الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

تفسير آيات من سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا اللهم آمين.
في مجلسنا هذا نتدارس آيات من آخر سورة مريم، وهذه السورة العظيمة كما مرّ علينا بتكرار أنها تُظهر رحمة الله، فإن السورة قد تكرر فيها اسم الرحمن إشارة إلى رحمة الله عز وجل من وجه، وهذه الرحمة ذُكرت صور منها في استجابة الدعاء للداعين، وفي إعاذة المستعيذين، فإن زكريا عليه السلام دعا فنزلت عليه رحمات الله فاستجاب له، وإن مريم استعاذت بالله عز وجل من قومها ومن شرهم، حتى أنها تمنّت الموت فأعاذها الله ورفع مقامها.
وهكذا يظهر في السورة صور لرحمة الله، إلى أن تأتي آخر السورة من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وتخويفه له من الشرك، ويأتي الكلام حول الشيطان والرحمن، فيقول له: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}، وكأنّه يُقال مع سعة رحمة الله وظهور آثارها في كل شيء لكنه عصا وكان الواجب أنّ من رأى رحمة الله ورأى آثارها في كل شيء أن يكون متمسّكًا بحبائل الرحمة مُقبلًا عليها.
ولذا قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ}، وهذا الخوف في مكانه، يخاف على أبيه من أي شيء؟ {أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}، يعني من خرج من رحمة الله وهو اختار بأفعاله أن يخرج من هذه الرحمة الواسعة، يمسّه العذاب، فإذا مسّه العذاب كان أول وأهم آثار العذاب أن يكون هذا الإنسان للشيطان وليّ.
وهذا نوع من العذاب يخفى على كثير من الخلق، أنّ الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء ينادي عباده لرحمته، ويعمّهم بالرحمة، ويعطيهم ويغذّيهم ويحفظهم ويحميهم، وهم لا يقبلون رحمته ولا يُقبلون على ولايته، فيعاملهم برحمته وحلمه فلا يتعجّل عليهم، وهم لا زالوا على حالهم!
فإذا طال مقامهم وكثرت عليهم الآيات والأدلة وهم على حالهم، مسّهم عذاب من الرحمن وهذا العذاب الذي يمسّهم على حسب قوة بعدهم عن ربهم، ما هو العذاب؟ أن يكون هذا الإنسان للشيطان وليًّا، فإذا كان ولي لن يتعب معه الشيطان، بل يمكن أن يأخذ عن الشيطان الوكالة في مواقف كثيرة فيدعو إلى ما يدعو إليه الشيطان.
إذن هذا مزيد البيان إلى أنّ الشيطان له أولياء، وهؤلاء الأولياء هم الذين يُسلّط عليهم الشيطان، لكن الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكّلون محفوظين من هذا التسلّط.
السورة فيها من الكلام حول رحمة الله الشيء الكثير وكلها تدور حول نفس المفهوم الذي نحتاج أن نملأ قلوبنا به خصوصًا اليوم، لا يهلك على الله إلا هالك، لا يهلك على الله إلا عبد ذاق رحمة الله ثم عتا!
ولذلك في الآيات لما يوصف يوم القيامة نُخبَر والله عز وجل يقسم أنه سيحشرهم والشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيًّا ثم ينزع من كل شيعة، ينزع منهم هم أشد على الرحمن عتيًّا، فيكون هؤلاء قد أعطاهم وأغناهم ومع ذلك بدلاً من أن يشكروا من أنعم عليهم ويروا آثار رحمته، فإنك تجدهم قد تركوا ذلك وكفروا بنعمة الله، ولذا الله عز وجل يقول في حقهم: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}[1] يعني أنعم الله عز وجل عليهم نعم حتى أن تأثيثهم لبيوتهم وتفاصيل ذلك حتى الرؤيا تراهم أهل خير وأهل نعيم، فما علموا أن هذا كله من آثار رحمة الله عز وجل، ما علموا أن ما يتمتّعون به من آثار رحمة الله فكان منهم العتوّ على أمر الله.
على كل حال {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا}، من في الضلالة يستحقّ؛ لأنّ رحمة الله أتته وعاشها ثم أنه لم ينتفع منها.
