الأحد، 18 أكتوبر 2015

ما ميزانك عند الله ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن لا يحرمنا نعمه، فهو الذي ابتدأنا بالعطاء وهو الذي يتقبل وحده أعمال العباد، فنسأله أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يقبله منا، اللهم آمين.
لقاؤنا بعنوان (ما ميزانك عند الله؟) وهذا السؤال صعب لكنه مهم!
يمرّ على الفؤاد والعقل خواطر كثيرة، يجول العقل جولًا في الحياة خصوصًا وهو يختلط بالناس ويحتك بهم، فدائمًا ترى العين تُبْصر الآخرين وعيوبهم، ودائمًا نقيس الناس على مظاهرهم، حتى أن الناس اشتغلوا بأن يتجمّل بعضهم لبعض مع قباحة البواطن! أي أنني يمكن أن أتجمّل لك مع قباحة ما أحمله في باطني لك، نرى الناس -وبالذات النساء- قد بالغوا في الاجتهاد في الاهتمام بمظاهرهم، والمخابر خواء! هذا على أنفسنا وأيضًا على نظرنا للناس، فبدأنا نَقْبَل ونرفض الناس بناءً على مظاهرهم، ونسينا سبب صلاحنا وسبب صلاحهم، ونسينا أن هذه المظاهر من الابتلاءات، فحُسن مظهرك ابتلاءٌ عليك وعلى الناس، ودمامة شكل أو سوء منظر غيرك ابتلاءٌ عليك وابتلاء له..

اشتغل بنفسك (اشتغل بتثقيل ميزانك):
نحن نُبْحِر في الحياة ونعتني بأشياء، ونبدأ في الانشغال بها، ونلتفت إليها بعقولنا وقلوبنا، ثم تصبح ميزاننا في الرضا والسخط عن الناس. ثم ترى نفسك وقد ألهاك التكاثر، وكل الإشكال أن هذا الالتهاء أصبح {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر} فذهبت الفرصة! ولذلك قبل أن تُقبِل على الله لابد أن ترى ما ميزانك عنده، اعتنِ بميزانك، انشغل به.
اعلم أن لك ميزانًا ستأتي عليه وتوزن به فلا تكن لحظة هذا الوزن حسراتٍ عليك! أنت متيقّن أنك ستلقى الله وسيكلمك وستكلمه سبحانه وتعالى ما بينك وبينه ترجمان، فهل أشغلتك هذه اللحظة ؟ وهل هذا الوزن كان أهم همومك؟ ومن الفِطرة أن يشغلنا وزننا لكن لم ننتفع بهذا الذي فُطرنا عليه كما ينبغي، فانشغلنا بميزاننا عند الناس ونسينا أن هذه الحاجة الملحّة تقول لك: إذا اهتممت بوزنك فاهتم بوزنك عند الله، إذا أردت أن تجمّل نفسك فجمّل نفسك أمام الله، لا تكن قبيحًا في حالك بينك وبين الله، في حالك التي يكشفك الله ويراك فيها وأنت مختبئ بعيد عن كل الناس.
إذن هذا سؤال صعب وعظيم، سؤال مهم لا مفر منه في كل وقت وفي كل حين، في الخطوة القادمة ماذا سيكون ميزانك عند الله؟ لو فعلت كذا ماذا سيكون ميزانك؟ لو تركت كذا ماذا سيكون ميزانك؟ فكأن هذا السؤال لن يأتي وقت وتنفصل عنه لأنك تعلم أن ربك شكور، يُعطي على العمل القليل الأجر الكثير.
 فتصور صدق قلبٍ مع إماطة أذى يَثْقُل به ميزانك، فذلك الرجل مَرّ على غصن شوك في طريق المسلمين فأزاحه فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة! فلما نتحرك لابد أن نفهم أن هذه الخطوة تثقيل أو تخفيف لميزاننا.
قد يقال: (لكن قد يأتي عمل في الوسط لا هو تثقيل ولا تخفيف) سنستسلم جدلًا لهذا الأمر ونقول: كم في الحياة من خطواتك لن تثقلك ولن تخففك؟ إذا قلت الحياة كلها وأعمالك كلها إذن ستخرج خسرانًا! لأنك لم تفعل فعلًا ثقّل ميزانك، فسيبقى ميزانك خفيف، والمطلوب منك أن تثقّل ميزانك لا أن تتركه.
لننظر إلى مقاييس الناس في وزن أنفسهم ووزن مَن حولهم..
ورد في الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)) فَقَال:  رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ -أي ثقيل ميزانه عند الناس- هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)) فَقَالَ:  يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِه،  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا!)).
تصوّر لو أن هذا الشخص الذي هو من أشراف الناس وقف على مساحة الأرض شبرا شبرا، سيكون الفقير خير مِن مِلء الأرض مِن الأول، فلذلك كم مِن مدفوعٍ بالأبواب لا قيمة له، ولاتدري ما قيمته عند الله، لا تدري لمّا ردَدْته ردَدْت مَن! وهذا بناءً على أننا نقيس أوزان الناس على ظاهر الأمور، ونحن أيضًا نفكر في نفس الأمر بالنسبة لنفسنا، فميزاني عند الناس على حسب الصورة التي في ذهني عن احترام الناس، فأتصور أن مَا يحترموه الناس هو نفس ما يثقّل ميزاني عند الله.
رجُل كانت رِجْله أثقل من جبل أُحُد فكيف بقلبه؟!
عن علي رضي الله عنه قال: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ،  أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، -وقيل أنه يأتيه منها بعود أراك- فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ. -أي مِن دقّتها- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا تَضْحَكُونَ! لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ!)).
 فتصور كيف يُقاس الناس، لكن ليس بميزاننا!
وانظر إلى هذا الرجُل الذي اهتز له عرش الرحمن! أتدري ما عرش الرحمن؟
ورد في الحديث أن ((السماوات والأرض إذا قارنتها بالكرسي كانت كحلقة في فلاة)) كأنك رميت قطعة معدنية -مثل نصف ريال- في صحراء، ماذا ستكون الحلقة بالنسبة للصحراء؟! لا شيء يُذكر، والسماوات والأرض بالنسبة للكرسي الذي هو موطن قدم الرب -سبحانه وتعالى- لاشيء، والكرسي بالنسبة للعرش كذلك، يعني الكرسي مقارنة بالعرش لا شيء، وهذا العرش تحمله الملائكة، لما تسمع وصْفهم ترى عجبًا، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ ، مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ))، فإذا كان هذا وصف أحد حملة العرش فما بالك بالعرش! فما بالك بخالقه! هذا العرش اهتز لموت سعد ابن معاذ، فما وزنه عند الله لما هذا يكون له؟!
وقد ورد في الحديث: ((رُبَّ أَشْعَث أَغْبَر ذِي طِمْرَيْنِ[1] لا يُؤْبَهُ لَه مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ))[2] ونرى مثل هذا كثير في الإشارات، عند المساجد، في الحرم، تجده مدفوعًا بالأبواب، وقد يأتي في نفسك إحساس أنك أحسن منه! نادرًا ما نستطيع أن نقف مع أنفسنا وندافع هذه المشاعر، بل لما ندافعها كثيرًا ما تغلبنا، والشيطان يقول: (ربنا أكرمك وأعطاك وشرّفك، وأنت شاكر، فجمعت بين الخيرين لك: مكانة، وفي النفس الوقت شاكر وعابد)، يعني فوق الكبْر عُجب! فتجتمع مصيبتان على قلوبنا، وهذا لأننا لازلنا لم نتحرر من موازين الناس.
عطاء الله لا يدلّ على رضا الله، فلا تتصور أنّ مكانة أو مال أو بيت يدلّ على الرضا أبدًا، بل غالب مَن أُعطوا وقع في قلوبهم الغرق بالدنيا، ولذلك انظر إلى الشاكرين، تجد أن الله -عز وجل- يقول عنهم في كتابه: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}، ووصف أكثر الناس في القرآن ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿لاَ يَشْكُرُونَ﴾ والواقع يقول أن زيادة العطاء تؤدي إلى زيادة قسوة في القلب، إلى زيادة إحساس بالطمأنينة، إلى زيادة إحساس بأنك أفضل من غيرك!

