الأحد، 22 نوفمبر 2015

تفسير آيات من سورة الشورى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأل الله عزّ وجلّ بمنّه وكرمه أن يجعلنا مِن المقبولين ممّن قُبل صيامه وقيامه وتلاوته، وأن يكون كلّ هذه الأعمال في الموازين تنفعنا لما نلقى رب العالمين، اللهم آمين.

في لقائنا اليوم بأمْر الله نتدارس آيات من سورة الشورى، وهي أيضًا من الحواميم، وهذه السور العظيمة لها ميزات عظيمة تحتاج إلى الاهتمام والدراسة والتكرار، ومِن أهمّ المواضيع التي في هذه السور:
-                إبراز حال الناس مع التوحيد
-                وإبراز صفات الموحدين وولايتهم لرب العالمين، وولايتهم للمتقين.
وقد مرّ معنا في جلستنا الماضية في دراستنا لسورة غافر كيف أنّ حملة العرش الكرام على ربّ العالمين يحبّون المؤمنين، وقد أتى بمثل هذا الخبر أو شبيه منه في سورة فُصِّلت أيضًا لما أتى الخبر في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، وهذه الولاية العظيمة نصل إلى أعظمها وأعلاها وهي ولاية الله عزّ وجلّ للمؤمنين، فنجد هذا في مطلع سورة الشورى، ونجد الخبر عن العليّ العظيم وكيف أنّه وليّ المتّقين، وأنّ الظالمين ليس لهم وليّ ولا نصير كما قال تعالى في مطلع السورة: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، وقال أيضًا سبحانه وتعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الله هو الوليّ، وهو وليّ المتّقين خاصّة، وهو مقرِّب المتقرِّبين، مربّي المؤمنين تربية خاصة، فهو كما أتى في السورة: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
وهذه الولاية العظيمة لها أسبابها؛ فمِن أسبابها ما سنتدارسه اليوم إن شاء الله في هذه الآيات، نسمع أولًا الآيات ثم نتدارس بما يفتح الله عزّ وجلّ علينا فيها:
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
نبدأ في مدارسة الآيات من قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهذا الخبر أتى تفريعًا على قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، وهذه الآية السابعة والعشرون في السورة، فالله عزّ وجلّ أخبر هناك عن فضله على الخلق جميعًا، وعلمه بأحوال الخلق، وعلمه بأنّه لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن مِن حكمته سبحانه وتعالى ينزّل بقدر، كل شيء بقدر معلوم، وهو الذي يشاء ويختار سبحانه وتعالى إنه بعباده خبير وبعباده بصير.

ثم في ذاك السياق: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، ذكر شيء من عطاياه لهؤلاء الخلق: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ}.
وأخبر سبحانه وتعالى عن عطاياه {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}.
وأخبر عن الريح، وكلّ هذا يقول الله عزّ وجلّ بعده: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني نحن فهمنا أنّ حكمة الله اقتضت وجود مُنعم عليه في الدنيا ومحروم، وذُكرت هذه النعم كلها ومع ذلك يقال لنا أنّ ما أوتيتوه مِن رزق في الدنيا فحقيقته أنه عرض زائل، وأنّ الخير في الثواب الذي يعطيه الله عزّ وجلّ للمؤمنين لما يلقونه، خصوصًا أنّ الآية السابقة مباشرة لما أخبر سبحانه وتعالى عن الريح {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} أو يوقع عليهم.
فالموفّق لا يجعل غاية سعيه هذه النعم التي ستزول؛ لأنّ كلّ هذا وإن كان نعم متّع الله بها خلقه يُقال لنا فيها {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، مجرد متاع!
فالمقصود أنّ الموفّق يسعى لعمل الآخرة الذي يأتي بالنعيم العظيم، النعيم الدائم، النعيم الحقيقي، النعيم الذي لا يزول، ولذا قال سبحانه وتعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ما عند الله خير مما في الدنيا تجده، وصفته أنه أبقى.

