الاثنين، 9 مارس 2015

عبادة الشكر - اللقاء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لازلنا بفضل الله ومنّته نجتمع ونرجو أن يكون اجتماعنا من أجله سبحانه وتعالى، وأن نكون ممن تحيط بهم الملائكة ويذكرهم الله -عز وجل- فيمن عنده. ابتدأنا العودة بموضوع الشكر وهذا الموضوع لايُملّ من تكراره لأن الدين نصفان: نصفه شكر ونصفه صبر. ومَن مارس الحياة وفهم حقيقتها يجد هذه المسألة واضحة: أنّ ما في الحياة إما أن تعامله بالشكر فيزيد وإما تعامله بالصبر فيزول ويثبت لك الأجر.
في لقاءاتنا هذه تكلمنا عن الشكر، المرة الماضية تكلمنا عن حقيقة الشكر، وقلنا:
o     أين مكان الشكر؟ في قلبك.
o     وماذا يحتاج الشكر من قلبك؟ الاحساس بالنعمة، لأنه لما يموت الاحساس بالنعمة كثيرا ما تتحول النعم عند الناس إلى نقم، وإذا مات الاحساس بالنعم تمر النعم على الإنسان وتتكرر وهو لا يشعر بوجودها إلا لما تفقد ويكون فات الأوان.
فحتى أحقق حقيقة الشكر لابد أجد أولا قلب يشعر بالنعمة، ثم إذا شعر القلب بالنعمة أحتاج إلى أمر آخر وهو نسبة النعمة إلى الله، فقد أحس بالنعمة وأشعر أنها نعمة، لكن لا أنسبها إلى الله، فأقع في ثاني أمر يقطعني عن شكر النعمة، لأن الانسان لما ينسب النعمة إلى ذكائه وجماله وعلمه وقوته وبيئته، هذه النسبة تقطع عليه شكر الله، فتصور نحن ماذا نردد في أذكار الصباح والمساء، من المفروض أن تكون هذه مشاعرنا: (اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ)[1]، حرف (ما) لما نرى تفسيرها في اللغة نرى أنها عامة في صغير النعم وعظيمه، كأنك تقول: (كل نعمة أنا فيها أو فيها أحد من الخلق، من أين لنا بها؟  (فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ) كأنك تقطع في القلب عروق التعلق بغير الله أو شكر غير الله، أي أنه لا توجد نعمة صغيرة كانت أو عظيمة إلا وهي من الله تعالى، وهذا الأمر وإن كان مَرّ علينا لكن سنقف مرة أخرى عليه عندما نعود فنقول:
à ما هي الأسماء التي يجب أن تبقى في ذهني حتى أكون شاكرًا كما ينبغي؟
حتى أكون شاكرا يجب أن يكون عندي حساسية تجاه النعم، أي أنني أحس بالنعم صغيرها وعظيمها، فلما تجد نفسك تستطيع أن تحمل كأسا فتشعر بأن الله -عز وجل- قد أنعم عليك بهذه الأصابع الخمس، وتعرف أن أقواما قد يُخلَقوا لا يملكونها، أو لا يملكون واحدا منها فقط، وعدم امتلاك واحد منها يساوي مجموعة من الإعاقات في القدرة على التعامل مع الأشياء الدقيقة التي تتعامل أنت معها بسهولة وتلقائية، أي أنني أستطيع أن أحمل وأضع بتلقائية، هذه التلقائية أورثتنا برود في الشعور بالنعم.
ولهذا جعل الله -عز وجل- الناس بعضهم لبعض أمثالا، بعضهم لبعض صورا، ترى الناقص عندك كاملا عند غيرك، والكامل عندك ناقص عند غيرك، وهذا التفاوت حتى يشعر كل أحد بما معه من النعمة، الذي عنده نقص يصبر، وأنت الذي معك النعمة لما ترى الناقص تشكر، وبالتبادل، وهكذا نكون حققنا النصفين كلاهما في الدين: صبر وشكر، لكنك تعلم أن غالبنا لا ينظر إلى من حوله إلا لمن كَمُل عنه، فنحن لا ننظر لمن حولنا إلا لمن هم أعلى منا في أشياء معينة، لكن الذين هم أدنى منا وعندهم نقص نمر عليهم سريعا  وحتى لا تتعذب نفوسنا وضمائرنا نحاول أن ننساهم!