نرى قصة ابن المنكدر التي وردت في (سير أعلام النبلاء) للإمام الذهبي لتفهم ما معنى ((لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ)) ابن المنكدر في المدينة والقصة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
يقول ابن المنكدر: إني لليلة مواجه هذا المنبر -منبر النبي صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل أدعو، فإذا بإنسان عند اسطوانة -الإسطوانة بمعنى العمود- مقنع رأسه -أي أنه لا يُعرف-، يقول : أي ربي إن القحط قد اشتد على عبادك وإني مقسم عليك يا ربي إلا سقيتهم! طلبه ليس فيه أعطني وأطعمني وأسقني.. إنما يتكلم عن العباد-.
فما كان إلا ساعة وإذا بسحابة قد أقبلت ثم أرسلها فأمطرت الدنيا، وكان عزيزًا علي أن يخفى علي أحد من أهل الخير، رجل يُقسمُ على الله وينزل الله مطرًا من أجله وأنا لا أعرفه. ابن المنكدر كان من علماء المدينة وكان يحب أهل الخير ويحب مجالستهم، ويعرف أهل الخير المقبلين المجتمعين في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا شخصا لا يعرفه، رجل يقسم على الله وينزل الله مطرًا من أجله وهو لا يعرفه!
فلما سلم الإمام من صلاة الفجر، أي أن الرجل في وقت صلاة القيام كان متقنعًا ثم كشف وقت صلاة الفجر مع المسلمين ثم انصرف. وكان قد رآه قبل صلاة الفجر يقوم الليل، فقام الرجل وتقنع وانصرف، فقام ابن المنكدر واتبعه حتى جاء بيته  ففتح ودخل فرجع ابن المنكدر لما علم بيت الرجل، فلما صليت الضحى أتيته في بيته وقلت له: أأدخل؟ فقال: ادخل. فدخلت فوجدته ينجر أقداحًا فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ فاستشهرها وأعظمها! -شَعَرَ أنها كلمة عظيمة أن تُقال له مِن ابن المنكدر.
 فلما رأيت ذلك منه قلت له: إني سمعت إقسامك البارحة على الله، يا أخي هل لك في نفقة تغنيك عن هذا وتفرغك لما تريد من الآخرة؟؟ قال: لا، ولكن غير ذلك. أي أريد منك شيء غير هذا .
قلت: ما هو؟ قال: لا تذكرني لأحد ، ولا تذكر هذا لأحد حتى أموت ، ولا تأتني يا ابن المنكدر، فإنك إن أتيتني شهرتني للناس! وهو لا يريد هذه الصورة.
قلت: إني أحب أن ألقاك! وهذه مشاعر طبيعية  من ابن المنكدر لأن الإنسان لما يجد أحدًا يحب الله ويكون على الجادّة ويجد له مكانة عند الله فأكيد أنه سيتمسك به لأن الاثنان ارتبطوا بمحبته.
قال: إن كان فليكن في المسجد، أي إن كنت تريد أن تلقاني ففي المسجد لكن لا تدخل عليّ بيتي لأن دخولك عليّ بيتي سيكون سببًا لاشتهاري.
قال ابن وهب -الذي سمع القصة-: بلغني أنه انتقل من تلك الدار فلم يُرَ ولم يُدْرَ أين ذهب! يعني الرجل المقنع بعدما قال لابن المنكدر أن يلقاه في المسجد خرج واختفى.
فقال أهل تلك الدار -أي المحيطون به-: الله بيننا وبينك يا ابن المكندر، أخرجت عنا الرجل الصالح![3] هرب الرجل المقنع، خاف على نفسه أن يكون ابن المنكدر فتنةً له وأن يكون هذا سببًا لاشتهاره!
فمِثْل هذا الأشعث الأغبر المدفوع بالأبواب هو الذي لو أقسم على الله لأبره، لكن مِثْل هذا ما وزنه عند الناس؟ ولا شيء! وانظر إلى نفسك لما تذهب لنجار، أو مرِّر على عقلك شيئًا مِن الصناعات، فحتى وأنت تكلمهم تكلمهم على أنهم لا شيء، في قلبك هذه المشاعر أنهم لا شيء! وأنت لا تدري مَن يكونون عند الله -عز وجل-!

سنرى أيضًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- موقفًا عظيمًا في الكلام عن هذه الموازين..
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - يُقال لَهُ: زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ - كَانَ يُهدِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ ،  فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إن زاهِراً بَادِيَنا , وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)) كأن زاهرًا أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- في البادية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أهل زاهر في الحضر.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبه، وكان دميمًا في المظهر، قَالَ : فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ  فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ -وَالرَّجُلُ لَا يُبصره -؛ فَقَالَ : أَرْسِلْنِي , مَن هَذَا ؟! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ , فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ أي أنه بقي شديد الإلتصاق ببطن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)) يعني النبي صلى الله عليه وسلم يمازحه فيقول: مَن يشتري هذا العبد؟- فَقَالَ زَاهِرٌ: تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ! كاسِداً! –لأنه دميم فيقول أنه ليس هناك أحد سيشتريني ولو أحد اشتراني فسيشتريني بثمن بخس.
اسمع ماذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ أَنْتَ عند الله غَالٍ!))[4] .
هذا هو الحق الذي تبحث عنه، أن تكون عند الله غالٍ، مهما كنت عند أهل الأرض كاسدًا فلا قيمة لقيمتك عندهم إن لم تكن عند الله غاليًا.

مِثْل هذه النصوص تُحرّك عقلك وتقول له: توقف عن طلب المكانة عند الناس، توقف عن هذا الجُرم العظيم في حق نفسك، ابحث عن مكانك عند الله، ثم لا تسيء الظن بالله، إذا رفعك الله عنده فلابد أن يُلبسك لباس القبول ولو بعد حين -لما يختبر صدق إرادتك في أن تكون عنده ثقيلا-.
ما هو الهمّ الذي اعتصرنا؟ للأسف هموم الكثير منا: ماذا يقول الناس، ما موقف الناس، ما رأي الناس.. وهذا الكلام كله سيأتينا التوازن فيه، أي أننا لا نقصد أن تُلقي الناس وراءك ولاتعاملهم كما ينبغي، إنما المسألة سنناقشها من كل الجهات فيما بعد، سنعرف ما موقفي وعلاقتي مع الناس، وإلى أي حد، وكيف سأعاملهم، ولماذا سأعاملهم، وما الذي يهمني لما أعاملهم..

ورد أيضًا في الحديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالَ لَهُ : جُلَيْبِيبُ ، فِي وَجْهِهِ دَمَامَةٌ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّزْوِيجَ ، فَقَالَ : إِذًا تَجِدُنِي كَاسِدًا، -أي لا أحد سيزوّجني- فَقَالَ : ((غَيْرَ أَنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ))[5] .
في الرواية أنه خطب وتزوج، وفي أول الأمر كان دميمَا لا يُحتمل، فالمرأة لما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أَمَر، استجابت لأمره، وبعد هذا التزويج حدث التالي: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ لَهُ . قَالَ: فَلَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ  -يعني انتصروا وجاء الفيء-  قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟))  قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا -هؤلاء مَن فقدوهم في الحرب-  قَالَ: ((انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟)) قَالُوا: لَا ولازال النبي صلى الله عليه وسلم لم يَبْلُغ مراده- قَالَ: ( لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا). قَالَ: ((فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى)) قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ يعني بعدما قتلهم أثخنوه بالجراح ثم مات بسبب جروحه!
 فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ((قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ)) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ،  مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  يعني النبي صلى الله عليه وسلم حمله ووضعه على ساعديه والصحابة يحفرون له قبرًا ولم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض إلى أن حُفِر له القبر.
 ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ[6] لم يغسلوه لأنه من الشهداء.
فانظر إلى وزن جليبيب عند الناس ووزنه عند الله وعند رسوله -صلى الله عليه وسلم-! لدرجة أنه لم يجعله وهو ميت متوسدًا الأرض، إنما وضعه على ساعديه إلى أن حُفِر القبر، والمسألة ليست سهلة فقد يأخذ الحفْر ساعة، وكل هذا الوقت قضاه جليبيب على ساعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ميت، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم وزنه عند الله.

هذا المعنى يجعلك تفهم المقاييس الموجودة في عقولنا والتي تسبب لنا ردود أفعالنا، ولنضرب مثالاً على الخدم، ولا أتكلم هنا عن معاملة العنف فمعاملة العنف حسابها عند الله، لكن أتكلم عن معاملة ليس فيها عنف وفي ذات الوقت ليس فيها احترام، وفيها إحساس (أنا أحسن منك)، ولا تعرف ربما هذا له ميزان عند الله فتكون قد احتقرت مَن يحب الله! فالمقاييس التي في عقولنا لابد من تغييرها، وفي هذا كله هناك شيء مِن علم الغيب، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- علِم أن جليبيبًا له مكانة عند الله، وعلِم أن زاهرًا له مكانة عند الله، وأنت مِن المؤكد أنك لن تعلم ما مكان هؤلاء عند الله، فالمقصود أن لا تعظمهم ولا تحتقرهم، ثم لما تتكلم عن نفسك تعال ابحث عن ميزانك عند الله ولا تبحث عن ميزانك عند الناس.
قال شارح الحديث في مسلم: ((هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ)) "معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله". وهذا هو المقصد، أن وزن الناس على قدر إقبال قلوبهم على ربهم.

وفي مقابل هذا .. انظر إلى حال مَن لا يزن شيئًا عند ربه!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَزِنُ عِندَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ )) ثُمَّ قَرَأَ {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[7] .
العظيم أي الذي له مكانة عظيمة في المجتمع، المقبول، يوم القيامة يأتي الميزان الحقيقي، فلما تفهم هذا الخبر وأنت متيقن أن الوزن يوم القيامة على ما قام في القلب، إذن ثقّل ميزانك بعمل قلبك.

ومن أجل ذلك نسأل: ما سبب هذا الاختلاف في الميزان؟ لماذا أولئك مع أن صورهم ووزنهم عند الناس خفيف ولكنه عند الله ثقيل؟ بينما الثاني له مكانة عند الناس ووجاهة وهو عند الله لا يزن حتى جناح بعوضة؟ ما سبب الاختلاف؟
شيء وقر في القلب! أصبحت القصة كلها على قلوبنا، وسنرى من النصوص والآيات الشيء الكثير الذي بها يُخَاطَب قلوبنا ثم يثقل الميزان عند الرب.

ما أهمية القلب في وزن الإنسان؟
         أهمية القلب
         أن القلب هو موضع الاختبار والابتلاء
         أصل الاستقامة استقامة القلب
         أن القلب هو محل نظر الرب
         لأن الله جعل سلامة القلب معبر للفوز في الآخرة
1) أن الأصل في الاستقامة استقامة القلب أولاً   
فقد ورد في الحديث: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ -يعني في سلوكه-
 حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ))[8] إذن وزنك يثْقُل ومسْلكُكَ يصّح لما يستقيم قلبك.
قال ابن رجب: "المراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه". والجوارح إذا ظَهَرَت عليها أعمال الصلاح دلّت على أن في القلب صلاح، لكن هل كل مَن معه أعمال خارجية كان قلبه صالحًا؟ لا، وأنتم تحفظون الحديث ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ  وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ))[9] فلماذا تحوّل في آخر لحظة؟! لأن القلب لم تكن فيه الاستقامة، فاستقامة الجوارح كانت مجرد موافقات، كانت مجرد عادة وإلف، كان يرى الناس هنا ماذا يفعلون وماذا يحترمون فيفعل مثلهم، لكن القلب لم يكن مستقيمًا.
قال ابن رجب: "المراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلًئا بمحبة الله ومحبة طاعته وكراهية معصيته".
متى يكون القلب مستقيمًا؟
 بـ (محبة الله، محبة الطاعة، كراهية المعصية).

