الأحد، 4 أكتوبر 2015

شرح اسم الله ( الوكيل )

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبهِ أجمعين.
الحمد لله الذي يسّر لنا هذا اللقاء وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعله لقاءً مباركًا مرحومًا، اللهم آمين.
كما تعلمون أن كل أسماء الله -عز وجل- لها علاقة ببعض ومرتبطة ببعض، وأسماء الله -عز وجل- كلها تُسَدّد في نَفسِ الإنسان ثغرات متَّصلة بِبَعض. وقد عَرّف الله -عز وجل- نفسه إلى عبادهِ من أجل أن تستقيم حياتهم ويفهموا ما هو المُراد مِن عَيشِهم.
ذَكَرْنا في قواعد في بناء النفس أن القاعدة الأولى التي تعتبر أهم القواعد في التعامل مع الحياة هي: (أنّ ابتلاؤك في الحياة ليس اختبارًا لقوتك الذَّاتية إنما اختبارًا لقوة استعانتك). وهذه بالنسبة لَنا قاعدة ذهبية، على أساسها تختلف تعاملاتنا مع الحياة، أي أنك إذا فهمت أن ممارستك للحياة عبارة عن اختبار لقوتك الذاتية، ستصارع بنفسك، ستدافع بنفسك، ستدبّر نفسك، ستتخيل أنك أنت المسؤول عن تدبير نفسك، هذا لو تصورت أن الاختبار واقع في قُواك الذاتية، لكن لو فَهِمت أنك ليس لك قُوى، وهذا الكلام ليس وَصْفَنا نحن لأنفُسِنا، إنما هو وصف الله -عز وجل- لعبادهِ..
ففي أوائل سورة الإنسان قال الله –تعالى-: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لــَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}. وقد مرَّ علينا دهرٌ طويل ونحن لسنا بشيء، وسيمرّ على العالم دهر طويل ونحن لسنا فيه.
أنت كما وصَفَكَ الله في سورة النساء {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[1] فافهم أنك لستَ الوحيد الضَّعيف، بل كل النَّاس خُلِقوا ضُعفاء، لكن هناك شخص يَلتقط لنفسهِ صورة خارجية بأنه قَوي ويقوم بتمثيل هذا الدّور، وهناك شخص يكتشف أنه ضعيف لكن لا يَعرف ما مصدر قوّته، وآخر يعرف ما مصدر قوته، فاختبارك ليس في قواك الذاتية، ليسَ لك قوة ذاتية، إنما اختبارك في قوة استعانتك.
وكيف تأتي قوة الاستعانة؟ بقوة المعرفة عن الله! فلمَّا تريد أن تذهب إلى طبيب مثلا، والناس يمدحون لك هذا الطبيب، فتذهب وقلبك ممتلئًا بهِ ثقة!
فمشكلتنا أننا لا نستعين بالله، لماذا؟ لأننا لا نَعرفهُ! فالجهل بالله هو الذي سَبَّبَ ضعف التعلق به، إلى أن نأتي إلى دَورَنا الحقيقي الذي يجب أن نقوم بهِ ونتركه، لأنك لو اعتقدت أنّ لك قوة ستبقى طول الوقت تُصارِع، مُتخيِّلًا أنك بقواك الذَّاتية ستفعل، لست متصورًا أن المطلوب منك هو قوة استعانتك.
لمًا يُقال لك أنه لابــد مِن أخذ الأسباب والشَّريعة أمرت بالأخذ بالأسباب، نقول: نعم، أخْذ الأسباب هو قلب الاستعانة، لكــــن كيف آخذ الأسباب؟
أولًا: لابد مِن الاستعانة بالله أن يُهيّء لنا الأسباب، أليست هذه الأسباب مِن عطاء الله؟ فلو تعاملت باسمه (الفتاح) مثلًا، الذي من معانيه أنه -سبحانه وتعالى- يفتح مغاليق أسباب الخير، وأنه يفتح مغاليق القلوب، فلو جئت تكلمني عن الأسباب سأقول لك: نعم أنا أعلم أن الله خلق الكون على مبدأ التَّسبب، ولا يوجد شيء إلا وله سبب، لكـــن أيضًا اعلم هذه المعلومة المهمة وهي أن الأسباب هذه مُلْك لله -عز وجل-، فمـــاذا تعتقد؟ هل تعتقد أن الأسباب تَسبق الله أم تعتقد أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء؟ الله -عز وجل- هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإذن أنا أتوسل إلى الله الفتاح، الأول أن يرزقني إياها، وأن يفتحها علي، وأن يشرَح صدري للتَّعامل معها، وأن ينفعني بها.
بعد ذلك تأتيك آية واضحة تقول لك {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[2] فإذا نظرت إلى حقيقة المسألة ستجد أن البذرة والماء والحوْل والقوة التي عندك، كلها مِن عند الله، ثم مَن فَالق الحَّب والنَّوى؟ ومَن مُخرِج الثَّمرات؟ ستجيب نفس الإجابة.
فقوّة تعلقك بالله معناها أن:
1.             تتعلق به أن يُهيّء لك الأسباب.
2.             تتعلق به أن ينفعك بالأسباب.
3.             تتعلق به أن يُعطيك نتائج الأسباب.
فلا تتصور أن اختبارك في قُواك الذَّاتية، بل كل اختبارك دائرٌ في قوة استعانتك به.
لكــــن لمــاذا لا نستعين بالله؟
لِضَعفِ معرفتنا به، فضعف المعرفة يُوَلِّد ضَعف الثِّقة به، ثم تَشعر أنك يُمكن أن تُدَبِّر نفسك أحسن مِن تدبير الله، يعني بَدلًا من أن تَحْمِل كل هُمومك وتَضَعها عِندَ بَابِ الله، تشعر أنك لابد أن تقوم بتدبير شأن نفسك، وبعد ذلك تُقنع نَفسك فتقول: (ربنا قال خذوا بالأسباب) نعم لمَّا ربي قال لك خذ بالأسباب، أَمَرَك أولًا أن تفزع بقلبك إليه {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[3]. وهل {فَإِذَا عَزَمْتَ} فِعْلُ البدن أم القلب؟ القلب، أي إذا اجتمعت إرادتك. مثلًا قررت غدًا أن تستضيف أصحابك، وغدًا هو اليوم المناسب، هنا قد عَزَمت، وهو الذي على تعبيرنا نقول (قررت)، في هذه اللحظة -لحظة اتخاذ القرار وليس في لحظة تنفيذه- مـــاذا تفعل؟ تتوكل على الله.
والأمر صريح أنك وقت ما تَعزِم على الأمر، تتوكــل على الله، معنى هذا أنك قبل ما تكلمني عن أسباب تحقيق مُرادك، وعن أسباب تأديب أولادك، وعن الأسباب التي تُنجِح لك موقفك مع ضيوفك غدًا، قبل ما تكلمني عن الأسباب هذه، افزع إلى الله، فهو نِعْمَ الوكيل، نِعْمَ مَن وَكَّلت.
أي أنك عزمت الآن، فإذا أَردْت التَّنفيذ كأنّك تُوكِّل عَنك مَن يُنفّذ، فهو -سبحانه وتعالى- وكيلٌ على عباده، وما معنى أنه وكيلٌ على عباده؟ يعني تَكفَّلَ أن يُدبِّرهُم أَحسن تَدبير ويُصلِحهُم أحسَن إصلاح، ويَشرَح صُدورَهم ويُيَسِّر أمورهم، لكــن العَجَبْ أن تَجدهُ وكيلًا للعباد، عالمًا بأحوالهم، وهو العزيز الذي أمره ينفذ ولا أحد يردّه، كل هذه الصفات فيه وبعد ذلك لا نتخذه وكيلا! هذا عَيب في التفكير، لأنه لمَّا يأتي أحد ويقول لك: (هذا وكيل العمارة) يعني الذي يهتم بشؤونها ويراعيها ويراجعها، ولابد أن يعرف تفاصيل الذي فيها، فمهما كنت تَثِق أن هذا الشخص سَتُوَكِّلُهُ على عِمارَتك وسيأتي لك بنتائج جيدة، مهما كان لابد أن يكون فيه نقص وعيب
لكــنك تقول: (الحمد لله أنّ ربي رزقني هذا الشخص وكيلًا للعمارة، فهذا أحسن مِن أني أنا أقوم بمتابعة أموري) هذا وهو جاهل، ناقص العلم، ينام، ضعيف الإرادة، ضعيف القدرة، ليس كل ما يريده يحصل! فكيف بمن لا تأخذه سنة ولا نوم؟! فكيف بمن هو على كل شيء قدير فكيف بالعزيز الذي إذا أراد أمر أنفذهُ ولابد؟ كيف لا يُتَّخذ وَكيلا؟!
ثم إذا لم تتخذ الله وكيلا مــــاذا فعلت بنفسك؟
أَهلَكْتَ نَفسك! لأنك تقول في أذكار الصباح والمساء: (لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)[4]، وفي رواية أحمد: (إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ)[5] يعني أنا لو جئت دبَّرت نفسي سأُضيع نفسي! أو أدبَر تدبيرًا يَظهَر فيه عَواري، أو أَدبِّر تَدبيرًا أقع فيه بذنب، أو أدبِّر تدبيرًا يحصل مني فيه خطيئة، هذا تدبيرك لنفسك، فلماذا تقتنع بنفسك برغم أنك أنت جَربتَها ورأيت كيف أنك لمَّا تدبر لنفسك ماذا يحصل لك؟
إذن لابد أن تتصور ضعفك، فهذا أول وصف لك، وليس ضعفك أنت فقط، بل أنت وكُل الناس الذين حولك! فلا تتشبث بأحدٍ من الخلق، فكلهم على حدٍ واحد لهم واصفٌ واحد وهو الفقر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[6] فكلهم على حدٍ سواء مِن جهة فقرهم، فإذا كانوا كلهم على حدٍ سواء مِن جهة فقرهم فلمـــاذا تُعَلِّق نَفسَك بالفقراء؟! ولمــاذا تَنتَظِر مِنهُم إمدادَك وتنتظر مِنهُم إسعادك؟! لا تنتظر منهم، إنما الإيجاد مِن الله والإعداد مِن الله والإمداد مِن الله والإسعاد مِن الله، ألست تعلم أنه هو أضحك وأبكى؟ فإذا كان هو الذي أضحك وأبكى، تَوَسَّل إليه أن يَشرَح صدرك وأن يُهَدِّئ نفسك وأن يَجعلك ترضى عنه، فمَن رضي فَلَهُ الرِّضا.

قد تقول: هو –عز وجل- وكيلي وأنا وَكّلته، ومع ذلك يأتيني في مواطن كثير شيء أنا لا أرغبه!
نقول: أنت في أول لحظة تتصور أنك لا ترغبه، لكن إذا استسلمت له ورضيت عنه ،كشَفَ لَك ما يُثَبِّتَك على رِضاك! لأن العَبد جاهل بما يُصلح نَفسه، أضرب لكم مثالًا في تعاملنا مع أبنائنا:
ألسنا نُدَبَّر لأبنائنا ما نَرى فيه صَالِحُهم؟ هل كل ما نراه فيه صالحهم يناسب آراءهم وأفكارهم؟ كلكم تتفقون أنه (لا) وقد يأتي قرار يكون ما فيه مصلحة إلا لهم هم، أمَّا أنا فخارج المصلحة، ومع ذلك يَنزُل عليهم هذا القَرار مثل الصَّاعِقة، ويَردّونه ويَدفَعونه بِكل ما يَملِكون مِن قُوة، وأنا أنظر إليهم مُستَعجِبة، يعني أنا مَن سأدفع ثمن هذا القرار، وأنا مَن سأتعب، وأنتم المنتفعين، فما بالكم تدفعون ما ينفعكم؟! لمـــاذا تدفعون شيئًا أنا متأكد أنه سينفعكم؟! ستجيب: (لقصور عقولهم، لأنهم ما يفهمون). ونحن دائما نقول لأنفسنا: (غدا سيكبرون ويفهمون).
الرَّب -سبحانه وتعالى- الكامل يُعاملك بنفس الصورة، ولمَّا وَضَعَ تَحتَك سفهاء -يعني أنت الكبير وهُم صِغار سُفهاء- مِن أجل أن تفهم نفس الصورة، من أجل أن تفهم أنه لمَّا تأتيك أفعال الله، لابد أن تؤمن أنه حكيم، ثم تَتَريّث وتَنتظر، وأنه لا يمكن أن يأتي مِن عند الله إلا الخير، لكن المهم ((من رضِيَ فَلهُ الرضا، ومن سَخِط فَلَهُ السِّخَط))[7]. وسَخَط الله -عز وجل- لَمَّا ينزل على أحد يجعل العبد يَنقَلب! فكل ما يكون خيرًا ينقلب في تصوره فيصبح في تصوّره شرًا.
إذن العبد لو وَكَّلَ ربه لابد أن يقع في قلبه الثقة، لأن الله -عز وجل- موصوف بالكمال، فما يأتي منه إلا كل خير، لكن نُفوسنا هي التي فيها أمراض تحتاج إلى علاج.
وأنت تعلم أننا لو أردنا أن نعالج أبداننا نذهب للطبيب، ويُمكن أن يقول الطبيب: (المسألة فيها شَق، تحتاج إلى عملية) وأنت الآن ذاهب للعمليّة أوحامل ابنك للعمليّة، مــاذا تشعر؟ هل تشعر أنك ستُهلكه أم أنك ستذهب به إلى الشفاء؟ بالطبع ستذهب به إلى الشفاء، بالرغم أنك أنت فَاهم أنهم سيشقّون بطنـه وسيفعلون ويفعلون، فأحيانًا النَّفس هذه فيها أمراض لن تُشفى إلا بِمِشرَط! لن تشفى إلا إذا أتاك مِن الأقدار ما يؤلمك فَتُخرِج مِن نَفسِكَ المَرض.
إذن متى نحتاج اسم (الوكـيـــل)؟
بعدد أنفاسنا نوكله يدبر شؤوننا، طول الوقت تتقلب في التدبير: تُدبّر نَفسك، تُدبّر أولادك، تُدبّر أكلك، تُدبّر ضيوفك، تُدبّر بيتك، وكلما كثرت حاجتك للتَّدبير كلما كثرت حاجتك لاستعمال اسم الوكيل.
سنرى قصة وردت في البخاري تُبيّن التَّعامل مع اسم الوكيل..
مِن عجيب ما قصّه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بني إسرائيل في هذا الباب ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ:  كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ.  فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ).
فهذا استلف مِن صاحبه، أخذ المال وذهب إلى بلد آخر، وانتهى وقضى حاجته، فجاء الوقت الذي يجب أن يرد فيه المال، فلمَّا بحث عن مركب ينقله من تلك الجزيرة إلى هنا لم يجد، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار-الدَّيْن الذي عليه-، أي أنه لَفّ هذه الألف دينار بالصحيفة ثم وَضعها في خشبة ثم أدخلها في زجاجة.
(فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا.  فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ. ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ.  فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).
وهذا مما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن قصص بني إسرائيل.
فلو وَكَّلت الله -عز وجل- بأمر، فحتى لو كان بينهم مثل هذه البُحور سيوصلهُ الله -عز وجل- لصاحبهِ، فلا شخص آخر أخذ الخشبة، ولا شخص آخر فتح الورقة، ولا شخص آخر استلم هذه الدنانير، فهو جعل الله -عز وجل- عليه وكيلًا ونِعْمَ الوكيل، بيدهِ الأمر، بيدهِ مقاليد كل شيء.
لما تتخذ الله وكيلا، وتوكّله على أَمرِك فتقول: (يا رب دَبِّرني فأنا عاجز لا أستطيع أن أدبر شأن نفسي) انظر ماصفات مَن وكّلته: على كل شيء قدير، بكل شيء عليم، حكيم، رحيم، فلمَّا يدبّرك سيدبّرك بهذه الصفات، فلمَّا تتخذه وكيلًا على الحقيقة وتكون قوة تَعلّقك به صادقة، لا يمكن أن يَخذِلك! لكــن لابد أن تتصور أن المسألة تحتاج إلى توحيد.

ما المقصود بالتوحيد في التوكيل؟
أي أنك ما تتخذ غيره وكيلا. والله -عز وجل- يختبرك، وقت ما يتعلق قلبك به توكُّلًا عليه، يأتيك مِن الناس مَن يقول لك: (تعال، أنا أفعل لك، أنا عندي واسطة، أنا أفعل كذا وكذا أو أنا عندي كذا وكذا). ستقول لي أن هذه من الأسباب.
نقول: اعلم أن هذه يُمكن أن تكون اختبارًا وليست أسبابا، فمن أجل أن تعرف عليك أن تُفرِّق، يجب عليك قبل أن تقفز إلى الأسباب أن تتعلق بهِ -سبحانه وتعالى-، استعِن به، واستهديه (هل آخذ هذا السبب يا رب أم لا آخذه؟) استخِر. المهم أن تعلم بأنك لمَّا توحّده بكونه وكيلًا لك، تأتيك البلاءات، والصعوبة كلها في أن تجعلهُ وَحدَهُ وَكيلك، لأنك في مواقف تَجد نَفسَك عاجزًا. في المقابل تأتي مواقف تجِد فيها قوة في نَفِسك، فتخيل لمَّا تكون نفسك فيها قوة لأن تُدَبّر نفسك، فتقول مثلا: (أنا مُعتاد على فعل هذا الأمر، أنا طول عمري أقوم به، هذه ليست المرة الأولى التي أفعل فيها هذا الفعل) أي أنّ نفسك ستكون حاجزًا بينك وبينَ أن تُوكِّل الله، لأننا اتفقنا سابقًا أن خبرتك هي نقطة بلاءك، بمعنى أنه كلَّما ازددت خبرة في أمر، كلما زادت ثقتك في نفسك وشعرت أنك في غنى عن الاستعانة بالله. وهذا ما هو إلا خُذلان!!
فكلما ازددت خبرة قَلَّت استعانتك بالله -عز وجل- ثقةً بنفسك، مع أنك في أذكار الصباح والمساء تقول: (لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) ، أي أنك تقول: يا رب لا تجعلني أدبر نفسي ولا بمقدار طَرفة عين، يعني ولا حتى في أقل الأمور، وفي أول الدعاء تقول: (أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)، دبّرني واجعله صالحًا لي.