يقول الشيخ السعدي: "هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} من ملك ورياسة، وأموال وبنين، وصحة وعافية بدنية".
والمعنى هذا وغيره مما أنعم الله به على الخلق خصوصًا ما ذُكر في هذه الآيات، ما اسمه؟ {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
قال: "لذّة منغصة منقطعة". يعني وإن كانت لذّة فهي في نفسها منغّصة، فما تكتمل، قبلها آلام وبعدها آلالام وفي أثنائها آلالام! ثم أنها منقطعة لا تسلم من الألم ولا تدوم.
"{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب الجزيل، والأجر الجليل، والنعيم المقيم. {خَيْرٌ} من لذّات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما".
يعني لما يقال هنا خير لا تظنّ أنّ هناك مقارنة، فإنّه يكفيك أن تعلم أنّها متاع الحياة الدنيا، دار دنيّة فانية زائلة لا محالة، لا نسبة في خيريتها بالنسبة للآخرة، فكأنّنا نقول في إطلاق كلمة خير على المال وعلى السلامة في الدنيا وما يلحقها إنما تجوّزًا، يعني نتجاوز فيه عن أمور كثيرة وعن آلام كثيرة ومنقصات كثيرة في داخل اللذّة، فإنّنا نرى كل اللذائذ بدون استثناء منغّصة في وجودها مخوفة أن تُعدم.
فإنّ المحبّ مع أحبابه وأبنائه وأصحابه يتمتّع بوجودهم ويتلذّذ بقربهم ويخشى بُعدهم، فتبقى حياته بهذه الصورة، في القرب يخشى البعد، وفي البعد ينتظر القرب، وتبقى حياته آلام، إلى أن ينجيه الله وأحبابه، فيجتمعون هناك في الخيرية الحقيقية.
"{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ} من لذّات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما.
{وَأَبْقَى} لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر، ولا انتقال".
ولذا أهل الإيمان حقًّا يرون أنّ متاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد، وإنّما التقوى هي زاد المعاد، يزداد بها الصادق فيصل إلى ربه سالمـًا، نسأل الله أن يرزقنا جميعًا ووالدينا ووالديهم السلامة.
فالمقصود: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} له صفتين:
1.             خَيْرٌ
2.             وَأَبْقَى
وما عندكم له صفتين:
خيريته نسبية بالنسبة لحياتكم إذا تقنّعتم به.
ولا يبقى بل يزول.

وهو خير وأبقى لمن؟ صفاتهم: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} من هنا ستبدأ الصفات المطلوبة لكي يكون ما عند الله خير لهؤلاء، هو أبقى للمؤمنين، هو أبقى للمؤمنين.
لكن بالنسبة للكفار الدنيا خير لهم مما سيلقونه، وكالقول المشهور الذي نُقل عن ابن حجر أنّ يهوديًا رآه وكان ابن حجر في زمان العلماء مكرمين فيه، كان ذا غنى، فرآه يهودي فقال له: كيف تقولون أنّ الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن؟! واليهودي فقير وابن حجر من الأغنياء، فكيف تكون جنة الكافر الذي هو اليهودي وسجن المؤمن مثل ابن حجر؟ فقال ابن حجر: أما الدنيا جنة الكافر لما سينتظره من سعير! وأما المؤمن فما هو فيه في الدنيا لا شيء! يعتبر سجن مقابل ما ينتظره من نعيم!
فالمقصود أنّ هذه الخيرية التي ستأتي ستكون {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ونحن في مثل هذه المواقف يشغلنا جدًا مَن هم هؤلاء الذين ستكون الآخرة لهم خير وأبقى؟! فإنّ الأمر صفات وليست أسماء أُطلقت على الخلق، فلا يستطيع أحد أن يقول هذا مؤمن وهذا تقي، إنما هي صفات مَن يتّصف بها يكون من أهلها، ومَن لم يتّصف لا يكون مِن أهلها.
فبدأت الصفة الأولى وهي أهم صفة على الإطلاق وهي صفة الإيمان، فإنّ المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم يقين برب العالمين وبحقائق الإيمان وبلقاء الله كانوا أهلًا لهذا النعيم.
قال الشيخ: ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل".
الرابط بين الإيمان والتوكل واضح في القرآن.
"الذي هو الآلة لكل عمل" {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إياك نعبد لا تأتي إلا بـ إياك نستعين، {آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يؤمنون فيعملون، ولكي يعملون لابد أن يتوكلوا، فسمّى التوكل الآلة لكل عمل، يعني التي لا تستطيع أن تعمل إلا بالتوكل.
"فكلّ عمل لا يصحبه التوكل فغير تام" وهذا قبل أن يكون في شأن الدنيا؛ لأننا دائمًا نناقش التوكل في شأن الدنيا، إذا احتجت شيئًا توكل على الله اعتمد على الله، لكن الحقيقة أن التوكل في شأن الآخرة يجب أن يكون أسبق إلى القلوب من شأن الدنيا!

