الأحد، 22 نوفمبر 2015

أمراض القلوب - اللقاء الثاني

الحمدُ لله ربِّ العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
هذا هو لقاؤنا الثاني ونحن نتدارس هذا الموضوع المهم, موضوع أمراض القلوب, وقد مرّ علينا في اللقاء الماضي أحوال القُلوب و كيف أنّ هناك:
1.     قلب صحيح ألا و هو القلب السليم.
2.    القلب الميت.
3.    القلب المريض الذي فيه حياة و فيه عِلّة.

و نبتدئ لقاءنا هذا بإكمال طرق علاج القلب:
الطريقة الأولى هي:
 أن الواجب علينا تجاه قلوبنا أن نعتني بإصلاحها.
الخطوة الأولى الأساسية في الإصلاح:
الاستعانة بالله على صلاح القلب
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُكثر من قول : يا مُقَلِّب القُلوب ثَبِّت قلبي على دينك, وفي الحديث الذي فيه هذا الدعاء, عن أنسٍ قال: كان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وسَلَّم يُكثرُ أنْ يقول: ((يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قَلبي على دينِكَ)) فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بكَ وبما جئتَ بهِ فهلْ تخافُ علينا؟ قال: ((نعمْ إنَّ القُلوبَ بينَ أصبُعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبها كيفَ شاءَ))[1].
وهذا معناه أنّ العبد عليه أن يخاف من نفسه, و يعتمد على ربه، و مما يساعدنا على الاستعانة كما مرّ معنا أن ننظُر إلى هدي الأنبياء و الصاحين, فيتبيّن لنا كيف كان ذُلّهم وانكسارهم! وكيف عاملهم الله واستجاب لهم، فكُلّما تَعظُم الاستعانة يقترب السَّداد.
وقد مرَّ معنا قول سهل بن عبدالله التستري: "ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الإفتقار"؛ بمعنى أن الفقر أقرب طريق يوصل العبد إلى الله, والفقر هو أساس الاستعانة؛ لأن المُستَعين لا يَستعِين إلا إذا شَعَر بفقْره.


الخطوة الثانية من خطوات إصلاح القلب:
مراعاة القلب حال مرضه
مما يُصلح القلب, أن تُراعي قلبك وقت المَرض, لأنّه من المعلوم أن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصّحيح, فالمريض يضرّه يَسيرُ الحَرّ و يَسيرُ البرد و يَسيرُ العمل؛ لأنّ المريض لا يقوى على هذا فبسبب مرضه يصبح ضعيفاً, بمعنى أن المرض بالجُملة يُضعف المريض ويجعل قوته ضعيفاً, فلا يطيق بدنه ما يطيقه القوي, ومِن المعلوم أن الصّحة تُحفظ بأخذ الأسباب التي تُقوِّي فيه المناعة وتمنع من حلول المرض، إذا حَصَل المرض للمريض سيزيد ضَعف قُوّته وربما يهلكه.
الحل أننا وقت ما نكتشف أنّ قلوبنا مريضة بأيّ مرض من أمراض القلوب، بعدما تُشخِّص المرض مثلاً مريض (فيه رياء, فيه كبر, فيه عجب, فيه حسد, فيه علو في الأرض, فيه حب للرياسة), لو شخّصنا واكتشفنا أن القلب مريض بهذا المرض, لابد أن نكون حريصين عليه, القلب المريض يقع مباشرة في المرض على حسب ضعفه, فمثلاً:
لو إنسان لديه حالة من الكِبْر (مريض بالكِبْر) فأي نجاح بسيط جداً أو أي ثناء عليه ولو كان من أحد ليس له قيمة, يجعله ينتفِخ وتَتَضاعَف عليه آفته ومرضه, والسبب أنه مريض، والمريض يؤذيه أقلّ الأشياء ليس مِثل الصحيح الذي ليس لديه هذا المرض، فعلينا أن نكون شديدي الحرص على اكتشاف أمراضنا وشديدي الحرص على إبعاد أنفسنا عن الأجواء التي تسبب لنا المرض.
ولو هذا رجل آفته النِّساء أو آفته هذه الشهوة فالمفروض أن يكون شديد الحرص على بصره وعلى خلطته وعلى كلامه من أجل أن لا يقع في هذه المصيبة العظيمة.
والحقيقة أن القلب كلما كان أبعد من الله، كانت الآفات عليه أسرع, وكلما اقترب من الله بعُدت عنه الآفات, فالغفلة تُبعد العبد عن الله, و هذا أول بُعد!. البُعد عن الله مراتب وبعضها أشَدُّ من بعض:

         فالغفلة
         تُبعد العبد عن الله.
         لكن المعصية
         أعظم من بُعد الغفلة.
         والبدعة
         أعظم من بُعد المعصية.
         والنِّفاق والشِّرك
         أعظم من ذلك كله.