ثم لو تأمّلت في قولك (أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ) وفهمت ما معنى الصّلاح وما معنى أن تكون صالحًا، فهمت حينها أن (أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ) ليس معناها أنه يجب أن يوافق هواك، لا، إنما تعني: يا رب دبّرني في شأني بما يزيدني صلاحًا أن أُجاورك في جنّتك، لأن معنى عبارة (هذا عبدٌ صالح) أنه عبدٌ صالح لمجاورة الله في الجنّة، فالعباد يصلحون للمجاورة بعد أن يصلحهم الله، فأنت تقول: (أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ) يعني أجري عليَّ في شؤوني وتدبيري ما يجعلني صالحًا لمجاورتك. ثمًّ تقوم بِدَفعِ عَدوَّك الأكبر الذي لو تُرِكتَ له لفسدت، بقولك: (لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)، وفي رواية لأحمد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: (إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ) فهذا كلام واضح في أن العبد إذا اتَّكل على نفسهِ في تدبير شؤونه ضاع!
اتفقنا على أن النسيان أمر طبعي وعادي، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[8] فمثل هذه المفاهيم لن تستملك قلبك مِن أول ما تسمعها، إنما لما تسمعها أول مرة تكون كأنها خاطر، ثم مع تكرارها تَتشبّع بها، ثم مع تكرارها والصَّدق في إرادة التمسك بها يسددك الله -عز وجل- في المواقف، فالتسديد ما يأتي إلا مِن عند الله -عز وجل-، لكن مِثل هذا لا يَنفع فيه إلا الإعادة والزيادة حتى يتشبّع قلبك، وكلما زِدْت كلما زادت عدد المواقف التي تُوَفَّق فيها، لكن ليس من مرة واحدة، ففي خلال اليوم كلما زِدْتَ سَماعًا عن وصف الله وزدْتَ لجوءًا له، قلّت عَدد السّاعات التي ينفصل فيها قلبك عن اللجوء لله، فنحن تأتينا ساعات ولحظات ودقائق تنفصل فيها قلوبنا عن التعلق بالله، فكلما ازددت ذكرًا وكلما تذكرت بالعلم، وكلما فهمت عن صفاته -سبحانه وتعالى-، قلّت هذه الساعات التي ينفصل عقلك فيها عن ذكر الله -عز وجل-.
ماذا تفعل إذا مَكّنك الله وأصبحت عندك خبرة؟
ذَكِّر نفسك أنك لم تكن تعْلم وأنّ الله علَّمك. لابد أن تُذكِّر نفسك بأصلك، ولو لم تفعل هذا ستدفع الثَّمن قريبًا!
مثلا: امرأة متمكِّنة في الطبخ، فإذا قيل لها: (افعلي لي كذا و كذا) ترد فتــقول: (هذا أمر سهل، فقط أعطِني ربع ساعة). فماذا يفعل الله بها؟ في الغالب أن الله يَخذلها، تأديبًا، لأنها نَكَبَت نَفسها بأنها شعرت بقوة قدرتها. في المقابل قد تتكلم أمام الناس فتقول: (هذا الشيء سهل عليَّ مثل شربة الماء) ويتركك الله -عز وجل- ويعاملك بحِلْمِهِ
لكـــن كلما ازددت عبادةً وطاعةً كلما تأدّبتَ بسرعة قبلما تفلت، وكلما أتى هذا بسرعة دلَّ على أنك مِن الله قريب. فإذا تمكنت مِن الشيء، دائمًا ذَكِّر نفسك بأن الله علّمك، ثم اعلم أن هذا الذي تمكّنت منه قد تأتيه عوائق لا تستطيع أن تُصلحها.
فمثلا صداع قليل يأتيك في رأسك فما تستطيع أن تنظر إلى الجهاز، أو تعمل على الانترنت، وقد كنت واثقًا أنك سترسل أغراضك، ثم في لحظة واحدة ينقطع الانترنت، وأحيانًا قد تقول: (انقطع الانترنت مِن عندي، سأذهب إلى الجيران) وفي الواقع أن الكيبل الذي في البحر الأحمر انقطع، وهذا الكيبل لمَّا انقطع مرتان وراء بعضهما البعض في سنتين، أتت صدمة للناس الذين كانت قلوبهم مُعلقة بالانترنت، لأن هناك أناس كثيرون سافروا وقد اعتمدوا على أنّ فلان سيرسل لهم كذا وفلان سيعطيهم كذا، وفجأة قيل لهم أنه لابد مِن الانتظار على الأقل ثلاث أو أربع أيام إلى أن يَصلح! فأنت خرجت مطمئنًا أنك أنت مدبّر لكل شؤونك، وأنك الآن ستفتح بريدك وتجد كذا وكذا، وفي النهاية لا بريد تم فتحه ولا أي شيء مِن هذا تحقّق، فالمفترض أن تتأدب مِن هذا الموقف وتفهم أنك لا تستطيع أن تُدبِّر شأنك، لا تستطيع أن تدبّر أمورك، إنما اجعل نفسك قويًا في توكّلك على الله.
وفي أحيان كثيرة نأتي نتوضأ ونتذكر أشياء كثيرة، فنقول لأنفسنا (انتبه لا تنس هذا الأمر) وبعد ذلك ونحن نصلّي نتذكره، وبعدما نُسلِّم من الصلاة نتذكره، أيضا ونحن نلبس ملابسنا نقول أننا لو نسينا هذا الشيء سنرجع له ولو كنا في آخر الدنيا، ثم في الأخير نركب سيارتنا ونحن قد نسيناه! هذا تأديب عام. وكم مِن المرات أخذنا أشياء نريد أن نأخذها معنا ووضعناها عند باب البيت حتى لا ننساها، وبعد ذلك نخرج وننساها، ونحن أصلًا خارجون مِن بيوتنا لأجلها، ثم نخرج ونركب سياراتنا ونحن لم نأخذها! مِن أجل أن تعرف أنت مَن! فلو اتخذته وكيلا كان ذكّرك بها في الوَقت المناسب وكان شعرت بمنّته فتشعر بضعفك. ولا تقل: (أنا ذاكرتي ضعيفة) فذاكرتك في قلبك، وقلبك هذا بقدر امتلائه بكمال الله، وبقدر امتلائه بالتعلق بالله، بقدر ما يذكّرك الله ما ينفعك، وعندما لا يذكّرك تفهم لماذا لم يذكّرك، لسببٍ أو لآخر.
لاترهق نفسك بأن تتصور أنك تدبّر شؤونك كلها، وأنك يجب أن تبقى ذاكرًا للأشياء وما تُخطئ، وتَحْمِل بكفّيك الاثنين مسئولياتك ومسئوليات أولادك، فأنت الآن لو حملت كأسَي ماء مع بعضهما البعض، وأردت أن تحْمِل شيئا مِن الأرض، ستحتاج لقوة إتقان حتى لا تسكب الماء وأنت تأخذ الورقة مِن الأرض، وتدبيرك لشئونك بنفس هذه الطريقة، أي أنني مِن أجل أن لا أسكب الماء وأأخذ الذي في الأرض في نفس الوقت أحتاج إلى تركيز، وبعد ذلك في النهاية ومع قوة التركيز لابد أن يُسكب مِن الماء قليلًا، فهذا هو تدبيرك لنفسك: مهما بذلت جهودك، ومهما كان معك مِن أوراق  وأقلام وتخطط وتخطط، في النهاية لا يحصل إلا الذي يريده الله.
هل معنى هذا الكلام أن لا نُخطط؟! لا تفهم خطأ، بل أول ما يشتعل في قلبك إرادة شيء استعن بالله.
لمَّا تقول: (جاءتني فكرة: ما رأيكم أن نفعل كذا وكذا) سنناقش عبارة (جاءتني فكرة) ونقوم بإعرابها:
جاء (فعل)    الياء (ضمير مفعول به – أنا)       فكرة (فاعل)
مِن أين أتت هذه الفكرة؟ وكيف ستكون هذه الفكرة فاعل؟ ومن أين ستأتي الأفكار إلا أنها مواهب يهبها الله! فمَن قَدَحَ في ذِهنَك أصلا هذا المَخرَج أو هذه الفكرة؟ ما قَدحها إلا الله، فأول ما تشتعل في نَفسك الحاجة، أول ما تَعِزم، تَعَلَّق به مباشرة فهو الوكيل، فيُسدِّدك، فتجد حينها نفسك لا تَكتُب إلا ما يَنفعك، ولا تُخطط إلا ما يُناسِبَك. أنت الآن في عُنق الزُّجاجة، فمن أجل أن يتوسع عنق الزجاجة استعن فيُفَرِّج عليك، إلى أن تصل إلى القرار السليم.

هناك ثلاث اختبارات في حياة العَبد مُتكررة:
1.             {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ} الاختبار الأول أن تعْلم أنه هو الذي مسَّكَ بالضر، فهل أنت راضِ عنه أم لست براضٍ؟ يعني الاختبار الأول في الرِّضا: هل ترضى عنه أم لا ترضى بعدما مسَّك بالضر؟ سواء وقت وقوع الضُّر أو بعده، فليس فقط الرضا في وقت وقوع الضر ومِن ثم انتهى! وقد قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- كما صحّ في البخاري: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)[9] فهنا سيتبيّن رضاك، والذي يصبر عند الصدمة الأولى هذا أعلى شيء، والذي يتصبّر ولكن ليس عند الصدمة الأولى -يعني بعدها بقليل- أفضل من الذي لا يتصبّر نهائيًا، والذي يتصبّر في اليوم الثاني أفضل مِن الذي لا يتصبر أصلًا، والذي يتصبّر في اليوم الثالث أفضل مِن الذي يتصبّر في اليوم الخامس، لكن الصبر الحقيقي هو: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى).
الضُّر هذا أي شيء، بتفاصيل الحياة، ومما لا يُعقل أن البعض إذا كان يمشي فاصطدم في الباب قام يَسُب الباب، والآن لمَّا يَصُعب عليهم شيء يقومون بلعنه! هلاّ قلت (بسم الله)! استحضر الاستعانة يفتحها الله لك، لكن كل شيء أصبح عندنا بالمقلوب.
2.             {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هو} الاختبار الثاني: ستطلب الكشف مِمّن؟ {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هو} وهذا يُناسب اسم الوكيل. وقد تقول: (كيف يكشفه الله)؟ نقول: نعم، الله -عز وجل- يُعامِلك بلطفه، وألطافه لها صورتان:
الصورة الأولى صورة لطف محض لا علاقة لك به، فأنت توكلهُ وهو يأتيك بالخير مِن حيث لا تحتسب، وأنت لم تحرّك ساكنا، طُرِقَ بابك فأتاك الخير، هذا نوع مِن اللطف.
الصورة الثانية مِن اللطف وكشف الضُّر هو التَّسخير، يعني يُسخّر في عقلك فكرة، يُسخّر لك شخص، يأتي في بالك مثلًا جِهة معينة تذهب لها، هذا هو التَّسخير. ما معنى التسخير؟ أن يُسخّر الله -عز وجل- لعباده فكر أو أشخاص أو ملاجئ حوله تكون سَببًا في جَرَيان الرِّزق منها، أي أن عقلك يكون غافلًا تمامًا عن هؤلاء ثم يُلقيه الله -عز وجل- في قلبك إلقاءً.
3.             الاختبار الثالث في سورة الزمر {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} كقولك: (جاءتني فكرة) أو تقول: (أنا لدي ميزة خطيرة، لو يأتيني ضِيق يُلقى في ذهني المخرج مباشرة).. مثلما قال قارون. فإذا أصاب شخص الضر، ودعا الله، إلى هنا قد مشى في الاختبارين الأوليين بطريقة صحيحة، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً} إذا آتيناه بفكرة أو سخّرنا له أحدًا يُساعده، مــاذا يفعل؟ يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} يعني أنا، فمثلا يقول: (أنا أصلًا دائما في المواقف قوي ثابت، عندي حكمة) إلى آخر هذه الوصوفات التي يصف الإنسان بها نفسه.
لكن انظر ماذا قال الله -عز وجل-: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} اختبار، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} هذه هي القضية أن أكثرهم لا يعلمون، فهذا ثالث اختبار: يعني مسَّك الله بضر، عَلِمْت أنه منه، ورضيت عنه، ودعوته، إلى هنا أنت تمشي على الطريق الصحيح، لكن لمَّا أتتك النِّعمة اغتررت.
نحن ندخل في هذا الاختبار بِعدد أنفاسنا، فمثلا يدخل أولادنا الاختبارات وندعو الله أن ينجحهم، وكل أحد يتصل علينا نقول له: (ادع لنا أن ينجح أبناؤنا) فلمَّا ينجحون نقول: (أصلًا أنا كنت أذاكر لهم، أصلًا أنا كنت أسهر عليهم) كل هذا يقال عنه: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
لمَّا تقرؤون كتاب الله انظروا لهذه الصفات بقدر ما تستطيعون: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، {لَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} فالآيات لمَّا تُختم بمثل هذا ابحث عن الوصف، يعني ابحث مَن هذا الذي قال الله -عز وجل- عنه: {َلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. انتبه، فهذا معناه أنه يجب أن تكون ضِد هذا الوصف مِن أجل أن تكون ممن يعْلم. مثل ما ذَكرنا سابقًا في مسألة الأمثال وأنه {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} فلمَّا تأتيك الأمثال في القرآن وتجد نفسك لا تَعقِلها، معنى ذلك أنك جاهل، وهذا هو الجهل الحقيقي، لأنك في قبرك ستُسأل: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيك؟

متى تتخذ الله وكيلا؟
في كل وقت، بعدد تدبيرك لشئونك. قد تقول لي: (أفي كل وقت؟! هذا أمر صعب!) نقول: ابدأ مع نفسك ببرنامج، ابدأ بالشيء الذي تراه مُهمّا، بالشيء الجَوهَري في حياتك، مثلًا: صلاح أبنائك، صلاح زوجك، أو صلاح نفسك. نفسك هذه اشتكيها إلى الله، واتخذه على نفسك وكيلًا، واطلب منه أن يُهيّئ لَك الظروف، ويسدّدك، ويكون سمعك الذي تسمع به، وبصرك الذي تُبصر به، لأنك الآن تبحث عن الحكمة في التصرفات، فنحن نكبر ونرى أن كثيرًا مِن قراراتنا السابقة كانت عبارة عن طَيش، فلمَّا تبدأ تدخل في مرحلة النُّضج، وترى أن كثيرًا مِن قراراتك السابقة كانت طَيش، مِن أين لك الحكمة إذا كنت ستبقى في نفس الطريقة ونفس التفكير؟ لاتتصور أن السِّن سيزيدك شيئا، لا، السن في العادة لَمَّا يَزيد مِن غير دين يَزيد معه الحقد ويزيد معه الطَّيش، وتزيد القسوة!
مثلا قد حدثت لك مواقف مع الناس، فهذا طعنك في ظَهرك، وهذا فَعَل كذا، وهذا فَعَل كذا، وهذهِ كُلها تَجارب ماضية، والآن بعد أربعين سنة بعد كل التجارب الماضية التي عِشتَها، لما تتعامل مع أحد يكون في قلبك كَمية مِن الأحقاد على مَن مَضى، فَتُعامِل هذا الذي أمامك بكمية الأحقاد الماضية، لمـــاذا؟ لأنك تنظر إليه وتقول: (عسى ألاّ تكون مثل فلان الذي فعل بي كذا، أو ربما تكون مثل ذاك، أو تصرفاتك مثل تصرفات كذا) فتأتي بسلسلة من التاريخ الماضي.
مِن أجل ذلك لما يأتي التوحيد يعْلَم العبد أنه يُعامِل الله، وأنّك إذا وكّلته -عز وجل- على أمرك ما أتاك إلا كل خير، فيأتي مِن هذا الشخص الذي أمامك بالخير ويَصْرِف عنك شرّه.
أنت في الماضي خُذِلْت لأنك على نفسك اعتمدت، وبقراراتك وثقت، وأنك صاحب خبرة وتفهم، أو أنك لست بجديد على هذا البرنامج، أو أنك لست جديدًا في معاملة الناس، فكلما ازددت ثقةً كلما أتاك الأمر مِن جهة لا تنتظرها أبدا، مع أنّ الله -عز وجل- لا يتركك هكذا إلا ويعطيك إشارات، لكن الشخص لمَّا يثق في نفسه يصبح أَعمى عن هذه الإشارات، ونحن اتفقنا أنّ طريق الهدى يُعرض على كل أحد، لكـــن هناك مَن استعان واستهدى فأرشده الله، وهناك مَن اعتمد على نفــسه ووثق بها فخذله الله.
مثال: قد يأتيني أشخاص يشبهون بعضهم البعض في سلوكهم، فمثلا امرأة عانت مِن أخيها القاسي، فجاء ولدها يشبه أخاها في طِباعِهِ، وهذا أمر لا ننكره أبدا، فنحن سابقًا ذكرنا أن الإنسان عبارة عن طَبائع يُبتلى بها، وعبارة عن عقائد يكتسبها. فكيف سأعامِل هذا الشخص؟ هل سأُعامِلهُ بالطريقة التي كنت أعامل بها أخي؟ هل أنا أصلًا نجحت مع أخي عندما عاملتهُ بهذه الطريقة؟ لا، فأنا لو عاملت ابني بنفس الطريقة لن أنجح، والدليل أني لم أنجح مع أخي، فلمَّا يأتيك بلاء مثل هذا النوع، المفترض أن تشعر بأنك فشلت، فما دام أنك فشلت في التعامل يجب أن يزيدك هذا تعلّقًا بالله، فعلى الأقل في هذا الموقف استعمل اسمًا واحدًا مِن أسماء الله، استعمل اسم الفتاح أن يَفتح لك مغاليقَ قلبهِ وأن يُسدّدك في التَّصرفات معه.
هناك أشخاص تعيش معهم فلا تفهم مِن أين تأتي بهم، تأتي بهم مِن اليمين فلا تخرج معهم بنتيجة، وتأتي بهم مِن اليسار فلا تخرج منهم بشيء أيضًا، فالمفترض أن مِثل هؤلاء يَزيدونك تَعلّقًا بالله، ومِن أجل ذلك لمَّا يأتي التوحيد وتأتي الخبرة، تقول: (أنا جرّبت نفسي وتعاملت بعقلي ففشلت، ليس لي إلا الفتاح أن يفتح لي قلبك) ونحن عشنا مواقفا رأينا فيها تسلُّط فلان على الناس في تعاملاته، يعني طوال الوقت صوته عالٍ وكلامُهُ كثير، ثم هذا بنفسهِ يأتي إلى شخص ثانٍ ويَتكلّم معه بِأدب، وهذا من فتح الله لهذا العبد في قلب هذا العبد، فما يَضع هذا إلا الله، مع أنّ الشخص الثاني ليس فيه شيء زائد عن الناس ولا هو قوي الشَّخصية، لكن الشخص الأول الذي معه شرّ، يتأدب لمَّا يتعامل مع الثاني، لمـــــــــــاذا؟ هذا أمر ليس بيد أحد، إنما الله -عز وجل- يفتح على قلب فلان، مِثل مَن هُزِم بالرُّعب على مسيرة شهر، أي أنّ هذا شيء يلقيه الله -عز جل- في قلب الذي أمامك.
وأنتم تجدون كثيرًا مِن الشَّرِكات سواءً في التغذية أو المطاعم، يتساوى المُنتَج عندهم، لكن هل مع تساوي المُنتَج يُقِبل الناس عليهم نفس الإقبال؟ لا، فهناك أناس يفتح الله عليهم باب الرزق، وأناس يعملون مثل هذا المنتج ويقلّدون اسمه، وأيضًا يُخرجِون مُنتجًا بنفس لون منتجه، ثم لا أحد يقبل عليهم، لمـــــاذا؟ لأن الله -عز وجل- فتح لهذا وأغلق على ذاك.
 فأنت الآن جَرَّبت وأُغلِقَ بينك وبين هذا الشخص، مثلا أخاك، فلا تعيد التجربة وتربط بينه وبين ابنك. قد تقول لي بأنهما يملكان نفس الشخصية. ونقول: لكنك فشلت في التعامل الأول، فالفشل هذا يجعلك تعيد تفكيرك، وأنا أقول لكم هذا الكلام وأنا أعلم أنه ليس سهلًا، لأننا نرتبط بشخصية معينه اُبتلينا بها، فإذا وجدنا أحدًا آخر يشبهه، قبل لا يتكلم الذي أمامي أبدأ أنا فأُخرِج الذي في نفسي، خصوصًا لو أعلم أن له سُلطة، ففي مثال الأخ والابن، سأُفرّغ في ابني كل الذي عندي، أنا أتكلم عن الواقع، لكن الواقع هذا خاطئ، المفترض أنه لمَّا يأتيني شخص مثل هذا، أزيد تعلقًا بالله وأزيد رجاءً، خصوصا لو رأيت نتائج الخيرة، فأنطرح بين يدي الله أن يفتح لي في قلب هذا، خصوصًا أن الابن أغلى وأهم مِن الأخ.
ومن أجل هذا نقول: انتبه، لاتزدد خبرة وأنت بعيدٌ عن التوحيد، لا تزدد خبرة وأنت ما تتصور أن الله -عز وجل- هو سبحانه وتعالى الذي يُلقي في قَلوب العِباد تعاملاتهم وحسن التصرف والحكمة، فلا تتصور أنك حكيم بنفسك، ولا يأتي أحد يتصور أنه سيكسب أبناءه بِفكره وعقله، ولا سيكسب زوجه بشطارتهِ أو بجمالهِ أو تصرفاته، لا، التَّسديد مِن عند الله، فاتخذه وكيلا، هو نِعْمَ الوكيل، يعني لو وَكّلتَهُ على نفسك يُسَدّدك أن تتصرف كما يُحب ويرضى، أما التي تشعر أنها مَلَكَتْ زوجها ومَلَكَتْ قلبه بِشطارِتها ستأتيها قاصمة في نهاية الأمر، لكن كونك تعرف أنه ليس منك، وتدعو أن يا رب سخره لي وأصلح قلبه، هذه من النِّعم: أنّ الله -عز وجل- يُبَيِّن للعبد في ثنايا حياته أن هناك ثغرة، وأنك ناقص ولست بكامل، فلا أحد يتصور أن هذا الشخص سيبقى طول عمره صالحًا ولن يفسد، وأنه لو صلح فسيصلح بجماله أو بأسلوبي أو بكلامي أو بلباقتي، فحتى لمَّا ندخل على الناس ونكلّمهم، في أحيان كثيرة ندخل عليهم متصورين أنه ما دام أنا المتحدّث فسيفهمون وسيقبلون، وهذا موجود حتى في طلاب العلم والدعاة إلى الله، كلمة (ما دام أنا) هذه ستأتي بالطَّامة، وسيأتي الكلام مِن غيرك أكثر ذلًا وتواضعًا لله فيشرح الله الصدور له.
ونحن لمَّا نُطلِق ألسنتنا على أولاد الناس أن آباءهم ما عرفوا كيف يربّونهم، وننتقد، هذا مثل ماحدث مع الإمام مالك، الإمام مالك كان شيخ الدنيا في زمنه، فكان له ولد ليس على سلوك تام ومستقيم، فكانوا دائما ينتقدون الإمام مالك، فكان يقول: (أنّ المُرَبي الله) يعني أن الله هو الذي يربّي عباده، فأنت تعجز، ليس لك حول ولا قوة.
ونحن الأمهات نعلم يقينًا أن المُرَبي الله، لأننا نَعجَز معهم، نأتي بهم مِن اليمين فلا يَستجيبون، نأتي بهم من اليسار ولا يَستجيبون، نفعل لهم كذا فيأتون بعكسهِ، وأنتم ترون ما ترون، فهذا كله يجب أن يزيدنا تعلقًا بالله، ومن أجل ذلك أتدري لماذا ((الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ))[10]؟ لأنك ترتفع عند الله بقدر ما عندك مِن تعلّق بالله، والمفترض أننا لمَّا يأتونا أولادنا يزيدنا هذا لله ذلًا وانكسارا، فأبناؤنا هؤلاء من أسباب زيادة ذُلَنا واستعمالنا لاسمه الوَكيل، بأن نتخذه عليهم وكيلًا ليسددهم ويسددنا في التصرف معهم.