ونقول هذا الكلام ونحن في زمن فاضل وفيه نُسك عظيم -نسك الصيام- والقلوب متشوّقة لليلة القدر قيامًا وتلاوةً وطلبًا للعفو، ولا يوصِل العبد لهذا الفضل إلا التوكل على الكريم الرحمن الرحيم الذي قد غمر العباد بنعمائه، وتفضّل عليهم بعطائه، وكثر عليهم آلاؤه! فإنّه قد ابتدأنا بهذه النعمة العظيمة
-                أن جعل ليلة العبادة فيها خير من ألف شهر!
-                ثم جعل التوكل عليه والاعتماد عليه في تحصيل هذه الليلة وفي قيامها كما يحب هو ويرضى، وفي انكسار القلب بين يديه، جعل التوكّل الآلة للوصول إلى ذلك!
فكم له علينا من نعماء! وكم له من آلاء!
نرجو أن نكون من الشاكرين المنتفعين بعطاياه!
والعناية والشوق إلى رضاه مِن أهم الأسباب التي يُرزق من ورائها العبد قوة للطاعة، فالمتوكّلين على ربّ العالمين يعلمون أنّهم لا يصلون إلى مراداتهم إلا إذا أعانهم!
فعلى هؤلاء المؤمنين -الذين نرجو أن نكون منهم- علينا جميعًا أن نُظهر شوقنا وحاجتنا وحبّنا لأن نكون من الطائعين، وعنايتنا بليلة القدر وتحرّيها والخوف على فواتها، والندم على ساعاتها!
وهذه العناية توجِب على العبد أنّ يطلب ربّ العالمين أن ييسّر له ويجعله ممّن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، فيتوكّل بذلك ويعطيه الله عزّ وجلّ العطايا، نسأل الله من فضله لنا وللمسلمين، اللهم آمين.
"فكلّ عمل لا يصحبه التوكّل فغير تام" ما هو التوكل؟
"وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى".