فمثلا: لو أخذت جماعة إلى مستشفى فيه أمراض مزمنة، أو الأمراض التي يصاب بها الأطفال حديثا من التوحد وفرط الحركة، فلو ذهبت إلى مدرسة كل الأطفال الذين فيها عندهم توحد، ورأيت أنهم لا يتعاملون مع الأشياء بصورة طبيعية لا من جهة صوتهم ولا سمعهم ولا كلامهم ولا تعاملهم، وهؤلاء لابد من إدراكهم حتى لا يتصرفوا تصرفا خاطئا، لأنهم لا يعرفون الأخطار، تجده كبيرًا وقد يبقى على طرف مكان يلقي بنفسه، وهذا كله عندك بسهولة، تستطيع أن تدرك أن هذا خطرا ويجب أن تبتعد عنه، وتتكلم بهدوء، إلى آخر هذه الفوارق. أرأيت الليلة التي تذهب فيها لهذا المكان، عندما تعود إلى البيت تشعر بتنغيص، لكنك تبذل جهودك من أجل أن تنسى، وتقول: (يجب أن أخرج إلى مكان لأغير وضعي، نفسيتي تعبت) فنبذل الجهد لننسى بدلا من أن نبذل جهودلنا لنكون لاهجين بالشكر، وهؤلاء الله أعلم بمكانتهم عنده، وهؤلاء بمثابة عبرة لك.
فكل الناس في اختلاطهم مع بعض لابد أن يروا شيئا في غيرهم يحمدون الله على أنه كَمُل في نفسهم، ويجدون شيئا عند غيرهم يصبروا على أنه لم يوجد عندهم، وهذان النصفان تجدهما في الاحتكاك بالمجتمع والنظر له.
حتى تكون شاكرا لابد أن تعلم أن الشكر عبادة بالقلب، واللسان ناتج، لأننا الحمد لله بفضل الله لما أحد يسألك كيف حالك تقول: الحمد لله، هذا جميل، لكن لابد الحمد لله التي تقال باللسان أن يكون لها استقرار في الجنان، ولأنه لا استقرار في الجنان أقول الآن الحمد لله وبعدها أقدم معروض من الشكاوى على الحال وعدم الرضا به وأتكلم بكلمات فيها كفران بالنعمة التي تجري علي، فلابد أن يكون قلبي حسّاس للنعم، وكلما زادت الحساسية انطلق الشكر من القلب كما ينبغي، والحساسية لوحدها لا تكفي، أحتاج معها أن أنسب هذه النعمة لله وحده لا شريك له، لا بد (وحده لا شريك له) لأني لما أعود إلى الوراء سأجد أنه (الأول) الذي ليس قبله شيء، فكل ماعندك من نعم سبّبها الله لك، وكل الأسباب التي سبّبت وجود النعمة إنما صاحبها هو الله -عز وجل-، ولذلك سنقف عند اسم الأول والآخر لنزيد هذه القاعدة في القلب قوة.
·       إلى الآن القلب فيه ثلاثة أمور:
1.   شدة حساسية تجاه النعم.
2.   قوة نسبة النعمة إلى الله -عز وجل-.
3.   أن تعرف أن هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك وحده لا شريك له تستلزم منك طاعة، لأني أشعر بنعمة وأعرف أن المنعِم هو الله -عز وجل- ثم أجلس في مكاني! لا يصلح، لابد أن تُحْدِث طاعة وعبادة، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[2]، فما تحديثك بالنعم؟
أحْدِث عبادة في بدنك أو في لسانك شاكرا لله ما أنعم به، وأثنِ على الله في حديثك مع أي أحد، طوال الوقت تقول: (أنعم الله علينا، رزقنا الله، لطف بنا الله)، وفي الصبر: (ابتلانا الله، اختبرنا الله، ربّانا الله)، لازلت في كل الحالتين تتكلم عن الله، وهذا لا يأتي إلا من قلب موحد، لا يأتي إلا من قلب ليس عنده إلا واحد فقط.
أترون الطواف حول الكعبة؟ المفروض أنك تطوف حول رضا الله وحده، بدنك يطوف في الأرض، وقلبك يعلن أنه لا يطوف إلا حول رضا واحد، ثم أنك تسعى ذهابا وإيابا وتفكيرك كله حول (إليك نسعى ونحفد)، فالذي يكون تفكيره دائرًا حول واحد وليس أي واحد ماذا سيحصل في سمعه وبصره وتصرفاته؟ طيلة الوقت تفكيره أن ينتفع بهذا كله في رضا هذا الواحد، فتراه ذاكرا له، شاكرا له، مثنيا عليه، رابطا تفاصيل حياته به سبحانه وتعالى. وانظر إلى الخلق لما يتعلقون بمحبوب أو يرون مُنعِما عليهم ماذا يحصل؟ طيلة الوقت يتكلمون عنه، وانظر لهذه التي عندها طفل وحيد وتحبه، طيلة الوقت لما تكلمها تحكي لك قصصا لها قيمة وليس لها قيمة، كلها عن هذا الواحد المحبوب، فهذا شيء طبيعي: أن الإنسان لما يكون له واحد يحبه يثني عليه ويتكلم عنه دائما، لكن إذا هذا الواحد ليس موجودا في القلب كما ينبغي ترى هذا الإنسان فيه شركاء متشاكسون، تراه مشتتا.