معنى هذا: أنّ الإنسان بُعْده عن الله مراتب ويترتب عليه, وأمراضه أيضاً ستكون مراتب!.
مرّ معنا ماذا يعني أن القلب مريض؟ و ماذا يحصل لو كان مريض؟
دائماً تصوروا هذا المثل :
لو عين مريضة يتعذَّر عليها الإبصار، لو يد مريضة يتعذَّر عليها أعمال اليد من البطش والأخذ و المنع، لو أذن مريضة يتعذَّر عليها السَّماع.
ماذا لو القلب مريضاً؟ يتعذَّر عليه فِعل ما من أجله خُلق؛ يعني لو القلب هذا فيه غلّ وحِقد وحَسَد, وهذا القلب كثير الظُّنون, كثير التفكير في الناس وأحوالهم, كثير المقارنة, هذه كلها أمراض. وهذه الأمراض ماذا ستفعل به في قلبه؟ من المؤكد أنها ستمنعه مما خُلق لأجله!
من أجل ماذا خُلق القلب هذا؟ لأجل العِلم, لأجل المعرفة, لأجل حبّ الله, لأجل التلذُّذ بذِكر الله, لأجل إيثاره على كل الشَّهوة, فالقلب هذا خُلق للعِبادة، ومن مرض قلبه استخدم قلبه لغير العبادة!.

         مراعاة القلب حال مرضه فيه خطوتين:
         تشخيص المرض
         ملاحظة القلب

تلاحظه في المواقف وأنت على ذلك عليك أن تدْرس أمراض القلوب وتفاصيلها؛ لكي تتصور مقياس تقيس به قلبك, هل هو مُصاب بالكِبْر أو مُصاب بالحسد, هذا يحتاج له دراسة للنصوص.
المقصد أني أُراعي قلبي حال مرضه, أول شيء أشخّص مرضه، هل تشعر أنه بعيد منقطع؟! إذن هو مريض. ماذا أفعل؟! أُشَخِّص مرضه, بعد تشخيص مرضه, أُراعي القلب, بمعنى لا أُعرضه لأسباب تَلَفِه كما أنّي لا أُعَرِّض بدني لأسباب التلف. فكما أن مريض الزّكام يستخدم الحار و الدافيء من المشروبات ويبتعد عن المُثلَّج والبارد منها؛ والسبب أن لا يزداد مرضه, هذا فيما يتداوله الناس لأبدانهم و ربما يخالف أحد. لكن المقصود أنّ هذه الطريقة الطبيعية التي يعيشون عليها الناس؛ أنهم يحمون البَدَن من أسباب المرض، أنت الآن عندما شخّصت مرضك, بقي عليك أن تحميه من أسباب المرض، ولا تكذِب على نفسك و تقول أن هذا المدح الذي يمدحونني إياه ليس بشيء, أو أنا لا أشعر به, ويكون هذا المدح قد امتدَّ إلى فؤادك, ودخلت روافده في قلبك وأصبحت تُدمنه و تتطلّبه وتحزن إذا فَقَدْت هذا المدح! فأنت ماذا تفعل عندما تكون مريضاً بهذا المرض؟ لا تسمح أبداً بدخول المدح إلى حياتك, تُراعي قلبك لأن لا يفسد.
 أنت مُصاب بالرياء تبذل جهودك أن تحفظ قلبك و أعمالك من الرياء.
أحد مُصاب بفتنة النساء, يبعد تماماً في عمله وفي أي أمر له عن النساء.
أو مثلاً مفتونين بفتنة المُردَان, بمعنى الانحراف الجنسي, يبعد تماماً عن أي وضع أو أي تصرُّف يُثير فيه هذا الانحراف و هكذا.