ويقول الله عز وجل: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}، وكل هذا يردنا إلى سورة الكهف وكيف هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وهذا الرجل الذي كانت رحمة الله عليه فأنت له وأعطاه وسقى زرعه، فكان رده أن يكفر برحمة الله عز وجل.
المقصود أنّ الله عز وجل رحمن رحمته واسعة، وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حيّ، وعباده كلهم في آثار رحمته، ومن رحمة الله رحمة تتصل بالدنيا ورحمة تتصل بالآخرة:
فأما رحمة الدنيا: فهو ما يرى الخلق من رغد العيش الذي يعيشونه، وكيف تمُطر عليهم السماء وكيف تُنبت الأرض، وكل هذا من آثار رحمته، ولذا ربّ العالمين يربي خلقه برحمته، ونحن في الفاتحة نقول: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، الذي ربّى خلقه بالرحمة، ومادام أنّ العبد مُقبل على الله يريد رضاه فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين، وإذا تولّى العبد بعيدًا عن الله كان أثر هذا ما سنسمعه في الآيات، لا ننسى أنّ إبراهيم عليه السلام خاف على أبيه خوفًا في مكانه، خاف إن عصى أن يمسّه عذاب من الرحمن وأثر هذا العذاب أن يكون للشيطان وليًّا.
فعلى قدر ما يكون هناك تولي عن طاعة الله، على قدر ما يكون هناك ولاية للشيطان.
وفي الآيات التي هي موضوع الدراسة يقول الله عز وجل:  {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}  هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وكأن الأمر للتعجيب، يعني انظر كيف ترسَل الشياطين على الكافرين، وهذا ليعلّل قوة الكفار والمنافقين في عداوة الدين، كيف هم أقوياء إلى هذه الدرجة، كيف هم يكيدون هذا الكيد، كيف يمكرون هذا المكر، كيف يخطر على بالهم هذه الخطط!
فيقال الجواب: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} بمعنى لا تتعجب، ألم تر ذلك؟! وكأن هذا نزل منزلة الشيء المرئي المشاهَد الذي أي فطين يراه، فيُلفت النظر إلى هذا وبه يُفسَّر أحوال كثيرة لهؤلاء الكفار من عداوتهم للدين ومن مكرهم فإنّهم مع الشياطين يعقدون مجالس ومجالس لحرب الدين.
ثم تأتي كلمة: {تؤزهم أزا} الأزّ أقوى من الهزّ، وفيه استفزاز باطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتدّ غليانه، فكأنه يقال: الشياطين مسلّطة على قلوبهم تؤزّ قلوبهم أزًّا، بمعنى تجعل اعتقاداتهم مضطربة، متناقضين في أقوالهم، يختلقون الأكاذيب، مثل الغليان في صعود وانخفاض، وترى فيهم قوة وطيش، فماذا تفعل لهم الشياطين؟ تفعل لهم مثل النار التي توقد تحت قلوبهم فتؤزّهم، ومعناه أن الشياطين هؤلاء بمثابة المستشارين، سُخّروا لهم فلما لم ينتفعوا بالإرشاد النبوي وأعرضوا عن استماع الوحي ذهبت قواهم لهؤلاء، فأصبح الشياطين هي التي تشير عليهم وهي التي تدلّهم.
وفي مقابل هذا الله عز وجل يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوة الإيمان وصلاح العمل، هذا الأمر مهم قدر ما يكون هناك قوة إيمان وصلاح للعمل قدر ما يكون هناك حفظ من الشياطين.
ولذلك الله عز وجل يقول لنبيه: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}، بمعنى أنهم هالكين لابد، وأنهم مهما مكروا ومكروا لأنه سيجتمع شياطين الإنس مع شياطين الجنّ ويمكرون للدِّين ويمكرون لأهله ويلقوا بين أهله العداوة والبغضاء ويفرّقون أهل الدِّين، فالشياطين انفلتت على هؤلاء تؤزّهم أزًّا وهم والشيطان يمكرون لأهل الدِّين، وترى مكرهم يكبر ويكبر والمسلمين يدعون ويدعون أن يردّ الله كيد هؤلاء الكافرين، لكن يقال لنا ومع ذلك لا نعجل.