تمر علينا أحداث وفي أولها قد أشعر أنها ليست نعمة، إنما ابتلاء واختبار، ثم تتكشّف الأيام ويظهر أنها نعمة عظيمة، فأكون عشت فترة طويلة من الحدث وأنا مسيء الظن بربي! يقول أحدهم: (أنا ليس لي حظ، كلما فعلت كذا وكذا يُغلق علي، كلما عقدت علاقة مع زميلة أو جارة يحصل كذا وكذا أو هذه الزميلة تخرج من الكلية، إلى آخرها من أحداث)، ثم بعدما تقدم بها العمر وتزوجت تقول: (الحمد لله أنني لم أكوّن علاقة مع أحد، كنت سأتعلق بهذا الأحد ويرهنني، وأنا أنظر لحالي الآن مع أولادي وبيتي وكيف أنا رهينة لهم).
وكم من أحداث مَرّ بها الإنسان وكان يدعو: (يارب يحصل كذا وكذا) ولما نضج قال: (الحمد لله أن ربي ما استجاب لي، فلو كنت سرت في ذاك الطريق لما عدت!)، وكم من أمور دخل فيها الانسان وتمنى أن يكون في هذا النوع نجما بارزا ثم لما هداه الله حمد الله أنه لم يكمل الطريق.
لكن السؤال: وقتما حدثت تلك الأحداث ماذا كان في القلب للرب؟ سوء ظن به، ولننظر لهذه الجريمة العظيمة التي تقابل الشكر: إما شاكرا، وإما كفورا، هذا الكفور مِن أين يأتي؟ ماذا في قلبه عن ربه جعله كفورا؟ سوء الظن به سبحانه وتعالى، في قلبه أشياء كثيرة لكن سوء الظن اسم عام، سأتوقف هنا عند سوء الظن، أشرحه وأقول: ماذا يجب أن يكون في قلبي من أسماء وصفات حتى أكون شاكرا؟
-       أبدأ بسوء الظن وهو الذي يجرني للحديث عن الأسماء والصفات.
إذن نحن انتقلنا إلى سوء الظن لأن الإنسان إما شاكر أو كافر، الشاكر في قلبه إحساس شديد بالنعمة، ونسبة لله، وإحداث عبادة، وحديث عن الله -عز وجل- والثناء عليه، والكافر كفر النعمة -نحن كلما كررنا كافر في هذا الدرس نقصد كفر النعمة وهو ليس كفرا أكبر لكن كبيرة من كبائر الذنوب وليس خروجا عن الملة- هذا الكافر المسألة عنده عكسية، لا يشعر بالنعم، وإذا أتته النعمة ينسبها لغير الله، وكلما أتته نعمة دائما عنده (لكن) هذا الملبس جميل (لكن) هذا البيت جميل، فلا يرى إلا الجانب السيء ولا يرى من الكأس إلا الفارغ.
-      ماذا يظن هذا بربه؟ ولماذا وصل إلى هذا الحال؟
 لنتفق على هذا الذنب العظيم الذي قد يُمارس في اليوم والليلة مرات ومرات ونحن لا نشعر وهو سوء الظن بالله تعالى.
اسمع ماذا يقول الله -عز وجل- عن سوء الظن. لما وصف أعلى ناس في سوء الظن، فسوء الظن درجات، لما وصف أعلى الناس في سوء الظن قال لهم في يوم القيامة {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}[3] أرداكم: أي جعلكم تتردَون، أهلككم.
انظر للإسم الذي ورد في هذه الآية، الرب، لماذا؟ لأن هذا الاسم هو الذي يسبّب حسن الظن بالله -عز وجل، فكلما تنظر إلى الأمور، تنظر على أن الذي دبرها هو الرب، الذي يحوّل عباده من حال النقص إلى حال التمام.
o     فالتربية في اللغة: تحويل الشيء من النقص إلى التمام.
o     اسم الرب: أي المربي، المصلح، الذي يحوّل حال الإنسان من النقص إلى التمام.
فكيف يجري عليك الرب أقدارا ليحولك من النقص إلى التمام وأنت تنظر لأقداره على أنها من التمام إلى النقص؟! أرأيتم الجريمة؟!
à كيف يربي الرب خلقه؟
بما يجريه عليهم من تدابير.
فالمفروض أن كل تدبير يجري عليك تنظر إليه على أنه من رب يريد نقلي من النقص إلى الكمال، هذا الذي يجب أن يستقر في قلبك.