نبدأ دراسة الاسم مِن جهة وُرودهِ.
ورد اسم الوكيل في القرآن 14 مرة، فتكراره يَدل على أهميته وحَاجته والمواطن المتعددة التي نستعمل فيها هذا الاسم، وقد اتفقنا أن كل اسم يتضمن صفة ويستلزم صفات.
متى تتعامل مع اسم الله (الوكيل)؟
1.             نبدأ بآية آل عمران : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[11] في هذه القصة قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن قريش اجتمعت لك، فماذا كان موقفه؟ هم الآن يُخيفون النَّاس، ولمَّا يُخيفك أَحد مِن النَّاس مـــاذا تقول؟ (حسبنا الله ونعمَ الوكيل).
إذن متى تستعمل اسم الوكيل؟ إذا خَشيتَ مِن ضررٍ يقع عليك مِن أحد، خصوصًا لو كان هذا الضَّرر جاء بصورة التَّخويف، أي أنّ أحدًا جاء يُخَوّفِك مِن هذا الضرر، يقول لك مثلًا: (عامِل فلان جيدًا وإلا ففلان هذا وراءه شر). ولابد أن يكون في داخلك مُعْتَقَد، أن كل الأدعية هذه مثل السيف، والسيف بضاربهِ، أي أنّ السيف يقطع ولاتوجد فيه أيّ مشكلة، لكــن ماذا تحتاج أنت؟ تحتاج يَدًا قوية تَضرب بالسَّيف. الأدعية كلها مِثل السيف، والسيف متى ينفع؟ بقلب، فعلى حسب قوة اعتقادك ينفعك الدعاء.
من أجل ذلك يأتي الناس في أحيان كثيرة إلى أدعية معينة ويذكرونها في مواطن، وقد تكون المواطن صحيحة وقد لا تكون صحيحة، نترك الآن صحتها أو عدم صحتها، ننظر له وهو يدعو بالدعاء ويكون في موطن صحيح ثم بعد ذلك لا يخرج بنتيجة، مِثل أناس كثيرين يقرؤون آية الكرسي عند النوم، وقد أتى الوعد أنه لا يَقرَبك شيطان، لكنهم ينامون ويحلمون أحلام مزعجة، فمــــاذا نقول لهم؟ نقول بأن آية الكرسي مثل السَّيف، والسَّيف بقوة ضاربهِ، فماذا يجب أن تفعل في قلبك؟
أولًا تعتقد بكل الموجود في آية الكرسي، ثم تَتلوها بِلسَانك، ومِثله لمَّا تأتي تَخاف من أحد لاتتخيل أن حروف هذا الدعاء هي التي سَتنفَعك، حروف هذا الدعاء عبارة عن تَرجمة لاعتقاد قامَ في قلبك، وعلى ذلـــك كل الأدعية استعمِلوها بهذه الصورة، فلمَّا تأتيك وعود عظيمة على أدعية لا تستغربِ، لأن هذه الوعود العظيمة مَبنية على فَهمك لهذا الدُّعاء، مِثل سَيد الاستغفار، فقد أتاك وَعد أنك إذا قلت سيد الاستغفار في الصباح ومِتَّ، تدخل الجنًّة، ما بينك وبين الجنَّة إلا الموت، ولو قلته في المساء أيضًا ما بينك وبين الجنًّة إلا الموت، وهذا الدُّعاء كُله على بعضهِ مجرد سطرين، ويأخذ من الوقت بالكثير دقيقتين، فلمــاذا هذا الوعد العظيم على هذا النص؟ لأنك لو فهمت تفاصيلهُ، لو وَقَعَ في قلبك قوة الذُّل، وقوة البَراءة، وقوة الخوف من ذنبك، كل هذا مُؤهِلٌ لك أن يُغفَر لك، فَتُقبِل على الله مغفورًا لك.
نشّط اعتقادك، يعني اقرأ معاني هذا النص مرة أخرى، واقرأ ما يدل عليه، نشِّط اعتقادك مثلًا في اسمه الغفور، فلمَّا تُنشّط اعتقادك في اسمه الغفور ويأتيك سيد الاستغفار سَيَنْشَط. ألا تعلمون أن الناس في الطب يأخذون إبرًا مُنَشِّطة؟ مُنَشطة مثلًا لضد الأمراض. الإبر المُّنشِّطة ماذا تفعل في الجسم؟ تُحرّكــهُ، وأنت أيضًا، العلم الجديد رداؤك، وتكرار العلم القديم مُنَشِّط، يُحَرِّك في قلبك، ولا تنسوا الآية {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[12].
ففي آية آل عمران أتى الناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا لهم: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} يعني جاء الذي يُخيفَك بالمواجهة، فقال فيها {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.


2.             {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا}[13]
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أي أنّ هؤلاء المنافقون يقولون طاعة، سمعًا وطاعة سنفعل، {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} يعني إذا خرجوا من عندك {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}.
{وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} هذا على وجه التهديد.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} اتركهم لاتحمل هَمَّهُم، وهذه مشكلة النفاق، أنهم يكونون في صفوفك، في داخل بيتك، في داخل مجتمعك، في داخل طلابك لو كنت معلم، في داخل مدرستك لو كنت مدير، في داخل حلقتك لِمَن له حلقات وله اجتماعات، المهم أنه في مجتمعك الصغير يكون في داخله شخص منافق يبيت لك ما لايرضى الله من القول، لكن مَن هو؟ وما حالهُ؟ وماذا يبيّت؟ وكيف يريد أن يَصِل؟ كل هذه هموم ستجعلك لا تنام الليل، وهي ليست مثل الحالة الأولى، الحالة الأولى على الأقل واضح فيها عَدوّك، لكن الحالة الثانية أشد صعوبة لأنها من الدَّاخل وخَفِيّة، وكل شخص يقول لك رأيًا في هذا الذي تَشُكّ فيه، وكل شخص يوجّهك فيه توجيهًا، فلا تعرف في النهاية ماذا تفعل، وماذا يريدون أن يفعلوا وماذا يدبّرون وماذا يخطّطون ...إلخ. مَكائد، وهذه تكون بين النساء خصوصا، تحصل في مسائل تتصل بالتعدد، وليس شرطًا بالتعدد، يمكن أن تحدث أيضًا لمَّا يكون نساء الإخوان مع بعضهم البعض، فهؤلاء لوحدهم عندهم مؤامرات وقصص وحكاوي، فتجد أنهم يجلسون في المجلس ما شاء الله لايوجد أحسن منهم، وتقول لكِ: (تعالي أذهب بك إلى كذا) وتكون كأنها صاحبتك، وبعد ذلك تنقلب، فهذا يقول لك رأي، وهذا يقول لك رأي، وآخر يقول لك: (أنا زعلانة منها، طوال المجلس أشعر أنها منافقة، تقول لك كلام ومن ورائي تقول كلامًا آخرا) فهل تصدّقين هذه التي قالت لك هذا الكلام؟ أم تصدّقي هذه التي ظاهر معاملتها لك بالطيّب؟ الحل في ثلاث:
o                {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
o                {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.
o                واعتقد يقينا أنه {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا}.
مشكلتنا نحن في الجُملة الأخيرة {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا} لسنا مُتَيقّنين بها. فأولًا أعرض عنهم، يعني لا تدخل في الخوض في الكلام معهم، اتركهم، عامِلهم لا مشكلة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامَل المنافقين، لكن مِن الدَّاخِل اعرض عن كُل كَلامهم، لا هذا الذي يقول لك هذا الكلام، ولا ذاك الذي يقول لك ذاك الكلام، لأنك لو شَغَلْتَ نفسك بهم لا تستطيع أن تعبد ولا تدعي ولا تصلّي ولا تعرف طريقك المستقيم، وهذا من أصعب البلاء: أن يأتيك البلاء مِن شخص مَدفون لا تَعرِف مَن هو، أو قد تعرفه لكنه ليس ظاهرًا وليس باطنًا، وتصبح بين أن تظلم نفسك وبين أن تظلم الآخرين. كل هذا كأنه دَوّامة، فلا تشغل نفسك بهذا كلهُ لأنك ما خُلِقت لأجل هذا، إنما أتاك هذا امتحانًا لك، فلو آمنت أن هذا امتحان افعل ثلاثة أفعال، فِعلَان بقلبك، وفِعل بِبَدَنك:
اعرض عنهم ولا تدخل في نقاشات، واملأ قلبك توكلًا عليه، ثم مــاذا سيفعل بك؟ سَيَرُد عنك، سَيشغِلهم بِنَفسهم، وسَيجعَل تَدبيرَهم تَدميرًا لهم، وسَيُنجيك وإن فعلوا ما فعلوا، وسَيُخرجكَ مِنها كُلها. هذا التوكل، وبعد ذلك لمَّا يتحرّك في قلبك شيء، سَكِّنْ نَفسَك أنه يكفيك، أنك وكّلت الله، وكفى بالله وكيلا، هو سيأخذ لك بحقك، وسَيَرُد عنك.
 ولاحظوا ما جاء الحل أنك فقط تتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، أيضًا جاء في الحل أنك تُعرض عنهم وما تُدخِل نفسك في نقاشات وفي كَلام كثير، فهذا الكلام الكثير هو الذي يُدخل أطراف ليس لها علاقة بالموضوع، وكل المشكلة في أننا نتوازن بين مفاهيم كثيرة، هنا الصعوبة، يعني مثلًا: نتوازن بين توكُّلي على الله واكتفائي به وكيلا -هذا بالنسبة لي يعتبر غاية في الطمأنينة- وبين أني أنا ضعيف أصلًا ليس لدي القدرة والنَّفس أن أُنافح ولا أُدافع، وبين أن النَّاس يتهمونك بالضعف، وأحيانًا أنت تكون مِن الداخل أصلًا لايوجد فيك حيل أن تناقش ولا تتكلم، فهذه الصعوبات التي تجدها في الدنيا، ولابد أنك تجد حولك مَن يؤذيك، فتُؤمَر بِمِثل هذا الأمر {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا }.

3.             {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا}[14] لو كانت لك أُمنية، عندك رغبة تودّ تحقيقها: سواء صلاح أبناء أو غيره، وما استطعت تحقيقها لنفسك، أو تراها في الأفق لكن تغتم خائفًا أن تفوت، أو ترى أمامها عوائق، مــاذا يُقال لَك؟ أليس مُناك هذا مُلْكٌ لله؟! هل يأتي به أحد غير الله؟!
لا يأتي بمُناك إلا الله، وأنت تعلم أن له ما في السماوات وما في الأرض، إذن اتخذه وكيلا، وَكِّله أن يأتي لك بِمُناك. 
مثال: شخص يريد أن يترقّى في عمله، يشعر أن هذه الترقية في العمل أمنية يحبها ويتمناها، أنا لن أناقشه بأنَ هذه أمنية في الدنيا، إنما سأناقشه حول أنه ما دام ظهرت لك أُمنية، إذن كيف تُعاملها؟ لا تشغل نفسك ليلًا ونهارًا بأنهم سيقبلون فلان لو تكلّم، وفلان أتى بشهادته وسيتفوّق على شهادتي! لا تفكّر هذه التفكيرات، إنما أُمنِيتك التي تريدها تَمنَّاها على الله، واتخذه وكيلًا يأتِك بها، فإذا اتخذته وكيلا كفى به وكيلا.
تتخذه وكيلًا وأنت تعتقد أنك لو وكّلته لا يخذلك، فإذا لم يأتِك مُرادك سيأتيك ولو بعد حين، وسيأتيك في أحسن وضع، وسيأتيك مرادك بل أعظم منه لو رضيت به ربًّا، فكونك تتخذ الله وكيلًا، هذا معتمد على رضاك بالله.
مثلًا: تمنيت تخصصًا في عِلم معيَّن، ولم يُقدَّر لك وذهبت إلى مكان آخر، بعدما اتخذت الله وكيلا وطلبت الله ورَجَوته وقلت: (أنت يا رب حسبي ونعم الوكيل، سأوكلك أمري، لن أشغل نفسي ولن أدمّر نفسيّتي). أتعلمون ما مشكلة الذي لم يتخذ الله وكيلا؟ مـــاذا يفعل في نفسه؟
يقوم بعمل تدمير لها من الدَّاخل، لأنه طوال الوقت يبقى في قلق، طوال الوقت يحسب حِسابات: (لو فلان ذهب قبل فلان، ولو فلان دخل قبل فلان، ولو ما رضوا أن يأخذوا هذه الورقة، لو أخرجوا قانونًا جديدًا)، وتأتيك الخيالات! فأنت مِن بداية الأمر رَحمت نفسك وقلت: (يا رب أنت حسبي ونعم الوكيل، إليك أفوّض أمري). وفِعْلُ التفويض بنفسه فيه صعوبة، يعني اللحظة التي يأتيك فيها الأمر ماذا يجب عليك أن تفعل؟ تفوّض أمرك إلى الله.
لنفرض أنك الآن فوّضت وقلت: (حسبي الله ونعم الوكيل)، ولم تدخل الكلية التي تتمناها، وأتى محلّها بديل. البديل هذا هو اختيار الوكيل الذي هو أعلم منك وأحكم منك وأرحم بك، تصوروا الوكيل بالضبط بنفس المفهوم الذي نحن نعيشه، انظر كيف لمَّا تُــوَكِّل أحدًا وتقول له: (اذهب وخُذ قرارًا بدلًا عني، فأنا أثق في قرارك، وأثق في عِلمك، وأثق في حكمتك) مثلما يأخذ الناس موكّل ومُحامي، فلمَّا تريد أن توكّل مُحاميًا، هل تبحث عن أي محامي؟ أم تبحث عن محامٍ ثقة؟  بل عن أفضل محامٍ في القانون! ثم تعطيه القضية وأنت نائم مرتاح، شاعر أنّ هناك وكيل عنك.
هذا أنت في وكالتك للبشر، فكيف بالعليم الحكيم الرحيم الذي ما يريد لك إلا خيرًا البر الكريم ؟! أنت استخرت الله فاختار لك، فلمَّا يأتيك اختيار الله لا تقل: (الذي كنت أتمناه أفضل مِن الذي اختاره لي الله) لا تقل مثل هذا الكلام، ومن أجل ذلك في آخر دعاء الاستخارة تقول (وقدِّر لي الخير ورضِّني به) فالرضا عن الله مهم في هذه الحال.  
ولمَّا يأتينا اسم الوكيل سنجد أنه يستلزم صفات الجمال فهذا الاسم لو فهمته جيدًا ستقول: ما دام أني سألته ويجب علي أن أتخذه وكيلا، إذن هو بَر، رحيم، كريم، ودود ... إلى آخر هذه الصفات.

4.             {إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا }[15] ما علاقة نفي الولد وإثبات المِلكِية بالوَكالة؟ لأنه {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا}. نحن نتكلم عن التوحيد بأنه وحده الإله، وليس له ولد يُفوّض إليه الأمر أو يطلب منه، ولهُ وحده الملك. إذن أنت عَلِمْت أنه وحده الإله، فما معنى الإله؟
الإله يعني المألوه الذي تتعلق به القلوب وتعظمه، ففي بداية آية الكرسي {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} وفي آخرها {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، هو الإله العَلي الذي تتعلق به القلوب، والعظيم الذي تعظمه القلوب.
فإذا عَلِمْت أنه وحده يجب أن تتعلق به القلوب وتعظمه، وليس له الولد، وله وحده الملك، إذن مـــا المطلوب منك؟ أن لا تتخذ غيره وكيلا.
هذه الآية أتت في سياق الكلام عن تَوحيده، فكما أنّك توحّده في الألوهية وتنفي عنه الولد وتوحّده في الملك، فوحّده في كفايتك بوكالته.
{وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا} يعني لا تتخذ غيره وكيلا، وَحّده باتخاذه وكيلًا، اجعله كافيًا لك. اكتفي به وَكيلا؛ لأنه الوكيل؛ ولأن له مُلك السماوات والأرض، وليس له ولد.
كيف أكتفي بالله وكيلا؟
هُنا الصعوبة. نضرب مثالًا مِن الواقع: لو وكّلت محاميًا وأنت تعلم أنه على تعبيرنا (شاطر). لو بقيت كل يوم تتصل على مكتبه تقول: (ماذا فعلتم؟) هل سيقبل هذا منك؟ لا، لن يقبل، إنما سيقول لك: (هل أنت تثق بي أم لا تثق؟ هل أنت وكّلتني أم لا؟) فهو سيصدّك مباشرة؛ لأن بحثك مِن ورائه دليل على عدم ثقتك فيه، ثم لو اكتشف المحامي أنك ذهبت فسألت غيره، ماذا سيفعل؟ سيُعطيك ملفّك و يقول لك: (أنا لست بحاجة إليك)!
ولله المثل الأعلى. لمَّا يُوكّل العبد ربه على الأمر يجب أن لا يتعامل معه بالقلق، لا ترتكب هذه الجريمة في نفسك، لا تُعامل ربّك الذي وكّلته وطلبت منه أن يُدبّرك بأن تقلق مِن تدبيرهِ، كيف يقع في قلبك القلق والذي تولى أمرك الحكيم، العليم، الكريم، الرحيم.. كيف؟!
لكن هذا الواقع في قلوبنا -نسأل الله أن يغفر لنا- فنحن نوكّل ربنا ونطلب منه ونقول: (أنت نعمَ الوكيل يا رب، ودَبِّر أمري و يسّر لي هذا الأمر)، وبعد ذلك لا نستطيع أن ننام، وكل لحظة تأتينا أفكار أنه لو مثلا حصل كذا وكذا.
لابد أن تفهموا بأن هذا مِن الشيطان، فاستعيذوا بالله منه أولًا، ثم أعِد على نفسك (حسبي الله ونِعمَ الوكيل) وهذه الكلمة للأسف ليست مفهومة.