هل هذا معناه أنه لا يقع في معصية ولا يقصر في طاعة؟ لا، فقد يحصل تقصير في طاعة وقد يحصل وقوع في معصية لكن يبقى هذا الشخص مستقيم القلب متحرّق لأنه وقع في معصية، متحرّق لأنه فوّت طاعة.
متى يكون القلب غير مستقيم؟ عندما يقصر في طاعة ويقع في معصية وكأنّ شيئًا لم يكن، ميت القلب! فالإشكال أن هناك قلوب حية وقلوب ميتة.
·                    القلوب الحية هي التي يأتي منها حياة الجوارح.
·                    والقلوب الميتة تعمل، لكن إذا قصرت أوتركت أوابتعدت فكأنّ شيئًا لم يكن.
ومقصدنا الأساسي أن تعرف مِن أين ستأتي بهذه المحبة، فلما أقول لأحد: (يجب عليك أن تحب الله)، كيف أصل إلى هذه المحبة؟ لا تصل إلى محبة الله إلا بمعرفته، وليست المعرفة مجرد معرفة الإقرار، لأن لما أأتي وأقول لك: (لن تصل إلى محبة الله إلا بمعرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته)، قد تقول: (أنا أحفظ آية الحشر وأحفظ آية الكرسي وأحفظ أوائل سورة الحديد، وأعرف أن الله -عز وجل- الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، أعرف هذا كله)، نقول: (ليست معرفة الإقرار هي التي ستُصلِح القلوب، إنما المعرفة التي تأتي مِن حياة وحياء). ولذلك لابد أن تفهم الفوارق بين أنواع المعارف، وسيأتينا -إن شاء الله- في النقاش الكلام عن هذه الفوارق، فليس كل معرفة تورث في القلب استقامة ومحبة،
لابد أن تكون المعرفة من هذا النوع.
النبي -صلى الله عليه وسلم- علّق صلاح أعمال البدن على صلاح القلب،
ففي الحديث المحفوظ: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ  وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ,  أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ))[10].
قال ابن حجر: خُصّ القلب بذلك لأنه أمير البدن. هو الذي يأمر، هو الذي ينشط، هو الذي يكسل، ومن أجل ذلك في أذكار الصباح والمساء لما نستعيذ من الكسل افهم أن المقصود هو الاستعاذة من كسل القلب؛ لأن القلب لو نشط ستنشط الجوارح، وانظر كيف يغريك ما تحب فينشط قلبك مهما كان بدنك كسلانًا، وانظر إلى الطفل الصغير لما يحب أن يلعب يمكن أن ينام في مكان لعبه، لأن قلبه نشيط يريد هذا، لدرجة أنه يغلبه النوم -وهو لم يشعر بالحاجة- إلى أن بلغ درجة أنه ينام في مكانه، إذن القلب أمير البدن وبصلاح الأمير تصلح الرعية وبفساده تفسد.
قال ابن رجب: حركات الجسد تابعة لحركات القلب وإراداته فإن كانت حركاته –القلب- وإراداته لله وحده فقد صلح وصلحت –صَلُح قلبه وصَلُحت جوارحه– وإن كانت حركات القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب.
قال العز ابن عبد السلام تعليقًا على الحديث: "مبدأ التكاليف كلها وأكثرها وصلاح الأجساد موقوف على صلاحه وفساد الأجساد موقوف على فساده". والمقصود القلب.