سوء الظن معناه: أنني أنظر إلى الحدث الذي في حقيقته الرب يريد أن ينقلني فيه من النقص إلى التمام وأظن فيه بالعكس، وأظن أنه يريد أن ينقلني من التمام إلى النقص!
تخيل مشاعرك وأنت في الأعلى وأحد يريد أن يجرك للأسفل وأنت تريد العلو، فتخيل كيف ستقاوم، في نظرك أنه يريد أن يشدك للأسفل، فهذا نظرك لأقدار الله وهو في الحقيقة يريد أن يعليك، فتخيل عندما تأتيك الأقدار التي ترفعك فتقاومها وتدفعها فكأنك تدفع الترقي، وتدفع العلو، والعلو والترقي لا تفكر في سقفه الدنيوي لأن مشكلتنا أن سقف أماني الدنيا عالي، وسقف أماني الآخرة منخفض، فنحن نسير في طريقنا ونصطدم بأي شيء، بالباب مثلا، ثم تأتينا آلام، ماذا نفعل في الباب في الغالب؟ نسبّه، هذا أقل شيء، غير التصرفات الأكثر سفاهة من ذلك. هذا الباب مثل الشوكة التي لو شاكتك رفعك الله بها منزلة، وقوة الباب أكثر، فتصور لما تصطدم به من أجل أن تعود على نفسك فتشعر بمنة الله عليك وتقول الحمد لله فيكون هذا سبب لرفعة منزلتك عند الله، منزلة أرادها الله لك، فعندما تتعامل مع شيء وأنت محسن الظن بالله يختلف عما لو تعاملت مع شيء وأنت مسيء الظن بالله، يقول أحدهم: (اليوم من أوله خربان!)، مع أنها كفارات للذنوب ورفع للمنزلة، فكم مررنا بكرب وضيق ودعونا وسألنا وانكسرنا، ثم كان هذا درسا عظيما لك، من جهة كفارة للذنوب، ومن جهة أخرى ألا تسمع في الحديث كلمة (كرب الآخرة) ؟ الدنيا مزرعة الآخرة. عندما تشعر بالكربة هنا لابد أن تتصور كربة الآخرة، ولا مقارنة بين كرب الآخرة وكرب الدنيا.
أرأيت عندما يمر علينا أسبوع أو أسبوعان ونحن في ضيق شديد، وأمْرُنا في يد فلان وفلان، ونجري بالأوراق إلى فلان، وفي النهاية أنت هنا لك ملجأ، لكن لو خسرت ملجأك وجاءتك كرب الآخرة وأنت لا تشعر بمعنى الكربة فأين دعاؤك؟ أين سؤالك أن يفرج الله عليك الكربة؟ أين إنفاقك مثلا وأنت تفكر أني أنفق لأفرج على نفسي كربة من كرب يوم القيامة؟ الكرب يوم القيامة ليست على البال لأنني ما انتفعت بتربية الرب في الدنيا. كم من كربة يُشكر سبحانه وتعالى أن أدخلني فيها! الحمد لله أني لم أمت قبل أن أعرف أن قلبي هذا يجب أن يكون لله، ومرّرني بمواقف قُطّعت علائق غيره في قلبي، ومرت علي أحداث جعلتني لا أطلب إلا إياه، هذا التوحيد هو المطلب.
وأحيانا مع اللهو تنشغل فيردك له لأنه لا ينفعك إلا إياه، فلما تلهو وتنشغل عنه لا يتركك حتى تتكاثر ويأتيك القبر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[4] بل يردك، حتى ينفعك هذا الرد في قبرك ويوم تلقاه.
o     فمن أين يأتي سوء الظن؟ لما ما نعرف الرب.
o     فما سوء الظن وماذا ينقصنا من معرفة الرب؟ وهذا عنوان جديد تحت الشكر وهو (سوء الظن).
o     ما علاقة سوء الظن بموضوع الشكر؟ نحن نأتي بضد الشكر.ما سبب كفران النعم؟ سوء الظن بربنا، كم من نعمة جرت علينا ما رأيناها نعمة. مَن سبّب لنا هذا ؟ المجتمع حولنا، تفكيرنا الناقص، وأسباب سأذكرها سريعًا ثم أتكلم عن سوء الظن.
Ü ثلاثة أمور:
1- النظر للنعمة على أنها نقمة سبّب سوء الظن.
2-الاعتياد على النعمة سبّب سوء الظن.
3- الانشغال بالدنيا سبّب سوء الظن.