لا نستعجل في العقوبات التي ستقع عليهم؛ لأنّ الله عز وجل يعدّ لهم عدًّا، بمعنى ستمرّ عليهم أيام وليالي وشهور وسنين إلى أن يأتي أجلهم، فهذه أنفاسهم في الدنيا وخطواتهم وساعاتهم وأعمالهم كلها معلومة عند الله، ويؤخّرهم الله فيزدادوا إثمًا، ويؤخّرهم الله فيرفع منزلة المؤمنين الذين يجاهدون كيدهم.
وإذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد!
المقصود أننا لا نجزع من اجتماع الشياطين مع الكافرين ونعلم أنّ مكرهم ليس بشديد، وأنّ الله عز وجل يردّ مكرهم عن المؤمنين لكن المطلوب أمام هذا أن يزداد المؤمنين إيمانًا، ويزدادوا تمسّكًا ويزدادوا فهمًا وانشغالًا، تنشغل أوقاتهم بما ينفعهم؛ لأنّ أولئك يُعَدُّ عليهم أنفاسهم عدًّا في الباطل، وأهل الإيمان يُعَدُّ عليهم أنفاسهم عدًّا في الحق، والإنسان إنما هو أنفاس بين اليوم والليلة.
هذا في حق هؤلاء الكافرين.
نقرأ كلام الشيخ السعدي في الآية ثم نكمل المعاني:
يقول: "وهذا من عقوبة الكافرين" أن الله يرسل الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزًّا.
"لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسّكوا بحبل الله، بل أشركوا به ووالوا أعداءه من الشياطين" هذه عقوبة لأنهم فعلوا هذا الفعل.
"سلطهم عليهم، وقيضهم لهم، فجعلت الشياطين تؤزّهم إلى المعاصي أزًّا" إذن من عقوبة الكافرين أن سلّط عليهم الشياطين.
كما تصورنا كأنها نار تحوّل قلوبهم قدورهم فتؤزّهم إلى المعاصي أزًّا.
" وتزعجهم إلى الكفر إزعاجًا" يعني جالسين هادئين فما يروا ضعف عند المسلمين أو يروا حالة من حالات المسلمين دخلوا فيها إلى قوة إلا والشياطين تزعجهم من أماكنهم كأنها تقول لهم لا تجلسوا تحركّوا! أو يريدوا أن يعملوا خيرًا فتزعجهم عن هذا الخير وتبعدهم.
كيف يكون الإزعاج؟ "فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزيّنون لهم الباطل، ويقبّحون لهم الحق"
يعني مبدأ المسألة الوسواس والوحي، والعمل الذي يعملوه في الوسواس والوحي أنهم يزيّنون الباطل لهؤلاء الكفرة ويقبّحون لهم الحق.
الكفرة العاصين الفاسقين المنافقين.. كلٌّ بدرجته، والعصمة أيضًا بدرجاتها، كلما زاد الإيمان زادت العصمة من الشيطان.
المرحلة الأولى أنهم يوسوسون فيزيّنون الباطل ويقبحون الحق، ماذا يحصل بعد ذلك؟ قال: "فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشرّبها".
تبدأ الشياطين بالتزيين إلى أن تتشرّب القلوب الباطل، فإذا تشربت الباطل لا يحتاج إلى وسواس.
يقول الشيخ: "فيسعى فيه سعي المحقّ في حقّه" يجتهدون ويجتهدون اجتهادًا لما تنظر إليه تقول هذا اجتهاد لا يجتهده إلا أصحاب الحق!
ولذا لما ننظر إلى الإلحاد الجديد اليوم نرى عجبًا، ترون في ديار الإسلام كيف يضعون كلمة لا إله إلا الله، تجدهم في الطرق يكتبون اذكر الله، وهكذا، السائر في طرق المملكة يرى هذا كثيرًا، ولما يأتي الحج تضع الوزارة في اللوحات الإعلانية أفكار وهكذا، هذا ما نتصوّره في ديارنا أضعافه اليوم يفعله الملاحدة في ديارهم! فإنهم يستأجرون اللوحات الإعلانية الضخمة الغالية ويكتبون عليها كلمات أنه (لا إله)! وغير ذلك من الكلمات التي نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ ذرياتنا منها، حتى أنهم يستأجرون واجهات الباصات للدعاية عن الإلحاد!