كيف سيصْلُح قلبك؟
قال مطرّف ابن عبد الله: "صلاح القلب بصلاح العمل وصلاح العمل بصلاح النية". ذَكَر مبدأ صلاح القلب وهو صلاح العمل.
قد يقال ذكرنا أن العمل هو المبني على القلب، وهنا كأن الكلام أتى بالعكس!
للتوضيح: هنا ليس المقصود به صلاح العمل البدني إنما صلاح العمل القلبي، وعلى هذا ستفهم جيدًا أن القلب له أقوال وأفعال، والبدن له أقوال وأفعال.  فما أقوال القلب وأفعاله؟
أقوال القلب (اعتقاداته)، تعتقد أن الله كامل الصفات، تعتقد أنه غفور، أنه رحيم، يعني معلومات دخلت إلى القلب واستقرت فيه، هذا يسمى أقوال القلب، يعني اعتقاداته.
هذه الاعتقادات ستؤثر على القلب فيعمل القلب، ما عمله؟ يحب، يخاف، يرجو، يخشع، يستغيث، الحركة التي تحصل في القلب اسمها فِعْل القلب.
أنت تكْشِف اعتقاداتك التي في داخلك مِن حركات القلب، ومِن أجل أن تضع ميزانًا دقيقًا لحركة القلب فانظر لأول فزعة في القلب وقت الموقف، ففي الحديث: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى))[11] يعني الفزعة الأولى هي التي تدلّ على حالك، فانظر لمّا ينْقُص عليك شيء، تَفْزَع لمن في أول لحظة؟ لا تتكلم عن الأسباب إنما قلبك يفزع لمن؟ هذا الكلام النظري..
وفي الواقع كل واحد منا مختلف عن الآخر، هناك أناس فعلا تفزع قلوبهم إلى الله، وهناك أناس متكلين على أنفسهم، وهناك أناس متكلين على جوالاتهم المليئة بالأرقام! فهذا لما يكون عنده مشكلة في المطار، وهذا لما يكون عنده مشكلة في الجمارك، وهذا لما يكون عنده مشكلة في المستشفى..
مثلًا أهل جدة وأزمة الماء؛ إذا انقطع الماء عن البيت، أول تفكير يأتي أنه ليس هناك حل إلا وايت الماء، ويدور في عقلنا مِن أين سنأتي به! وتفزع قلوبنا إلى الحارس أو السائق!
ما معنى أن تفزع؟ يعني أول مَن يمر بخاطرك تراه سببًا لحل مشكلتك. ثم ترى نفسك في نهاية المطاف لما تلم فزعاتك طوال اليوم ستجد نفسك في النهاية فيك شركاء متشاكسون! لأنك لما احتجت إلى الماء فزعت إلى فلان، ولما أصبحت مريضًا فزعت إلى فلان، ولما أردت كذا فزعت إلى كذا، عشرون ثلاثون شخصا!
قد تقول: الناس للناس. وأقول لكم: لابد أن تفهموني جيدًا، أنا لا أتكلم عن الأسباب ولا عن التصرفات فيما بعد، أنا أتكلم عن أول حركة للقلب! ولذلك صلاح القلب بصلاح العمل، هذه الفزعة الأولى هي التي تكون سببًا لصلاح قلبك.
كيف تكون الفزعة الأولى لله وليس لغيره؟
لازلنا نقول: بكثرة العلم وبتدريب القلب، بمحاسبته، بإرجاعه، بردّه، بإحساس أنك وقعت في خطأ لما فزعت إلى غيره.
لما أتعامل مع الناس أصل ما أمر الله به أن يوصل، ولما تُقدّم أنت لي خدمة ويجعلك الله سببًا، أنا أعبد الله لما أشكرك، ولا أشكرك بلساني فقط إنما كل قسمات وجهي تعُبّر لك عن حبي واحترامي لتصرفك، لكن إلى هنا فقط، أما القلب فامتلأ حمدًا لله، وأنت تستطيع أن تتحكم في ظاهرك وباطنك، فلا تقل لا أستطيع.  فلما يمتلئ قلبك حمدًا لله ثم تقوم بعبادة شكر الناس تقوم بها بلسانك، وشكر الناس عبادة لأن مَن لم يشكر الناس لم يشكر الله، لكنك ستقوم بها بلسانك.
المقصد أن صلاح القلب معتمد على صلاح عمل القلب، فلا تأتي تحفظ عن الله وتحفظ ثم لما تأتي الفزعة، تجد نفسك لغيره فازعًا ولغيره طالبًا وبغيره واثقًا ولغيره راجيًا!
لا يصْلُح أن تكون ممن يقول أن الله -عز وجل- مالك كل شيء وهو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء ثم قلبك يفزع إلى غيره في أول فزعة!
أما إذا فزعت أول فزعة إلى الله فسترى كيف يجري على لسانك التوفيق، وكيف يمر على خواطرك الشخص المناسب الذي يسخره الله لك، ثم أنك لو جعلت الله كل همّك أتتك الدنيا تسعى.
إذن حتى أصل أن تكون فزعتي الأولى إلى الله: لابد من عِلْم مع تدريب، فالقلب يُدرّب، مثلما تأتي لأحد وتقول له: لا تخاف، وتُدرّبه إلى أن يخرج مِن مرحلة الخوف إلى مرحلة الطمأنينة، تُدرّب قلبه فتقول: ليس هناك شيء مخيف. وهكذا نقول لأطفالنا إلى أن يصلوا إلى أن يتعاملوا مع الأشياء بدون خوف.
وكذلك لما يأتي شخص ويتدرب على جهاز جديد، أول مشاعره تجاه الجهاز الخوف، ثم لما يتدرب يزول عنه الخوف، وبهذا أيضًا يكون تدريب القلب في أن لا يفزع إلا لله، ولذلك عاتِبْه إذا فزَعَ لغيره، وافهم أن هذا الضيق الذي أتاك مِن أجل أن تكتشف الحقيقة، وستبقى تُكشف لك نفسك، المهم كن بصيرًا على نفسك.
ما أهمية القلب في وزن الإنسان؟
2) أن القلب هو محل نظر الرب.  ورد في الحديث: ((إنَّ اللَّه لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ و لا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ))[12] قلوبكم هي التي توزنكم عند الله، الذي تحْمِله في قلبك سيكون وزنك به، فالمطلوب منك أن تُصْلِح محل نظر الرب.
ومِن أجل أن تتصور المسألة جيدًا: لو مددت يدك وأعطيت شخصا صدقة، ألف ريال وليس ريال، فالله -عز وجل- لا ينظر إلى يدك ولا إلى الألف ولكن ينظر إلى قلبك في هذه اللحظة (ماذا تريد؟) ومن أجل ذلك ورد في الحديث الثاني ((إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[13] يعني عَمَل قلبك في هذه اللحظة وقتما قمت بالعمل أين هو، نعم أنت أمام نفسك وأمام الناس متصدق، لكن الله -عز وجل- يعلم ما ينطوي عليه قلبك، ولذلك ترى عَجَبًا!
مثلًا يحضر شخص متأخّرًا، وملامحك لم تتغير، لكن تَحَرّك في قلبك شيء تجاهه (لماذا أتيت متأخر؟ أنت مستهتر، أو شكلك أصلا كنت في مكان كذا..)، في قلبك فقط، فتجد هذا الشخص يقول لك (والله أنا لم أتأخر من أجل شيء لكن صار في الطريق حادث وكذا وكذا)، فتستحي من نفسك أن الله -عز وجل- رَدّ عليك، فهذا الرجل لا يدري ماذا في قلبك! ومن أجل ذلك ورد في في سورة محمد: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}[14] سيُخْرِجها!
 يمر في داخل شخص شيء لا يستطيع أن يُعبّر به ويستحي أن يخاطب الثاني بهذه المخاطبة، فيأتي الثاني كأنه سمع هذا الحوار الذي في القلبّ، فمَن جَعَلَ الثاني يأتي فيقول هذا الكلام؟! الله -عز وجل-، وكأنّ هذا نوع من أنواع إخراج الأضغان، أي كأنه يُقال لك: (الله مُطلع على ما قام في قلبك، وانظر إلى الشخص الثاني كيف يأتيك فيقول لك كذا وكذا) لتعرف أنك من المفترض أن تقاوم وتدفع ماقام في قلبك.
قد يقال أن هذه خواطر، فنقول: إذا استقرّت فلا تصبح خواطر، إذا استقرت وناقشت وفكرت ولو بالثواني ولا ندفعه ولا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا نتذكر قوله: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَيَعْنِيْهِ))[15]، ولا نقول (الله أعلم بأحوال الناس)، وإنما نترك عقلنا يسترسل، فإذا استرسل فمعناه أن هذه ليست مجرد خاطرة ولا حديث نفس وإنما تحولت إلى أقوى من ذلك، إلى شيء تُحاسب عليه.
إذن لما تتصرف لاتتصور أن الله -عز وجل- ينظر إليك كما ينظر الناس إليك، إنما اعلم أن نَظَرَ الرب إلى قلبك وليس إلى ظاهر عملك، فماذا تقصد؟ وماذا تريد؟ وماذا مِن خاطرة مرّت عليك واستقرت في قلبك ولم تدافعها!
وكلما زادت دقة نظرك إلى قلبك وجدت نفسك مشغولًا عن الناس بنفسك. هل تعرف لماذا نحن متفرغون للناس ونرى هذا ما وزنه وهذا ما حالته وهذا عند الله قريب أم بعيد وهل هذا حقير أم مرتفع أم له مكانة؟ لأننا لم نُشْغل بأنفسنا، لأننا لا نعتني بقلوبنا إنما نفكر في الناس وأحوالهم، ونتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فضع مرآتك عاكسة لما قام في قلبك، لا تضع مرآة تَعْكِس أعمال الناس من أجل أن ترى أعمالهم وتنتقدها! ونحن سريعوا الانتقاد قليلوا الرضا عن الناس، نفرح بعيب إخواننا! كل هذا مُطلع عليه الله -عز وجل-.
لذا لما يدخل العلم عن الله في القلب يَصْلُح ولا تكون همومه أن يأخذ حقه مِن هذا وهذا، وفي الغالب أن المظلوم يتعدّى في طلب حقه، فالمرأة يظلمها زوجها، تشتكيه لقائمة من الناس (الجيران والمعلمات في المدرسة وأمها في البيت وأختها من أجل أنها خبيرة..) وعذرها أن هذه تعرف وهذه تفهم وهذه عندها الحل! ظلمها الزوج مرة فظلمته بعدد المرات التي حكت بها! لابد أن نفهم أن كل هؤلاء الذين أكلمهم لا قلبًا سيجبرون ولا نفسًا سيُصلحون، لن يعرفوا أن يفعلوا شيئا، وهذا لا يمنع الاستشارة، لكن ابحث عن شخص ناضج فاهم عنده خبرة وعنده علم.  واعلم أنك لن تأخذ حقوقك هنا، وإن أخذتها فلا يردّها إلا الله، فهذه قوة العلم عن الله.
إذن الله لا ينظر إلى صورتك الخارجية التي تستطيع فيها أن تخادع كل أحد، إنما ينظر إلى قلبك، ومن أجل ذلك تفهم قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يعملون في الظاهر أعمالًا يظنون أنها توزن عند الله، في الظاهر لكن في القلب أمر آخر.. وتجده لايدافعها ولا يردها ولا يستعيذ ولا يتوب ولا أي شيء! وعلى قدر دفعك لها سيكون ميزانك عند الله.
تجده يتصدق وقلبه مليء بالخبث، ينصح وقلبه مليء بالشماتة... إلخ، يفعل هذه التصرفات كلها، ولما يأتي في آخر اليوم يعدّد لنفسه ماذا فعل طوال اليوم، فيقول: الحمدلله تصدقت وصمت ونصحت وفعلت وأحسنت! وينام وهو مرتاح أنه فعل كل شيء لربه! وفي الحقيقة قد خدع نفسه! ظن أنه يسير على الخط المستقيم وهو وراء السراب { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} فهو يعيش على (أحسب، وأظن، وكنت أعتقد) ! لا يفعلون بقلوبهم ما يتيقنون به، إنما بجوارحهم بدون عمل القلب.
الله ينظر إلى قلبك فلا تفكر أن تخادعه
ادفع بدنك للحركة ودرّب قلبك أن يوافق حركة بدنك، والتدريب لا يأتي إلا بعد أن تتعلم عن الله.
قال ابن القيم: "أعمال القلوب هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة".
إذن يختلف وزن الناس عند الله على حسب قلوبهم، ثم أعمال الجوارح تعتبر تبع ومكمّلة ومتمّمة، أي أن أعمال الجوارح نواتج.
ما أهمية القلب في وزن الإنسان؟
3) أن الله جعل سلامة القلب مَعْبَرًا للفوز في الآخرة. قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[16] يعني لا مالُك في الدنيا الذي تفزع إليه سينفعك، ولا أولادك في الدنيا الذين تفزع إليهم سينفعوك، إنما الذي سينفعك في الحقيقة قلبك السليم.
قال القرطبي: "خصّ القلب بالذكر لأنه إذا سَلِم سَلِمَت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح".
ما أهمية القلب في وزن الإنسان؟
4) أن القلب هو موضع الاختبار والابتلاء. يقول الله -عز وجل-: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}[17] فالناس يكونون أصحاب دعاوى، لكن مَن أنت عند الله؟ على حسب ما قام في قلبك، فماذا سيحصل؟ سيُبتلى قلبك، يأتيك مِن المواقف والأحداث التي يُختبر بها صدق إرادتك للصلاح.
مثلا كلنا نقول أننا نريد أن يثْقُل ميزاننا عند الله، و نعلم أن الشريعة جعلت أعمالاً كثيرة سببًا لتثقيل الميزان، فسيأتيك اختبار: هل عَمِلْت هذه الأعمال من أجل أن يثقل ميزانك أم لك وجهة أخرى خفية دسيسة في قلبك! فمما يزيد العبد مكانة عند الله الأعمال الصالحة التي فيها نفع متعدي للمسلمين كبناء المساجد، فقد ورد في الحديث: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ -يعني مكان صغير جدًا- بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ))[18] فمثلا بنيت المسجد وأنت تريد الجنة وتريد أن يثقل ميزانك عند الله، ثم في نهاية المطاف أتوا كتبوا على المسجد (مسجد الرحمة) أو (مسجد البركة) أو أي شيء، فقلت (أين اسمي؟! أين الرخامة التي عليها كذا وكذا؟ أين خطاب الشكر؟!) وفي تفكيرنا أن هذا على قاعدة: (مَن لم يشكر الناس لم يشكر الله). مَن تنتظر مِنه أن يشكرك؟ المفترض أنك فعلت هذا الفعل ليس خدمة ولا عطاءً لأحد وإنما فعلت هذا الفعل مِن أجل الله، وانظر في سورة الإنسان لهؤلاء الذين ينفقون، يقولون {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا} فهناك فرق بين أن يعطيك أحد شيئا فتشكره، وبين أن تعطي ربك ليربيه لك، فالعطاء والمنّة مِنه أولًا وآخرًا، تفعل وتُقدّم مِن أجل أن يقبل منك، ويأتيك اختبار هل تريد أن يذكرك الناس أم تريد أن يذْكُرَكَ الله فيمن عنده؟
ولذلك {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴿41﴾وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴿42﴾هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}[19] يعني لما تذْكُرُه بلسانك وفي أذكار الصباح والمساء والاستغفار وأي موطن آخر، فواحدٌ مِن اثنين:
1.                إما أن قلبك متجه لغيره، يبحث عن أحد يُثني عليه.
2.                وإما أنك لا تريد إلا أن يُثني الله عليك، وهذا معنى (يصلّي عليهم) أي: يثني عليهم.
{لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا} لأن جزاءكم وشكوركم سيكون سببًا لالتفات قلوبنا لكم، وهذا خطر الابتلاء.
فمثلا تَذْكُرُ الله في مكانك ولا أحد يدري عنك، فيمر عليك شخص ويقول بكلام بسيط (ماشاء الله)! قد تفْتِنك هذه الكلمة، فلما تأتي هذه الكلمة أو أمثالها دافعها بأنني يارب لا أريد إلا صلاتك، يارب لا أريد إلا ثناءك، وتكون صادقًا لا تريد إلا ثناءه وصلاته، هذه لحظات الجهاد عبارة عن ثواني. وهذا الذي مَرّ بجانبك وقال (ماشاء الله) اسمه ابتلاء {وَلِيَبْتَلِيَ} لابد أن يبتلي ما في صدوركم، لابد أن يمحّص ما في قلوبكم، لا تتصور أنك ستدّعي وتُترك لا تُختبر.
زاوية مطوية: صلاح قلبك سيكون سببًا لتثقيل ميزانككلما عَمِلْت عملاً افهم أن الذي سيثقل ميزانك قلبك.