هذه كلها أوصلتني لنسيان النعم، فإما أنظر للنعمة على أنها نقمة، أو أعتادها، فأشعر أنه من الطبيعي أن يكون لي بيت، فمَن الذي ليس عنده بيت؟! الاعتياد على النعمة مشكلة عظيمة نمارسها ليلا ونهارا. ثم الانشغال بالدنيا، والانشغال بالدنيا يسبب لك أن تأتي النعم وأنت سقفك عالٍ لا يعجبك هذا بل تريد أكثر، وكلما أتاك تطمع أكثر، فالانشغال بالدنيا يجعلك كلما أتتك نعمة لا تشعر بها، فكل هذه التركيبة ستوصلني إلى سوء الظن.
·       مثال:
كثير من الأمهات اللاتي رزقهن الله أطفال، ينظرن إلى هؤلاء الأطفال النعمة العظيمة -وهذه النعمة لابد من المشاق فيها وكل النعم لأن الدنيا بُلْغة منغصة- على أنها شيء من البلاء، أو من النقمة، فيحوّلون نعمة الأبناء إلى نقمة، وانظر لها عندما يكون عندها 3 أو 4 أبناء ثم تعلم أنها حامل، ماذا يفعلون بها وماذا تفعل هي بنفسها؟! هناك كثيرون ممن نذروا أنفسهم أن لا يخرجوا من بيوتهم وقد حملوا لأنهم يُشعرونِها أنها في مصيبة! فهؤلاء فقط يحتاجون إلى زيارة واحدة لمراكز الإخصاب ليروا كيف يدفع الناس الآلاف المؤلفة ولا ينجحون، ويذهب إلى مكة، وكل هذا من أجل أن يقول: يا رب ارزقني، ويوصي الناس بالدعاء له بالذرية، وهي تتمتع بالذرية بأيسر ما يكون، ولا شعور! بل شعور عكسي: شعور أنه نقمة، ويؤسفنا أن هذا ينتشر في مجتمع يُسمع فيه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)[5] فالنبي يباهي بهذه العائلة كثيرة الأبناء ونحن نستحي من أبنائنا! كل هذا بسبب ماذا؟ لا تعظيم لله ولا للرسول، مسألة يجر بعضها بعض، فامرأة لها زوج -مع كل عيوبه لكنه زوج-، تقول: (أنا كنت في بيت أهلي مرتاحة)، وهذا كله من كفران النعم، وكلما يزيد الشخص هذه الكلمة يزيد البلاء، لأنه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، ماذا لو كفرتم؟ {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[6]. الذي يجري عليك من مصائب ذوق لعدم شكرك للنعمة. والاعتياد على النعمة، والانشغال بالدنيا، هذا كله من أسباب نسيان النعم.
à لماذا ينظر الناس إلى النعمة على أنها نقمة؟
-       لأن هواهم هو سبب الرضا.
-       متى يشعرون أنها نعمة؟ لما تكون على هواهم، لكن لما لا تأتي على هواهم فليست بنعمة.
مثلا يقول: أنا أريد زوجا هذا تفكيره، ويحب أصاحبه، فتزوجت وحَبَسَها. فتنسى كل النعم التي في الزواج والاستقرار والأبناء ويبقى العيب الوحيد أنه لا يتركني أذهب إلى صاحباتي، فكانت سترضى وتعتبره نعمة لما يوافق هواها فقط.
الإشكال أننا حوّلنا كثير من النعم إلى نقم لأنها ما جاءت بالتفصيل على هوانا، ألا تعلم أن هواك سَيُرديك؟! فالحكيم الخبير أعطاك نعمة على ما يناسبك.
Üعوامل تغذّي هذه الأسباب:
1.   طبائعنا.
2.   المجتمع.
3.   الابتلاءات.
Ü اتفقنا أن أسباب نسيان النعمة ثلاثة أمور:
1.   النظر للنعمة على أنها نقمة.
2.   الاعتياد على النعمة.
3.   الانشغال بالدنيا وسقف الدنيا العالي.
·       ما الذي يسبب لنا هذه الأسباب؟
طباعننا، هناك طباع كفرية، كفرية أي من الإنكار وعدم الرضا، وهذا يحدث في أولادنا، يكون عندها طباع ولا تجاهدها.
ولدك مثلًا ذهب إلى رحلة مع المدرسة، فتسأله أمه عندما يعود: كيف كانت الرحلة ؟ يقول: (شمس، وتعبت في الطريق، وطلبت ماء ولم يعطوني). تسأله: ألم تلعب طوال الرحلة؟ يقول: نعم، تسأله: هل قدموا لكم الإفطار؟ يقول: نعم. تسأله: هل سعدت مع أصدقائك؟ يقول: نعم. لماذا إذن لم تذكر هذا كله؟! فهذه النفسية تحتاج إلى معالجة.
·       قد يسأل سائل: كلمة (طبع) كيف سأعاملها؟ فأنا طُبعت على هذا الأمر.