وهذا كله مسجّل وموجود ليس افتراءً ولا تخمينًا، فلما ترى سعيهم كأنه سعي المحق في حقه يقول: " فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل"، تستعجب وكأن هنا أتى العجب! لماذا يفعلون هذا كله كأنهم يدعون إلى الحق! فيقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} فهذه العلة، أنهم حتى لما تسكن نفوسهم هناك شيطان لا يسكن عنهم في كون يوسوس ويوحي، فلما تتشرب قلوبهم وتصبح رسالتهم التي يضحّوا بأنفسهم وأوقاتهم من أجلها!
"فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل" والحقيقة كما قال الشيخ: "وهذا كله، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه، جعل له عليه سلطان"، وإلا فلو آمن بالله، وتوكل عليه، لم يكن له عليه سلطان، وقد سمعنا هذا بوضوح في سورة إبراهيم وتبيّن في الحجر أيضًا أنه ليس له سلطان، وتبيّن أيضًا في سورة النحل كما استشهد الشيخ بالآية:
"كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}" .
فإذن لابد أن نكون على حذر من تولي الشيطان، والشيطان لا يتولى الإنسان إلا لما هو يتولاه، وتولي الشيطان إنما يكون بالمعاصي، وتولي الرحمن إنما يكون بالطاعة والتوكّل والاعتماد {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
قال: "{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب
{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي أن لهم أياما معدودة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر الله فإذا لم ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر".
فإذن لازال آثار الرحمة عليهم أن الله لا يعاجلهم.
والله عز وجل على كل شيء قدير، لكن يبقى مسلكان نستفيد من الآيتين أننا لما نرى جهد أهل الكفر نعرف أن هذه الشياطين تؤزّهم أزًّا، تراهم في رمضان يعرضون من الجهود والأموال، يعرضون عن الإيمان ويصدّون المؤمنين عن الإيمان، هم يعرضون بنفسهم عن الإيمان ويصدّوا المؤمنين عن الإيمان بما يحشون هذه القنوات بما هو معلوم، لم يفعلون هذا الفعل؟! لم هذه الجهود؟! لم هذه الأموال؟! من أين تأتيهم هذه الأفكار؟! كيف يفعلون أفعال تشد الناس؟!
الشياطين تؤزهم أزا.
ما موفقنا؟ لا نيأس من رحمة الله ولا نعجل عليهم، ونعلم أن الله يعدّ لهم عدًّا، ستكون لهم أنفاس وتنتهي، ويسلّط عليهم بما فعلوا.
وأما هؤلاء لابد أن نعرف أن المؤمنين يدخلون في جهاد في المنع من هذا كله وقطعها عن هذا الهراء وعن هذه الأفعال الشيطانية وسيجدون أثر ذلك يوم الحشر كما سنسمع في هذه الآيات العظيمة.

قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} مع أنها كلمات قليلة لكن معاني عظيمة جدًّا، فإنّ العرب تعرف ما هي الوفود وكيف تكون مكانتهم، وكيف يُكَرَّمون، فإن الوفود تفد أولًا على ما يحبّون، والوفود تأتي غالبًا في أحسن حال، والوفود تأتي على من تحب من الملوك، وتأتي غالباً ركبانا.
وكلمة وفود ووفد تحتاج قراءة متكررة، نتصوّرها في السنة كيف كان هذا عام الوفود وكيف كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم اشتري هذه الملابس لكي تستقبل الوفود، فإن الوفود لها مكانتها، عند العرب أنهم يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز، ينتظرون الخير، ومن يقدم في الوفود يكون من أعيان العرب، ولذلك اتبعت العرب هذه السنة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأتوا بأشرافهم، وكانت السنة التاسعة سنة الوفود يأتون بالخير وينتظرون الخير، ويأتون في أحسن حال لمن يحبون ويكونوا غالباً راكبين، وعلى رحالهم ما يدل على أنهم أهل خير وينتظرون الخير.