الخطوة الثالثة :
تَتَبُّع الحالات التي يَنْشَط فيها هذا القلب المريض.
معناه : أن قلوبنا مثل أبداننا لمّا نُحافظ عليها ونحميها من الأمور التي تكون سبباً في إهلاكها تبدأ تدُبُّ فيها الحياة، لما تدُبُّ الحياة (كـأنها بدأت تعود إلى الصِّحة) ماذا نفعل؟ لا نُسارع في ترك قلوبنا ولا نَثِق أنّه تمّت صحّتها بل نكون في حال حرص واختبار لها, نختبرها هل هي حقاً استقامت أم لا؟! وأيضاً نكون حذرين مِن أن نشِذ و نحن نريد من نفوسنا أن تستقيم, نحذر أن نشذ شذوشاً يجعل نفوسنا لا تستقيم.
في أبسط مثال :
إنسان بخيل بذل جهوده في علاج نفسه، وَصَل أن يكون مُبذّر, نقول له: لا لم تسِر في الطريق الصحيح نحن نريد الأمر الوسط.
ومثلاً إنسان سريع التعلُّق بغير الله نقول له: التعلُّق بغير الله مرض, سواء بدفع منفعة أو بجر مفسدة أو التعلق بمعنى المحبة , المحبة التي تجر وراءها البلاءات, فهو الآن يصِل لحال خاطئة, يرفض أن يُكوِّن علاقة توصله إلى الدار الآخرة وإلى طريق الله، نقول له: التعلُّق بغير الله مرض من أشدِّ الأمراض على القلوب, تُشغِلها عمّا خُلقت له, فتجد هذا ساهـي غافل عاصي بعيد عن الله بسبب تعلّق قلبه بغير الله، لكن هذا لا يعني أنَّه ليس هناك حالة مستقيمة بل يُمكن أن يكوّن مع الناس علاقات دون أن يتعلَّق. لكن من هنا إلى هنا يجب أن يمرّ الإنسان بفترة صحة, بمعنى أنّ هذا مُصاب بالتعلّق وعالجَ نفسه؛ في فترة العلاج يجب أن لا يَسمَح لأحد أن يَدخُل حياته لأنه مازال مريضاً؛ فأقل كلام وأقل تصرّف يسبب له زيادة المرض, ولابد أن يردّد في أنَّ (من تعجَّل شيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه!) فهذا الذي تريده سواء كان مشاعر أو منافع تريد أن تصِل إليها, لا تتعجَّلها فتُحرمها, فيبقى يُكرر على نفسه إلى أن يتأدب!. إذا أصبح صحيحاً وأصبحت هذه الثغرة مع الدعاء والاستعانة والاستعاذة مسدودة, أو ذاق مرّ التَّعلُّقات, ورأى الناس الذين يتعلق بهم كيف يَقلِبون عليه وكيف يكشِفون ستره, فلما يرى هذا ويكاد قلبه يقترب من الشفاء, فلا يثق تماماً أن قلبه شفي
*    بل يختبره فإذا وجد أي علامة على أنه لازال متعلق يعود للعلاج.
*    أما إذا اعتدل وضعه وأصبح يرى نفسه استقامت، وهي تستقيم لما يُكثر من الدعاء ويسأل الله ويطلب الشفاء لقلبه فيستقيم الإنسان ولا ييأس من روح الله، من عاش هذه المعايشة والحمد لله ربنا شافاه, فنقول له: احذر أن تسلك مسلكاً شاذاً فتقطع علاقات ولا يصبح عندك علاقات خوفاً من التعلُّق.
المريض نقول له لا تصاحب أحداً, إذا أصبح صحيحاً نقول له لا بأس كوّن علاقات وهذه الأخوة تنفعك عن الله.