الجواب: ليس الأمر هكذا. أولا: كيف يمكن أن يكون للإنسان طباع سيئة؟ لنرى الواقع ثم الدليل.
ألا تنظر إلا كثير من الأطفال وهو طفل صغير لم يدرك بعد وتجد أن طباعه تظهر عليه؟ مثلا هناك أطفال منذ الرضاعة عصبيون، وآخرون هادئون. مثلا طفل عمره 7 سنوات وهو في بيت الكرماء، وهو وحده بخيل، فنقول له: أنت من أين أتيت؟ لا أب ولا أم ولا عائلة بهذا الطبع! هذا الواقع، واستقراء الواقع في النصوص ورد في حديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ: (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَهُ - قَالَ - وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عَيْبَتَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ « إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا قَالَ « بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ». قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.)[7]
الشاهد في سؤال أشج بن عبد قيس وفي تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا؟» أي: هل طبعني الله على هاتين الصفتين أم خلق تخلقت به؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا». قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.» فأشج بن عبد قيس جعل الأخلاق على نوعين:
·       إما جبل بمعنى طبع.
·       أو تخلق بمعنى اكتساب.
لذلك نقول أن النفسيات الإنسانية تأتي وفيها مساحة للاكتساب، وهذه مساحة الاكتساب تنفذ إلى مساحة الطباع، المفروض الذي تكتسبه من علوم يهذب طباعك، والله -عز وجل- وصفنا بأوصاف كثيرة من مثل هذا: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[8] أي أنّ الذي صلى وآمن اكتسب ما يهذب هذه الطباع، معنى ذلك أن لديّ مساحة للاكتساب، لن أركن إلى الطباع الطبيعية لأن هذه بلوتنا الحقيقية، أن كل منا أتى بطبع مطلوب منه أن يهذبه، (وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْصِنِي قَالَ : لاَ تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : لاَ تَغْضَبْ.)[9]يقول الشرّاح للحديث والله أعلم: أن الرجل كانت تظهر عليه معالم الغضب والثورة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بما يعدّل ما ابتلي به من طبع، وهذا هو الاختبار: أن تأتي إلى ما ابتليت به فتهذبه، فإذا هذبته كما يحب الله ويرضى كان الأجر على قدر المشقة.
مثال: شخص كريم ينفق 1000 ريال بكل سهولة، قد يكون أجر هذا مثل أجر الآخر الذي بعد جهاد أنفق 10 ريال، لأن الأجر على قدر المشقة، والله أعلم، أنا أضرب هذا مثلا لتتصوروا ولكن الأجور عند الله لا كلام للخلق فيها.
فالعبد لما يُبتلى بشيء من طباعه يكون اختباره في طباعه، وكأنه يقول: (من أجل الله سأترك ما ابتليت به). الإنسان خلق عجولا، فيه عجل، وهذا طبع {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}[10] ماذا يقال لك؟ هل  تترك نفسك على ما أنت فيه من عجل؟! أم تؤمر بالتؤدة والهدوء وعدم التعجل؟ نعم تُؤمر بهذه الأوامر. وهناك خَلْق فيهم الهدوء، هؤلاء أنعم الله عليهم بهذه النعمة كما قال أشج بن عبد القيس: (أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا؟) فالمجبول على الخير لا يمكن أن تكون كل جبلته على الخير، لابد فيه نقاط ضعف.
·       سائلة تسأل: الأم هادئة والأب هادئ، ويأتي طفل مختلف في طبعه، خصوصا الأول، لا تفهم الأم كيف تتعامل معه، فهو يبكي ليلا نهارا.
الجواب: نرشدها أن تتعلق بالله من أجل أن تهدأ نفسيتها في التعامل مع الطفلة. نحن نقول: هذه من البلاءات المكفرات الرافعات للدرجات المسببة لقوة التعلق بالله، فكلٌ منا بلاؤه على قدره، يمر 12 شهر وينتهي الأمر، المهم أن تشعر أن كل مايأتيك في الحياة مكدر ليس لك إلا الله.
نختم مسألة الطباع بما ورد في الحديث: (إن الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم)[11]، فهذا سيسبّب لي الرضا بما قُسِم لي من أخلاق -طبعية- وأبدأ أعالجها.
فالمفروض أن تفكر ما هي نقاط ضعفك، فتقول: (أنا ربي بلاني في نفسي أن لي كذا وكذا من الطباع، مثلا أغضب بسرعة) إذن أبْعِد نفسك عن مواطن الإثارة، ابتعد عن أشخاص استفزازيين مثيرين، و لا تدخل في جدل معهم، عالج نفسك قبل أن يغلبك طبعك، لا يصلح بعد أن تثور وتغضب تقول: (سامحوني فأنا غضوب)، حقوق الخلق تتعلق بك، أنت الذي تعالج نقطة ضعفك.