إذن ماذا ستفعل لتثقل ميزانك؟ رُدّ قلبك عن أن يعتني برضا أحد غير الله، رُدّ قلبك أن يعتني بثواب أحد غير الله، بثناء أحد غير الله.


مراجعة لما سبق: ما ميزانك عند الله؟ قلنا أن هذا سؤال صعب وعظيم لكن مهم في كل وقت أن ترى ميزانك عند الله -عز وجل-، وقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزن الناس في حديث سهل بن سعد الساعدي.
ثم فَهِمْنا من النص الثاني أن رِجْل عبدالله بن مسعود أثقل مِن جبل، فكيف بقلبه؟!
إذن هناك فوارقًا في الوزن، وليس الأمر على أوزاننا وعلى تفكيرنا.
ومِثْلُه الرجُل الذي اهتز له عرش الرحمن وهو سعد ابن معاذ، وهذا دليل على ثُقل ميزانه عند الله -عز وجل-.
ومِثْلُه لما ذكرنا الحديث: ((رُبَّ أَشْعَث أَغْبَر ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَه مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ)) فأنت لا تعرف وزن الناس، قد تكون صورتهم أنهم ولا شيء لكن حقيقتهم فالله أعلم بها.
ولذلك ذَكَرْنا قصة ابن المنكدر مع الرجل المقنّع وكيف أنه أقسم على الله أن ينزل مطرًا وأن يسقي الخلق فسقاهم الله -عز وجل-. نحن في الغالب نتصور أن مَن أُعْطِي مِن الدنيا له مكانة عند الله، وأنتم نظرتم إلى آخر القصة وكيف أن الرجل المقنّع مِن شدة خوفه مِن الاشتهار وحِفْظِه لعلاقته مع ربه واهتمامه أن يكون ميزانه عند الله هَرَبَ مِن محمد ابن المنكدر!
 وبعدها تحدثنا عن رجلين: زاهر وجليبيب، وكيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب زاهرًا -رضي الله عنه- وكان يهديه.. والمعنى أنك لا تفكر في وزنك عند الناس، فهذا الذي يرى نفسه لا شيء، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ).
ومثله جليبيب لما مات، وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ساعده إلى أن حُفر قبره فدُفن، وكل هذا يرشدك إلى أن الميزان ليس ما يظهر لك، فبالتأكيد أن هناك شيئًا ثقّل ميزانهم غَيْر ظواهرهم.
ولذلك أتى في المقابل في الحديث ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَزِنُ عِندَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ))[20] ثُمَّ قَرَأَ {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
وجاء السؤال: لماذا شخص يثقل بهذا الثقّل مع أنه دقيق في جسمه فيكون جبل أُحد لا يساوي رِجْله؟ ولماذا يهتز عرش الرحمن لشخص؟ ولماذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحدهم: (لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ )؟ وفي المقابل يأتي الرجل العظيم الذي له مكانة ومثقف وله بهرجته، ثم يوم القيامة لا يزن عند الله حتى جناح بعوضة ؟!
كان الجواب عن سبب هذا الاختلاف أنه شيءٌ وَقَرَ في القلب، ومِن هنا بدأ نقاشنا حول أهمية القلب.
الشريعة لَفَتَتْ نظرك أن ظواهر الناس ليست هي موازينهم عند الله
فلا تكن مفتونًا بتجميل ظاهرك مع قباحة الباطن!
خصوصًا أنك تعلم أن الناس ينظرون إلى الظاهر، وأن الربّ -سبحانه وتعالى- ينظر إلى باطنك، فكيف تُجمّل للناس ظاهرك ويبقى باطنك قبيحًا، والله عز وجل هو الذي يطّلع على باطنك؟!
أصْلِح قلبك الذي هو موطن نظر الرّبّ وسيخرُج الصلاح على الظاهر.
قلنا أننا أُصِبْنا بحُمّى اسمها (التزين للناس)، نريد أن نكون عند الناس أحسن الناس وأفضلهم، ونريد كلمات المدح مثل السيل على آذاننا طوال الوقت.. أنت لا تُلام على أنك تحب الثناء، لكن الفرق أنك تحب الثناء مِمّن؟!
الله -عز وجل- يُخبرك أنه وليُّك وأنه يصلّي عليك، أي يُثني عليك، حُبّك للثناء عامل يدفعك لزيادة القربى مِن الله لأن ثناءه هو الثناء الحق، وثناء كل أحد غيره إما أن يكون باطلًا أو زائلاً.
- ثناء الناس باطل: يعني من أجل أن لا تنكسر نفسيتك وتتعب فيقولون لك كلمات طيبة ويثنون عليك، وهم في قرارة أنفسهم يرون أنهم يجاملونك من أجل أن لاتنهار نفسيتك وتتعب!
- أو أن ثناءهم زائل: فيثنون عليك حقًا لأنك خدمتهم وأعطيتهم، ثم غدًا ينقلبون عليك.
فلا تتصور أن ثناءهم باقيًّا ودائمًا حقيقي، ما المصلحة من ثناء باطل وزائل؟! لا مصلحة منه!
ثم أنهم لو صَدَقُوا وأثنوا عليك بصدق فلن يكن شيئًا إلا إذا كنت عند الله مقبولًا، حينها يكون ثناؤهم لك نافعًا.
إذن ما في قلوبنا مِن حُب الثناء لابد أن نغتنمه
كيف أغتنم حب الثناء؟ أن تفكر فقط في ثناء الله عليك، وثناؤه عليك ثناء في الملأ الأعلى!
 فانظر الثناء ممن؟
وبين مَن؟
وعند مَن؟!
هذا يغنيك عن ثناء الناس، وقد قال السلف: "مَن عرف الناس استراح، فلا يطرب لمدحهم ولا يجزع من ذمّهم، فإنهم سريعو الرضا سريعو الغضب، والهوى يحركهم"!
فالذي يرضون عليك فيه، لأن هواهم حرّكهم، والذي يسخطون عليك فيه، لأن هواهم حركّهم، فهم سريعو الغضب سريعو الرضا..
أما لمّا تعرف ربك ترى أن ثقل ميزانك عنده هو المهم.
هذه الحمّى التي سَرَتْ -حُمّى العناية بالناس– جعلت كل تفكيرنا (مَن أكون عند الناس؟) ونسيت ميزاني عند الله ماذا يجب أن يكون! وعملنا أعمالًا خارقة في قدراتنا مِن أجل أن نُرضي الناس ومِن أجل أن يكون ميزاني عند الناس له المثقال العظيم، ثم نسيت أن كل زيادة عناية بميزاني عند الناس تساوي خِفّة ميزاني عند الله!
كلما اتّجه قلبك للعناية بوزنك عند الناس، خفّ وزنك عند الله!


لأنك أصبحت فيك شركاء متشاكسون، أصبح هذا يأخذ منك جزءًا وهذا يأخذ منك جزءًا في اهتمامك، وتريد مِن هذا أن يرضى وهذا أن لا يحزن، وهذا تريده أن يأخذ حقه مِن أجل أن يعطيك نصيبك مِن المدح، ولو فَعَلْتَ الخدمة وهو لم يمدحك تثور عليه..
أذكّركم أن هناك فرْقًا بين أن تشكر الناس وبين أن تبقى مُطالِبًا لثنائهم وشكرهم، فمطلوب منك أن تشكر الناس لكن في المقابل مطلوب منك أن لا تتعلق بثنائهم وشكرهم {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}.
لو اعتنيت وجعلت كل تركيزك في ميزانك عند الله، بالتأكيد أنك ستفتّش في الأعمال التي تُثقّل ميزانك، وهذا الجزء الثالث من النقاش والذي نتحدث فيه عن الأعمال التي تثقّل ميزانك.

أعمال تثقل الميزان :
الذكر والصبر
* يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ)) قَالَ : قُلْتُ : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : ((سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ ))[21].
إذن هذه خمس تثقّل ميزانك، أربع كلمات، والأمر الخامس تصبُّر، فلما تنظر لهذه الخمس تفهم أن العمل عمل القلب.
ما العلاقة بينهم الخمسة؟ كلها في النهاية عمل قلب، ومُجمل أعمال القلب تدور حول أمرين: الشكر والصبر، فكل الذكر من أنواع الشكر، وجاء النوع الثاني: الصبر. والشكر والصبر كلاهما عمل قلب، ثم تأتي المواقف ويظهر شكرًا أو صبرًا.
سأبدأ بالصبر قبل الشكر، ثم أعود إلى الشكر الذي سيثقل الميزان.