ما معنى (حسبي الله ونعمَ الوكيل)؟
يعني يكفيني الله، وكّلته وأنا على ثقة أنه يكفيني، سيدبّر شؤوني أحسن تَدبير.
ابحث عن همومك، فتّش همومك وعامِل الله بها باسمه الوكيل، وبعد أن توكّلهُ استحي أن تعامله بالقلق، ألا تقول {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا} و {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}؟ هو نِعْمَ الوكيل، وأنت تعلم أنه حكيم، كريم، رحيم، ودود، يحب عباده وعباده يحبونه، تَعْلَم عنه هذا كله ثم يقع في قلبك اتجاه فعله قلق؟! أو تنتظر أن يأتي شيء غدًا فتقلق؟!
قد يقال: (هذا الشيء ليس بإرادتي) لا بأس، لابد أن تعلم بأن هذا خطأ أولًا، ولا تسمح لنفسك به ما دام أنك وكّلت ربك، يعني اشعر أنك في حقّه أَذنبت.
مثلًا لو أنت في البيت تثق في الخادمة وتعلم أن طبخها جيد، لو أنك أخذت تجيء وتذهب عليها، ستتضايق الخادمة وتقول لك: (أنا أعرف وأنا أفهم) فقَلقُك دليل على عدم ثقتك فيها، والبشر يرفضون أن تُعامِلهم بالقلق، فكيف برب الأرباب الذي له ما في السماوات وما في الأرض؟!
حقيقةً هذا نوع مِن الاعتداء على الرَّب، فلما تعْلم أنه وكيلك، وتقول: (يا رب أنا فوّضت إليك الأمر، ادفع عني ودبّرني، واجعل هذه الليلة تمر بسلام، أو اجعل هذا الأمر يمر بسلام، وسدِّدني في تصرفاتي وكلامي) بعدما تقول هذا الكلام وتقول: (أنت حسبي ونعمَ الوكيل)، ثم تُعامِله بالقلق! هذا هو الكذب على النفس.
قد يُحَيط بك أشخاص ميّتوا القلوب أو مرضى القلوب، فأنت تكون هادئًا وهم يقولون لك: (أنت فيك بُرُود) إلى آخر هذه التعبيرات، ثم مثلا تنظّم لنفسك جدولًا على أنك متأكد بأن الله -عز وجل- لا يخذلك، فتقول: (لو ربي قدّر وصار هذا الأمر فسيكون كذا وكذا) فيقولون لك: (ما شاء الله عليك متفائل!) يعني لابد أن يُعطونك كلمة يُفقِدوا بها ثقتك بالله!
ويؤسفنا أن هؤلاء مع طغيان المادّية أصبحوا هم الغَلَبة الكثيرة الموجودة حولنا، فنتيجة عِلْمنا بأسماء الله وصفاته يصبح بيننا وبينهم انفصام في التفكير، نشعر أنهم في وادٍ ونحن في وادٍ، فأنا أتعامل مع هذا الموقف على أني وكّلت أمري لله -عز وجل- وأعلم أنه سَيُهيّئ لي الأسباب، فأتوسل إليه أن يُهيّئ لي الأسباب. ولا تتصوّر أن هذا لا يقابل الحركة، بل الذي يوكّل ربه يُفتَح لهُ من الأسباب ما يجعله يأتي بأدنى حَركة ويأتي له منها الرِّزق.

هناك مشكلة قد تُصادمنا، وهي أن فلان و فلان لا يتكلمون عن التوكل ولا يعرفون عنه، لكنهم يخططون وينجحون!
نعم، ومِن أجل ذلك يأتي فيُسأل يوم القيامة {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[16] فالله -عز وجل- لمَّا يَرحمك يُعلّمك عنه بالعلم، ويؤدّبك عندما تبعد عمّا تعلّمت، وهؤلاء القوم يُعامِلهم الله بحلمهِ، يخطّطون فَيوجِد لهم تخطيطهم، يُرتبون فتنجح ترتيباتهم، فالمفروض أنهم بعدما انتهوا يزدادون تعلقًا بربهم حمدًا وشكرا، والحاصل أنهم يزدادون انتفاخًا بأنفسهم! ينتفخون ويُعامِلهم الله بحلمه، ثم يخذلهم في مواقف! فيقول لك: (أنا خسرت هذه الصفقة لأني لم أعطها كل تفكيري) تجده لازال دائرًا حول نفسه، إلى أن تأتيه قاصمة وينتهي موضوعه، فيأتي يوم القيامة يُسأل {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} يعني لمَّا عاملك الله بكرمه وأعطاك وأعطاك ما الذي غرَّك؟ لماذا اغتــررت؟!
المشكلة أنك ترى صنفين: ترى ناجحًا بلا توكل.  وترى مَن يثبّطك ويَبُث في قلبك القلق، ويقول لك: (بالتأكيد أنت تعبان نفسيًا وقلق) يعني لو ما كنت هكذا ستثْبُت عليك التُّهمة، مع أنّ مَن يعْلَم عن الله أشفَى النَّاس قلوبًا، لأنهم يتعاملون مع كتابهِ الذي هو شفاء لِما في الصُّدور.

س: أنا استخرت مثلا في الزواج ثم تزوجت وفشِل هذا الزواج، فقد يأتي مَن يقول بأننا استخرنا، فهو متوقع بأن الله اختار له، أي أن المفروض أن لا تفشل هذه الزَّيجة، فأنا استخرت في دخول الزواج ولو كان شرًا كان أعرضه الله عني، فلماذا لم يعرضه؟
ج: هذه المسألة تَنظُر لها مِن زاويتين:
الزاوية الأولى: أنك رُبَّما عَزَمت وأصررت، ثم استخرت مِن باب تكميل الصورة فقط، أي أنك مُقَرّر وكل شيء، واستخرت فقط مجرد تحصيل حاصل، وهذه صورة مِن الاستخارة.
الزاوية الثانية: أنك كنت حاضر القلب في الاستخارة غير مُقرّرٍ إلا بعد أن تستخير، فهذا يكون لك امتحانًا.
مثال: الشريعة تأمر الذي طلّق زوجته ثلاثا أن تتزوج هي غيره ثم تُطلق منه -طبعًا على المنهج الشرعي- لمـــاذا تأمر الشريعة بمثل هذا؟ لأنها ربما لم تكن لتحتمل زوجها الأول وصفاته إلا لمَّا تتزوج غيرهُ وتتأدب فتعود للأول وتَعمُر حياتها، وهو أيضًا ربما لا يُؤدّبهُ إلا أن يَعْلَم أن زوجته قادرة على أن تتزوج غيره وتذهب.
فهناك أناس لا يُؤدّبهم ولا يعدَّل نفسيتهم إلا دخولهم في تجربة، فهذا استخار الله وطلب منه فأدخله الله هذه التجربة تأديبًا له، تعديلًا لشيء في نفسهِ، وربما رفعةً لدرجتهِ، فهذه مِن الحِكَم الأخرى.

5.             {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[17] اعبده وانشغل بعبادته، ثم ماذا تفعل في كل الذي يهمّك؟ وَكّل الله عليه، فأنت مشغول بتحصيل مصالحك، ولا نقصد انشغال بدنك فانشغال بدنك سهل لأنك تذهب وتنتهي من أشغالك وترجع فتنام وأنت مرتاح، المشكلة في انشغال قلبك، وكل يوم تُخطط لغدِ.
قد قيل لك {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي لا تعتني إلا بإصلاح دارك الآخرة، ماذا إذن عن الدنيا التي تعيش بها؟! لابأس، اتخذه وكيلا، سيرزقك وييسر لك، ويأتيك من الموافقات العجيبة في الأسباب مالا تستطيع إدراكه.
تسمع كثيرًا عن دورات تكلّمك عن النجاح وماذا تفعل من أجل أن تنجح، ويقولون لك بأنك لو فعلت كذا ستنجح وستصبح الحياة سهلة، وأنا الآن سأقول لك وَصْفَة تُسَهِّل عليك الحياة أكثر بكثير من كل تلك التفكيرات:
اذهب لِمَن يملك كل شيء وهو الذي عَرَض عليك أن يكون عليك وكيلا ويُنفق عليك ويُعطيك ويُهيّئ ويحدد لك أين تذهب مِن أجل أن تأتي بِمُرادك، فاذهب إلى مَن يملك كل شيء وتوسّل إليه أن يرشدك مِن أين تأتي بمرادك، واطمئن إليه فهو الذي يهيّئ لك الأسباب مِن أجل أن تأتي بمرادك، ويعطيك الحول والقوة مِن أجل أن تذهب فتأتي بمرادك، ولمَّا تَصِل إلى مُرادك فهو الذي ينفعك به، ففي الحديث: ((إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟))[18].

ما معنى قولك (لا حول ولا قوة إلا بالله) لمَّا تخرج من المنزل؟
يعني أنا أعترف يا رب بأن ليس لي حول ولا قوة على تحصيل مصلحتي إلا بِك.
فلا أيسر مِن أن تعيش على الله معتمدًا، ومنه منتظرًا أن يُريك الأسباب وييسّرها لك فتأخذها.
ولنفترض أن هذه شابة دخلت على زوج، ما مفاتيحه؟ ما الذي يرضيه؟ ما الذي يوصلنِي إلى قلبه؟!
هذا سرّ، فمهما كنت تفهم، لا يمكن أن تأتي بمفتاح قلبه، لكن الذي خلقه هو الذي {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} فانكسِر عنده تعالى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} فهو الوكيل الذي يُسَدّدَك أن تتصرف مع هؤلاء كما ينبغي فتُفتح قلوبهم لك.
أليس هو الفَتَّاح الذي يَفتَح مَغاليق القلوب؟!
فإذا كان هَمّك قلوب مَن حولك فهو الفتاح الذي يفتح مغاليق القلوب
وإذا كان همَّك الرزق فهو الفتاح الذي يفتح مغاليق الأرزاق ومغاليق الأسباب
وإذا كنت تريد علمًا فهو الفتاح الذي يفتح مغاليق الفِكِر
ß فتوكل على الحَيّ الذي لا يموت، وقُم بوظيفتك {فَاعْبُدُوهُ}
ثم فوق هذا كله اعلم أن توكلك عليه يزيد مكانك عنده، فهي عبادة من العبادات، وسبب لكفارة ذنوبك، ورفع درجاتك، وذِكر الملائكة لك.
فأنت الآن لن تستفيد في الدُّنيا فقط، أنت أيضا بهذا الطريق تَسير فيما يُرضي الله عنك، فالله -عز وجل- لم يُكلّفك مالا تستطيع، بل فتح عليك أبواب الارتفاع عنده بصورة لا تتصورها، فحتى تَحصِيلك لِشؤون دُنياك أَصبح في ميزان حَسناتك ما دام اتَّخذتَه وكيلا، فنستعمل اسم الوكيل في كل ما أَهَمَّنا، وننشغل بالتعلق به أن يفتح لنا مغاليق القلوب.
ومن أجل ذلك نقول: أكثر ما يُتعِب الناس أن يستغيث سَجين بِسَجين، وغَريق بِغَريق، ومحبوس بمَحبوس، فكل الناس مِثْلَك بالضبط: محبوسون، سجناء، غرقى! يعني مثلا هذه زوجة يقول لها زوجها: (أنا أنتظر السعادة عندك) فتقول: (أنا التي أنتظر السعادة عندك) وكل شخص ينتظر مِن عند الثاني السَّعادة، فهل أنا أستطيع أن أعطيه أم هو الذي سيعطيني؟!
الله -عز وجل- وكيلنا، هو الذي يفتح لي في قَلبِه ما يجعلني سببًا لسعادتهِ، والعكس. (حسبنا الله ونعم الوكيل) معناها أنك توكل أمرك إلى الله، فانفعل بها بوجدانك.

لمــاذا أحتاج أن أجعل لي وكيلا؟
لِأن وَصفي الضعف {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[19] فلابد أن تُؤمِن بأن وَصفك الضَّعف، ولا تغُرَّك الصورة التي يعتبرها الناس مثالية، الناس يعتبرون الصورة المثالية هي أنك يجب أن تكون قويًا، لكنك وُصِفت بأنّ أصل حالك أنك ضعيف، حتى على الطاعة ضعـيـــــف، فإذا كان وصفك الضعف وتريد أن تَقوَى وتُحقق مُرادك، ماذا يجب عليك أن تفعل؟
تستعين بالقَوِي، من أجل ذلك لَمَّا أُمِرت بــالاستقامة في {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لم تُؤمر بأن تستعمل قوتك، بل هذه لا تأتي وحدها إنما تأتي بــ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلابد أن تتصور حقيقة نفسك: وهبك الله مواهب وطبائع في نفسك، وهبك صفات خاصة، لكن لا تستطيع الانتفاع بها إلا بِعَونٍ منه.
والحديث صريح (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ)[20]. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يجب أن تنكشف لك.
لكننا نرى قومًا لا يستطعمون الله -يعني لا يطلبون منه الطعام- وعندهم طعام؟! نقول: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} يعني أنّ الله مِن أسمائه الحليم، الكريم، الرحمن، فهو يُعامِل عباده برحمته وبكرمه وبلطفه إلى أن ينتهي الاختبار، ومتى ينتهي الاختبار؟ لحظة قبض الرُّوح!
فطوال ما تعيش في الدنيا تُعطَى مِن أَجل أن تَرجِع إلى بابه، تُعطى مِن أجل أن تُصلِح حياتك، من أجل أن لا تأتي اللحظة التي تقول فيها {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[21] فأنت تعيش بعون مِن الله، في رحمة الله، حتى مشاعرك وأحاسيسك هذه ما هي إلا مِن رحمة الله، النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف لَانَ للنَّاس؟
يقول الله -عز وجل-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ}[22] يعني مِن رحمة الله، فالله وهبك أن تكون لَيَّنا، فَلِينُك مَع النَّاس موهبة ليست مِن صفاتك الشخصية، وقد تقول: (لا، بل هي من صفاتي الشخصية). نقول: (صح، فمن الذي أعطاك الصفات الشخصية)؟! ثم بعد ذلك تأتي في مواقف فتقول: (أنا أتصرف بعكس شخصيتي). فهذه المواقف تحصل مِن أجل أن تفهم أنه حتى لو كنت تتصور أن طبيعتك التي خلقك الله عليها لَيِّنَة، تأتي لحظة يمكن أن تُصبح عَكس ذلك، فأنت تتصور أن هذه الطبيعة ملكَك، أي أنني هكذا طوال عمري! هذه الطبيعة لا تَمْلِكها، بل الله -عز وجل- هو الذي يُيَسّر لَك.
وقد تأتي فتقول: (ما دام الأمر هكذا، فأنا ماذا أفعل في الحياة)؟
دورك في الحياة هو الاستعانة، وهُنا اختبارك: بأن تستعين وتجعل الله لك وكيلا، هذا هو المطلوب منك وهذا هو الاختبار، فهناك أناس ما اتخذوه وكيلا، مُعتقِدون أنهم يُصَرِّفون أَنفسهم، فَصَرَّفهُم الله وهو الذي دَبّرهم، فهم في الحقيقة لم يُدبّروا أنفسهم لكن عاشوا أغبياء طـــوال الحياة، متصورين أنهم هُم يُدَبِّرون أنفسهم، و هناك أناس كشف ربي عنهم هذه الغُمَّة {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}[23] فهذا الذي في الظلمات دائمًا يَصف نفسه أنه ذكي وفاهم، والذي أراه الله النور دائما يكون عاقلا، يفهم أنه لولا أن تَداركه الله بالرحمة وباللطف ما كان انكشف له هذا الخبيث، ولا انكشف له هذا السَّيئ، ولا انكشف له هذا الطَّيب.
إذن اسم (الوكيل) من أسماء الله التي نحتاجها بعدد حاجاتنا، فالله -عز وجل- لمَّا جعلك في الحياةِ موجودا أنشأ لك الحاجات من أجل أن تنشَأ مِنك التَّعلقات والتَّوسلات به، وأنت طوال الوقت محتاج لأن تأكل وتشرب وتنام، و أن ينجح أولادك ويتربون تربية جَيَّدة، وإلى آخر ما نتكلم عنه، ففي كل مرة تعتصر وتدخل في حاجة، اعلم أن الله ينشئ لك هذه الحاجات مِن أجل أن يبقى منك التَّوسل به، والتَّعلق به، فأنت تحتاج إلى أحد يُحَقق لك الحاجة، لأنك بنفسك لا تستطيعها.
مثلا أوراقي هذه في مكتب فلان، وفلان هذا قاسٍ لا يتعامل مع الناس كما ينبغي، فتشعر بأنك لو ذهبت وطرقت باب فلان، ففلان هذا لا يأتي معه الكلام الطيّب، ستسأل من إذن؟ يمكن أن تسأل الذي هو أقل منه، سكرتيره مثلا، فتقول له: (هل يمكن أن تسترجي لنا فلان هذا من أجل أن يعطينا) أو قد تأتي بواسطة من أجل أن يعطيك، وفي المقابل يمكن أن تطلب رَب الأرباب، وانظر الآن للمقارنة التي تكون في القلب. أولًا: مَن الذي يَخطُر على بَالَك أَوَّل مَرَّة؟ يعني الآن عَرَفْت أنّ أوراقك في مكتب فلان الموصوف والمعروف بأنه صعب الوصول إليه، فمَنْ الذي يَمر على خاطِرَك مُباشرة حتى يأتي لك بمرادك؟ على حسب النفسيات وعلى حسب التَّعلقات، فهناك مَن يأتي في بَاله السكرتير مباشرة، أو فلان الواسطة الذي يعرفه، يُمَرّر الواسطة في خاطره ويقول: (أنا أتذكر بأن لي قرابة عند فلان، وإن شاء الله لا يكون هذا الشخص مسافر).
وهناك مَن يفزع قلبه إلى الله مباشرة، فهذا أول اختلاف، ثم بعدما فزع قلبك إلى الله -بعد ما تذكرت الله عز وجل- مـــــــــــاذا تظن به؟
كلامنا الآن في اسم الوكيل دائر حول (ماذا تظن به؟) لأن مِن أعظم الذنوب التي يقترفها العبد وهو لم يتحرك من مكانهِ ذنب سوء الظن بالله، تُوَكَّلهُ على أمرك ثم لا تثق بهِ أنه يَعطيك، أو تَظُن فيه أنه يخذلك! هذا مِن أعظم الذنوب وهو ذنب سوء الظن بالله.
لنقرأ من كلام الله -عز وجل- ما يبيّن لنا ما يجب أن يقع في قلوبنا لمَّا تنشأ لنا الحاجات، ماذا يكون في قلوبنا مِن ظنٍ في الله.
يقول تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[24] لاحظوا بأن هذا ثالث موطن يَتَبَيَّنْ لنا فيه ماذا نفعل لمَّا يكون هناك مَن يُريد إيذاءك ظاهرًا كان أو باطنًا.
هذه الآية جمعت بين الكافرين والمنافقين، وقد مَرّ معنا سابقًا آيتان: واحدة كانت في الكافرين، وأخرى كانت في المنافقين، لكن هذه الآية جمعت بين الكافر الظَّاهر العداوة، وبين المنافق الذي يكون معك ويكيد لك.
لمـــاذا تتوكل على الله وتعتقد أنه كافيك؟ لأن مِن وَصْفهِ أنه وكيل، أنه يتوكل شؤون عباده، فإذا كان لك عدو في الظاهر أو عدو في الباطن، ماذا يُقال لك بالتَّكرار؟
 لا تَقلق، انتبه فأعدى أعداء حسن الظن بالله هو القلق، مرض القلق إشارة إلى عدم حُسن الظَّن بالله، لا تقنع نفسك أن القلق طبيعي، لابد أن تعلموا بأن القلق ظاهرة مرضية، مرض نفسي، أتعلم لماذا هو مرض نفسي؟
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"[25] فمهما كانت مصيبتك هل مصيبتك تساوي أنك أُلقيت في النار؟! وخُذ مما فَتَح الله به على الأنبياء ما يُنَاسِبَك: هذا نبي وابتُلي بأن يُلقى في النار، وأنت بلاؤك هل وصل لأن تُلقى في النار؟ لا، فأنت الآن عندك جزء فقط مِن البلاء، وهذا واحد على مليون مِن بَلاء أن يُلقى الإنسان في النَّار، فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- سيُلقى في النار فقال (حسبي الله ونعم الوكيل) فَنَجَّاه الله! نحن نريدك إذن أن تنظر لِإنجاء الله له.
فلمًّا اتخذوا الله وكيلا في الحالتين: مـــاذا فعل بهم؟ نَجَّاهُم! فماهي مشكلتك؟ سببُ قلقك ليس هَول ما تُقدِم عليه، بل سبب قلقك ضَعف ثِقَتك بالوكيل.
وأحيانًا نكون قد دخلنا في هذه القضية في زمنٍ ماضٍ ودخلنا في أقوى منها أيضًا، دخلنا بها من دون تفكير، يعني أننا لا توكلنا على الله ولا توكلنا على غيرهِ، المهم أننا دخلنا فيها ومشينا ولم يكن عندنا هذا القلق، لكن لمَّا أصبح عندنا خبرة مِن موقف اكتسبناه وبقي في نفوسنا، صار عندنا الرُّعب! وقد قلنا أن (خِبرتُك بلاؤك) فهناك خبرة تجعلك تثق بنفسك وما تتوكل على الله، وهناك خبرة سَيئَة تجعلك تقلق مِن فعل الله.  
فقد تقول مثلا: (أنا دخلت سابقًا في موقف مثل هذا وخرجت منه خسران، أوذيت، تألمت، تطلقت). نقول: خبرتُك هذه هي بَلاؤك هنا، لأن المطلوب منك وأنت قادم على تجربة مُكررة أن تزيد ثقتك بالله، لأن العدو الشيطان ماذا يفعل بك لمَّا تتوكل على الله؟ يضع أمامك في ناظريك فَشَلُك القديم، ويُشعرك بأنك صحيح أنك اتخذت الله وكيلا لكن لابد أن الشخص يتعلم مِن تجاربهُ، ويأتي  لك بالحديث: ((لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ))[26]. وهذا الحديث ليس فَهمه الذي يَفهمه غالب الناس، بل الفهم الصحيح معناه أنه إذا كان مؤمنًا قَوي الإيمان فلا يقع في الذنب مرتين بعد أن شعر بألمهِ، لكن إذا ضَعف إيمانه يَعيد الكَرَّة مرة أخرى.
إذن لمَّا تَدخل في تجربة وتخرج بنتائج سلبية منها، وأنت مُضَّطر لدخول نفس التجربة مرة أخرى، فالحاصل أنه لا يبقى في ذهنك إلا الذَّاكرة السلبية.
 مثلا الولادة، هذه امرأة ولدت أول مرة وتألمت وتعبت وتعذبت، فتأتي المرة الثانية ونقول لها: (ادعي الله أن ييسر لك) فتدعي الله وهي تموت قلقًا من الدَّاخل! ليست شاعرة بأنها لو دَعَت سَتتغيَّر الصورة، غير قادرة أن تَثق بأنه يمكن أن تأتي مَرّة لا تكون بنفس صورة المرَّة الماضية.
لابد أن تَتصور بأن ما حَصل لها المرة الماضية ليس شرطًا أن يتكرر، فأنت لمَّا تَصبِغ نفسك بأنه لابد أن يتكرر، تُبتلى فعلا فيتكرر! فقل: (يا رب أنا جَرَّبت نفسي، ورأيت الآلام، يا رب أنت وكيلي، أنت حسبي ونعمَ الوكيل، دَبّرني، صَرّفني، يَسّر لي). فلمَّا تُقْدِم على آلام، تُقْدِم على مُهِمّات، تُقْدِم على أشياء صعبة، ويكون في ذاكرتك لهذا الشيء كراهية أو ألم أو ضعف، لا تُعامِل القادم بالماضي، لأن مُعاملَتَك القادم بالماضي وأنت اتخذت الله وكيلا، فيهِ سوء ظن بالله. فلمَّا الله -عز وجل- يبتليك المرة الأولى وتفشل، وأنت مضطر لأن تدخل نفس التجربة مرة ثانية، راجع ما الذي أَضعَفَك المرَّة الأولى؟ ما هو الشيء الذي كان سببًا في ضَعفك وخُذلانك؟ فإذا شَهِدْت على نفسك أن المرة الأولى كانت بسبب ضَعف في الإيمان، ماذا تفعل في المرة الثانية؟ قَوِّ إيمانك، اجعله لك وكيلا.