فهذه الكلمة تحتاج تصور أولًا في الواقع كيف تكون، فيوم القيامة هؤلاء المتقين الذين سنسمع وصفهم يأتون بهذه الصورة، يُحشروا إلى الرحمن إلى من يحبون إلى من عرفوا آثار رحمته في كل شيء، يحشرون إليه وفدًا، ولذلك فيما رُوي من آثار أن علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الْمُلُوكَ وَوُفُودَهُمْ فَلَمْ أَرَ وَفْدًا إِلَّا رُكْبَانًا فَمَا وَفْدُ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أما إِنَّهُمْ لَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَلَا يُسَاقُونَ سَوْقًا وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ لَمْ يَنْظُرِ الْخَلَائِقُ إِلَى مِثْلِهَا رِحَالُهَا الذَّهَبُ وَزِمَامُهَا الزَّبَرْجَدُ فَيَرْكَبُونَهَا حَتَّى يَقْرَعُوا بَابَ الْجَنَّةِ))[2].
فالمقصود أن هؤلاء في كرامة الوفد، وهم يركبون ويلبسون والله أعلم أنهم إذا خرجوا من القبور فيكونون حفاةً عراةً غرلًا إلى الموقف، ثم يكون هذا لما تحصل لهم السعادة، هذا مضامين كلمة وفد، وهذه آثار وردت تحتاج تحقق من صحتها وقد ذُكر في تفسير هذا المعنى من كلام ابن عباس أيضًا وأن علي أيضًا أقسم أنهم لا يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق[3].
على كل حال المقصود أن كلمة "وفد" تدلّ على الكرامة، تدلّ على المكانة، تدلّ على البشرى، وفي مقابل ذلك: { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}.
والفرق بين هذين الوصفين كالفرق بين السماء والأرض، فإن السَّوق لا يقال إلا في حقّ الأنعام، السوق أصلاً تسيير الأنعام أمام رعاتها، يجعلونها أمامهم من أجل أن يضربوها بسياطهم فلا تنفلت منهم، فلا يكون السَّوق إلا خوف وحذر، فأولئك يحشرون المتقين إلى الرحمن وفدا، وهؤلاء يُساقون كالأنعام بل هم أضلّ، كانوا في دنياهم على هذه الحال، ثم يُردوا إلى جهنم وردا.
وأصل الورد السير إلى الماء، وتسمى الأنعام الواردة وردًا، الأنعام لما تريد الماء تسمى وردًا، فكأنّ هؤلاء يساقوا مثل الأنعام إلى جهنم، ولما يقبلون على الماء وهم عطشى، لا يجدون إلا النار فيُلقوا فيها!
من أين أتينا بمعنى العطش؟ لما قال الله عز وجل وردًا؛ لأن الوارد على الماء لا يرد إلا إذا كان هناك عطش، والبهائم لما تُساق غالبًا يكون سوقهم للماء لما يبلغ عطشهم، لما تنقطع أعناقهم من العطش يسوقوهم للماء لكي تبقى الناقة خفيفة ولا يثقلها الماء فيبقوها عطشى إلى أن تنقطع أعناقها ثم يسوقوها إلى الماء.
المعنى أن هذا الفرق العظيم بين المتقين وبين المجرمين، يوم أن يُحشروا عند ربّ العالمين، ويتبيّن لنا أنهم يستحقون ذلك، لا يملكون الشفاعة، هؤلاء مع إجرامهم لا يملكون الشفاعة، من يحق له الشفاعة؟ {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}  كأنه إشارة من جديد للمؤمنين المتقين، ليس لأحد أن يشفع إلا أن يكون اتخذ عند الرحمن عهدًا، فنرى أن هؤلاء المجرمين لا أحد يشفع لهم، في مقابل أن المتقين يكونون شُفّعًا في أهلهم، في أصحابهم، وهكذا، ولكن المجرمين ليس لهم شفاعة، كما في الشعراء {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
ما معنى {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}؟ العهد هو التوحيد، بمعنى أن من كان في الدنيا متيقّنًا بلا إله إلا الله ، معتمدًا على الله، واثقًا في رحمة الله فإنّ هذا العبد قد اتخذ عند الرحمن عهدًا.
ومن كلام ابن مسعود في هذه الآية أنه قرأها وقال: "اتخِذوا عند الله عهدا" فسألوه ما العهد يا عبدالرحمن؟ فدلّهم على التوحيد، قال لهم: "قولوا فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة.."، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عمل تقرّبني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك. فهذا عبد وحّد وتبرّأ من الحول والقوة.