ثم بعد هذا الخبر تأتي صفة أخرى لهم: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}، إذن هم مؤمنين متوكّلين على ربّ العالمين، ثم أنهم يجتنبون، يعني هناك يفعلون وهنا يجتنبون، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، واجتنابهم كبائر الإثم والفواحش التي قد تدعو إليها الشهوة، فإنّ النفوس قد تكون محبة لله راغبة فيما عند الله لكنّها مستسلمة لهواها، فما عند الله خير وأبقى للمؤمنين الذين مِن صفاتهم -بعدما آمنوا وتوكّلوا- ضبط شهواتهم.
فالمؤمن قد يحصل له أسباب تسبّب له إثارة شهوته، فماذا يفعل هذا المؤمن؟ يبتعد، ويعلم أنّ وراء ذلك عقوبات عظيمة.
وكبائر الإثم المقصود به الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها نهيًا جازمًا وتوعّد فاعلها بعقاب الآخرة.
والفواحش والله أعلم هي التي وُضع لها عقوبات في الدنيا للذي يرتكبها، مثل قتل النفس والزنا والسرقة والحرابة، وكبائر الإثم ممكن يكون داخل فيها حتى أعمال القلوب من الكبائر، مثل عقوق الوالدين.
"والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا ونحوه، والكبائر ما ليس كذلك" يعني الفواحش يستفحش فعلها وكأنه يقول قد أُشبعت من طريق، فإنّ الحلال موجود والزنا محرّم والعمل والاجتهاد موجود والسرقة محرم، وطلب الحق موجود لكن قتل النفس والتعدّي ممنوع.
"هذا عند الاقتران" لما يقترن كبائر الإثم والفواحش يكون هذا معناها.
"وأمّا مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه" يعني لو قلنا كبائر الآثام يدخل فيها الفواحش، ولو قلنا الفواحش يدخل فيها كبائر الآثام. وعطف عليها {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
إذن كثير من كبائر الإثم تسبّب هذه القوة الغضبية، فذكر أنّ من شيمته المغفرة عند الغضب، يعني إمساك أنفسهم عن الاندفاع مع داعي الغضب، {وَإِذَا مَا غَضِبُوا} يعني الغضب طبيعة نفسية تكاد لا تخلو منه نفس، مع التفاوت، فهم مع وقوع الغضب عندهم لكن يغفرون.
"{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة" إذن هؤلاء درّبوا نفسهم ومرّنوها وعُرضت عليهم الفتن فدافعوها.
ومعنى هذا أنّ مثل هذه الأمور لا تأتي مرة واحدة إنّما تحتاج مِن العبد تدريب، وتحتاج من العبد ملاحظة.
"قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة" يعني هي ما كانت ثم مع التدريب وصلوا إلى ذلك.
"حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه" يعني يوجد الغضب لكن هم يمتنعون عن ذلك.
"ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح" وهذا من مكارم أخلاقهم، فإنّ الإيمان يفعل أفعاله في القلوب، ومِن أفعاله حبس النفس عن داعي الغضب الذي هو مِن الشهوات، فإنّ الإنسان مِن شهوته أن يأخذ حقّه.
"ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح، فترتّب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير"


وهذا العفو إنّما يحصل مِن الإنسان لما يمتلئ قلبه باليقين بالأمور الثلاثة المهمة:
أما الأمر الأول: أنّ هؤلاء ما أتوا إلا بلاء والله ينظر إلى قلبك، فالخلْق بعضهم لبعض فتنة: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[1].
وأما الأمر الثاني: إنّ ما يُبتلى به العبد مِن الخلْق يكون تطهيرًا للنفس مِن أمراضها، فإنّ العبد أحيانًا كثيرة يُبتلى بمن يأخذ منه ما هو متعلِّق به، أو يأخذ منه ما هو منتظره، أو طامع فيه، أو يُثير فيه آثار كِبْره، فلما يُبتلى الإنسان بهذه الأمور تتبيّن له حقيقة نفسه فيعفو طلبًا لعلاج نفسه.
الأمر الثالث: أنّ مَن أحسن بالعفو عامله الله بالعفو، وعفو الله نهاية مطامع المؤمنين المتقين! يمحو عنهم آثار ذنوبهم ولا تبقى حتى في صحفهم! فمن عفا، عفا الله عنه، وما أطيب عفو الله مع قدرته التامة! وما أسهل عفو العبد مع دعوة ربه للعفو.
فصفات الكمّل:
-                تستلزم معرفة الحياة وحقيقتها
-                وتستلزم معرفة الخلق وكونهم بلاء علينا
-                وتستلزم معرفة الرب وكماله وحكمته
فإنّه ابتلى الخلق بالخلق، فرفع شأن البعض، والبعض لم يفعل ما يُرفع شأنه.
وإنّ هذا الأمر -العفو- مع صعوبته لكنّه يصبح يسيرًا مع الإيمان، ومع شدّة الحاجة إليه، لكنّه قليل بسبب ضعف الإيمان!
لذا لابدّ أن نعرف أنّ هناك مصالح كثيرة تعود على مجتمع المسلمين بسبب العفو ومنها الآيات التي وردت في سورة فُصّلت التي استشهد بها الشيخ هنا:
"كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}" وما أطيب حظّ هؤلاء من الإيمان! فإنّ هذه الصفة لا يُلقّاها إلا من كان ذو حظّ عظيم من الإيمان، ومنزلة عند الرحمن، فإنهم هم الذين يُوفَّقون إلى طاعته سبحانه وتعالى.

