الأحد، 1 نوفمبر 2015

تفسير ايات من سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمد الله عز وجل حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا اللهم آمين.
نجتمع حول هذه السورة العظيمة (سورة النور) وهذه السورة فيها من العلوم ما يحتاج أن نخصّه بزمنِ طويل في الدراسة والمراجعة، كون أن هذه السورة فيها آيات بيّنات  تدل على عظمة الله وعظمة شرعه وأن النور في هذا الشرع وليس في غيره، وأن كثيراً من الخلق أتوا إلى هذا النور العظيم وتركوه وتحولوا  منه إلى غيره وليس غيره بنور، ونور الإيمان ونور القرآن ونور حكم الله كلها أنوار تنفع المؤمنين، ومن هنا كانت هذه السورة تابعة لسورة المؤمنون السابقة لهذه السورة التي فيها أوصاف للمؤمنين الخُلّص، ثم أتت سورة النور تبيّن أن المؤمنين الكُمّل الخُلّص استفادوا من النور وأن المنافقين رغم أن النور أمام أعينهم لكنهم لم ينتفعوا منه.
فسورة المؤمنون وسورة النور كأنهم يمثلوا قوله تعالى في سورة محمد: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} فالمؤمنون والمنافقون يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء المؤمنون يدخل إلى قلوبهم النور فيفلحوا كما سمعنا في سورة المؤمنون، وهؤلاء المنافقون لا يسمعون وإن سمعوا لا ينتفعون ويقولون {مَاذَا قَالَ آنِفاً} مستهزئين فتكون النتيجة كما ضرب الله المثل قال الله في هذه السورة العظيمة ذاك الذي سار وراء السراب فتاه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أو كذاك الذي {أَوْ كظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} وفي سورة النور الذي يجعل المجتمع الإسلامي فيه نور، ينور كيف يتصرف مع الأحداث التى من أهمها وليست أي إشاعة إنما خاصة (الإشاعة التي في العرض) وهذا دأب أهل النفاق ، وأهل النفاق يأتوا إلى النساء العفيفات فيهتكون أستار العفة معهن بغمزهن ولمزهن، ويظهروا أهل الفسق الفاسقات الفاجرات على أنهن مستحسنات مقبولات، ففي الآيات التي سنتدارسها القصة المشهورة وهي (حادثة الإفك) وهذه الحادثة مع شهرتها –ونحن نعرف شهرتها من السنة - لكن الخبر عنها في القرآن أتى كنموذج،بمعنى أنه في كل مرّة تتعرضون فيها لحادثة مثل حادثة الإفك عليكم أن تفعلوا التالي فنسمع ماذا يجب علينا أن نفعل، يقال لنا أولاً لابد أن تعتقدوا أن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم وليس من خارجكم أنتم ابدؤوا بهذا {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أول الأمر لا نعتقد أنه شر، و الإفك كما هو معلوم الكذب الذي لا مرية في كونه كذب، يعني ليس أي كذب إنما كذب متفق على أنه كذب، فلا شكّ في كونه كذب، وهو بهتان يفاجئ الناس، وأصل كلمة الإفك من (الأفك) يعني قلب الأشياء، ولذلك قرى قوم لوط يسموان (المؤتفكة) يعني المقلوبة لأن قراهم قُلبت خسفت صار أعلاها أسفلها،
فهذا تقرير بأنهم يأتون بأخبار تخالف الواقع للحقائق فتسمى (الطاهرة، العفيفة، المستورة) تسمى عندهم بأسماء قبيحة، و(الفاجرة) تسمى بكلمات المدح، فالأولى عندهم (متخلفة) والثانية (متحضرة) و(حرة) وهكذا مما نسمع ونسأل الله عز وجل أن يحفظنا نحن و ذرارينا من الإفك والأفّاكين وقلب الحقائق.