 المقصود أن هؤلاء المجرمين مع حالهم الشديدة لا يملكون الشفاعة وليس لهم شفيع ولا صديق حميم ويأتون إلى ربهم فرادى لا يملكون شيئًا، لماذا؟ لأنهم من أهل الشرك.
قال الشيخ السعدي: "يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين المتقين، والمجرمين، وأن المتقين له -باتقاء الشرك والبدع والمعاصي- يحشرهم إلى موقف القيامة مكرَّمين، مبجَّلين معظَّمين، وأن مآلهم الرحمن، وقصدهم المنان وفودا إليه" لأن الوفد يصير له مقصد.
"والوافد لا بد أن يكون في قلبه من الرجاء، وحسن الظن بالوافد إليه ما هو معلوم" طامع يعني.
"فالمتقون يفدون إلى الرحمن، راجين منه رحمته وعميم إحسانه، والفوز بعطاياه في دار رضوانه، وذلك بسبب" لابد لكل شيء من سبب، والسبب شيء وأن الجنة تكافئ العمل شيء آخر، أنت تعال بالسبب ثم الله عز وجل غفور شكور يغفر لك النقائص ويشكر لك عملك.
قال: "وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه، واتباع مراضيه، وأن الله عهد إليهم بذلك الثواب على ألسنة رسله فتوجّهوا إلى ربهم مطمئنين به، واثقين بفضله".
إذن هم وصلوا إلى هذا بسبب أنهم عملوا الأعمال، هذه الأعمال دلّتهم الرسل على هذه الأعمال فتوجّهوا وهم مطمئنين.
قال: "وأما المجرمون، فإنهم يساقون إلى جهنم وردا، أي: عطاشا" وتبين لنا كيف أن الورد لابد أن يدل على العطش
وتبين لنا كيف أن الورد لابد أن يدل على العطش.
"وهذا أبشع ما يكون من الحالات، سوقهم على وجه الذل والصغار إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة، وهو جهنم، في حال ظمئهم ونصبهم يستغيثون فلا يُغاثون، ويدعون فلا يستجاب لهم، ويستشفعون فلا يشفع لهم، ولهذا قال: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}" يعني أنهم في هذه الحال وهم في الدنيا تعودوا أن هذا يشفع لهم وهذا يدفع عنهم وهذا عزوتهم يمنعهم وهذا ملكهم ينفعهم، هكذا تعوّدوا في الدنيا لكنّهم لما يأتوا يوم القيامة يكون حالهم مختلف، ولذلك في الآيات السابقة نسمع عن أولئك القوم الذين كفروا بآياتنا وقالوا {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}، فقيل له {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}، يأتي يوم القيامة فردا ولا أحد يشفع له.
"ولهذا قال: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي: ليست الشفاعة ملكهم، ولا لهم منها شيء، وإنما هي لله تعالى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} وقد أخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، لأنهم لم يتخذوا عنده عهدًا بالإيمان به وبرسله، وإلا فمن اتّخذ عنده عهدًا فآمن به وبرسله واتبعهم، فإنه ممن ارتضاه الله، وتحصل له الشفاعة كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} وسمى الله الإيمان به واتباع رسله عهدا، لأنه عهد في كتبه وعلى ألسنة رسله، بالجزاء الجميل لمن اتبعهم".
سمي عهد لأنه عهد بهذا الأمر ووعد، ولذلك نحن في سيد الاستغفار نقول ((وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ))[4] وعهده سبحانه وتعالى أن من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، والعهد هذا نقوله ونكرره في قولنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنحن نعاهد الله، نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعينك ولا نستعين بغيرك.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} وهنا يأتي الخبر عن بعض أفعالهم التي سبّبت لهم أن يُساقوا إلى جهنم وردًا وأن يوصفوا بأنهم مجرمين، وهو الشرك، وهذه الدعوى والكلام حول الولد تكرر في هذه السورة وهي مناسبة لتسمية السورة باسم مريم، فكأنه يقال: هذا الولد الذي تدّعونه إنّما هو ولد لمريم وقد خلقه الله كما سمعتم وليس كما تدّعون أنه أب له -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-.
وهذه الدعوى التي يدعونها اليهود والنصارى فالنصارى يقولون عيسى ابن الله واليهود يقولون عزير ابن الله، هذا كله لو تعلموا عظمه وأثره على السماوات والأرض، فلا يمكن لو عرفتم هذا أن يكون منكم هذا القول.