 س: أحيانًا يكون قلقي ليس مِن الله بل مِن ذنوبي وأن الله سيعاقبني بسبب ذنوبي؟
ج: أولًا، معلومة أن الذنوب لها أثر على الحياة معلومة صحيحة مئة في المئة، فالذنوب لابد أن تكون مؤثرة على الحياة، لكن وكيلك لَمَّا تكون إليه مُضطَّرًا وبين يديه منكسرًا لا يمكن أن يَخذِلَك في هذه اللحظة، وإذا كان الكافر لو دعا دُعاء المضطَّر استجاب الله له وهو كافر، فكيف بمن اتخذ الله وكيلا هل سيخذله لذنوبه؟!
ثم إذا كنت تعلم أن السبب ذنوبك فالزم الاستغفار وتوكل عليه.

لو جاء شخص يقول لك: أنا لست قلقًا مِن ربنا، أنا قلق لأني لا أستحق أن يعطيني الله.
نقول: لا تسيء الظن بالله -عز وجل- فهذا نوعُ إساءة ظنٍ بالله، لأنك لمَّا تضطَّر وتلجأ لا يمكن أن الله يخذلك.
لو سألتك عَن الكريم في أَخلاق البَشر، شخص مثلا كريم، وأنت بَطِرت عليه في لحظة وقلت له: (يا أخي كل مرة تأتي لنا بنفس الأكل). وبعد ذلك أتيت يومًا جائعًا وطرقت بابه وهو كريم، وقلت له: (أعطني لآكل). هل سيقول لك: أنت في المرة الماضية قلت لي كذا وكذا؟! إذا كان لئيمًا وأنت محتاج سَيَرُدَّك، أما إذا كان كريمًا وأنت مضطَّر فما يَرَدُّك، لكن قد يعاتبك في الرَّخاء، يعني يأتي يوم رخاء وأنت فيه غير محتاج لأن تأكل وأنت جالس و مرتاح، فيقول لك: (أليس مِن العَيب أنك تقول لي كذا، فهذا مِن البطر). مِن أخلاق الكرماء: أنهم في لحظة الحاجة لا يردّون منَ يَطرق بابهم.
فهل تعلم أكرم مِن الله عز وجل؟! لا نعلم أكرم منه، فلا تتصور أنك لمَّا تتخذه وكيلا وتقف بين يديه منكسرًا عنده أنه سيخذلك، سيتركك لِمَنْ؟! ولو كانت بينك وبين الله ذنوب ومعاصي وأنت محتاج ومضطر ماذا ستفعل؟! لابد أن تلجأ له، ليس عِندك حَل آخر.
فإذا وجدت أن قلقك بسبب ذنوبك وأن الله -عز وجل- لن يُحقق لك مُرادك وأنت مضطَّر فهذا نوع سوء ظن بالله، لأن اللجوء إليه والانكسار بين يديه أحد أسباب كفارة الذنوب، فالانكسار، واللجوء، والدعاء، والطَّلب بنفسه عبادة، فأنت لا تطلب طلب المستغني، يعني طلب الذي يقول (أعطني هذا وبعد ذلك نتفاهم)، لا
بل اطلب طلب المنكسر الذليل الذي يرى نِعَم ربهِ عليه، المعترف بنعمه
والزَم الاستغفار إن كنت ترى أن ذنوبك حائلةً بَينَك وبينَ عَطاء الله.
ففي النهاية القَلق ليس هو الحَّل، إنما القلق مِن الشيطان، لابد أن تتصوروا {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[27] يجب أن تفهموا بأن هذه الخطة العدائية التي تجري في دمائنا، وهي خطة الأحزان، ما وصف هذه الخطة؟
أنك كلما جئت تُقبل على شيء، لا يُبَيِّن لَك الشيطان إلا الجانب السلبي، خصوصًا وأننا نكبر في السِّن، يعني كلما كبرنا وزادت خبراتنا الماضية، إذا لم نكن مليئين باعتقاد كمال صفات الرب، فإن تجاربنا هذه ستزيدنا قلقًا، وانظر للصغير كيف هو جَريء على المواقف والأحداث، أما الكبير فأكثر تَريّثًا، وليس شرطًا أن يكون هذا مِن عقل، قد يكون أكثر تريثًا لأن شاشته سوداء! كل التجارب عنده سيَّئة، فلمّا يأتي يُسلِّم على أحد يقول في نفسه: (لو سلّمت على فلان سيظن أني محتاج له!) لمــــاذا هذا التفكير؟ لأنه مَرَّ في تَجربة بأنه أتى يُسلّم على أحد فقال له: (نعم ماذا تريد؟) فوضع هذه في ذِهنه.
يأتي مثلًا يريد أن يبتسم لأحد فيخاف لو ابتسم له يقول له: (ما وراءك؟ هذه الابتسامة لها معنى) فلا يبتسم في المرات القادمة، فشاشته التي أمامه كلها تجارب سوداء ولا يستحضر إلا هذه التجارب.
مِن أجل ذلك لمَّا نَكبَر مِن دُون توحيد وتعلّق بالله، تزداد حساسيتنا المُهْلِكة وليست النافعة، لأن الحساسية النافعة هي التي بينك وبين الله، تشعر مثلا أنك أذنبت وأنك قصرت في الشكر، تشعر أن الله -عز وجل- أَنعَم عليك، فكل حساسيتك بعلاقتك مع الله: سواء ذنب، خطيئة، نِعمة، لكن الحَساسية لمَّا تَنقلب بَينك وبين الناس وكلما ازددت عمرا زدت حساسية، فهذا بسبب عدم وجود حُسن الظن بالله، والنساء أكثر عُرضة لهذا الأمر، فتأتي مسائل الاكتئاب وغيرها، وهذا بسبب أنك سِرْتَ في الحياة وأنت لا تَعلم عن الله، وتَراكمت التَّجارب السيئة، بل حتى أحيانًا لايكون لديك تفسير يفسر لك لماذا لمَّا الناس يبتسمون لك لا تبتسم أنت لهم؟ لماذا لمَّا الناس يكلمونك بالطيب لا ترد عليهم؟ لماذا أصبحت عنيفا هذا العنف؟!
أصبح ما عندك تفسير لهذا كله بسبب تراكم التَّجارب السيئة التي لم يأتي معها عِلم عن الله، و أن كل شيء رزق، وأن حتى الكلام الطيب الذي تسمعه هذا نوع من أنواع الأرزاق، وهذا طبعًا الإيمان العظيم الذي يُحَوِّل الإنسان فلا يَطلُب إلا مِن الرَّزاق ولا يَنتَظِر إلا مِنه، لا يَحَمد النَّاس على عطاء الله ولا يذمّهم على ما لم يؤتهِ الله، أليس هذا ما جاء في الحديث: ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسُخْطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَجُرُّهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ))[28].
لما تنام في الليل وتتذكّر أنّ فلانًا يريد أن يُقَدِّم فيك شكوى، أو فلان يريد أن يفعل فيك كذا، فتبقى طوال الليل قَلِقًا تنتظر الصباح مِن أجل أن ترى ماذا فعل، في مقابل أنك لو في لحظة إدخال الشيطان وتذكيره لك هذه الذكرى، في لحظة ذِكراك لهذا المُخيف أو هذا الكَدر أو هذا الشَّخص الذي هو بمثابة البلاء عليك، في اللحظة التي أتى فيها الشيطان مِن أجل يَجري فيك الحُزن، في هذه اللحظة تحتاج إلى أمرين معًا:
1.             إلى سرعة الفَزع إلى الله، وأنك يا رب تَرُدّ عني، أنك يا رب لا يأتي منك إلا الخير، أنك مالِك الملك تُؤتي الملك مَن تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.
2.             مع قوة الاستعاذة، لأنه ما يُلقي في قلبك هذهِ الحال إلا الشيطان.
أنا أتكلم عن الوضع الذي تكون فيه هادئًا ولا يوجد في ذهنك ولا شيء، صفحتك صافية وفجأة يُلقَى في قلبك الخوف مِن فلان الذي يُدبّر كذا، وفلان الذي يكرهك سيفعل كذا، وأحيانًا تأتيك خيوط بعيدة عن بعض وبعد ذلك يأتي لك الشيطان فيُضَفِّرها لك ويضبط الصورة! ومرة واحدة ترى صورة كأنها أمامك أو كأنه خبر في جريدة، وتجد نفسك تفزع وأنت في مكانك، وبعد ذلك نرى أن هذه كلها خيوط العنكبوت، وأنه لا شيء مِن هذا حصل، لأنك لا تعرف كيف يلعب بك الشيطان، يعمل لك مؤامرة مِن خيوط العنكبوت، لكن لو وجدت نفسك لست قادرًا على رد هذه الأفكار، وافترض جدلًا أن هذا الأمر حقيقة، ما الذي ينجيك منه و ما الذي يخرجك منه؟ تفويضك إلى الله.

لدي ثلاث حالات أحتاج فيها استعمال اسم الوكيل والتفويض:
الحالة الأولى:
هي الحالة التي تكلمنا عنها (حالة الوَهَم)، حالة تَلاعُب الشَّيطان بالإنسان، حالة تَقطيعه لِحالات الأَمن النفسي، فالشيطان يأتي يُقَطّع حالات الأمن النفسي التي تعيشها، لأنك وأنت آمِن نفسيًا مُحسِن الظن بالله، هادئ، ليس عندك سوء ظن بالله، فأنت جالس في البيت غير مرتكب لمنكر، وكأنّ الشيطان يرى حالك هكذا ويقول: كيف لا تذنب؟ فالشيطان لا ترضيه هذه الحال، فماذا يفعل بك؟ يُلقي في نَفسك خَوفًا مِن المَخاوف التي تَدور حولك، فلَمَّا يُلقي في نفسك خوف من المخاوف تَنقلب نفسيتك إلى سوء الظن، وأنه يمكن أن يحصل لي كذا، قد يفعل فلان فيني كذا. هذه مواقف حقيقية تحصل: أحيانا يكون هناك شخص جالس في درس أو في مكان ويسأله أحد: أين تسكن؟ هو قد يسأله هذا السؤال لأنه يريد أن يُوصله معه، فالثاني يقول في نفسه: لماذا يسألني أين ساكن؟ ماذا يريد؟ ماذا يريد أن يكشف عني؟ ماذا يريد أن يعرف عني؟ فتأتي هذه الكلمة ووراءها سوء ظن بالله، إلى أن يأتي المرض النفسي الذي يُسمّى بـ "نظرية المؤامرة"، يعني إلى أن يصل الإنسان لِمشاعر بأن كل الناس حوله يتآمرون به، وهذه مَشاعر موجودة وأمراض موجودة، و النَّاس غير شاعرين بأنها مرض، لكن هذا بسهولة يَدخُل للإنسان.