الخطوة الرابعة من علاج القلب:
الحرص على جنود القلب
فللّه سبحانه وتعالى في القلوب والأرواح جنود. وهذا القلب له جندان:
1.     جُند يُرى بالأبصار.
2.    جُند لا يُرى إلا بالبصائر.
 ولا تنسوا أن الجنود خَدَم وأعوان، الجنود الذين تشاهدهم بقلبك وهم أعوان للقلب (عينك, يدك, رجلك, أذنك, لسانك, سائر الأعضاء سواء الظاهرة أو الباطنة) هذه جميعها خادمة للقلب ومُسخَّرة له؛ فهو المتصرِّف فيها وقد خُلقت مجبولة على طاعته, لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً, فالقلب إذا أَمَر العين بالانفتاح انفتحت, وإذا أمر الرجل بالمشي مشت, وإذا أمر اللسان بالكلام تكلّمت, وهذا الكلام على سائر الأعضاء.
فسبحان الله كيف أنّ أعضاءنا وحواسنا مُسخَّرة لقلوبنا وتشهد علينا يوم القيامة! وهذا من تسخير الله عز وجل لنا الأشياء, يعني كل شيء حولك مُسخَّر حتى بدنك مسخر لقلبك!
القلب يفتقر إلى الجنود مثلما يفتقر المسافر إلى المركب والزَّاد, فلو تصورنا قوله تعالى : {وَعَلَى اللَّـهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}[2], سَيَتَبَيَّن لنا أننا في سفر, فالسَّفر إلى الله سبحانه تُقطع منازله للقلب, ولأجل السَّفر إلى الله خُلقت القلوب ومن أجل هذا السفر سُخِّرَت الأبدان للقلوب، ولهذا عندما تريد أن تُفهم أحد قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[3], معناها أنّ أبداننا خُلِقت لطاعة قلوبنا التي هي موطن العبادة، فالإنسان الآن مركَبُه البدن وزادُه العِلم, فإذا تعلَّم الإنسان امتلأ قلبه وعمل بدنه العمل الصالح، والدنيا -كما هو معروف- مزرعة الآخرة, وما سُمّيت دنيا إلا لأنها أدنى المنزلتين! فنحن نضطر أن نَتزوَّد منها من أجل أبداننا التي هي مركَبنا التي توصِلنا إلى الآخرة, فإذا أردنا أن نحافظ على أبداننا جلبنا إلى أبداننا ما يوافقها من الغِذاء, وأن ندفع عن أبداننا ما ينافيها من أسباب الهلاك.
انظري الأمر العجيب الآن: بدنك مُتعلِّق بقلبك, وبدنك مُجرَّد أداة وقلبك هو المحرِّك. بدنك ربنا خلقه على خِلقة معينة, فمن أجل أن يبقى مركبك سليم ولا يتلف؛ وضع ربنا شهوات في القلب من أجل أن نأتي بصلاح أبداننا, فمثلاً:
في القلوب شهوة التناسل ولو مافي هذه الشهوة مابقي النسل البشري.
في القلوب شهوة الطعام والشراب ولو ما كانت موجودة مابقي البدن.
فالله عز وجل خَلَق في القلب من الشهوات ما احتاج إليها، فلا تزيد في تغذية هذه الشهوات من أجل أن لا تهلك، يعني الشهوات الموجودة في القلب عليك أن تأخذها بالأسباب الصحيحة، فتأكل حلالاً وتشرب حلالاً وتفعل كل ما يوصلك إلى شهواتك عن طريق الحلال, ولا تُصبح الشهوة هي مقصودك, إنما الشهوة الموجودة هي التي تقوّم البدن (فقط تقوّمه). هذا بالنسبة للجند الظاهر.
نأتي إلى الجند الباطن الذي لا يُرى إلا بالبصائر, هذا هو ما في القلب من إدراك؛ لأن الجند الظاهر هم الأعضاء, أما الباطن فهم البواعِث والإرادات، باعث ومستحِثّ القلب, ماذا يفعل؟ إما يجلب النافع الموافق, وإما يدفع الضَّار, هذا جُند خفي في داخل الإنسان, وهذا الجند الخفي فيها لطائف من الله.

فمثلاً في شهر رمضان لما تٌفَتّح الجنان وتُغلق أبواب النيران يُنادي منادٍ يا باغي الخير أقبِل و يا باغي الشرّ أقصِر. فهذا المُنادي الذي يُنادِي, يحصُل النداء في القلوب, وهي البواعث المحرِّكة للقيام بالعمل, كما في حديث عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ((إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}))[4].
يعدكم هنا اللمة. أين دلالة الحديث على مانقول –على الجنود الباطنة-؟ الجنود الباطنة هي البواعِث التي تحثّ الإنسان وفيها من ألطاف الله مافيها, فالشيطان له لمة والمَلَك له لمَّة, ومعنى اللَّمَّة : اللَّمَّة كأنه صوت يسمعه الإنسان، فهذا الصوت يحرِّك مافي وجدانه من رغائب الخير إن كان من المَلَك, ومن رغائب الشَّر إن كان من الشيطان، فاللّمة هذه مِثل الإلهام إن كانت من المَلَك, ومثل وَسْوَسة القلب إن كانت من الشيطان، لذلك فالشيطان يُخوِّفكم "يعدكم الفقر" يعدكم أنه سيحصل ويحصل حتى يكون الإنسان عبدٌ له في مخاوفه!.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أَمَرنا بأمرٍ صريح, وعلينا أن نكون ملاحظين له, قال: ((فمن وجد من ذلك – لمة الملك- فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد من الآخر –وسوسة الشيطان– فليتعوذ من الشيطان)).
فهذا معناه أنّ هذه جنود لابد من ملاحظتها, أنت الآن عليك أن تكون شديد الملاحظة لثغراتك, لجنودك؛ فأما الجنود الذين تُبصرهم الذين هم سمعك وبصرك وبدنك ويدك هذه كلها جنود أنت تتحكم فيهم, وقلبك يتحكم فيهم، وأما الجنود الذين مرّ معنا أنهم لا يُرَون إلا بالبصائر فهي تلك البواعِث التي في القلب. فعلينا أن نُسَكِّن حواسنا, نسكنها بما يجعلها تُدرك الحقائق, نأمرها بصدقٍ من قلوبنا أن نغُضّ أبصارنا، أن نمنع آذاننا, وكل واحد على حسب مرضه, فكلما زادت عناية الإنسان بثغراته كلما كان هذا أولى في نجاحه و فلاحه.