أما الشكر فهو هنا بالذكر.
وأما الصبر فبالاحتساب على ما يُبتلى به الإنسان.
استمتع بتثقيل ميزانك بالصبر وبالشكر.
كل ما ابتليت به من زوج، من أبناء، سواء فقدهم أو وجودهم المؤلم والمؤذي، احتسب أن صبرك على أذاهم أو صبرك على فقدهم من أجل الله، وأنت تصبر الدقيقة وربك شكور يثقل لك ميزانك بهذا الصبر، تحتسب وتكفّ لسانك -إلى آخر ما تفهم من تفاصيل الصبر- يكون في مقابلها ثقل للميزان.
تتغير صورة الناس في عقولنا فتفكر أن هذا الذي يؤذيك سبب لأن يفتح عليك تثقيل الميزان، ولو رأيت حولك ستجدها كُثُر، لكن هل نحن نغتنم هذا الكثير؟ هنا المشكلة! هل وجدت أحدًا عيشه صافٍ ولا يعيش في كدر؟ أبدًا، بل الناس أهل النعمة تكون عليهم اللقمة كدرًا، مثلا عنده سكر أو عنده ضغط أو معدته فيها كذا ...إلخ، فأنت ترى اللقمة عندك قليلة وتعتبر هذا نقصًا، ومَن عنده لقمة كثيرة لا تسقط في معدته هنيئًا مريئا، فيكون بلاؤه في اللقمة الكثيرة، وأنت بلاؤك في اللقمة القليلة، وأنت وهو مشتركان في سبب واحد في تثقيل الميزان وهو الصبر، لكن هل اغتنمت أو اغتنم هو؟! هذا هو السؤال.
انظر للحديث: (فَيَحْتَسِبُهُ) هذا هو الشرط، فلا ينفع أنه فقط يتوفى ويبتلى بالبلوى وتكون في ميزانه، لابد أن تُعامِل الموقف بالصبر، إذن كل المنغصات -حتى الشوكة يشاكها- فرصة لتثقيل الميزان، وهل خلوت في ليلة مِن شوكة تشاكها أو أعلى من ذلك؟ ما خلوت ولو بضيق في الصدر، فانظر إلى أي درجة تُفتح لك الأبواب الواسعة من أجل أن تثقل ميزانك، لكن نحن لا نعرف أن نقرأ أفعال الله كما ينبغي، أميّين!
لا نعرف أن هذا الولد الذي كدّر علينا حياتنا -في الصورة الظاهرية- أنه سبب لتثقيل ميزاننا
ولا نعرف أن هذا الزوج الذي لم يستقم فمرة راضٍ ومرة ينقلب، سبب لتثقيل ميزاننا وأنه باب واسع من أجل أن يثقل ميزانك.
فتأتي هذه الأعمال ويكون وزنها عظيم في مقابل عمل بسيط قمت به وهو أنك حبست نفسك أن لا تعترض عليه ولا تنتقد فعله -سبحانه وتعالى-، بل تقول: هذا باب فُتح لتثقيل الميزان. ولذلك لما فَقَدَت النساء هذه النظرة تجد منهنّ دفعًا لأبواب تثقيل الميزان، فترتفع نسبة الطلاق؛ لأنها تريد أن تنتهي من المشكلة! وأنت لن تَخْلُص أبدًا لأنك هنا في الدنيا ولم يقال لك أن هذه دار الاستقرار والراحة، فاليوم هذا زوج واحد فَهِمْته، يكفي أني فَهِمْته وعرفت أنه ابتلاء عليّ، الحمدلله، فأصبر من أجل أن يثقل ميزاني. لكن نحن نُجزّع أنفسنا والناس أيضا يُجزّعوننا، ويغلقون علينا باب تثقيل الميزان.
مشكلتنا في الأميّة عن معرفة الله، تجد الشخص مثقفًا، ويقرأ جرائد الصباح من أولها لآخرها، وصفحات الانترنت يقرؤها، وفي نهاية الأمر تجده أميًا لا يعرف قراءة أفعال الله، فهذه الأميّة هي التي نشتكي منها اليوم وهي أنك لا تعرف أن تترجم بالضبط لماذا يحصل هذا حولك، وكل الذي تقوله أنه ليس لك حظ وليس لك نصيب.
انظر لهذا الولد الصالح الذي يتوفى للمرء المسلم فيكون سببًا لتثقيل الميزان لو احتسب، ويكون بالعكس سببًا لتخفيفه لو جزع!
فاحذر أن تكون على المصائب والبلاءات بأنواعها جازعًا، فهذا سبب لتخفيف ميزانك، وكن متمسكًا بالصبر فما أنت إلا في عنق الزجاجة، كل الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، كلهم يخرجون من الكروب، لكن القضية أنه لما تنكشف الغمّة تنكشف عن أي قلب؟ قلب مستسلم لربه شاكر متعلق، أم قلب كفر بنعم الله وشعر بأنه لا حظّ له وأن ربه لا يحبه.
أهم شيء بعد الأزمة تنكشف الغُمّة عن أي قلب، ولذلك بورك لك في حاجة أظهرْتَ فيها الذل لله، الحاجة المباركة هي التي تُكْثِر فيها الذل لله، هذا مِن جهة الصبر.
أما مِن جهة الشكر فحدّث ولا حرج مِن الغفلة عن هذا الباب الذي يثقل الميزان، فكم مِن نِعَم تترى لا تستطيع أن تعدّها
هل أكلّمك عن نعمة الأمن والأمان والفطرة السوية والإيمان وأن الناس يحترمون أهل الإيمان؟
أم أكلّمك عن أي شيء مِن النِعَم؟ العامة التي نشترك بها أم الخاصة التي تخصك؟
ثم تترك هذا كله وتبحث عما يكدّر وتُخرِجه مِن تحت الأرض! والشيطان لما يسيطر على القلوب في منعها من الشكر يصبح عند الناس خيال فيما يُكدّرهم، يعني امرأة مثلا ليس هناك شيء في الواقع يكدرها، فلما تستلقي على فراشها وتفكّر، تبدأ تتخيل أشياءً سيئة ستحصل، وأن زوجها المحترم الذي يحبها تكتشف أن له علاقة، كل هذا بخيالها، تتخيل أنه يخون، وتتخيل أن أبناءها سيتزوجون ويتركونها ويرمونها! مِن أجل أن تعرف كيف يُخرج الشيطان مِن قلبك ما يجعلك به كافرًا لأنعم الله.
لذلك لا تجد ذِكْرًا إلا ثقيلًا، وانظر لضعف أذكار الصباح والمساء، لأن القلب ليس شاعرًا للنعم فانقطع اللسان عن الذكر النشيط، فـ لا إله إلا الله والحمدلله وسبحان الله والله أكبر كلها تحتاج لقلب ولا تحتاج لمجرد لسان، ولذلك انظر لما يكون الذكر بمجرد اللسان، فتقول (لا إله إلا الله) وأنت تفكر في هذا وهذا، وأهم شيء عندك أن تخرج بمائة من العدد، أما ماذا كان في قلبك؟ فلا شيء! هذه لا تثقل ميزانك بمجرد الكلام إنما ستثقله بما وَقَعَ في الجنان.
قد تسأل فتقول: هل هذا يعني أنه لو لم يكن قلبي حاضرا أن لا أذكر؟ نقول: هذه حيلة الشيطان، فحيلة الشيطان أن يقول لك: ليس قلبك حاضرا إذن فاترك العمل، ونحن نقول: درّب قلبك واجتهد، مائة مرة قلها واجعل من المائة مرة واحدة قلت فيها الذكر وقلبك موجود، هذا اليوم، ثم إلى الأسبوع القادم اجعل عشرة من المائة قلبك موجود فيها، وأكمل الباقي بدون قلبك؛ لأن الإيمان يزيد فكلما زاد في القلب كلما وجدت قلبك، زِدْ وابحث عن قلبك، وستجد قلبك لما تبحث لا لما تقتنع من نفسك أنه يكفي بلساني وقلبي ليس موجود.
هذه الكلمات تزيد ميزانك إذا جمعت في قلبك بين الذكر والشكر لله -عز وجل-
وكلما فهمتها، زاد حضور قلبك.
* ورد في الحديث: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ))[22].
الذكر عنوان الشكر وهو سبب لتثقيل الميزان، فلما تُحب أحدًا وتشعر أنه أنعم عليك وأعطاك تجد أنك كلما تجلس مجلسًا تذكره وتدعو له، فإذا كنت لربك شاكرًا وتشعر بالنعم العظيمة التي تغرق فيها ستكون له ذاكرًا، كثير الذكر، لكن تأتي علّة أني لا افهم معاني الذكر، ولذلك مِن زيادة التدريب أن تقرأ معاني الأذكار، خذ في ذلك كتاب "فقه الأدعية والأذكار" للشيخ عبد الرزاق البدر.
* ومِثْلُه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))[23].
وتملأ الميزان ليس بأن تثقله فقط إنما تملؤه، فما هي الكلمة التي تملؤه؟ (الحمدلله)، لأن الحمد أعظم تعبير عن الشكر لله -عز وجل-، فلما يمتلئ قلبك له حمدًا وشعورًا بنعمه وعطاياه واستحقاقه أن لا يُثنى إلا عليه سيخرُج مِن لسانك الحمد كما ينبغي وُيملأ ميزانك بذلك.
أي عمل غير الذكر محدود بزمان، بمكان، بأوضاع، وهناك أعمال كثيرة يُعذر تاركها أحيانًا، إلى أن نأتي إلى الذكر ونقول لا، فلا يُعذر تاركه من جهة، ولا يأتي زمن يخلو من الذكر من جهة أخرى، لو كنت مُحبًا صادقًا مشتاقًا فلن تأتي لحظة تخلو فيها من الذكر، لكن نحن طبيعتنا الغفلة، لن نطالب نفسنا بما لا نستطيع، لكن قمة المسألة أنه لن تخلو لحظة من ذكر، والذكر ليس شرطًا باللسان، إنما تفكير في آلائه وعطاياه، أي أن أفكر بأن هذا ما أتاني إلا لأن ربي دبّرني، وهذا ما ذهب إلا لأن ربي دبّرني، فهذا تفكير في آلائه وعطاياه، وليس مِن مرة واحدة سيكون هذا حالك، إنما كلما زدت علمًا عنه وكلما ترك قلبك الاشتغال بغيره وتفرغت وتفرغت كلما ازدادت هذه الحالة، وأحيانًا يأتي زمن تشعر نفسك فيه في قمة هذه الصورة، وأحيانًا تنحدر، لا بأس، المهم أن يرى الله -عز وجل- مِن قلبك إقبالًا عليه وصدقًا في ذلك {إن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[24]. كُن مُقبلاً فقط، وسترى، فكلما غفلت وعُدت إليه وحصل الإياب والعودة إليه -سبحانه وتعالى- سيغفر لك زمن الغفلة، والغفلة هذه مِن طبعنا لا يمكن أن نتخلّص منها، لكن كلما قَلّت كلما اقتربت منك المغفرة على زمن الغفلة.
مما يثقل الميزان:
حسن الخلق
 قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ))[25].
نتعرف أولًا عن حقيقته مادُمنا نتكلم عن تثقيل الميزان، وهل يمكن أن يكون حُسن الخلق بغير قلب؟
حُسن الخلق كمقياس متداول: اللباقة والكلام الجميل، والأعمال.. لكن ليس وراءها قلب، أي أنني قد أقول كلامًا جميلاً لكن مقصدي منه المصلحة، أتصرف تصرفًا جيدًا لكن مقصدي تحقيق الذات، قد يقول البعض: (أنا أعاملك بالطيّب ليس لأنك طيب إنما لأني شخص محترم!) تحقيق الذات، الثناء على النفس.
الخلق الحَسَن في الظاهر هو كل السلوكيات المقبولة شرعًا وعرفًا.
السؤال: هل هذا السلوك منفردًا هو الذي سيثقل الميزان؟
لا، ولا تنس النقطة الثانية التي تناقشنا فيها، لازلنا نستصحبها، لا يكفي أن نقول بألسنتنا ولا يكفي أن نتصرف بجوارحنا إنما لابد مِن وجود قلوبنا، ورد في كتاب الله ثلاثة نصوص:
1.                أمْر: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[26] في الصورة الظاهرية، يعني قولوا كلامًا حسنًا جميلاً (على وجه المدح).
2.                مَثَل في سورة المنافقين: {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}[27].
3.                وفي سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. أيضًا قال كلام جميل (على وجه الذم).
ما الفارق بين {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} على وجه المدح وبين {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} على وجه الذم؟
الفارق بين الاثنين ما وقع في القلب! الاثنان قالا كلامًا حسنًا لكن أحدهما جاء على وجه المدح، والآخر جاء على وجه الذم، ففي سورة المنافقين {وَإِن يَقُولُوا} يعني من شدة حلاوة كلامهم {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني تلتفت ويطربك قولهم مِن كثرة الذوق والكلام الجميل، وهم في آخر الأمر منافقين!
إذن ما موقفي مِن القول الحسن بناءً على هذا؟ القول الحسن مطلوب، أما العيب فليس في الكلام الحَسَن إنما العيب في قلْب صاحب الكلام، وكأننا نقول أن حُسن الخلق ليس مظهرًا إنما مَخْبرًا أحْسَنَ صاحبه في التعبير عنه، لأن هناك أناس كثيرون مَخْبرهم جيد لكنهم لم يُدرّبوا على ترجمته بصورة حسنة، فهناك ناس كُثُر تشعر كأنهم صفحة بيضاء، هؤلاء ينقصهم خطوة من أجل أن يثقل ميزانهم وهي أن يُدرّبوا على حُسْن الخلق.
إذن أنا أولًا سأبحث عن قلب، ثم أتدرب على التعبير عن هذا الذي في القلب الحسن بكلام حَسَن، ثم أنك في نهاية المطاف ستجد شيئًا عجيبًا كقاعدة في حسن الأخلاق، هذه القاعدة تقول لك: لا تُكلّم ولا شخص عن حُسْن الخلق إذا كنت تريد أن تكون حَسَن الأخلاق، فقاعدة حُسْن الخلق (أن لا تطالب الناس بحُسْن الخلق)، إنما درّب نفسك أنت أو مَن تحت يدك إذا كنت تربي.
فمثلا مِن أجل أن يكون عندك خُلق حَسَن كالعفو وصلة الأرحام، متى سيحصل منك هذا الخُلق الحَسَن الذي هو العفو؟ إذا أخطأ عليك شخص، يعني لن يَخْرُج منك هذا الخُلُق الحسن لأن الناس أخلاقهم حسنة! بالعكس، سيخرُج منك هذا الخُلق الحَسَن لما هم يصبح عندهم تقصير.
في المقابل: مَن الذي اسمه (واصل) في الشرع؟ ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))[28]، فلما تريد أن تتعامل مع شخص هو أخلاقه حسنة هل ستحتاج شيئا كثيرًا؟ لا، هو سيغمرك بحُسْن خُلُقه إلى درجة أنك لا تجد لنفسك مكانًا لأن تمارس حُسن الخلق معه إنما أنت تجلس وهو يكون كأنه مُدرّس لك.
وحُسْن الخلق دائر في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} وهذا ليس كلامنا؛ فالله -عز وجل- يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له {خُذِ الْعَفْوَ} ما معنى خُذ العفو؟ هذه الآية في سورة الأعراف قال عنها أهل العلم: "جماع الأخلاق فيها"، فإذا أردت أن تتخلق فخُذ هذه الثلاثة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
خُذ العفو: يعني خُذ مِن أخلاق الناس ما عفت عنها، يعني ما خرج منهم اقبله، لأن صاحب الأخلاق لا يُطالِب الناس بالأخلاق.
وأمر بالعرف: حتى وأنت تأمر بالعُرْف وتُعلّم الناس الأخلاق المفترض أن تجتهد في تعليمهم التعامل مع الله أولًا، فالأخلاق مع الناس فيها مصالح متبادلة: منها ماهو لي أنا، فأنا واحد من الناس الذين سيستفيدون من أخلاقك الحسنة، لكن لما تصحّ أخلاقك مع الله، فأنا لست المستفيد المباشر من ذلك، لكن على المدى الطويل أنت يامَن صحّت أخلاقه مع الله ستكون صحة أخلاقك مع الله نافعة لك ونافعة لكل الناس حولك.