وهذا عيب موجود في أكثرنا أنه لا يعرف على ماذا طُبع، وإذا ما عرفت على ماذا طُبعت ستتكرر نفس مأساتك، وتدخل هذا العمل ويقول الناس: (هذا مغرور)، تخرج وتدخل للثاني فيقولون: (مغرور)، حتى لما تمارس المسائل العادية تكون مثلا في اجتماع بسيط عائلي، الناس يرونك بهذه الصورة. هل العيب فيهم كلهم؟ أم فيك؟ تقول: (والله لست بمغرور). الجواب: عندك من الطباع الطبعية التي لا ترجمة لها إلا الغرور، فلاحظ نفسك، انظر لنفسك كيف لما تتكلم، تتعامل، تأخذ قرار. هناك مَن يجلس في المجلس طيلة الوقت يقول لك: (أنا وأنا وأنا)، وهو يتكلم بشكل عادي، ولا يفكر أن هذا سيسبّب انطباع لدى الآخرين أن هذا شخص يفكر في نفسه.
·       سائلة تسأل: ورد في الحديث: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)[12] فهل التي يكون فيها صفة ولا تستطيع أن تصبر تخرج من الحديث؟
الجواب: لم أقصد هذا أنا، في الحديث هو يصبر على أذاهم، أما ما نقصده في كلامنا ففي الناس كونهم لا يستطيعون أن يصبروا على أذاه هو.
فأنت خالط الناس، كل الناس للناس مؤذيين، هذه قاعدة لا تنسوها، لماذا؟ لأن هذا له طباع، وهذا له طباع، وأنا لي طباع، ويكون كل شخص في منتهى الأدب لوحده، لكن يذهبون لمكان فيشتبكون، لأن طبع هذا غير طبع هذا وتفكير هذا غير تفكير هذا، فيقال لك: احتك بالناس وأحسن إليهم ولما تأتيك منهم مثيرات اصبر.
·       الأشخاص الذين يعتبروا بالنسبة لي استفزازيين ومثيرين لطبعي السيء، ماذا أفعل معهم؟
أتحاشى أن أحتك بهم احتكاكا يسبّب الإثارة، فهؤلاء ليسوا جلساء صالحين لك، يُخرجون منك أسوأ ما فيك، وأنت المفروض تجلس مع ناس على الأقل لا يُخرِجون منك لا سيء ولا حسن، أما أن أحتك مع ناس لا يُخرجون مني إلا أسوأ شيء!
ثم أن الناس يتلاعبون بمشاعرها ويثيرونها على موضوع معروف رأيها فيه لتنطلق وتتكلم ويخرج من لسانها ما لا يرضي الله ثم يقولون: (نحن إخوان في الله). أهل الدنيا يهون منهم هذا الكلام لكن كيف لما يصدر من مستقيمين يعرفون الحق!
ثم نرجع لوصف موسى عليه السلام مع أخيه وكيف أنه طلب من الله -عز وجل- أن يكون له وزيرا من أهله، لماذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}[13] يعني أحكي لك موقف وأقول: سبحان الله انظر كيف لطف الله بي، وأنت تقول: سبحان الله انظر كيف رزقني الله من حيث لا أحتسب، والثالث يقول: سبحان الله ربي حليم، أنا فعلت كذا وكذا وهو حلم علي. فنجلس طول الوقت في علائقنا لا نذكر إلا ما يزيد تنزيهنا لله، ثم يأتي يوم أقول: أنا مليت من هؤلاء الأبناء! فتقول لي: اذكر الله، أنت مأجور ولا يضيع أجرك عند الله وتربيتك تنفعك. ويأتي يوم العكس، هو يكون هكذا فأذكّره بالله، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}  أما لو كان الناس الذين حولك لا يسبحون الله  ولا يسببون لك التسبيح والذكر فهؤلاء يحتاجون إلى التصبر معهم وخاصة إذا كانوا مفروضين علينا، لكن الصحبة الصالحة هي التي تؤدي لهذان الأمران، وهذان الأمران هما نفسهما معنى حسن الظن بالله وسيكون لنا شاهد في ذلك.
فطباعنا تسبّب أن لا يرى الانسان الشيء إلا سيئا، لا يرى إلا النقص في كل شيء، هذا لابد أن يجاهد طبعه، لابد أن يعيد تأهيل نفسه لو كان كَبُر، ولو صغير أعيدي تأهيله وإرشاده للصواب.
·       سائلة تسأل عن حديث: كل مولود يولد على الفطرة.
الفطرة التي يولد عليها كل الخلق هي الاستعداد للتعاليم الإلهية والعمل المشروع.