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هذه أيضًا صفات لهم، بمعنى أنّ هؤلاء الذين لهم عند الله خير وأبقى مِن صفاتهم ومن أعمالهم التي يدعوهم إليها أعمالهم أنهم يستجيبون.
وهنا نقول المؤمن استجاب، فما الزيادة في وصفهم أنهم استجابوا؟
والذي يظهر والله أعلم أنّ إجابتهم لا يخالطها كراهية ولا تردّد، يعني مِن صفاتهم أنّ إقبالهم على ربّهم ليس فيه كراهية ولا تردّد بل فيه محبة ورغبة.
والسين والتاء (استجابوا) لبيان قوة الإجابة لربهم، يسمونها لام التقوية، استجابة خاصة، استجابة المبادرة، استجابة المحبّ المُقْبل، وقد كانت هذه الإجابة من مثل أبي بكر رضي الله عنه، وخديجة رضي الله عنها، وعبدالله ابن مسعودـ وسعد ابن أبي وقاص، ونقباء الأنصار، وكل من سبق إلى الإسلام وانتفع به المسلمين.
ولازال هذا الطريق مأهول بالمستجيبين الذين ما أن يناديهم ربهم إلى عمل صالح وما يعرض عليهم الفرص إلا وهم مُقبلين مُهتمّين مُعتنين.
ونعيد على نفسنا أنّ هذه الأيام دعوة من ربّ العالمين لكلّ من كان له قلب أن يعتني بذكره سبحانه وتعالى وبشكره وبطلب العفو منه وبرجائه، وبرغبته فيما عند الله، فإنّ ما عند الله خير وأبقى! والدنيا كلها ما هي إلا بُلْغة منغّصة!
فنرجو مِن الله أن نكون ممّن استجاب وانفعل في هذه الاستجابة.
"{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي: انقادوا لطاعته، ولبَّوْا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه".
يعني المستجيبين لله كأنهم يسمعون نداء الله ويقولون لبيك! ولذلك قال: ولبوا دعوته، فما أن نسمع المنادي يقول حي على الصلاة حي على الفلاح إلا ويعجلون بذلك.
ولذا قال الشيخ: "ومن الاستجابة لله، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" إذن هؤلاء المستجيبين انقادوا للطاعة ولبّوا الدعوة، وهم سائرين إلى ربهم في الطريق قصدهم رضوان الله وغايتهم الفوز بقربه، فهذا الذي يفكرون به وينشغلون به، أن يكون هو راضي! وأن يكونوا هم منه قريبين، فيكون وليّهم، وأيّ منزلة هذه أن يكون العبد في الأرض ووليّه ربّ الأرض والسماء!
"فلذلك عطفهما على ذلك، من باب عطف العام على الخاص" لما أتى: {وأقاموا الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} عطف عام على خاص، العام الاستجابة لربهم، والخاص الصلاة والزكاة.
" الدال على شرفه وفضله" يعني بالذات استجيب في إقامة الصلاة وفي الإنفاق.
"{وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} من النفقات الواجبة، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.
{وَأَمْرُهُمْ} الديني والدنيوي {شُورَى بَيْنَهُمْ}" والشورى تُفضي إلى الرشد والصواب، ومِن أفضل آثارها أنّ المؤمنين يجتمعون على هذه العبادة العظيمة، ولابد أنّ نفهم هذا الأمر المهمّ، وهي أنّ الشورى عبادة، ولما نستشير أو نُستشار فنحن نعبد الله، فهذه مِن صفات هؤلاء القوم أنّ أمرهم الديني والدنيوي شورى بينهم.
"أي: لا يستبدّ أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعًا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم" وهذه الغاية التي تأتي بعد التوحيد، فإنّ مِن أصول الدين بعد التوحيد الاجتماع عليه، والذي يساعد على الاجتماع عليه التشاور، بحيث أنّ كلٌّ يضع عقله ويجتمعوا على كلمة ويحصل بينهم من التآلف ما يحصل، فالتشاور ما هو إلا فرع من الاجتماع.
قال: "أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها" ولذلك المؤمنين الكمّل تراهم مهما كملت عقولهم وظهرت نباهتهم ونبوغهم، فإنّهم يعلمون أنهم لو عبدوا الله بالشورى بورك لهم في أعمالهم، فإن كنتم ممن تتعرضون لمثل هذا الأمر فلا تتردّدوا في الاجتماع مع المؤمنين، يستشيرونكم فينتفعون بكم، ولا يستقلّ أحدكم نفسه، فإنّ بركة الاجتماع تولّد الخيرات، تنزل على أهلها البركات.
وهذا يُدعى إليه كلّ مَن سدّ ثغرة للمسلمين في أيّ شأن من الشؤون، فإنّ فيك الخير يا أيها المؤمن، ولما تجتمع مع أخيك المؤمن وأنت صادق في إرادة نفع المسلمين وفي إرادة نفع أخيك، يجري الله لك الأجر لمجرد تكثير سواد المؤمنين والاجتماع معهم للمصلحة، وليس هنا إظهارًا للرأي وإصرارًا عليه ومعاتبة بعده، وإنما مباحثة وآراء، والله ينزل البركات من هذه الاجتماعات.