ما هي الأخلاق التي ستثقل ميزانك والتي ستكون بسببها قريبًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
الترجمة الحاصلة لهذه الأخلاق خاطئة، والترجمة هي مجرد سلوكك مع الناس، هذه هي الأخلاق عندنا! أما أنت مِن الداخل مَن تكون وهل قبيح مع ربك وما مقصدك من التخلق ليس مهمًا عندنا! وقد قال تعالى:  {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ثم في الموطن الثاني {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فالكلام الحَسَن باطل اجتمع مع ظاهر، وأكيد أنكم تأذيتم مِن أناس كثيرين، فالمطالبة بالأخلاق في العادة تكون بسبب الأذية الحاصلة.
في المقابل: لابد أن تعرف كيف ستزرع الأخلاق، فلا تدُور على الناس وتبحث عن أخلاقهم وتُربّيهم، هذا أول خطأ ترتكبه، إذا أردت أن تتكلم عن الأخلاق فكلِّم نفسك وكلِّم مَن تحت يدك مِمن تربيهم، أما الناس حولك فلا يُربيهم إلا الله، وإذا كنت لهم ناصحًا فكن لهم ناصحًا مُخلِصًا، لا تأتي إلى جارك وهو لا يصلي فتقول: (إذا لم يصلي فهذا الأمر عائد على نفسه) ثم في المقابل تأتي تعطيه مطوية فيها آداب الجوار وتتكلم عن حقوق الجار على الجار! ولماذا إذن لم تُحْضِر له مطوية تتكلم عن الصلاة وعن وجوبها جماعة؟! لماذا بحثت عن آداب الجوار؟ من أجل أنك تبحث عن مصلحتك!
ولذلك في مكاتب الإصلاح تُكْشَف الحقائق، لما تكون المرأة غاضبة مِن زوجها تتكلم عن أخلاقه غير الحسنة، ثم في النهاية تقول لي (وهو أيضا لا يحافظ على الصلاة)! الآن بعد عشرين سنة تقولين أنه لايحافظ على الصلاة! فلما تسألينها: منذ متى وهو لا يحافظ على الصلاة؟ تقول (مِن زمان، مِن أول ما تزوجته)! فلماذا بعد عشرين سنة تأتين لتشتكي عليه؟! لمّا ظهرت منه الأخلاق غير الحسنة! في الأول كانت تحبه فأغمضتْ عينيها عن صلاته، والآن بعدما بغضته أخرجتْ عامل الضغط الذي به تضغط على أنه لا يَصْلُح زوجًا.
فهذه الصورة التي نستعمل فيها الأخلاق، نستعملها للمصالح للأسف، فمثلا المعلمة لاتفكر في أي شيء إلا في أن تقوم المدْرسة بعمل دورة عن احترام المعلم، واحترام الحصة، أما احترام الله واحترام القرآن وكل ما تراه متفلتًا أين نحن عنه؟!
ندُور فقط في دائرة الأخلاق التي تسير في خط مصلحتنا. هل يعني هذا أن نترك الأخلاق ولا نتكلم عنها؟ لا، ولابد أن تفهم أصلًا من أين تأتي الأخلاق وما هي الأخلاق المرضيّة التي تُرضي الله وليست مجرد سلوك مزيف، لأن هذا السلوك المزيف لابد أن تأتي اللحظة التي ينكشف فيها الزيف.
قواعد قرآنية لأخلاق مرضية :
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي ثمراتها {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} .
الشجرة أصل في الأرض ولها فرع في السماء ولها ثمرة تَخْرُج. فما أصلها؟ هذه الصورة الممثّل بها، فما هي الصورة فيك يا أيّها المؤمن؟
أصل هذه الشجرة كلمة (لا إله إلا الله) في قلبك، شهادة التوحيد والإيمان وأصول الدين كلها.
وفروعها القيام بشرائع الدين الظاهرة والباطنة مِن حقوق الله وحقوق الخلق.
أي أن في قلبك أولاً شهادة أن لا إله إلا الله، تريد أن تُعامل الله فتكون النتيجة الفرع الذي سيخْرُج ويطلع في السماء، ستأتي لكل شخص وتقول (هذا له عليّ حق، وهذا له عليّ حق)، فستنظر إلى كل الناس على أن لهم حقوق، وحتى لو لم يطالبوك بالحقوق فأنت في قلبك خوف شديد أن لا تستطيع القيام بحقوقهم، لأنك تعرف أن مَن سيُحاسبك على حقهم هو الله، وهذا هو التقيّ النقيّ صاحب الخُلُق العليّ، عِلْمُهُ عن الله متأصل في قلبه وثابت. واسمع لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فهو يفهم أن الله مُطّلع على قلبه، فماذا يفعل في نفسه؟
يكون حريصًا على القيام بحقوق الناس، وحقوق الناس ليست الحقوق المالية فقط بل حتى الحقوق المعنوية: يخاف أن يأتي إلى السلام الشرعي الذي هو حق للمسلمين ولا يقوم به، يخشى أن يأتي فيظْهَرَ مِن ملامح وجهه الكدر ولا يتبسم في وجوه إخوانه مع أن لا أحد لامَهُ على ذلك، لكنه يعلم أن هذا حق أحقّه الله وسيُحاسَب عنه، ففي تفكيره أن ما يقوم به مِن أخلاق ليس تفضُّلًا منه إنما مِن حقوق المسلمين عليه، وكلما زادت العلاقات كلما زادت الحقوق، ولذلك مِن كثرة خوفه من الحقوق وحمْل همّها لما يأتي ينام في آخر اليوم يقول الدعاء: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ))[29]، ما معنى ((اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ))؟ هذه من أذكر النوم فكل الناس يقولونها، فلا تتصور أن الدَّين مبلغ من المال لأحد عليك، إنما الدين الحقوق، حقوق الله وحقوق الخلق، فهذا الشخص يأتي ينام فيفكّر، وأهم همومه أن لله عليه حقوق وللخلق عليه حقوق ولا يمكن أن يحقق هذه الحقوق أو يقوم بها بنفسه، فيستغيث بالله وبأربعة أسماء من أعظم الأسماء، وكأنه يقول: (يا مالك الأسباب سبِّب لي أسباب القيام بالحقوق، يا مَن تُعطي الأسباب نتائجها أعطني نتائج قيامي بالحقوق، يا مَن هو الظاهر الذي أمره نافذ هيّء لي الأسباب وسهّل لي الوصول إليها، يا مَن هو باطن ويعلم ما في قلبي أُظْهِر لك مِن قلبي صدق إرادة القيام بالحقوق).
فهذا الذي يحْمِل هَمّ الأخلاق السوية وأن يقوم بحقوق الخلق ما استطاع، ولذلك لا يُلام على التقصير لأن فلان لا يعرف حقه وعلاّن لا يعرف حقه، فهو بداخله مثل النار، يريد أن يقوم بكل الحقوق مِن أجل الله، ولذلك ورد عن عبدالله ابن المبارك أنه كان يتصدق في آخر المدينة على امرأة عمياء فكان يذهب إليها، وكان له مكانة فكان أصحابه يقولون له أنه لا حاجة للوصول إليها وهي عمياء فلن تراك، فقال: لكن الله يراني ويرى سعيي مِن أجل عطائها، وأنا لا أحسب حساب أنها عمياء.
ومِثْلُهُ عن غيره أنه أَمَرَ أهله أن يصنعوا طعامًا فاخرًا ودخل عليه رجل به خبال في عقله، لا يفهم، فأطعمه مِن هذا الطعام الفاخر، وكان الرجل يأكل ويسيل منه وهو يمسح له ويُطعمه، فكان أهله يقولون له هل تُعطي هذا الطعام لهذا الذي لا يعقل ماذا يأكل!، فقال: ولكن الله -عز وجل- يَعْلَم، يعلم هذا الفعل مني فيقبله فيثقل ميزاني.
فالقصة ليست في مَن هو أمامي وهل يعرف حقوقه أم لا، القصة في أني مِن قلبي أرى أن هذا حق لابد أن أقوم به، لكن متى؟ لا يُبنى هذا إلا مِن قلب فيه معرفة بالله، فلما تَعْرِف الله سترى الله مِن وراء كل الناس، ولذلك اعبد الله كأنك تراه، لأنك ترى الله مِن وراء كل الناس الذين تعاملهم، فهذا لا تُخْلِف موعده، وهذا تعطيه مِن وقتك، وهذا تعرف أنك لما تقول له كلمة سينشرح صدره مع أنه ليس مطلوب منك لكنك تقف وتقول له الكلمة، لأن الله مكّنك وأعطاك فتقوم بالحقوق عليك.
هذا كله كلام عن الفرع، إذن ما الثمرة؟
الثمرة ثواب عاجل أو آجل، وكذلك ما يكسوك الله به مِن خُلُق جميل وهدي حسن وسمت صالح، يكسوك الله به وليس أنت مَن تكسى به، ولذلك ورد في الحديث -انظر إلى الثمرة- ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا)) لماذا أحبه؟ قام بالحقوق: حقوق الله وحقوق الخلق، أكثر ورود كلمة (يحب) فيها عمل مع الناس، المحسنين، المتقين، المتصدقين، هذه ثم إذا أحبه الله ((دَعَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ)) وانظر من أين يأتيك الحب والخلق الحسن  ((قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ))[30] هل تعرف مَن هم أهل السماء وما أعدادهم؟!
في الحديث ((أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ))[31] تصوّر هذه السماء كلها وأهلها يُنادى فيهم أن أحبوا فلانًا لأن الله يحبه، فإذا أحبّه الله وأحبّه جبريل وأحبّته الملائكة يُوضع له القبول في الأرض، فذلك صاحِب الخلق السويّ مقبول عند الله.
الأخلاق لا توصف أنها حسنة إلا إذا بُنيت على اعتقاد حسن، وقد يأتي مباشرة الكلام في عقلك عن أهل الكفر وأخلاقهم.
ضُرب لك في المثل صورتان: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا} والصورة الثانية شجرة أخرى لكنها خبيثة {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} أيّ موقف يزيلها.
         الأخلاق تنقسم إلى قسمين
         أخلاق تعبُّد
         وأخلاق تملُّق
لا تأتي أخلاق التعبد إلا مِن شخص استقر في قلبه لا إله إلا الله.
الأمر لازال يحتاج إلى مزيد نقاش وفهم دقيق لهذه المسألة، لكن على الأقل ذَكَرْنا مجمل الأعمال التي تسبب ثقل الميزان، وانتهينا بالكلام حول أن أثقل عمل يثقل الميزان هو الخلق الحسن، وقلنا: هات الخلق الحسن على اعتبار أنه حقوق للخلق، وكلما زادت عطايا الله عليك كلما وجب عليك أن تعطي الحقوق أكثر، ثم إذا أعطيت الحقوق خرجت منك الثمرات: أحبّك الله وأحبّك أهل السماء وكُتِب لك القبول في الأرض، فثقُل ميزانك يوم القيامة بخُلُق حسنٍ صحيح.