كيف تعرف أن هذا الخاطر فيه إساءة ظن بالله؟
بأن يُشعِرَك الشيطان بالخوف مِن المجهول أو مِن المَعلوم الذي ليس له حقيقة. إمّا من الجهول فتفكر: ماذا سيحصل مع أولادي غدا؟ مثل الذي يكتب مقالة طويلة عريضة أنه في عام 2100 ماذا سيحصل في الاقتصاد العالمي، وأولادنا في أَيْ مِن الدول سيعملون. إنا لله وإنا إليه راجعون، يعني أنت في 2100 ستكون في قبرك، فتأتي تكلمني ماذا سيفعل أولادنا وماذا سيحصل!  لم يجد شيئا يتكلم فيه، مِن أجل أن تعلموا أن هذا مِن وَحي الشيطان!
المستقبَل بيد الله، فتوسّلوا إليه ينزل البركات، لكن القوم لِجَهلِهم بربهم تعلقوا بنفسهم وبأفعالهم. المهم أن الشيطان يُكلمك عن مجهول، وماذا سيفعل أولادي و زوجاتهم بي عندما أكبر، وأنا أصلًا في الحقيقة حتى أولادي ربما لم يبلغوا إلى الآن وأنا أتكلم بهذا الكلام، يعني تخويف بالمجهول، أو ربط للمعلوم ربطًا وهميًا: أنّ فلان سيفعل كذا. فتكون في دائرة مِن سوء الظن أنه ما يأتي مِن الله إلا باطل، ما يأتي من الله إلا سوء، وهذه انعكاسة لِتَجارب الشخص الماضية.
لكن في تجاربك الماضية فَتِّش في نَفسك أنت، قلبك أين كان، وأين عِلْمُك عن الله، ولماذا تقرأ النقاط التي أنت تَراها سيئة. الإنسان لمَّا يَنضُج ومعه توحيد يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}[29] انظر للفارق الشاسع، شخص يرى الذي مضى كُله ما جاء من ورائه إلا خير، وأنّ الله ربنا عامَلَنَا بحلمهِ، فَعَلْنا وستر علينا، كُنّا لاهيين والدنيا أخذتنا ومع ذلك ما أخذنا مثلما أخذ الذي عمره عشرين والذي عمره ثلاثين، بل عَلّمَنَا وفَهّمنَا عنه، جاءتنا لحظات توبة، لحظات انكسار، كم مِن المرات ذهبنا للحج وما نعرف ماذا قلنا فيه، لكن ربي عامَلَنَا بحلمه ثم حججنا ونحن نفهم ماذا نقول، اعتمرنا ونحن نفهم ماذا نقول، صلينا ونحن نفهم ماذا نقول، بعد سنين صَلينا وكنا ما ندري عن الصلاة وهي أثقل ما تكون علينا، أليس هذا كُله نِعَمْ مِن الله -عز وجل-؟ لماذا إذن النَّظرة السيئة؟ إنما هذا مِن فِعْل الشيطان.
إذن أول مَوطن تستعمل فيه اسم الوكيل: وَقتْما يُعاملك الشيطان بِعداوته وأنت صَافي الذَّهن. أين تظهر عداوته؟ في كَون أن قَلقك نوع إساءة ظن بالله، فهو إذا وجدك تاركًا للذنوب قَلَّب عليك هذه الذنوب التي ما فيها ولا حركة، فقط وأنت جالس في مكانك، ونَحن اتفقنا أن الأذكار مثل السيف والسيف بضاربه.
فقد يقول قائل: (لكني قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقلت الأذكار). نقول: صحيح، قولك للأذكار مِن أهم العوامل، لكن هذا العامل لابد أن تفهم جيدًا بأنه مِثْل السَّيف، والسَّيف بضاربهِ، يعني ماذا تحتاج؟ أن تملأ نفسك مِن المعاني، فهناك فرق كبير لمَّا تقول (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات وأنت لاتدري ماذا تقول، وبين أن تقولها وأنت شاعر حقيقةً أنك مُوَكّل أمرك لله.  إذن أنا أحتاج أن أتعامل مع اسم الله الوكيل وأفوّض أمري له لمَّا يَنزغني الشيطان نزغًا لإساءة الظن.
الحالة الثانية:
الموقف الثاني الذي أحتاج فيه لتفويض الأمر لله لمَّا أُقْدِم على ما أخاف، يعني شيء تُقْدِم عليه وأنت خائف منه، والخوف هذا له أسباب كثيرة: قد يكون لأنها تجربة جديدة – أناس لا تعرفهم مثلا-، أو عندي تجربة سابقة وسأدخل مِن جديد فيها مرة أخرى فأكون بِنَفس النَّفسية الأولى، فلا تفعل هذا الفِعْل، إنما اعتبر أنّ هذه تجربة جديدة تمامًا ليس لها علاقة بالأَولى.
لمَّا تدخل إلى تجربة جديدة نفس التَّجربة السلبية السابقة، في تفكير الناس المنطقي يقال لك: انظر للعيوب التي كانت فيك وتَفاداها. فأنت مثلًا الآن مررت بأربع مرات من التجارب، المرة الثانية تفاديت خطًا ارتكبتهُ في المرة الأولى وأيضًا فشلت التجربة، وفي المرة الثالثة تفاديت خطأين حصلا في التجربة الثانية والأولى، لكن ظهرت لك مشكلة ثالثة غير المُشكَلتين الأوليتين، يعني أنا جربت أعتمد على نفسي وجربت أفعل لنفسي خريطة سَلبِيات وإيجابيات، وكل مرة أدخل فيها يخرج لي شيء لم يكن في الحسبان ولم يكن ثغرة في المَرَّة الماضية!! ماذا أفعل إذن؟
هذا يجعلك لمَّا تُقدِم على شيء أنت خائف منه، أن تنزع مِن نفسك الثَّقة بها، يعني لا تجعل محورك في هذه التجربة القادمة أنك ستتفادى الأخطاء التي مَضت ومِن ثمَ ستنجح، لأني أحيانًا أقول لنفسي أني سأتفادى الأخطاء التي مضت، لكن تكون الأخطاء التي مضت هي بِحد ذَاتها لو تفاديتها في هذه التجربة سيقع الخطأ، وأحسن مثال على ذلك الزواج.
مثلًا امرأة تزوجت أول مرة وفشلت لأنها كانت عاطفية، أو لأنها كانت تتصل وتسأل عنه في كل دقيقة، وانتهت هذه التجربة، فجاءت التجربة الثانية وعاهدت نفسها أنها لن تتصل، فطلّقها، لمــــاذا؟ لأنها مُهْمِلة! فالذي تجنبْتَهُ بِعقلك وقلت بأنه يجب أن تتفاداه في المرة القادمة أصبح هو الذي سَبَّب المشكلة!
فلمَّا تُقْدِم على أمر تخافه، وهو أيضًا في نفس الوقت مجهول بالنسبة لك، سواء هذا الزواج أو هذه الولادة، لأن كثير من النساء يقولون: (مِن المؤكد أن هذه الولادة مثل الولادة الأولى) وبعد ذلك لمَّا نكبر نفهم أنه ولا وِلادة كانت مثل الثانية، فكل ولادة لها ظروفها الخاصة، فأنت لمَّا تُقدِم على شيء خائف منه حتى لو كانت عندك تجربة به، ارمِ وراء ظهرك كل تجاربك، وفقط قف بَين يَدَي الوكــيل و وكّله أن يُصلح لك أمرك، وأن يسددك ويوفقك ويشرح صدرك ويفتح عليك ويُنَوِّر قلبك لأن تصل إلى ما تريد، لأنك لمَّا تمشي بين الناس تحتاج إلى نور.
في موقف يكون هناك ظالم ومظلوم، وأنت ترى أن هذا ظالم وذاك مظلوم، وفي النهاية يكون الاثنان ظالمان، أو الاثنان مظلومان، وأنت لا تعرف، فلا يوجد طريق إلا أنك تستهدي الله، يقول تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أحييناه بنفسه، و الناس حوله ماذا سيفعل بهم؟  {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}  فأنت في أَمَسّ الحاجة أنك لمَّا تأتي تتعامل مع الناس يكون معك نور.
وهذا الشيء يحصل حتى مع أولادنا، فأول ولد يأتي نَشُدّ عليه ولا نقبل أن يفعل كذا وكذا، وبعد ذلك يفسد الولد لأننا شَدّدنا عليه، فنجيء للولد الثاني فنعطيه، وبعد ذلك يفسد لأننا أعطيناه، فأصبحنا لا نعرف ماذا نفعل. نرجع لنفس المشكلة: هؤلاء بنفسهم مَجهولين، لا نعرف كيف نتعامل معهم، فما الذي يُنَوِّر لك التَّعامل معهم؟
أن تُوَكّلَ الله أن يُصلِحك وييسر لك وينوّر لك ويفتح عليك، لأنّ مِن أسمائه العظيمة التي تنفعك وقت التعامل مع الناس اسمه (الفتاح)، فكُل مَن عَامَلْته وأنت تود فتح قلبه عامِلْه باسم الله الفتَّاح، فهو وكيلك. اطلب مِن الوكيل الذي وكلته أَمرك قلْب فلان مِن أجل أن تتعامل معه وتمشي حياتك ولا تخرب الدنيا، وأنت لك سابقًا تجربة و تجربتان، فتقول: (يا فَتاح افتح لي في قلبه)، فطلب الفَتح في قلبه مُلْك لله، وانظر إلى أولادنا: يكون هذا الابن يُحبني لكن لايريد أن يسمع مني أي كلام، ويراني أصبحت معقدة، وكثير مِن هذا الكلام نسمعه، فلا تجعل هذا مانعًا وطول النَّهار تفكر في أنّ ابنك يقول عنك معقد، أو أنك لمَّا ذهبتِ لهذه الدروس تَغيرت، أو إلى آخر ما نَسمع.
أليس قلْبُهُ مُلْك لله؟ ألا تعلم أنّ القُلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهم كيف يشاء؟ فَاسأَل الفتَّاح هو وَكيلك، وأنت وَكلتُه على أَمرك وقُلت: يا رب أنت الذي تُصلح لي حالي، يا رب أصلح لي قلبه، افتح لي في قلبهِ.
فمِن معاني اسم الفتاح أنه -سبحانه وتعالى- يفتح قلبه وأنه يزرع فيه الإيمان، فكل الذي تخاف منه وأنت مُقْدِم عليه ولا تعرف ما هو الباب ولاتعرف كيف تتعامل معه، اطلب مِن الوكيل الذي وكّلته.
اسم الوكيل وراءه صفات: أنه فتاّح وأنه عليم وأنه حكيم وأنه رزاق وأنه غني، مالِك لكل شيء، فلمَّا يكون وكيلك غني وفتاح وعليم وحكيم، هل تريد وكيلًا دُونه؟ (لا)، لا أحد يتخذ من دونهِ وكيلا، فقط قِف عند بابه -سبحانه وتعالى- و وَكّلهُ أمرك، فإذا وكّلته أعطاك، لكن المُهم أنك في كل المسألة توكّلهُ ولا توكّل غيره ولا حتى نفسك (ولَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ).

إذن لما تُقْدِم على شيء مخيف أو شيء جديد -والجديد دائمًا له رهبة الخوف- أنت محتاج إلى هذه الأمور مِن أجل يحصل التفويض كما ينبغي:
1.             أن تَشُل تفكيرك تمامًا، أوقفه، واجعل كُل ثُقلَك على التَّفكير في التَّفويض
 أني يا رَب وَكلتَك، يا رب أَصلِح لي الأمر، يا رب ليس لي غيرك، يا رب بارك لي في أولادي وفي زوجي وفي بيتي.
مثلًا أريد أن أنتقل مِن بيت إلى بيتٍ آخر، وأنا في ذهني خريطة طويلة عريضة بأن فلان انتقل من بيته ثم مات، وفلان انتقل من بيته وحصل له كذا، فَتَصور وأنت ذاهب تنقل بيتك وفي ذِهنك هذه الخريطة الذَّهنية كلها وشَاعِر أن البيت هذا على قدر ما أنت يمكن أن تفرح به، على قدر ما أنت خائف مِنه، وهذه مشاعر موجودة حقيقةً، وأحيانًا كثيرة الذي يَبني البيت لا يتمتع به بل ربما يتمتع به أولاده الذين لا يحملون هذه المشاعر، لكن هو بالنسبة له أصبح هَمًّا كبيرًا. وهل مِن المعقول أنّ كُل مَن سيبني سيقع تحت هذا العذاب النفسي؟! إذن مـــاذا تفعل؟
شِل تفكيرك و وكِّله: أنك أنت يا رب الذي تنزل البركات على البيوت وعلى الأبناء و الأزواج، وأنت يا رب الذي تفتح القلوب ومغاليق الأبواب، أنت الذي تفتح أسباب الرزق، تُيسّر الأمر، ففي لَحظة إقدامك على الأمر تحتاج أن تتوقف تمامًا عن التفكير، لأنه في لحظة الإقدام على أمر جديد يَضعك الشيطان في مَخرطة، و قد لا تستطيع أن تَقف حتى على قدميك مِن كثرة ما يأكل فيك الشيطان مِن الداخل، فأنت شل تفكيرك تماما.
2.             لا تفعل إلا فِعْل التفويض
يا رب أعطِني، يا رب أتوسل إليك أن تفتح لي وتُيسّر لي وتُبارِك لي. وانظر إلى الأمر الذي تريده ووكِّل الوكيل أن يَفعل لك ما تُريد، لأنه أحيانًا تكون المرأة مع زوج لا تعرف ما هي نفسيته وقد يكون في قلبها خوف منه وهذا الغالب الذي يحصل، وتريد من قلب زوجها ميل وعاطفة، أو أحيانًا ليس شرطًا أن يكون زوجًا جديدًا، ربما ظروف أحاطت بالحياة، فالزوج نفسهُ حصل له نوع تغيير، فماذا تفعلين؟ وكِّلي الله في إصلاح قلبه، وكِّلي الله أن يعود به إليك عودًا حميدا، ومِثله الأولاد لمَّا تراهم قد تشتتوا، وكِّل الله أن يرُدّهم إليك ردًا جميلا فهو مَالِك قلوبهم.
إذا علِمْتِ أنّ الله مالِك كل شيء وهو الحكيم وهو الكريم وهو الغني، وإذا أعطاك ما تريد ما نقص في ملكه شيء، لماذا تطلب الفقراء؟! يعني لو جِئتِ لهذا الزوج الذي تغيّر عليكِ وطرقتِ بابهُ وقلتِ: (تعال نتفاهم) وهذا التفاهم الذي في العادة نتصور أنه حَل، قد نجد أنه وضع حَاجزًا جَديدًا وكبيرًا بيننا وبينه، لأنني في النقاش سأقول كلمة وهو سيقول كلمة، وفي الأخير نَخسر بعضنا مِن جديد، ونعيد النقطة مرة أخرى مِن بدايتها، وأنا لا أقصد أننا لا نتفاهم، يجب أن تفهموا الفاصل الآن، وهو أنه قبل ما تتقدمين لأي خطوة لابد مِن التفويض.
3.             ثم اطلب مِن وَكيلك أن يُلهمك ويُرشِدَك الخطوة المُناسبة
وسترى كيف يُهيّئ الله أسبابًا مِن تحت الأرض لإصلاح الحال.
هناك قصة لامرأة كانت في غُرفتها تتناقش مع زوجها على الطلاق، ثم يطرق طارق الباب، مَن هذا الطارق؟ خالٌ لها، فجاء فقال لها: (أنتم منذ زمن قبل عشرة شهور طلبتم مني خمسون ألفًا مِن أجل أن تُصلحوا بيتكم، أنا الآن أتيت لكم بهذا المال) فلمَّا وجدوا المال موجودًا وهم مُتفقون أنّ كل شخص منهما يذهب لحاله، غَيَّروا رأيهم!
شعروا أن رَبي أرسل لهم هذا الرجل مِن أجل أن يقول لهم أن بيتكم سيصلح ومشاكلكم ستُحلّ، وأنتم تعلمون أن غالب المشاكل دائرة حول هذه الأمور، فَربي أتى لهم بالرزق إلى حدّهم مِن أجل أن لا يَخرب هذا البيت.
فلمَّا تُوكِّل الوكيل سيأتي لك بأسباب لا تعلم مِن أينَ أتت، وهذا الكلام شرحناه في اسم اللطيف: أن أرزاقه تأتي بألطف ما يكون مِن صورة.