وهؤلاء الذين جاؤوا بالإفك، (جاؤوا) بمعنى قصدوا واهتموا، جاؤوا بهذا الخبر واهتموا به وحاولوا نشره، ومنه قوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ومن هنا جاؤوا بالإفك يعني جاؤوا بهذا الكذب الذي اختلقوه، ومعلوم أن (الإفك) حديث اختلقه المنافقون ونفرٌ من الضعفاء بعقلهم من المسلمين، إمّا أنهم فقط يتابعون أي أمر أو أنهم يستقبلون الخبر وهم ليسوا أهل فحص للأخبار فيسمعون أي شيء وينقلونه، وهذا كثير ومعلوم في أحوال الناس و هؤلاء كان حالهم ـ سواء كان المؤمنون أو المنافقون كانت النتيجة واحدة أنهم تبادلوا الكلام ونشروه، و{مِّنكُمْ} هذا معناه أنهم بينكم وليسوا خارجين عنكم، القصة معلومة في كون عائشة رضي الله عنها كانت في تلك الغزوة ورحلوا، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل آخر الليل إلى المدينة، فلما علمت عائشة رضي الله عنها ـ بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش في قضاء شأنها -كما هو معلوم في شأن النساء قبل الترحل-  فلما فرغت وأقبلت إلى رحلها افتقدت عقد كان في صدرها فرجعت تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليلاً فلما وجدته رجعت إلى حيث موضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين برفع الهودج احتملوه وهم يحسبون أن عائشة رضي الله عنها فيه وكانت رضي الله عنها خفيفة قليلة اللحم، فلم يشعروا بعدم وجودها، فرفعوا الهودج وساروا، فلما لم تجد أحدًا اضطجعت في مكانها رجاء أن يتفقدوها فيرجعوا إليها فنامت فبقيت في مكانها، وكان صفوان ابن معطّل رضي الله عنه قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش يعني مؤخرته، فلمّا علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب دابّته  من أجل أن يلحق بالجيش، فلمّا بلغ موضع الجيش أبصر سواد إنسان فإذا هي عائشة رضي الله عنها وكان قد رآها قبل الحجاب وهذه من الأدلة القويّة على أن قبل الحجاب وبعد الحجاب شأن في كونهم يسترون أنفسهم ويسترون وجوههم الشاهد أنه لما رآها استرجع وهي استيقظت بصوت استرجاعه، ونزل عن ناقته وأدنى الناقة منها وأناخ ناقته فركبت أمنا رضي الله عنها وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في لحن الظهيرة، قدّر الله أن يكون عبدالله ابن أبي سلول رأس المنافقين في الجيش وأن يرى هذا الأمر فقال: "والله لا نجت منه ولا نجا منها!" يتهمها وهي البريئة المبرأة العفيفة الصديقة ابنة الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبته رضي الله عنها يتهمها بذلك.
كما تبيّن لنا اجتمع معه على هذا الأمر جماعة منهم جماعة من المؤمنين، فتن المنافقون المؤمنين، ألقوا هذا الأمر وكانوا فتنة لهم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
كيف لا نحسب إفكهم هذا شر؟!
بمعنى أن وراء هذا الذي تظنونه شر وراءه خيرٌ عظيم، والخير ليس الذي تقدرونه لكن الخير الذي يقدره الله.
وفي هذا سلوى لكل شخص وخصوصًا أيّ امرأة تُكلّم في عرضها وهي بريئة من ذلك ويتهمونها أي اتهامات وهي ضعيفة أن تدافع عن نفسها فيحصل في النفس أسف مما يحصل من هذا البهتان سواء هذا البهتان أو مثله أو ما يقاربه، خصوصًا لما يكون ذلك من (عصبة) قد تواطأت على ذلك فهذا ألقى الكلام والآخر استقبله والبقيّة نشروه، فتكون أثر (العصبة) فيها من الصعوبة ما فيها ومع ذلك يقول الله تعلى {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}.
وليذهب عنكم الأسف فإن هذا الإفك فيه من الخير ما لا تدركونه بل هو خيرٌ لكم، فالشرّ المنتظر في مثل هذا الموقف لما يُقذف أحد بهذه المنزلة والمؤمنون يودّون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص، فهذه المدينة مهجر للنبي صلى الله عليه وسلم مكان الطهارة وقد نفضوا أيديهم من أفعال الجاهلية والآن تطهّرت نفوسهم من هذه الأحوال فكيف بعد ما بدأت شمس الإسلام تشرق ومعها شمس الفضيلة يتهم أهل بيت النبي بمثل هذا الاتهام؟!
فكان الشأن عظيم والخوف على الدّين أعظم شيء يخاف عليه المؤمنين، ولذا لما نسمع كلام في أعراض علمائنا الكرام الراسخين الحاملين للواء التوحيد ويأتي يتكلم عنهم (رويبضة) وربما عمره لا يصل نصف أعمارهم وأحياناً حتى ثلثها هم قضوا أعمارهم في طلب العلم عمراً أكثر من عمره!، ويأتي هذا بالإفك واليوم الوسائل تساعد على أن يكون الذي جاء بالإفك عصبة منكم.