ختامًا ... اللقاء مكوّن من ثلاثة عناصر رئيسية:
1.                مسألة ثقل الميزان بالباطن، ولا علاقة له بالظاهر، بدأنا بابن مسعود وسعد ابن معاذ -رضي الله عنهم أجمعين-، ثم جليبيب، وزاهر، ثم في النهاية قصة محمد ابن المنكدر مع الرجل المقنّع.
2.                لماذا ميزان هؤلاء ثقيل؟ السبب شيءٌ وَقَرَ في القلب، فأتى السؤال عن القلب وماذا يجب أن يقع فيه من أجل أن يثقل ميزانك. إذا امتلأ القلب إيمانًا ومعرفة بالله جاء عمل القلب ثم أتت أعمال الجوارح، والذي يستقر في قلوبنا هو الذي يثقّل موازيننا.
3.                الأعمال التي ورد في الشريعة أنها تثقل الميزان، لكن لا تتصور بعد العنصر الثاني أن هذه مجرد أعمال ستجري على لسانك أو في بدنك، لابد أن تفهم أن هذه الأعمال ستكون مبنية على عمل قلبك.

انتهى اللقاء، والحمد لله رب العالمين.




[1]  طمرين : الطمرور: بضم الطاء مع شدها وسكون الميم: الذي لا يملك شئيا. الطمر بشد الطاء مع كسرها وسكون الميم الثوب الخلق . وفي الحديث : رب ذي خلقين  أطاع الله  حتى لو سأل الله تعالى أجابه.
[2]  رواه مسلم في صحيحه؟
[3]  سير أعلام النبلاء.
[4]  رواه أحمد وهو صحيح.
[5]  رواه أبو يعلى وهو حسن.
[6]  رواه مسلم في صحيحه
[7]  متفق عليه.
[8]  رواه الترمذي وصححه.
[9]  متفق عليه.
[10]  متفق عليه.
[11]  رواه البخاري في صحيحه.
[12]  رواه مسلم في صحيحه.
[13]  رواه مسلم في صحيحه.
[14]  محمد : 29
[15]  رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني صحيح.
[16]  الشعراء: 89                                    
[17]  آل عمران :  154
[18]  صحيح ابن حبان.
[19]  الأحزاب:41-43
[20]  متفق عليه.
[21]  رواه النسائي واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[22]  متفق عليه.
[23]  رواه مسلم في صحيحه.
[24]  الإسراء : 25
[25]  رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[26]  البقرة : 83
[27]  المنافقون : 4
[28]  رواه البخاري في صحيحه.
[29]  رواه مسلم في صحيحه. بداية الحديث: عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ.. إلخ)).
[30]  متفق عليه.
[31]  المستدرك على الصحيحين للحاكم، قال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.