مَرّت معنا إلى الآن حالتان:
·                 الحالة الأولى التي تكون وَهَما، مِن نزغ الشيطان، أصلًا ما يكون هناك أمر حقيقي ولا مَخوف حقيقي، وهذا في الغالب يُصاب النَّاس فيه بأمراض نفسية مثل الوسواس والقلق.
·                 الحالة الثانية أن تُقْدِم على أمر هو حقيقةً بالنسبة لك مَخوف، وقد تأتي فتقول هذا الكلام لشخص ثانٍ فيقول لك: على ماذا تخاف؟ الأمر لا يحتاج كل هذا. ليس لنا علاقة بالأشخاص الآخرين. الله -عز وجل- ابتلاك أنت دَون غَيرك بالإقدام على هذا الأمر لأنّ رِفعَتَك من هذا الباب، يعني أنت ترى هذا الأمر بالنسبة لك مخيف أو صعب، وغيرك يراه يسيرًا وسهلا، فالذي يراه يسيرًا وسَهلا لا يُبتلى به، وأنت الذي تراه صعب تُبتلى بهِ، لمــــاذا؟ منزلة في الجنة لن تَبلغها إلا لمَّا تمر على هذا الصَّعب عليك فتتعلق بالله، لأنه لو ما كان صعبًا ما حصل عِندك التَّعلق، ألست في الدنيا تُختبر ومنزلتك في الجنة على قدر نجاحك في الاختبار؟ يجب أن تفهم هذه المعلومة جيدًا، ولما تكون في الثانوية العامة هل ستُختبر في منهج الثالث المتوسط؟ لا، لن تُختبر في منهج بسيط عليك، بَل تُختَبر في نَفس الشَّيء الذي يَصعُب عليك، وهكذا الاختبار يأتيك مِن الله، لا يأتيك إلا الأمر الذي يصْعُب عليك.
ما هوَ النجاح في الاختبار؟ النَّجاح في الاختبار أن تتوكل بكل ما تَملِك مِن قوة عليه تعالى، لكن هذا الأمر لوحده لا يكفي، لابد أيضًا مِن الذي يقابله وهو أن تترك التوكل على أي أحد غيره، لابد من التوحيد، ومن أجل ذلك تقول (أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ) كل شيء صغيرهُ وكبيرهُ (ولَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) فأنت فاهم أن شؤونك هذه لا يصلحها إلا الله، والله -عز جل- لمَّا يصلح لك شؤونك مِن دون طلب يَختبرك بالشكر، ولمَّا يترك لك بَعض شؤونك فيها ثغرة مِن أجل أن تأتي هذه الثغرة فتكون سببًا لِتَعليتك وتَرقيك عنده.
أصف لكم هذا الأمر باسمين من أسمائه -سبحانه وتعالى-: (المنان) و (الوكيل). اعتبر حياتك مثل هذا البناء: بَمَنّهِ كمَّل لك كل جدرانك، فأنت سَويّ في صحتك، سَويّ في أعضائك، سَويّ في حياتك الاجتماعية، لك والدِيْن ولك أسرة، هذا كله مِن المَنّ، لكن لابد أن تبقى ثغرة في البناء، الثغرة هذه التي في البناء عامِل الله فيها باسمه الوكيل فَوكِّلهُ أن يَسدّها لك، ولنقل مثلًا أن هذه الثغرة بطول المَبنى، يعني بطول الحياة، في كل مَرَّة تُوضَع فيها لَبِنَة، ثم تترقى تريدها أن تكمل، فيبقى تَوكلك عليه وطلبك منه إلى أن تُسَد كل ثغراتك، ولو سددتها وأنت متوكل عليه نَجحت، ولو جئت في ثغرات وتعلقت بنفسك أو بغيرك، ستكون في هذه الثغرة رَسَبت، فتبقى هذه خَانة فيها مُشكلة، ويُعاد عليك الاختبار مرة أخرى إلى أن تسدّها بقوة التَّوكل عليه، فَيسدّها الله عنك، ويأتي الذي بعدها والذي بعدها إلى أن تنجح بأن تَسد كل ثغراتك قبلما تموت متوكلا عليه، أو تترك مِن ثغراتك أشياء ما توكلت فيها على الله -عز وجل-، وبِذلك يأتي النَّاس درجات في منزلتهم في الجنة على قَدر قَوة تعلقهم وتوكلهم على رَبهم.
مِن أجل ذلك انظر إلى السَّبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ((هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[30]، فأصبح التَّوكل هو سَد هذه الثغرات، فلو استطعت أن تَسُد كل ثغراتك ولا يصبح في قلبك ولا التِفات لغيره، تكون وصلت إلى هذا الحَد الأعلى الذي فيه دخول الجنة بغير حساب، ولو أقل فأقل، لكن لا تنسى أن غالب مَبنَاك بُنِيَ بمَنّهِ وكرمه، فهو الذي مَنَّ عليك وهو الذي يعطي النَّوال قبل السؤال، كل هذا مَنٌّ مِن الله، ثم يُريك هذا الجزء الناَّقص مِن أجل أن تأتي منك التوسلات والتعلقات، وفي هذا الجزء الناقص يَدخل ويخرج الشيطان، أما باقي البناء فاختبارك فيه صعب وهو (الشكر).
هذه المشكلة الأخرى وهي الشُّكر الذي قد يصل إلى حد أن يكون مغفولًا عنه، فمَن مِنّا الآن يقول الحمد لله أن لي نسبًا معروفًا؟ مَن فينا يقول الحمد لله أن لي بيت وأم؟ نحن ننتقد البيت بكل تفاصيله، إلى آخر ما نَجد في نفوسنا مِن كُفرانٍ لِنعمِة الله خفي، لانشعر به، على سَمعنا وعلى بَصرنا وعلى قُدرتنا، كَم مِن النساء ينظرن إلى أنفسهن في المرآة فيحتقرن أنفسهنّ ويقلن: يا ليتني مثل فلانة في عيني أو في أنفي أو في وجهي أو في بشرتي أو في بدني، كل هذا موجود، فمِن أجل هذا لابد أن تُفَكّر في أنّ الله يُعامِلك في حياتك كلها بأسمائه وصفاتهِ، فانظر أنت الآن تعيش تحت ظل أي اسم: فهو المنان، المعطي، الغني، الحميد.
 أمَّا مقاييس الثغرات فتختلف مِن شخص إلى آخر، أمر يكون بالنسبة لك صعبًا ويكون بالنسبة لغيرك سهل، فلمَّا تأتي عند شخص ابتلي بشرب الخمر مثلًا، هذا بلاء، وأنت صحيح سليم، فتأتيك مشاعر تقول: (ما الذي دفعك إلى هذا؟ لماذا تفعل في نفسك هكذا؟) أنت تشعر أن قرار ترك الخمر سَهل، لكن غيرُك بالنسبة له هذا قرار مصيري، وفي هذا الموقف تَفهم الحديث ((يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً))[31]. كيف تفهمه؟
بأنّ هناك مِن الناس -نسأل الله أن يسلّمنا– مَن يشرب ويسكر وبعد ذلك أول ما يفوق يبكي ويرى نفسه أنه فعل جريمة ويشعر بالاكتئاب، وبعد ذلك يذهب يأخذ عمرة ويفعل ويفعل، ومن ثم يرجع مرة أخرى للذنب، ففي مثل هذه الحالات اسألوا الله السلامة، لا يمر في خاطركم أبدًا أي سؤال آخر غير سؤال الله السلامة، لمـــــاذا؟ لأن هذه حالات ابتلاء، أنت ترى أنه لمَّا وصل إلى هذه الحال من البكاء والندم إذن انتهى الموضوع ولن يعود مرة أخرى لنفس التجربة، لكن هناك أناس ابتلوا بثغرات وبتسلط الشيطان وبدفعه لهم وبتغييب عقلهم في لحظة، وبأشياء لا نعرف وصفها، المهم في النهاية يقع في الذنب مرة أخرى، فأنت السليم من هذا البلاء ترى أن الأمر مجرد أن يأخذ قرارا بعدم العودة، لكن هو مُبتلى، فالشيء الذي تراه سهلًا هو عنده صعب، فهذه المقاييس دعوها.
لا تأتي تفكر فتقول: (كل الناس قادرون على حفظ القرآن، وأنا منذ زمن أفعل وأفعل ولا أستطيع) لا بأس، فأنت جهادك ليس في أن تحفظ، جهادك في أن تبقى تريد أن تحفظ وتجرّب وتعيد و تنسى وتعيد مرة أخرى، هذا هو المطلوب منك، أما ذاك الشخص فربّي يُيسّر له وهو عمره عشرة سنين أن يحفظ القرآن، فأنت الآن فقط امسك الطريق، وأجرك يأتي مِن قوة مجاهدتك في الحفظ مثلًا، وهو أجره يأتي مِن حفظهِ ونشرهِ وتعليمهِ.
تجد مثلا شخصًا جاء أجره من قيام الليل، وشخص آخر جاء أجره مِن قوة الندم والانكسار على ذنبهِ، فأنتم لا تفكروا كيف فتح الله لكل شخص باب، لأن هذا أمر فوق أن يُطاق في التفكير، ثم لمَّا ترى مثل هذا تصبح ما تتجرأ أن تقول: (ربنا سيُدخِل هذا الجنَّة، وهذا لن يُدخله الجنَّة، وهذا كيف سيُدْخله الله الجنَّة) ليست لك علاقة، ففي داخل القلوب مِن البلاءات والاختبارات والنجاحات التي قد لا تراها، فلمّا تَمُرّ على شخص مذنبٍ كان أو طائع لابد أن تتخلى عن الحُكم عليه، نوع من أنواع العبادة أن تتخلى أن تحكم على أحد بجنة أو نار، ماذا إذن عن شخص مات على طاعة وشخص مات على معصية؟
أما الذي مات على طاعة فنحن نرجو الله، نقول أن هذا صاحب دين وأخلاق والله -عز وجل- أرانا فيه حسن الخاتمة فنحن نرجو الله، لأن المشكلة لمَّا تحْكُم علية بحسن الخاتمة ثم يأتي أحد يقول لك: (استغفر لفلان، ادعوا له)، تقول: (والله كانت خاتمته حسنة) هل معنى ذلك أننا لا ندعي له؟! أصبحنا في أحيان كثيرة نقول للناس: لا تتكلموا عن خواتم الناس لأنه يَبْرُد في القلب طلب المغفرة. يأتي أحيانا في العزاء شخص يقول: (ربي أحسن له الخاتمة) هذا الكلام يكون للأبناء ولمن قام بتغسيله لأنه يطمئنهم، لكن إعادة هذا الكلام مرارا وتكرارا ماذا يفعل في نفس الإنسان؟ يُبَرّد عن الدعاء.
المهم أنّه يجب عليكم أن تَفهموا أن تَتَخلّوا عن الحُكم لأحد سواء عاصٍ أو طائع، وهذا الكلام للذي هو مِن أهل الإيمان، أما إن كان مِن أهل الكفر و مات على كفرهِ فهو كافر معلوم أن الله -عز وجل- أوعَده النار.
س: هل القلق ربما يكون مفيدًا في أنه يُوَلِّد قوة استعانة؟
ج: أَوَّل ما يأتيك المخوف توكل على الله مباشرة، استعمل التَّفويض، لكن استمرار القلق سيطحنك، ويُدخِلك باب سوء الظن، فلن يكون القلق مفيدًا، بل سيكون العكس، لكن لمَّا تُوَكِّلَ الله وتطمئن لفعلهِ، وكل ما ذَكَّرك الشيطان تتذكر أنك وكّلت الله وتطمئن لفعلهِ، فهذه هي العبادة، واترك عنك النَّاس مهما قالوا عنك (بارِد المشاعر).
 س: كيف لي أن أعرف ثغراتي حتى أسددها؟
ج: أما الثغرات وبَيانَها لك فالله -عز وجل- تَكفَّل لك بهِ، كيف؟ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[32] لابد أن يَفتِنَك، لابد أن يبتليك في مسائل، وطبعًا ليس في كل شيء، لو كان في كل شيء لَهلَكنا، لكن هناك أشياء مُعَيَّنة يَبتَلينا الله -عز وجل- بها، يَبتلِينا مِن أجل أن يَكشِفنا لأنفسنا، ولمَّا تكتشف نفسك لا تأتي تتجاهل أو تُبَرِّر، لأنه بعد الاكتشاف تأتي مشكلتان: مشكلة تجاهل الشيء الذي اكتشفته أو تَبريرهُ.
مثال: الكِبِر هذا مرضٌ في القلب، والإنسان لا يعرفه عن نفسه بل يقول: (أنا أحب المتواضعين، وأتواضع، ولمَّا يأتي موقف أفعل كذا وكذا) وبعد ذلك تأتي في موقف ويختبرك الله ويبتليك، وتظهر بالمقياس أنك متكبر، فماذا تقول؟ تقول: (هؤلاء الناس لا ينفع معهم إلا هذا التعامل، ولابد أن أفعل معهم هكذا مِن أجل كذا) هذا اسمه تَبريرات.
ولو نتكلم مثلًا عن الخدم، الخدم هؤلاء -نستغفر الله العظيم- هُم الطريق السريع إلى النَّار لِناس كثيرين، مِن جهة مشاعر التَّكبُر والاحتقار، بالإضافة إلى الظلم وغيره، ومع الخدم هناك قاعدة عند النساء سواءً في المملكة أو في الخليج: أنهم لا يمشون إلا إذا عاملتهم هكذا، مع أنَّك لو قَرأت في السَّيرة عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة تعامله مع الخدم وتعامل الصحابة معهم وتعامل التَّابعين سترى أن هذا هو الخط الصحيح، وأول ما أقول لأحد هذا الكلام يقول لي: (هؤلاء الصحابة والتابعين، ذاك النبي -صلى الله عليه وسلم-) ويقول لَك بأن هذا الكلام لا يأتي بنتيجة، فنقول له: ترى بالتَّجربة، ما دام أن الله ابتلاك بهذا الشخص فافعل أحد فعلين: إما أن ترى أنك تستطيع أن تَتعامل معه، فأكمِل معه واصبر على عُيوبه لأنه لن يأتيك أحد يسير على الخط المستقيم، أو اعتقه، اتركه، رُدّهُ، حتى لو خسرت مالك، فخسارة مالك أليست أفضل لك من النَّار؟
 
س: صعوبة فعل التَّوكل والتَّفويض مَبنِي على ماذا؟ هل على ثغرات فِينا؟ أم لأنّ الأمر صَعب وهذه هي طَبيعَتُه؟
ج: هذان العامِلان مُجتَمِعان معًا، نبدأ بالعامل المشتَرك بيننا كُلنا، ولاحظوا أنّ السَّبعون ألفًا صِفتهُم الأساسية في كل الصَّفات هي قوة التَّوكل، متى سيكون هذا الوصف لهم؟ لمَّا يَكمُل إيمانهم، فالتَّوكل هذا فِعْل يَبدأ سببًا لزيادة الإيمان، يكون بِنفسهِ التَّوكل هذا سببًا لزيادة الإيمان، وقوة التَّوكل مَبِنية على قوة الإيمان.
يجب أن تفهم أولًا أن التوكل عبادة وستأخذ أجرها، يعني كل ما مَرّ على خاطرك ما يُهِمَّك قلت: (وَكّلت الله عليه)، بذلك تكون مأجورًا وأنت في مكانك لم تُحرِّك ساكنًا، وكلما زاد الضَّغط عليك ازددت أنت توكلًا عليه وارتفع أجرك، ولمًّا يرتفع أجرك يزيد إيمانك.
والتوكل بنفسه يحتاج عامل مَعه وهو زيادة الإيمان، يعني لَن تستطيع أن تستمر صابرًا متوكلًا معتمدًا على الله مُحسن الظَّن بهِ إلا إذا غَذَّيت نفسك بأسباب زيادة الإيمان، فأحيانا أولادك يـتأخرون نصف ساعة فيأتيك الشيطان بأنه حصل لهم كذا ...إلخ،
فحتى تَطمئِن أين هُم تحتاج إلى أن تتصل بفُلان وغيره، لكنك في كل لحظة تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ربي حافظهم، أنا استودعتهم الحفيظ) إلى أن تصل في لحظة فتَنفجر فيها، فتقوم تأخذ الجوال تتصل، وفي هذه اللحظة وأنت تتصل تجدهم يدقون الجرس! رَسَبت! نجحت في البداية ثم أتيت في آخر لحظة فرَسبت! فتشعر أنك تستحي من نفسك وأنك لو صبرت هذه الدقيقة لكنت نجحت في الاختبار.
قد تقول لي: الآن يجب أن نأخذ بالأسباب؟ نقول: الآن حَالُك وَصل إلى حَد الوِسواس، ولمَّا تعرف كيف تترجم الموقف على أنه اختبار ستصبر وستتهيّأ لك كُل الأسباب، والذي يزيدك صبرًا لمَّا تتوسل إلى الله أن تصبر، وأنتم لا تفهموا مِن هذا الكلام أنه ترك للأسباب، لكنك تعرف جيدًا أن هذا الاتصال التلفوني أصلًا ليس أخذًا بالأسباب، فأنت الآن ماذا تريد؟ لو ترجمت الموقف بسهولة سترى أن البلد مليئة بالازدحام وأنه كذا وكذا، فلماذا مباشرة تنتقل إلى هذا التفكير؟! ثم إذا أصابهم أي شيء توسل إلى الحافظ أن يحفظهم. في زمننا الأول بدون اتصالات وجوالات ماذا كنا نفعل؟ نحن الآن نعيش على الجوالات وشاعرين أنّ كل شيء سنعرفه الآن، افترض أن السائق الذي معهم ليس معه جوال، ماذا ستفعل؟ هل ستموت؟! أنتم مَن تطحنون أنفسكم! وانظر كيف الشيطان يدفعك.
متى تحتاج الصبر؟ ليس في أول البلاء، لأنك في أوله معك صبر، لكن تحتاج الصبر لَمَّا تنْفُذ طاقتك التفكيرية الهادئة، يعني أنت تكون هادئ وطبيعي، إلى هنا لست محتاجًا إلى الصبر، إلى الآن أنت في الوضع الهادئ، فمتى تحتاج إلى صبر؟ لمَّا يتأخر الوقت عن موعد رجوعهم، مِن هنا بدأت تحتاج إلى صبر، ومِن هنا لابد أن تفهم بأن الشيطان يضغط عليك، ويَفتح لك الخيال، وتُفكر أنه متى سيأتي الناس يُعزّونني وماذا سأفعل! نحن نَرى ونَسمع هذا الكلام عيانًا، حقيقةً، حتى المرأة التي في قلبها قلق على الزوج يكون في ذِهنِها تُخطط ماذا ستفعل لو مات، المُهم أنك مِن هُنا بدأت تحتاج إلى صبر، والصبر هُنا هو عملية مدافعة سوء الظن بالله، والطَّلب من الله، فما دمت خائفًا الآن فاطلب مِن الله حفظه، واطلب رعايته، واطلب منه أن يوصلهم سالمين.
أحيانًا مِن رحمة الله بِعبدِه وهو ما نُسمّيه نحن أحيانًا بـ"إحساس الأم" أنّ أولادك يكونون خارج المنزل سواءً في المدرسة أو غيرهِ، فتُصلِّي في البيت العشاء أو الظهر، فَيُلهِمك الله أن تَدعي لهم، فَيأتي الشَّيطان ويقول لك: لماذا تدعين لهم؟ لَمَّا يقول لك كذا اعلمي أن الإلِهام الذي أتَاك مِن الله -عز وجل- فهذا رِزق مِن أجل أن يَجعل دُعاءك سَببًا في حِفظهم،
فهذا المَوقف يَحتاج مِنك إصرارًا على الدعاء لهم، لأنه ما دام أنّكِ ذُكِّرتِ الدعاء فهذه الرَّحمة وُهبت لك بأن تدعي لهم فيحفظهم الله، ومن المؤكد أن في ذاكرتكم ما يشهد لهذه المواقف وكيف أنك دعيت لهم وأتى بهم الله لك محفوظين.
حتى أن أم تقول: كنت أصلي صلاة الظهر فأُلقي في قلبي أن أدعي لابنتي بالحفظ بالرغم أنها لم تتأخر، ودعيت لها، وبعد ما انتهيت من الصلاة دَخَلَتْ ابنتي فرأيت وجهها مُصفَر، فسألتها: ما بك؟ قالت: ذهبتُ أوصل ابنة خالي لبيتها ونزلت فأغلق المصعد بين الدورين، فبقيت أقفز أَقفِز -انظر كيف ربي ألهمها- إلى أن استطاعت أن تُنَزِّله إلى الدور الثاني وتفتح الباب وتخرج، وفي دقيقة واحدة مابين هذا الموقف أَلهَم الله الأم أن تدعي لها، فالله -عز وجل- جَعلَكِ تدعين يا أم مِن أجل أن تزداد قوة تَوكلك عليه، مِن أجل أن تتذكري في المرات القادمة أنّ ربي لمَّا أراد حفظهم أَلهمني أن أدعوا لهم، فمن دَعا وتوكل عليه ما خذله الله، وإلا فطفلة في الابتدائي كيف يأتي في بَالها أن تَقفز مِن أجل أن تُنزّل المصعد إلى أسفل فتستطيع فتح الباب وتخرج منه؟! أنت لو كنت كبيرًا ما يأتي في بالك هذا التفكير، فسبحان مَن حفظهم، حتى يحفظهم بالفِكر بأن يُفكّروا هذا التفكير.

السؤال يقول: هذا التوكل كلام تقولونه، لكن في المواقف أجد نفسي غير قادر على أن أنفذ، بل بسرعة ينفذ صبري.
 نقول: أولًا يجب أن تعلم متى تحتاج الصبر، تحتاج الصبر لمَّا تخرج عن حالتك الطبيعية، وأنت في الحالة الطبيعة ذاك ما كان اسمه صبر، لكن لمَّا يبدأ يَرنّ في قلبك مشاعر الخوف لأن الوقت تأخر، فمِن هنا تصبر وتبقى واعيًا أن الله مع الصابرين، يعني استوعب الآن أن الله مَعك فَاطلُب منه السَّداد واطلُب مِنه التَّوفيق والثَّبات في هذه اللَّحظات، لحظة نَفاذ صبرك ترجمها على أنها اختبار. هذا التوكل وهذه القدرة أني أستطيع أن أصبر وما أتصل وما أفعل، ما الذي يأتي به؟ يأتي به أسباب زيادة الإيمان، فأنت محتاج لزيادة إيمان مِن أجل أن يأتي منك التوكل، وزيادة الإيمان له أسباب كثيرة وأهمها على الإطلاق (العلم بالله)، إدمان تكرار العلم بالله.
مثلا: أولادك الآن ليسوا عندك، إذن سَتُعامِل الله بأي اسم؟ باسم الحفيظ، أنه الحفيظ يحفظهم، وهو الذي يحفظهم على الحقيقة، لأنهم يكونون جالسين عندي على كِرسي ليس مُرتفع ومع ذلك يَسقطون وتنكسر أرجلهم، ثم في المدرسة يسقطون مِن فوق إلى أسفل ويأتون ولم يصيبهم شيء! إذن مَن الذي حَفِظَ هنا ومَن الذي ابتلى هناك؟ ما ابتلاهم إلا الله وما حفظهم إلا الله، لكن بسبب نتيجة نقص الإيمان يَدخُل إلى قُلوبِنا ضعف التَّوكل.
فَنَقْصُ الإيمان يَأتي بِضِعف التَّوكل، وزِيادة الإيمان له أسبابهُ وهو العلم عن الله، فقط تَعَلّم عن الله، بحيث تزيد ثقتك به، واستعمل الذي تتعلّمه في المواقف، فمِن رحمة الله بك أن يجعلك تَدخل في لقاءات تتكلم عن أسماء الله، وتسمع الكلام ثم تخرج تشعر نفسك خالٍ ليس عندك شيء، ثم تأتي المواقف فَترى الذي سَمعتَه كأنه مَقروء تقرؤه، وهذا من رحمتهِ أن كَلَّفَك بالسَّماع وهو تَكَفَّل بِحفظ ما سَمعتَهُ، وتَكفل أن يَنفعك بِه بالوَقت المُناسِب، فأنت الآن فقط افتح آذانك جيدًا وافتح قلبك، لأن العلم ما يقع في الآذان ولا في الأوراق بل العلم يقع في القلوب، وقد تخرج مِن اللقاء وتشعر أن سلوكك لم يتغير، ثم يأتي الموقف الذي فيه شِدّة فتقرأ ما تعلمّته قراءة، وتستعيد ما يجب عليك فهمه استعادة تعجز عنها لو كنت حافظًا، لكن التوفيق هذا بيد الله.
خُذ بأسباب زيادة الإيمان، ومِن أعظم أسباب زيادة الإيمان كَثرة الذَّكر. كن دائمًا لِرَبك ذاكرا، فكثرة الذِّكر سبَب من أَسباب زِيادة انتفاعك بالعلم عن الله، ومن ثم قوة اللجوء إليه والثقة به والتوكل عليه، لأن الثقة هذه كأنها رمل صغير يوضع فوق بعضه البعض، ليس مرة واحدة، فإذا سقيته بالماء تيبّس وأصبح قويًا، وهكذا، يعني أنت الآن كأنك تَلُمّ شَعثَ نَفسِك، وتَلُمّ في قلبك الثَّقة بالله، لن تُبْنى مَرة واحدة، وانظر إلى ما سلف مِن عمرك ومِن جهلك عن الله ومعايشتك الحياة بتجاربك، والناس حولك الذين يزهّدونك في الثقة به، الذين يقولون لك: (تَحَرّك، افعل شيئا، لو أنا مكانك ما كنت جلست في مكاني) والناس في بَث القَلق -ما شاء الله- مَدارِس! مباشرة يعطونك مِن هذه الكلمات، وإلى آخر الكلام الذي ترونه وتسمعونه .
أيضًا من أسباب زيادة الإيمان الطَّاعات، كثرة الطَّاعة، فلا تبخل على نفسك بصلاة ضحى، لا تبخل على نفسك بأن تسبّح وتُكبّر وتُهلّل، لا تَبخل عَلى نفسك بِسُنَن الصَّلاة، لا تبخل على نفسك بالوتر، لا تبخل على نفسك بصغير الطاعات التي هي سبب لزيادة إيمانك، وكلما زدت إيمانًا كلما نَظف القَلب، ولا تَبخل على نَفسك أن تأتي بالعَامِل الآخر وهو تَرك المَعاصي، خصوصًا الذي تستهين به من معاصي، خصوصًا مُصيبة مثل مُصيبة الغيبَة، هذه المُصيبة العَظيمة، ومُصيبة مِثل مُصيبة الكذِب، الاستهزاء والسخرية بالنَّاس، إلى آخر هذه المصائب المُهلكة لِبناء الإيمان في القلب. فكل هذه العوامل ماذا تفعل بك؟ تَجعَل ما تَسمَعه عن التَّوكل وما تسمعه عن صِفات الرَّب يَثقُب قَلبَك، لأن القَلب يُصبِح كالمُغَلَّف بِسبَبِ ضِعف الإيمان.