وأكثر ما يؤلم في هذا أن يستقبله أهل الإيمان لأنهم يستقبلون أي شيء بدون فحص ويقبلونه ويذيعونه وينشرونه ويجدون في أنفسهم على هؤلاء الكرام! أو مثل هذا الإفك لمّا تسمعي إفكًا على جارة أو على مربية فاضلة أو على مديرة في مدرسة أو على معلمة اتهامًا في العرض والناس يتبادلونه فيُقال في أول الشأن مثل هؤلاء لما يكون في هذه الأماكن يسدّون ثغرات فليتأسوا بهذا وليعلموا أنه ليس شرًا لهم أبدًا بل هو خير لهم.
أين الخير؟! وهذا أصعب ما في المسألة أن يكون معك من الإيمان أن تظن أن هذه الأحداث زاد نفعها على ضرها، يكون معك من (الإيمان اليقيني) أن هذه الأحداث فيها نفع أكثر مما فيها ضر، أين سيكون النفع؟!
أمّا النفع فكثيرٌ ومتعدد ومن أهمها:
الأمر الأوّل: أن أهل الإيمان لابدّ بعد مثل هذه الاختبارات أن تظهر حقائقهم وليكون ثوابهم الرفعة في الدنيا والآخرة.
فأمّنا الطّاهرة هذا الحدث كان سبب لأن يُتلى في شأنها آيات على المنابر وفي الخطب وفي الصلوات، وتجد القوم الكثير من الأئمة لما يقرؤها يقع في قلوبهم من الرّقة ما يقع فيكون لشأن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأذية التي وقعت عليه ويبكون لشأن أمّنا الطاهرة الغافلة وما وقع عليها خصوصًا من يعلم أثر مثل هذا الكلام ويعلم كيف يكون أذيّة في حق الرجل الشهم العفيف، وكيف يكون أذيّة في حقّه أن يُتهم أهل بيته بشيء من ذلك.
على كل حال فليُعلم أن لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، وأيضًا هذا شيء من الخيرية أن يتبيّن مثل هؤلاء، لما الله ـ عز وجل ـ طيّب خواطر المؤمنين وبيّن لهم أنه ليس شرًا بل هو خير، وبيّن أيضًا أن هذا يميّز المؤمنين الخُلّص من المنافقين، وبهذا تشرع لهم أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، إذن سنجد من الخير أن الفضلاء يظهر فضلهم، ويزيد المنافقون غيظًا ويصبح المنافقون في حال من الاحتقار والذمّ ولا يفرحون بذمهم حزن المسلمين.
والأمر الثاني: أن المؤمنون يتميزون عن المنافقون.
والأمر الثالث: أنه شرعت بسبب هذه الأحداث أحكاماً، وهم أرادوا أذية المؤمنين وإحزان المؤمنين وقلب المسألة على المؤمنين فردّ الله عليهم هذا كله وجعل هذا الشر الذي ظنوا أنهم كادوه ومكروه جعله سبحانه وتعالى خيرًا.
ولكل امرئ من هؤلاء الذين وقع في هذا الفعل ما اكتسب من الإثم، له ذنبه، خاصّة من تولى رأس المسألة مباشرة واتهم وتكلّم ونشر، فهذا له أكبر النصيب في هذا الإفك وله أكبر النصيب في العذاب العظيم، وهو كما هو معلوم عبدالله ابن أبي سلول وهو منافق وليس من المسلمين، ومعلوم أن له عذاب عظيم في الدنيا وله عذاب عظيم في الآخرة، ومن عذبه في الدنيا غيظه الذي جاءه بعدما أنزل الله هذه الآيات.
وهذا الوعيد بأن له عذاب عظيم فيه إنباء أنه يموت على الكفر، وأنه والعياذ بالله في الدرك الأسفل من النار، وهذا جدّ مخيف فإن عبداً يتكلم بلسانه كلام يكون وراءه الإشهاد بأنه من أهل النار! نعوذ بالله من النار.
تبيّن لنا هذه الآية وفهمنا القصة على وجه العموم ونأتي إلى ما يجب أن نفعله أيضًا، فهمنا في الأول أن مثل هذه الحادثة إفك فيها قلب للحقائق، ولما يجد الإنسان نفسه أمام تُهمه فيها قلب للحقائق أو يشعر بهذا تجاه أحد فعليه أن يسير السير التالي:

1ـ {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}:
نأتي نقول المسلمين في ضعف، المسلمين في حال نعلمها ونراها من التشتّت ثم يأتي مثل هذه الأخبار على الأتقياء على المؤمنين على الصالحين كأننا في نفوسنا نقول هذا الحادث الإفك زاد الطين بلة نقول لا تعتقد هذا إنما نعتقد أنه خير لنا.

