيسى حتى أراد اليهود أن يقتلوه.
*      تصدى لزكريا و يحيى صلى الله عليهم و سلم جميعاً حتى قُتلا.
*      تصدى للنبي محمد صلى الله عليه و سلم و ظاهر الكفار على قتله.
هذا كله من الأدلة الظاهرة على الخطر المحيط بنا.

له طرق في إيقاع الشر:
*      {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}[16].
*      {اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِ‌جُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‌ وَالَّذِينَ كَفَرُ‌وا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِ‌جُونَهُم مِّنَ النُّورِ‌ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[17].
*       {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُ‌ورً‌ا}[18].
على كل حال المقصود أن ملاحظة عداوته طريق لِصدّ شرِه عنا, ولكي نمنعه من نفوسنا فلا يركبها و يثير على نفوسنا الهوى, ولكي لا يكون الشيطان هو محرك الأمراض التي في القلوب, فإن الحسد من آثار الشيطان, والكبر من نفخه, والعجب من طريقه وسيره.  فما من مرض في القلب إلا وهو في الشيطان, و طريق المرض هو ركوب الشيطان النفس الأمارة بالسوء حتى تسيطر على القلب. فتجد القلب مريض بعدة أمراض و كلها خطط شيطانية.
~ هذه المعرفة تساعدنا على القيام بعبادة الاستعاذة ~

على كل حال إذا تيسر لنا إن شاءالله يوم السبت نبدأ بالكلام حول أبواب الشيطان إلى القلب, وهي كثيرة, أذكر أطرافها الآن ثم في اجتماعنا القادم أتحدث عنها:

         أبواب الشيطان إلى القلب:
         الحرص والحسد
         الشبع
         الطمع في الناس
         الطمع في الأموال
         البخل
         التعصّب بأنواعه
         سوء الظن بالمسلمين
         حسن الظن بالنفس


نسأل الله عزّ وجلّ بمنّه وكرمه أن ينشر على بلاد المسلمين الأمن والأمان, ونسأله سبحانه وتعالى أن يردّ ضالهم, ويشرح صدور المسلمين للحق.




[1] صحيح مسلم - كِتَاب الْإِيمَانِ - باب بَيَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا وَأَنَّهُ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ - 144
[2]  الكهف 28
[3] طه 16
[4] الأعراف 175-176
[5]  يونس 7
[6]  "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد و السير – باب فضل النفقة في سبيل الله) ووردت رواية أخرى في (كتاب الرقاق – باب مايحذر من زهرة الدنيا و التنافس فيها)
[7] صحيح البخاري- كتاب بدء الخلق- باب صفة إبليس و جنوده - 3295
[8]  صحيح البخاري – كتاب الأدب – باب إذا تثاءب فليضع يده على فيه - 6226
[9]  صحيح البخاري- كتاب الأحكام – باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء,أو قبل ذلك للخصم - 7171
[10]  صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس و جنوده - 3286
[11]  صحيح البخاري – كتاب الأشربة – باب تغطية الإناء - 5623
[12]  صحيح مسلم 2018
[13] صحيح البخاري – كتاب التهجد– باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يُصلِّ بالليل - 1142
[14]  صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب الالتفات في الصلاة- 751
[15] السنن الكبرى للبيهقي
[16]  البقرة 268
[17]  البقرة 257
[18] النساء 120

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.