الخطوة الخامسة :
ملاحظة المعركة التي لابد أن تنتصر فيها التقوى
وهذا معناه أنَّ هناك معركة, مبدؤها القلب والجنود تبع له، نحن نعرف جميعاً أن الله سبحانه وتعالى ابتلانا بعدو لا يفارقنا طرفة عين, لا ينام ولا يغفل, يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه, يبذل جهده في معاداتنا في كل حال، أي أمر يمكنه أن يكيدنا فيه يكيدنا، ويستعين بذلك ببني جنسنا أو بني جنسه (إما شياطين الجن أو الإنس) له حبائل وغوائل نصبها ونصب فخاخه وشباكه، هذا عدوك!.
يقابل ذلك أعطانا عسكر وجنود نردّ بهؤلاء العسكر على العدو, وقامت هنا سوق الجهاد, مُدَّة عمرنا, ومدة عمرنا لابد أن نتصور أننا لو أضفناها للآخرة كَنَفَس واحد من أنفاس الآخرة! فالقتال, هذه ساحة المعركة العظيمة التي هي قلبك دائمة, ولابد أن نعرف أن الله لا يمكن أن يسلط علينا هذا العدو إلا لأن يبقى سوق الجهاد قائم, والجهاد أحبّ شيء إلى الله, وأهل الجهاد أرفع الخلق عند الله وأقربهم إليه وسيلة.
فالآن عدو على عبده المؤمن والمؤمن أحب الخلق إلى الله, والمؤمن يقوم بأحبّ العبادات إلى الله (الجهاد) في القلب الذي هو خُلاصة مخلوقات الله، فالقلب هو محل معرفة الله ومحل محبة الله وعبودية الله والإخلاص له و التوكل عليه، فالله عز وجل ولَّى القلب أمر هذه المعركة، وأيّده بجنود لا يفارقونه, فهؤلاء الملائكة وهذا الوحي وهذا الرسول وهذه الآيات الكثيرة التي حوله وهذا اليقين الذي يكشف له حقائق الأمور حتى أن يقينه يوصله كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياؤه وحزبه الصالحين  {أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[5]  وعلّمنا الله سبحانه وتعالى كيفية هذه الحرب والجهاد, فجمعها لنا في أربع كلمات, كما ذكر ذلك ابن القيم, الأربع كلمات هي ختام آل عمران, بعدما ذكر أولي الألباب آخر آل عمران كان وصف كيفية هذه الحرب، فقال سبحانه تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُ‌وا وَصَابِرُ‌وا وَرَ‌ابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[6] فسبحان الله!
لماذا؟ أنت الآن لن تهزم العدو إلا عندما تصبر , قلبك هذا به لَمَّة للمَلَك ولَمَّة للشيطان, ففي كل موقف وكل حالة تسمع صوت يأمرك بالخير وصوت يأمرك بالشر، فتصير معركة من صوتين:
 فإن كنت تتعلم يُصبح صوت الخير أعلى من صوت الشر, لكن ليس مجرد التعليم هو الذي يأتي بالنتيجة، يجب أن تكون وقت اتخاذ القرار صابر, وليس الصبر فقط إنما لا يتم الصبر إلا بمصابرة العدو (المصابرة: المقاومة , الدفاع), إذا صابر العدو تحتاج إلى أمر آخر أن تبقى مرابطاً فأنت يجب عليك أن تكون على ثغرات قلبك وتحرسه، فهنا عين وهنا عين وهنا لسان وبطن وهنا يد وهنا فرج, كل هذه ثغرات منها تدخل الهزائم, العدو يدخل من هذه الثغرات فيُثير هذه الأشياء عليك, ويُفسد ما استطاع أن يُفسده, فأنت عليك أن تبقى على ثغرات قلبك، عليك بالمرابطة.
هذه الثلاث التي هي إلى الآن : الصبر و المصابرة و المرابطة إذا أفلحت فنجحت تُصبح تقياً. هذه هي التقوى الآن؛ فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى.