2ـ {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً}:
نأتي في الطريق الذي ينوّر لنا مثل هذه الحالة ماذا نفعل؟! قال الله عز وجل: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}
هذا طريق تعيشه، فالمؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون حول الحدث المفروض أنهم يرون الحدث والإفك جزء منه.
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} كأن فيه عتاب! المتهم هذا من أنفسهم، وعائشة رضي الله عنها من أنفسهم، فما أطيب مثل هذه الأوصاف! تجعل العبد:
•        يعرف علاقته بهذا المجتمع.
•        ويكون على نور ويعرف كيف يعالج ما في قلبه.
•        ويعرف أين يقع منه الشيطان في كون أنه يثيره على نفسه.
فلمّا يثيره على المؤمنين وعلى المؤمنات فإنه يثيره على نفسه، فمطلوب أن نعتقد أنه خير وليس شرّ ومطلوب أيضًا أن نظن بأنفسنا خيرًا، أنفسنا يعني هذا المتهم الذي عُلم أن الحقائق قد قلبت عليه فليس مع أول شائعة نصدق ومع أول كلام يقال لنا نصدق، إنما نرى أشخاصًا فيهم خير كثير ونرى أن التّهم تدور حولهم ونحن بين مصّدق ومكذب فليس هذا شأن المؤمنين.
بل شأنهم أنهم إذا سمعوا مثل هذا أن يظنوا بأنفسهم خيرًا، وتبيّن لنا أن معناه أننّا كما في سورة  الحجرات {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}  فلا نلمز أنفسنا، ومثله هنا في النور: وإذا دخلتم بيوتًا {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} يعني أننا نحن شيء واحد، فلمّا نسمع مثل هذا نفهم أن الاشتراك في الإيمان يقتضي ألا يصدق مؤمن ولا مؤمنة على أخيه وأخته في الدين قول عائب ولا طاعن، لأننا مشتركون في أسمى رابط يربط الخلق  وهو الإيمان برب العالمين، الذي نرجو أن يقبل منّا إيماننا ويرفعنا به درجات ويجمعنا بسببه في الجنات ونكون وقتها سالمين ونصل إليه غير خزايا ولا مفتونين.
ومن أجل أن نصل سالمين ولا خزايا ولا مفتونين نحتاج أن نحترم رابطة الإيمان، وفهمنا أن المؤمن إذا سمع مقالة في مؤمن أن يبدي الأمر فيها على البحث والنظر إلى القرائن والنظر لصلاحية الكلام وإذا نسب سوء إلى من عُرف بالخير فكيف تصدق النسبة وتكذب ما تعرفه عنه من الخير ؟! المفروض مباشرة نقول هذا إفك وبهتان حتى يتضح البرهان فالله قال لنا هذا: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إذن هذا ليس رأينا هذا دين الله إذا أتهم أحد باتهام ونسب سوء لمن عُرف بالخير سنقول لا نعتقد هذا ونقول كذب ما تقولونه حتى يتضح البرهان.
وهذا معناه أن ظن السوء من خصال النفاق التي قد تسري لبعض المؤمنين بسبب:
•        أمراض في القلوب
•        بسبب قلة البصيرة
•        بسبب التعجل
•        بسبب الأهواء

3ـ {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}:
إذا سمعنا الإفك لا نسكت بل لابدّ أن ننكر حتى لو كنّا لا نتهم - يعني لا نشارك في الإتهام - لكن فلابدّ أن نقول {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ولاحظوا نقول: هذا إفك مبين، يعني بائن غاية في البيان، كأننا نقول لا نصدق أبدًا، ممكن ننخدع نقول بالبرهان، فنحن لسنا أغبياء! نرى أحد على استقامة ويكون هذا المتحقق عندنا أنه على استقامة ويرسل لنا بأي أداة من الأداوت كلام أحيانًا لا نعرف من يتكلمه بل غالبًا لا نعلم من يتكلمه ثم يراد منا أن نصدقه! ونعتقده ولا برهان ومجرد كلام! خصوصاً لو كان هذا في الأعراض فهو مصيبة عظيمة تدل على انتشار النفاق وانتشار سوء الظن بين أهل الإيمان.