متى يصبح التوكل سَليقَتك –طبيعتك وسجيّتك-؟
بعدما يزيد إيمانك وتكون جاهدت، وهل العبد يزيد إيمانه بسهولة؟!
زيادة الإيمان يحتاج إلى بذل جهد، وقِس هذا على مسألة الصَّلاة وكَلام السَّلف، لأن الصلاة هي التَّعبير الأعلى عن عَمل القلب الأعلى، وفي كل ثغرة تجد نفسك كأنك أول مرة تفعل هذا الفعل.
مثلًا امرأة دائمًا مشكلتها مع أولادها، أما زوجها فدائمًا تقول لنفسها أنه سهل وليست عندها أي مشكلة معه، فتعيش التجربة مع أولادها، و يأتي أحد يكلمها عن التربية بالاستعانة فَتطلُب الله وتدعي، ولمَّا تشعر أنها حَققت التَّوكل فيهم وتنتهي مِن هذه الثغرة، تجد ثغرة ثانية فُتحت: زوجها الذي كانت مطمئنة عليه وتعرف كيف تتعامل معه يصبح هو بنفسه ثغرة، وتحتاج إلى معرفة كيفية التعامل معه، وتجد نفسها وكأنها أول مرة تستعين وتتوكل وتثق، لأنه شيء جديد وصورة جديدة، فأنت سَدّدت نفسك بالصبر على أولادك، يستفزونك فتقول: يارب اهدهم واشرح صَدرهم، ثم يأتي بلاء ثاني له انفعالات جديدة وتصرفات جديدة.
هناك شخصيات تَستَفزَّك لدرجة أنك تصل إلى حالة الغضب التي تقول فيها أن أفضل شيء مع هذا الشخص أن أقطع علاقتي به، وأنت في حياتك ما تعرضت لشيء مثل هذا، فلمَّا تأتي تنصحه وأنت مغتاظٌ منه، تشعر أول الأمر أنك غير قادر على أن تنصح بصدق، بعدما كنت طوال عمرك تنصح وأنت صادق، لكن هذا الشخص مِن كثرة ما أغاظك أصبحت نيتك مختلطة، هل أنت تريده أن يَصْلُح أم تريد أن تُخْرِج الذي في نفسك عن طريق هذه النصيحة؟ فتقول: (أشعر وكأني لأول مرة أجمع قلبي على النَّصيحة). نقول: نعم، لأن الذي عُرِضَ عليك فِتنَة جديدة، فكأنك مِن جديد تَأتي تَجمع قلبك وتَنتَفع بما تعلّمته، ثم تضعف وتقوى على حسب قوة وضعف إيمانك.
نحن للأسف عندنا قاعدة "أتْعِب بَدَنك ولا تُتعِب قلبك" دائمًا نريد القلب مرتاحًا ساكنًا، وكل البلاء على قلبك ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[33] لكن نحن نريده مرتاحًا، والشيطان يُثَبِّت فينا أن قلوبنا هذه لابد أن ترتاح، لا، الراحة ليست هنا، ما تأتي الراحة إلا وقتما يُبَشَّر العبد بالجنَّة.
س: هذه العشرة دقائق التي أشعر بها بمشاعر الاضطراب، هل هي صبر سأؤجر عليه أم قلق سأؤثم عليه؟
ج: هذه فِتنة عُرِضَت عَليك، فالشَّيطان يُصوِّر لك المَسائِل بِصورة أنه سيحصل وسيحصل، فادفَع التَّفكير وتَصَبَّر على أن لا تُسيء الظَّن بالله، وقل: ما يأتي مِن رَب الخير إلا الخير. صف الله بالكَمال، وهذا هو الصَّبر الذي تُؤجر عليه، أما استسلامك وفَتح باب الخيال ثم الإضرابات التي تحصل ولحظات الخوف، هذا الذي يُخشى أن يكون قلقًا وسوء ظن بالله.
س: ماذا نَفعل في النَّاس المصاحبين لَنا في الحياة الذين يُترجِموا كل زيادة إيمان على أنه بُرود وإهمَال؟
ج: هذه مِن البلايا التي تُعرَض عليك، وكما ذَكَرنا في قَواعِد بناء النفس: (احذر عدوك) ومِن أعدائك الصُّحبة، فلمَّا تَجد نَفسك مستعيذًا مستغيثًا طالبًا ومتوكلًا على الله، لابد أن يأتي أحد فيُصوِّر لك هذه الصُّورة على أنها شيء سيّء، فاعلم أنّ هؤلاء ابتلاء، كما أن نَفس المَوضوع ابتلاء، فَدافِعْهُم وقل: حسبي الله وهو نعمَ الوكيل، أما هُم فكلِّمهم عن الله، فهؤلاء ما هُم إلا كما قال الله عنهم {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[34].
الشيطان له أولياء مِن البشر منتشرون، فَيُخَوّفك الشيطان بأوليائهِ، يعني الذي لا يستطيع أن يُسَمِّعك إياه يَؤزّ أولياءه لأن يقولوا لك هذا الكلام، فكُن نافعًا لنفسك ولهم، لا تكتم في نفسك مشاعر التَّوكل، بل أعلِنْها وتكلّم بها، قل: أنا على الله متوكل وما يأتي من الله إلا خير، فهو خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، ومهما كان الأبناء تحت يدي فلابد أن عيني تَغفل عنهم بالثواني فيحصل لهم ما يحصل، ولا تعتبر أن الاتصال التلفوني عبارة عن أخذ بالأسباب. ما معنى أنّي آخذ بالأسباب؟! يعني لو حصل لهم شيء، ماذا سيفعل اتصالي التلفوني؟! هل أنا أريد أسباب حِفظَهم أم أسباب الطمأنينة؟ اعلم أن أسباب الطمأنينة مِن عند الله، وأسباب حفظهم مِن عند الله، وانتهى الموضوع.

س: مِن أجل أن يزيد توكلك وطمأنينتك زِدْ إيمانًا، لكن قد يأتي الشيطان فيقول لك: أنت الآن لا تزيد إيمانك إلا مِن أجل أن يزيد توكلك، وما تريد أن يزيد توكلك إلا مِن أجل أن يأتيك الذي تريده!
ج: نقول في الرَّد على ذلك أن الله -عز وجل- أنشأ لي الحاجات مِن أجل أن يحصل مني الانكسار والذُّل، فالعباد نُفوسهم فيها ضعف، فمِن أجل أن يَردّهم الله إلى بابهِ ماذا يفعل بهم؟ يُنقِص عليهم شيئًا مِن حاجاتهم، فيرجعوا إلى بابهِ. أهم شيء أنك تعبُد الله وأنت راضٍ عن فِعلهِ أعطاك أو ما أعطاك، ومِن أجل ذلك يأتيك الاختبار: هل تستقيم على أمرهِ إذا أعطاك أو لم يُعطك؟ أم أنك ما تستقيم إلا لو أعطاك؟ اسأل الله أن يثبتك أن تستقيم سواء أعطاك أو ما أعطاك. والشيطان له حيل حتى على الصِّغار.
جاءتني امرأة كبيرة تقول: وأنا طالبة في المرحلة الابتدائية كُنت أفعل معاصي ثم وَقعت لي مصيبة، وهي ما تصلي أصلًا، فلمَّا وقعت المُصيبة قالت: أنا الآن لمَّا احتجت له ذهبت أصلي، لا لن أصلي! فَدرَست في سادس ابتدائي في جملة في كتاب التوحيد أنّ الكفار المعاصرين أشد كفرًا مِن كفار قريش، لأن كفار قريش كانوا يوحّدون الله في الشدّة، لكن الكفار المعاصرين لا يوحدون الله لا في الشدة و لا في الرخاء، فَتَنبَّهت أن الشَّيطان يَلعب بها ويقول لها: (استحي مِن الله كيف لا تطلبينه في الرخاء وتطلبينه الآن في الشدَّة؟)، الله أوقع عليك الشّدة من أجل أن تعود إليه، فأنشأ لك الحاجة مِن أجل أن تعود إليه، فلا يقول لك الشيطان أنك ما صليت إلا مِن أجل أن تأخذ حاجتك، فالله -عز وجل- أنشأ لنا الحاجة من أجل أن نَذوق طعم الصلة به، ثم لمَّا يُعطينا حاجتنا نَزداد به ثقةً.
وقد يأتيك مِن كَلام الشيطان أنك ما استقمت الآن إلا لأنك ذاهب لتموت، لكنك في كل الأحوال ستموت، فتحمد لله أن جعلك تستقيم في آخر حياتك -لو كانت فعلا هذه آخر حياتك- ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ)) قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ؟ قَالَ: ((يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ))[35] يعني وفّقه في آخر عُمرهِ إلى العمل الصالح، لكن "عسَّله" هذه يمكن أن تأتي في آخر عشر سنين في حياته، ليس شرطًا أن يكون في آخر يوم في حياته، وأنت ستموت ستموت،
لكن مِن التَّوفيق أن يأتي العبد فيستقيم كُلما كَبر في السّن، لأنكم ترون بأعينكم أناسًا يكبرون في السن وينتكسون، وهذا إنما مِن الخُذلان، فمِن الرَّحمة والعطاء أن يجعلك الله -عز وجل- تتقدم في العمر وتتقدم في الطاعة، وِمن الطبيعي أن الإنسان لمَّا يكبر يزداد طاعةً {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}[36].
شخص مثلًا يهُمّه صلاح أبنائه، أو له بيت أو معهد أو عمل يريد أن يقوم به وخائف عليه وشاعر أن الأعداء محيطون به، يعني حَوله مِن النَّقائص الشيء الكثير، فهو كلما تذكّر فَوَّض أمره إلى الله أن يَرد عنه ويأتي له بالمصالح، فالشيطان يقول له: (كفى، لا تتعب نفسك، لا تفكر في الموضوع) ونحن قُلنا أن الشيء الذي يخيفنا دائمًا يُذكّرنا الشيطان بهِ،  فلمَّا وَجَد الشيطان أن تذكيره لنا به سيأتي بعبادة التَّفويض، أصبح يَلعب معنا الدَّور الثاني فيقول لنا: (لا تتعب نفسك لا تفكر في الموضوع) لا، بل هذه عبادة، فمِن فضل الله علينا أنك لمَّا تُعيد نفس العبادة مرة أخرى يعطيك الأجر مرة أخرى، بل لو العبد تَذكَّر مصيبة حَصلت له منذ زمن فعامَلَها بالصبر والرضا عن الله، كُتِب له الأجر كأنّ هذه المصيبة وقعت الآن وهو صَبَرَ عليها، فهذا مِن فضله -سبحانه وتعالى-.
تجلس مثلًا فيأتي الشيطان يُذكّرك بنقائص أنقصها الله عليك، موت أحد مِن أبنائك على سبيل المثال، فالشيطان يُريد أن يَقع في قلبك عَدم الرِّضا عن الله، فماذا تفعل ؟
عامِل تَذَكُّرك للنَّقص بأن تصبر وترضى عن الله، وتقول أنه ما أوردهُ الله عليَّ إلا رفعة لمنزلتي. في هذه اللحظة كأن المصيبة وَقعت الآن وكأنك تسمع الخبر الآن فصبرت عليه فَرضيت عليه، فيعطيك الله -عز وجل- الأجر، فهذا كلهُ إغاظةً للعدو ومِنَّة من الله أن يساعدك على الثَّبات في الصبر. فلمَّا تفعلوا هذا الفِعْل مع الشيطان كلما ذكّركم بالنقائص صبرتم واحتسبتم ورضيتم عن الله، وأنتم تشعرون أنه ما يأتي مِن الله إلا خير، بل مِن نِعَم الله ما حدث لي، سيهجُر حينها الشيطان تذكيركم بهذا النقص! لأنك ستأخذ أجرا، وأنت عدوّه. فكلما تذكرت المصيبة لا تعاملها بالبكاء والحزن، إنما عامِلها بالصبر والرضا عن الله، خصوصًا أنه مَرَّت عليك فترة تساعدك على الصبر والرضا عن الله، فلمَّا تصبر وترضى عن الله تأخذ أجرًا كأن وقت المصيبة الآن، وهذا شيء يُحزِن الشيطان، فهو ماذا سيفعل؟ سيهجُر تذكيرك بما يؤلمك لأنك ستُحوّل هذا الذي يؤلمك إلى موطن مِن مواطن الأجر، وهو يبغض لكَ هذا.
في المقابل تجد أناسًا كثيرون فيهم مِن الضعف أنهم كلما تذكّروا ما يحزنهم تراهم من جديد يبكون ويحزنون ويأتيهم الاكتئاب، وأنت أصلًا ربي ساعدك على الصبر لأنه قبل زمن طويل مضى عليك هذا البلاء، فهذا يساعدك على الصبر، فلا تُحَزِّن نفسك، لا تُمرض نفسك بالحزن، إنما هذا من الشيطان {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}.

اتفقنا أن التفويض يحصل في ثلاث مواطن:
الموطن الأول: لايكون هناك شيء، لكن الشيطان يُوهِمك وينزغك بأوهام و يأتيك بأفكار تجعلك تخاف مِن المستقبل أو مِن المجهول أو مِن أحد في ماضيك أو أحد محيط بك، فكيف تعامله؟ مباشرة افعل فعلين: افزع إلى الله مفوضًا له الأمر الذي تخافه، واستعذ من الشيطان.
الموطن الثاني: لما تكون مُقدِمًا على أمر جديد بالنسبة لك، وداخلك مشاعر خوف ولابد، فأوَّل ما يَمر على خاطرك هذا الأمر الذي سَتُقدِم عليه تأتيك معه مشاعر الخوف، وتشعر كأن قلبك اعتصر، مباشرة افزع لله و وكِّله واطلب الله بأسمائه وصفاته قائلا: (أنت وكيلي فافتح لي في قلوبهم، اجعلني مقبولة عندهم، أنت الغني فأعطِني) إلى آخر هذا كله. وأيضا شُل تفكيرك، لأن تفكيرك هو الذي سيعذبك، وكل هذا اطلبه من الله، وسترى أن الأسباب تتهيّأ مِن أجل صلاح الأمر.
الموطن الثالث: لمَّا يقع في القلب شُبهة وشهوات وأمراض، يعني شخص يرى أن الشيطان يُحبّب له المُنكر أو يأتي له بشبهات في الله -عز وجل- وفي صفاته وفي القرآن، أو يَمر على أحد فَيُلقِي هذا الأحد في قلبه شبهة عن دين الله، وهذا موطن مِن أعظم مواطن التَّفويض، لأن عَدم صلاح القلب سيؤدي للهلاك.
النقطتين التي مضت أَهوَن، لكن هذه النقطة تُدمِّر كل شيء. ما معنى الشُّبهات؟ يعني شيء يُشَبِّه عليك ويُشكِل عليك سواء في صفات الله أو في أقدراه، تأتي تقول مثلا: (حرام هؤلاء يحصل لهم هكذا من إخواننا في فلسطين أو العراق) ومِن هذا الكلام الذي ليس له في الحقيقة معنى، وبكل سهولة يتفكك، لكن الشيطان ماذا يفعل بك؟ يُلقي هذا في قلبك، أو قد يدخل لك الشهوات، فما معنى الشَّهوات؟
يعني شيء محرم وفي قلبك حُبّه، وقد يكون هذا الشيء المحرم مَرّ عليك في لحظة من اللحظات وقلت في قلبك: (كيف بالله هؤلاء يحبون هذا الشيء؟)، فَتُبتَلى به. وما يُقلِع مِن قلبك مثل هذه المصائب إلا أن تُفوِّض أمرك إلى الله، وتشتكي نفسك إلى الله.
واجمع بين أمرين:
1.             بين الفزع إلى الله أن يُصلح لك قلبك.
2.             وبين مَقتْ النفس، يعني كراهيتها، فتكرهها في لحظة التَّفكير في هذا الأمر.
أحيانا الإنسان تأخذه هذه الأمور لدرجة أنه يقول: (يا لَيت رَبي حَلَّل هذا الأمر). بدلًا من أن يمقت نَفسه ويرى أن هذا شيء سيء!
وهذا كثير اليوم، نَسمعه من الشَّابات لمَّا تَثور فيهم ثَورات الشهوة والحاجة فَتجدهم يتكلمون بكلام غير منطقي، لكن تَغلَّب عليهم الشيطان.
فلمَّا تَغلُب عليك الشهوة أو الشبهة توسل إليه -سبحانه وتعالى- وهو الوكيل أن يُصلح لك قلبك، وأيضًا مع العامل الثاني وهو مَقتْ النَّفس وكراهية هذه الأفكار، واعلم أن هذا شيء حقير يجب أن لا تتصف به.

والحمد لله رب العالمين.



[1]  النساء: 28.
[2]  الواقعة: 64.
[3]  آل عمران:159
[4] المستدرك على الصحيحين للحاكم، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
[5] المستدرك على الصحيحين للحاكم، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
[6]  فاطر:15
[7]  رواه ابن ماجه في سننه وقال الألباني حسن.
[8]  الذاريات55
[9]  رواه ابن ماجه في سننه وقال الألباني صحيح.
[10]  رواه ابن ماجه في سننه وقال الألباني صحيح.
[11]  [آل عمران 173]
[12]  [الذاريات55]
[13]  [النساء81]
[14]  [النساء132]
[15]  [النساء171]
[16]  الانفطار : 6
[17]  [الأنعام102]
[18]  رواه أبو داود في سننه وقال الألباني صحيح.
[19]  [النساء28]
[20]  رواه مسلم
[21]  [الفجر24]
[22]  [آل عمران159]
[23]  [الأنعام122]
[24]  [الأحزاب48]
[25] رواه البخاري في صحيحه
[26]  متفق عليه.
[27]  [المجادلة10]
[28]  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم، غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو، تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ.
[29]  [النمل19]
[30]  رواه مسلم في صحيحه.
[31]  رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني.
[32]  [العنكبوت2]
[33]  رواه مسلم في صحيحه.
[34]  [آل عمران175]
[35]  صحيح ابن حبان وصححه الألباني.
[36]  [النمل19]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.