إذن يجب أن تنجح في اتخاذ القرار فأنت تهاجم العدو وتصبر في قتاله وتبقى على الثغور حتى لا يدخل لك منه, وفي نهاية الأمر تتصرف التصرف السليم، هذه الثلاثة تقوم على التقوى , بمعنى لا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى .
ومعناها أنه لا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر , اصبر و صابر و رابط و ستجد إن شاءالله تقوى الله.
كل ثغرة من هذه الثغرات (العين و الأذن و اللسان و اليد), كل واحدة منها علينا أن نرابط فيها.  فإذا دخل عدوك من هذه الثغرات تصبح قتيلا أو تصبح مثقلا بالجراحات، ماذا عليك أن تفعل؟ أنت موجود في الحياة من أجل هذا الجهاد, تبقى على هذه الثغرات و تستعين على هذه الثغرات بأمر مهم, و هذا الأمر المهم هو دعم نفسك بالعِلم.  و اعلم أنَّ أخطر شيء عليك هو أن تكون جاهل وصاحب هوى؛ لأن الهوى يُحرّك الإنسان, فلمّا يكون الإنسان جاهل وصاحِب هوى يُركّب الخطأ تركيباً يجعله هُدى ورَشاد, فيعيش طوال حياته يحسب نفسه أنه يُحسن صنعاً و هو في الحقيقة بسبب جهله وهواه الذي يُعمي ويُصِم إذا تمكّن من القلب لا يرى حقاً إلا ما وافق هواه, ولا يرى باطلاً إلا ما يُنكره هواه. 
فالعِلم يجب أن يأتي معه مجاهدة الهوى, لأن الإنسان يمكن أن يستخدم العِلم في تأييد هواه.
معنى ذلك أن النقطة الأخيرة في الكلام عن إصلاح القلب هو ملاحظة الثغور و معرفة النقطة التي نعيشها , و ملاحظة القلب و الاهتمام بالنقاط الأربعة التي هي في أواخر آل عمران.
فالقلب كالمرآة و الهوى كالصدأ فيها, فإذا خَلُصَت المِرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي, لكن إذا صدأت لا تنطبع صورة الحقائق؛ إنما يُصبح الأمر تخرُّصاً و ظنوناً. اتباع الهوى يُطمِس نور العقل و يصبح الإنسان يرتب الأحداث و الأوضاع على ما يهوى. فيهلَك ويخرج من المعركة خاسراً, ويُصبح أحد جنود إبليس وهو لا يشعر. 
المقصود أن صلاح قلوبنا مبني على ملاحظتنا قلوبنا وخوفنا من هوانا.

طرق علاج القلب المريض :
         الاستعانة بالله على صلاح القلب
         مراعاة القلب حال مرضه
         تَتَبُّع الحالات التي يَنْشَط فيها هذا القلب المريض (ملاحظةالقلب وتشخيص مرضه)
         الحرص على جنود القلب (جند يُرى بالأبصار، وجند يُرى بالبصائر)
          ملاحظة المعركة التي لابد أن تنتصر فيها التقوى


فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظنا من مُضِلَّات الفِتَن ما ظَهَر منها و ما بَطَن, و أن يكفينا شَرّ نفسنا و شَرّ الشيطان و شِركه و أن نقترف على أنفسنا سوء أو نجرّه إلى مُسلِم.
و صلى الله و سلم على سيدنا محمد.




[1] سنن الترمذي – أبواب القدر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم – 7:باب ماجاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، صححه الألباني.
[2] سورة النحل -9                             
[3] سورة الذاريات - 56
[4] سنن الترمذي – أبواب التفسير, عن رسول الله صلى الله عليه و سلم – 3:و من سورة البقرة. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِى الأَحْوَصِ لاَ نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِى الأَحْوَصِ.
[5] سورة المجادلة 22
[6] سورة آل عمران 200

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.