4ـ {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}:
قال الله عز وجل: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هذا الذي نريده، نريد الذي يأتي بقرينة وليست قرينة ظنيّة ويقول أظن وأظن إنما لابدّ من مشاهدة أربعة شهداء، وهؤلاء الشهداء يفيد خبرهم الصدق ولا يكونوا تواطئوا على الكذب، ومعلوم أنه إذا كذب الأربعة جُلد المدّعي والثلاثة إشارة إلى خطورة هذه المسألة، سنفترض أنهم صادقين لكن لم يكتمل النصاب وهذا النصاب يكتمل بأربعة دوناً عن المتهم، ويكون شهداء لنفس الجريمة، يعني ليست الشبه التي حولها إنما لنفس وقوع جريمة الزنا،
إذا كانوا ثلاثة والمتهم قال الله عز وجل: {فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} لكنهم صادقين؟!  ولاحظ صيغة الحصر {فَأُوْلَئِكَ} فأولئك عند الله لزيادة تحقق الكذب، يعني هو كذب في علم الله فهذه الأعراض لا لعب فيها، بل لابدّ فيها من التحرز التام في الكلام عن الأعراض، والمعنى لا تتهاونوا ولا تستسهلوا مثل هذا أبدًا.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هنا سنجد آثار رحمة الله عز وجل، أين تظهر الرحمة؟!
العُصبة التي دخلت في هذا الشأن –وهم الجماعة المنتسبين إلى الإسلام- منهم مؤمن صادق  لكنه اغتر بترويج المنافقين ومنهم المنافق، لولا فضل الله عليكم ورحمته كان هؤلاء الفرقة من المؤمنين مسّهم فيما تكلموا فيه -ما أفضتم- والإفاضة في القول مستعارة من إفاضة الماء في الإناء أي كثرته فيه، يعني ما أكثرتم القول فيه والتحدث عنه.
لولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لاستحققتم فيما أكثرتم وأفضتم فيه عذاب عظيم، إذن لا ننسى النور الذي نسير فيه لا نحسبه شرّ بل هو خير، وإذا سمعناه ظننا في المؤمنين والمؤمنات خيرًا، وقلنا لهم هذا إفك مبين، وقلنا لهم هاتوا برهانكم إنا لا نقبل إلا ببرهان.
ثم تبيّن لنا أن الأمر خطير جدًا وأن الله لولا فضله لوقع العذاب أليم على المؤمنين من  العصبة ، ووصف الله ـ عزّ وجلّ ـ صورة حديثهم واستفاضتهم في الإفك تفظيعًا لها {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} تتلقون وهو التكلف في ذلك ، فكأنهم تهيئوا لأخذ هذا الكلام واستعدوا {بِأَلْسِنَتِكُمْ} كأن الخبر هنا شخص والمدّعي والراوي للخبر كمن يستعد للقائه، فكأننا قابلناه واللسان أصبح الآلة للتّلقي لأن التلقي يكون بالجدّ في تناول الأشياء، ونلاحظ أن الله ـ عز وجل ـ  قال: {بِأَلْسِنَتِكُمْ} رغم أن الأخبار تتلقى بالسماع! فلماذا بألسنتكم؟!
فكأنكم تقابلوها وكأن اللسان هو الذي يقابل الخبر، والأخبار أصلاً الأسماع هي التي تتلقاها لكي نتصوّر أن نهاية كل هذا غايته كلّه التحدث بالخبر، بمعنى أن هؤلاء في الحدث ما سمحوا أن يدخل الخبر إلى آذانهم فيقلبونه بقلوبهم إنما مباشرة يتلقونه فينطلق على ألسنتهم ولا يفكرون فيه يصلح أو لا يصلح للنشر كالذي يتكلم في أعراض الخلق دون أن يفكّر يصلح أو لا يصلح، فهو  تصوير للحرص على تلقي هذا الخبر، كأنهم يبادرون بالأخبار بلا تروٍ ولا تريّث.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وهنا أيضًا صورة تحتاج إلى تصوير، القول لا يكون إلا بالأفواه، لكن المقصود هنا أنه لم يأت من مصدر صحيح ليس لكم به علم وغير موافق للعلم إنما مجرد كلام في كلام، مجرد ألفاظ تجري على الألفاظ، تتلقّاها الأفواه قبل أن تحللها وتخرجها، الألسنة تتلقى وتخرج الكلام {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} المقصود الأمر لأنه متصل بالكلام وليس بالفعل، هم لم يقعوا في الزنا ولم يقعوا في الجرائم إنما تكلموا فقط عن الأمر، فيتصوّر في مثل هذا الموقف أن المجرم هو الذي يقع في الجريمة، والذي يتهم أحد في هذه الجريمة يرى أنه أمر يسير!
{وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} فيه من تعظيم الكلام في أعراض المسلمين ما فيه، كيف تحسبونه هيّنا بهذه الصورة والحقيقة أنه عند الله عظيم !ولذا قال الله عز وجل: {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} قال لنا في وصف القوم كما في سورة الصف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2}كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فمعنى هذا أن الكلام شيء خطير لابدّ من التّنبّه له ، كيف تحسبون الحديث بالقذف أمراً هينًا؟! طبعًا هذا لأنهم استخفوا بالغيبة والطعن في الناس مع ضعف الوازع والدّين، فالناس يحذرون من أن يمدوا أيديهم على الخلق ويحذرون أن يسبّوهم لكن العجيب أنهم يمدون ألسنتهم بالتّهم! دون مبالاة بهذا الشأن مع أن الحدّ ثابت {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} اجلدوهم: معناه عليهم حدّ وهذا لأنهم اتهموا غيرهم .
تبيّن لنا من كلمة: {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيم} فلا تحكم على الشيء فيه كما عند الخلق، ولا تظن حين ترى أعناق الخلق مشرئبة لك فتظن أن الأمر هيّن وهؤلاء كلهم مادام يسمعوك إذن الأمر في دائرة اللامبالاة! بل إنما الأمر عظيم عند الله!

5ـ {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}:
فنمتنع عن نقله تمامًا، من يخبروهم بهذه الأخبار من الإفك يكونون لهم واعظين زاجرين مانعين لن نتكلم بهذا {مَّا يَكُونُ لَنَا} وهذا أشد في نفي الفعل، ثم نزيد على ذلك أن نقول: {سُبْحَانَكَ} يعني نسبح الله وننزّهه متعجبين من أن يهون على المؤمنين أن يتكلموا في أعراض بعضهم، فالمتكلم يتبرأ من هذا الكلام وينزّه الله ويبرأ نفسه أمام الله أن يفعل مثلما فعلوا ويتكلم في الأعراض، ثم أيضًا يقول: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} والبهتان هو الخبر الكذب الذي يبهت السامع يبهته لأن لا دليل معه أبداً على الصحة، وهو من جهة يشبه الإفك، في الإفك قلب للحقائق وفي البهتان كذب لا دليل على صحته.
فمعنى ذلك : لن أتكلم،  وأسبّح الله وأنزهه وأبرّأه من كل عيب وأستحي منه سبحانه وتعالى أن أكون مشاركًا لكم ، وأعتقد أن هذا بهتان عظيم، يعني هذا مبالغة في إنكار الشيء، فكأن هذا العبد يقول سبحانك أعلم أن هذا لا يرضيك، فيخاطب من يخاطبوه توبوا لا تخوضوا، نعلم يقيناً أن هذا لا يرضي الله، هذا بهتان عظيم لما فيه من منكرات كذب وطعن في سلامة العرض وسبب لفتح باب الافتراء، وخصوصًا لو كان هذا الذي افتري عليه من المؤمنين المتقين أو يكون أزواج هؤلاء المتقين، وبالنسبة لهذا الحدث فيه أعظم البهتان وأعظم الفرية، فإن هذا اجتراء على مقام النبيّ الأمين ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها، فإذن علمنا كيف يجب أن يكون من معه نور لما تأتي الاتهامات في عرض المؤمنين والمؤمنات، خاصّة في موضوع الزنا، وعامّة في كل تهمة.
وعلى كل حال الأمة كلها تحتاج النور الذي في سورة النور لكي تعيش حياتها على نور، وتنظر للأحداث والمواقف بصورة صحيحة، فالأخبار التي تأتي في القرآن تأتي أخبار عن أحداث حقيقية ومنهج لحياة مستقبلية.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من المتقين خصوصًا ونحن نسمع في هذه الآيات {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وهذه الآية حقيقة تحتاج وحدها مناقشة الفاحشة التي تنتشر في مجتمعنا اسأل الله أن يحفظنا ويحمينا نحن وذرارينا وذراري المسلمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

انتهى اللقاء بفضل الله..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.