فيقول لهم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} شيئًا شنيعًا، وهذا الخطاب لمن ادعى هذه الدعوى الفظيعة؛ لأن من رأى ما في السماوات وما في الأرض لا يمكن أن يعتقد هذا الاعتقاد! والعرب تقول: الإدّ أعظم الدواهي، فمن نظر إلى السماوات والأرض علم أنها عظيمة من العظائم أن يقال عن من خلقها أنه محتاج!
"وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين، الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدًا، كقول النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله، والمشركين: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرًا.
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي: عظيمًا وخيمًا.
من عظيم أمره أنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} على عظمتها وصلابتها {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي: من هذا القول" التفطّر بمعنى التشقق.
"{وَتَنْشَقُّ الأرْضُ} منه، أي: تتصدع وتنفطر {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أي: تندك الجبال".
وهذا دليل على عظمة هذه المقولة يكاد يكون ذلك عند قول هذه المقولة من فجرة بني آدم، هذه المخلوقات إعظامًا للرب وإجلالاً له ولأنها مخلوقات ومؤسسات على توحيده لما يحصل هذا الكلام من فجرة بني آدم يكون سببًا لفزع من في السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، تكاد السماوات أن تزول من هذا القول لعظم قول جرمه.
فلذلك الله عزّ وجلّ عامَل الخلق بحلمه فهو الذي يمسك السماوات أن تزول ولو لم يمسكها لزالت من ذنوب هؤلاء الخلق ومن عظيم ما يقولون، فالسماوات يتفطّرن تتشقّق من عظمة الله وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا كله غضبًا لله.
"{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ} أي: من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات، أن يكون منها ما ذُكر من التفطّر والانشقاق والخرور، وفي بعض الآثار إن الجبل لينادي الجبل فيقول يا فلان هل مرّ بك اليوم ذاكرًا لله عز وجل؟ فيقول نعم ويستبشر![5]
ولذا هذا الأثر أتى عن ابن عون فقال: لهي إلى الخير أسمع، فإذا كانت للخير أسمع فماذا ننتظر منها؟ أيسمعون الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره؟! كأنه يقول السماوات والجبال والأرض تسمع الزور في يكون أنهم يدعون للرحمن ولدا وتكاد تنفطر غضبًا لله، فهو يرى أن هذا الأثر صحيح وأنها تسمع الذاكرين لله، والله أعلم.
المقصود أننا نتنبه لعظم التوحيد وخطورة الشرك، فلما نسمع الشرك بألوانه لابد أن ننزعج، فلا يمكن أن تكون السماوات والجبال والأرض منزعجة هذا الانزعاج الذي تكاد تزول منها، وأهل الإيمان والتقوى الصادقين يمرّ عليهم ما يخدش التوحيد ولا ترى قلوبهم باردة ما ينزعجون!
وهذا يجعلنا نتعجّب جدًّا من أن يكون موحّد قد امتلأ قلبه توحيد ثم يترضى عن كفار يسبون الله ليل ونهار ويقولون له صاحبة وله ولد! قول {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}، ولا تتحرك قلوبنا به بل نحب ونرضى ونوالي من يقوله! ثم نقول هذا ليس له علاقة بهذا!
وهذا من عظيم المفارقات أن يُدّعى الإيمان وحب الرحمن ثم يُحَبّ من يسبّ الرحمن! هذه مفارقة عجيبة، فإنّ الواحد منا لا يتحمّل أن يرى من سبّ والديه، لا يتحمّل أن يراه! فكيف من سبّ الله فقال أن له ولد يُلام من أبغضه! وهذا ما هو إلا من ضعف الإيمان واليقين أسأل الله عز وجل أن يرفع عن الأمة هذه الغمة.
والمعنى هنا البغض والكراهية وليس العدوان؛ لأن هناك من تطرف وتحول الأمر عنده إلى عدوان، نحن نتكلم عن القلب الذي لابد أن يبغض الشرك ولا يحبّ أهله ولا يتملّق عندهم ولا يكون مهزومًا في نفسه، لكن هذا لا يعني أن نعتدي على خلق الله لأننا مأمورين بأمر الله، لو كان صفين وقتال شرعي كما أمر الله كان هذا شأن آخر ، لكن أن يعتدى على خلق الله هذا ليس مسموح فإن الله الذي أمرنا أن نبغضهم أمرنا أن نحفظ دماءهم المعاهدين والمستأمنين و من هم في ديارهم والحربي له شأن آخر.