وهذه الحقيقة ضدّ التحزب تمامًا وضدّ العنصرية وضدّ التعصّب للرأي، ولذلك الذي يكون من أعضاء هذا المجتمع الذي يشاور بعضه بعض يقول رأيه إن كان عنده رأي ويناقش الآراء إن كان يفهمها، ولا يصرّ على رأيه، وليعلم أنّ البركة في الطاعة، فإذا اجتمع مع إخوانه على رأي، يطيع، والله ينفع المسلمين بهذه الاجتماعات.
ونحن لما نتكلم عن ضعف هذه الأمة نقول الذي يقويها اتباع أمر الله، ومن أمر عز وجل أن يكون أمرهم شورى بينهم.
يقول: "وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عمومًا، فإنّها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله"
فكم فوّت الناس على نفسهم شيء يحبه الله! قوم قالوا لك تعال عندنا اجتماع نريد أن نقرّر مسألة معينة، وهم رأوا أنك تنفعهم، فأنت لا تقول عن نفسك أنا أنفع في هذا الأمر، إنما تعال وكثّر سواد المسلمين، وانفعهم بوجودك معهم، ولتعلم أنّ هذا مما يحبه الله.
فالسورة لما سُمّيت الشورى برز فيها هذا المعنى العظيم.
لا ننسى أنّ الشورى عبادة، والشورى يحبها الله، والشورى من صفة هؤلاء الكُمَّل، ثم انفع المسلمين بكل رأي تملكه وأنت صادق لا تريد إلا وجه الله وتعرف أنّ الله يحب مِن المؤمنين أن يجتمعوا على الأعمال الصالحة.

"{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} أي: وصل إليهم من أعدائهم" من أعدائهم وليس من المؤمنين، المؤمنين اتفقنا أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون، لكن هنا الكلام عن الأعداء.
"{هُمْ يَنْتَصِرُونَ} لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار".
وهذا سيكون واضح جدًا في سورة محمد، أنه لا تهنوا أبدًا.
قال: "فوصفهم بالإيمان، والتوكّل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفّر به الصغائر"
أول صفة لهم أنهم مؤمنين، الثانية أنهم متوكلين، الثالثة أنهم مجتنبين الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر.
الرابعة: "والانقياد التام، والاستجابة لربهم"
الخامسة: "وإقامة الصلاة"
السادسة: "والإنفاق في وجوه الإحسان"
السابعة: "والمشاورة في أمورهم"
الثامنة: "والقوة والانتصار على أعدائهم.
فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدّها".
وهذا شيء مهم، يعني لما تكتمل هذه أكيد أنّ ما هو دونها يفعلون، وما هو ضدها يتركون.

ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف سبحانه وتعالى وكان آخر ما سمعنا أنهم {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} "ذكر الله في الآية التي بعدها مراتب العقوبات وأنها على ثلاثة مراتب: عدل وفضل وظلم" وهذا مع الأعداء.
"فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله".
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، هذا كلام عن الأعداء، والكلام عن المراتب هذا كلام عام للأعداء وغيرهم، فمرتبة العدل السيئة بمثلها. ما مرتبة الفضل؟
"ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا" فإذا أصابهم البغي إما سيئة بمثلها، وإما يعفون، لكن العفو هنا شرطه الإصلاح.
"وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدلّ ذلك على أنّه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به" وهذه قاعدة مهمة أن نعامل الخلق بما نحب أن يعاملنا الله به.
"فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإنّ الجزاء من جنس العمل"
إذن معناها العفو يشترط الإصلاح، فإذا كان ليس وراءه إصلاح فالأمر يقتضي أن يكون العدل.
"وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم".
لا يحب الظالمين سواء ابتدأوا الظلم أو لما أتوا يأخذوا حقهم ظلموا.

"{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي: لا حرج عليهم في ذلك.
ودلّ قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه.
وأما إرادة البغي على الغير، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء" يعني الإرادة فقط.
"فهذا لا يجازى بمثله، وإنما يؤدب تأديبا يردعه عن قول أو فعل صدر منه" يعني واحد أصابه البغي أو واحد ظُلم، هذا الذي نحاسبه، أما واحد تكلم بالظلم أو أراد البغي مجرد الإرادة فهذا لا يجازى.

"{إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهذا شامل للظلم والبغي على الناس، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم".
تبيّن إلى هنا مراتب العقوبات الثلاثة، ثم أُعيد علينا أمر مهم:
قال سبحانه وتعالى: "{وَلَمَنْ صَبَرَ} على ما يناله من أذى الخلق {وَغَفَرَ} لهم، بأن سمح لهم عما يصدر منهم، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}" يعني رغم أن العقوبات مراتب ثلاثة وأنت من حقك أن تعامل بالعدل أو تعامل بالفضل، لكن يُعاد فيكرر عليك للمرة الثالثة أن الصبر والمغفرة والعفو من أخلاق الكمال.

فأولًا سمعنا: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، وسمعنا { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وهنا { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
"أي: لمن الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر.
فإنّ ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل، من أشقّ شيء عليها" لأنّ الإنسان كثيرًا ما يدافع عن نفسه بل دائمًا يدافع عن نفسه.
"والصبر على الأذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته بالإحسان أشق وأشق" يعني نترك الانتصار شاق، نصبر ونصفح ونحسن فوقها أشق وأشق!
"ولكنه يسير على من يسره الله عليه" إذن أولًا الناس في هذا بالله يتوكّلون على الله ينفعهم الله وييسره عليهم، هذا الأمر الأول أن يتوكلوا على الله من أجل أن يصلوا إلى الصبر والمعفرة والإحسان.
"وجاهد نفسه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك" إذن أمرين: يجاهد ويستعين.
"ثم إذا ذاق العبد حلاوته، ووجد آثاره، تلقاه برحب الصدر، وسعة الخلق، والتلذذ فيه".
إذن الناس يمرون بمراحل في ذلك أول الأمر يجاهدون ثم يتلذذون، ولذلك تصبح هذه الصفات سجيّة لهم؛ لأنهم يجدون فيها برد وسلام ولذة.

فنسأل الله عزّ وجلّ أن نكون ممن يحسن الظنّ بالمؤمنين، فإن كثير من الأحيان نظنّ نفسنا أننا أهل الحق، وربما نكون أهل الظلم، فنرجو من الله أن نكون ممن يحسن الظنّ بالمسلمين، فإذا وقع بغي لا يعظمه في نفسه، ويستعين بربه، ويثق أن الدنيا بلاءات، ويعرف أن ما ينتظره في الآخرة أمر عظيم، فيعفو على الناس منتظرًا أن يعفو الله عنه.
أسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان والتقوى وممن تمثّل هذه الصفات فوجد أن ما عند الله خير وأبقى.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 


انتهى اللقاء بفضل الله..




[1] الفرقان: 20

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.