قال: "والحال أنه: {مَا يَنْبَغِي} أي: لا يليق ولا يكون {لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} وذلك لأن اتخاذه الولد، يدل على نقصه واحتياجه، وهو الغني الحميد. والولد أيضا، من جنس والده، والله تعالى لا شبيه له ولا مثل ولا سمي".
فإذن كيف نقول الله ليس كمثله شيء وهو وحده العظيم ثم نقول أن له ولد؟! وكيف نقول أن الله غني حميد ويقولون أن له ولد؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
"{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أي: ذليلًا منقادًا، غير متعاص ولا ممتنع، الملائكة، والإنس، والجن وغيرهم، الجميع مماليك، متصرف فيهم، ليس لهم من الملك شيء، ولا من التدبير شيء، فكيف يكون له ولد، وهذا شأنه وعظمة ملكه؟".
إذن نحن أمام ثلاثة أسباب على الأقل تدلّ أنه لا يمكن أن يكون له ولد:
1.             فالله عز وجل ليس كمثله شيء، فكيف يكون هناك ولد، لابد أن يكون مثيل وشبيه.
2.             الله غني حميد فكيف يحتاج للولد.
3.             كل شيء عبد لله فكيف يكون لله ولد!
"{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم، أهل السماوات والأرض، وأحصاهم وأحصى أعمالهم، فلا يضلّ ولا ينسى، ولا تخفى عليه خافية".
فهؤلاء الذين سيحاسبون كيف يشاركون، ثم أنهم يوم القيامة "{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أي لا أولاد ولا مال ولا أنصار، ليس معه إلا عمله" فهذا أكثر ما ننشغل به، أعمالنا التي سنقبل بها على الله، سنأتي وحدنا، لا ينفعنا إلا أن نأتي بالسبب إلى رب العالمين وهو العمل.
"فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}"
وهذا الأمر لابد أن يكون منا على بال وهو أنّ العبد سيلحق ربه ليس معه إلا عمله.
ثم خُتمت السورة بقوله : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وهذا الودّ من آثار رحمته.
"هذا من نعمه على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، أن وعدهم أنه يجعل لهم ودًّا، أي: محبةً وودادًا في قلوب أوليائه" وليس في قلوب الفساق، لأن الفساق لهم ودّ عند أمثالهم، لكن المقصود أولياء الله يكون لهم ودّ عند أوليائه وعند أهل السماء والأرض، وهذا الودّ ما المصلحة من ورائه؟
وإذا كان لهم في القلوب ودّ تيسر لهم كثير من أمورهم، ليس أمور الدنيا إنما الأمور التي تتصل بالخيرات.
ولذا قال: "وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل، ولهذا ورد في الحديث الصحيح: ((إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ))[6].
وهنا نؤكد أن هذا يكون بين أولياء الله، ليس حب الناس إطلاقًا يدلّ على أن الله وضع للعبد ودًّا لأن من بلايا الإنسان أن يكون محبوبًا وهو ليس على طاعة ولا مرشدًا للحق فيكون مقبولًا عند الناس فتأتي عليه البلايا من هذه الجهة.
لكن المقصود هؤلاء أولياء لله ويحبهم الأولياء وينتفعون بهذا الحب في طاعة الله والدعوة ويكونون للمتقين إمامًا.
هذا ما تيسّر ذكره من هذه الآيات المباركات، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 

انتهى اللقاء بفضل الله..



[1] مريم:74
[2] تفسير القرطبي.
[3] عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ مَنْ نُوقِ الْجَنَّةِ لَمْ تَنْظُرِ الْخَلَائِقُ إِلَى مِثْلِهَا، رِحَالُهُمُ الذَّهَبُ وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجِدُ فَيَقْعُدُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَقْرَعُوا بَابَ الْجَنَّةِ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ "
المستدرك على الصحيحين
[4] رواه البخاري في صحيحه.
[5]
[6] رواه مسلم في صحيحه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.