كل الناس مع اختلاف طبائعهم لو قلت لهم أن هناك إله واحد يدبر الكون وله هذه الصفات يقبلون مباشرة، خاطِب أي أحد بالتوحيد يقبل مباشرة، ولا يشعر في نفسه إلا أنه يجد أدلة على أن هناك واحد.
إذن الفطرة هي الاستعداد الموجود في النفس للتعاليم الإلهية، ثم قل له أن هذا الملك العظيم الذي أنت عبد له أمرك أن تفعل وتفعل، هو يشعر بالحاجة أن تكون له علاقة بهذا الملك، يشعر بالفرح لو قلت له ستدخل على هذا الملك ستصلي بين يديه ستذكره، فالفطرة مستوية عند الخلق كلهم أما الطباع فكل واحد منا مختلف بطباعه بدليل النصوص: (إن الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم) ثم لما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته، قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، أشدهم في دين  الله عمر، وأكثرهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد)[14] إلى آخر ما وصف صلى الله عليه وسلم، هذا الذي يسمى بالتفاوت والإمكانيات الفردية، المهم أن الفِطَر التي يشترك كل الناس فيها هي الاستعداد للتعاليم الإلهية والعمل المشروع، أما الطباع فمختلفة.
وعلى ذلك ما تفسير النصوص التي تدل على أن الإنسان هلوع جزوع منوع؟ هذه طباع خُلِق بها الإنسان.
الطباع من الأسباب التي تغذي هذه الأمور، يكون طبعه فيه كفران وتَرَك نفسه لطبعه، ولكلٍ منا نصيب في هذا لأن الإنسان خُلِق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، جاء الاستثناء (إِلَّا الْمُصَلِّينَ)، فهذه الطباع تُهذَّب، والصلاة رمز للدين والطاعة والعبادة.
¿    أيضا مما يغذي أسباب نسيان النعم:
المجتمع، المجتمع يحول النعمة إلى نقمة، يُشعِرك أن ليس عندك شيء، ولذلك يقال لك: (قل خيرا أو اصمت) كم من المرات يكون هناك مزاح ليس له داعٍ. تكون ما رأت زميلتها منذ زمن فلما تراها تقول: (أنا لا أراك إلا حاملا!) ما مناسبة هذه الكلمة الآن؟! هذا كلام ليس له داع، وهي تقول: (لذلك لا أريد أن أخرج من البيت)، إلى آخر ما تسمع من كلام امتزجت فيه الأمور، لم نعرف ما حدودنا، ولمّا الشخص لا يعرف ما حدوده يتعدى على حدود الآخرين ويبيّتهم ليالٍ في حزن وألم.
¿    أيضا من الأسباب التي تجعلنا ننسى النعم:
الابتلاءات، تأتي بعض الابتلاءات للإنسان فيمر بحالة من اليأس، يكون عنده نوع بلاء فيؤيسه البلاء من روح الله ويُنسيه باقي النعم. فالدنيا لابد فيها من نقص، فقد محبوب أو ديْن عظيم، إلى آخر أحداث الحياة، تجعل الإنسان ينسى باقي النعم كلها! يقال له: وأنت في المصيبة والبلاء عليك نعم لابد من شكرها، فلا يجد عنده لسانا يشكر! ينسى نعم الله -عز وجل-، وكثيرا ما يخرج من ألستنا -وهذا من الفحش العظيم-: ( لوربنا يأخذ كل شيء لا يهم، الأهم أن هذا الأمر يعتدل) كثيرا من الأحيان ينقص على الإنسان شيء مهم فيقول: ( كل هذا الذي عندي غير مهم، أهم شيء هذا الأمر لو عاد لا مشكلة)، فهذه تركيبة عقلية فاسدة؛ أن كل ما أنعم الله عليك به من نعم لا قيمة له! فقط المفقود تشعر به! فينسى نعم الله! بل وأنت في البلاء لايتخبطك الشيطان ولا يوصلك لليأس {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[15].
فَمَع كثرة البلاءات التي يعيشها الإنسان -والدنيا أصلا أرض بلاء- يسبب له نسيان النعمة، لكن لماذا هذان الوصفان؟ لِم يؤوس كفور؟ لأن الله بعدما أذاقه الرحمة نزعها منه اختبارا، ماذا كان رده؟ يئس، أي ما ظن بالله أن يردها وأمثالها، فتراه في وقت المشكلة لا يظن الانسان أن الله سيفرج عليه ويعطيه مثلها وأضعافها، فلما ييأس من روح الله يكفر بنعم الله التي مضت فيرى الدنيا سوداء، لأنه ينسى ما مضى من النعم وييأس أن الله -عز وجل- يبدله، فأي مستقبل هذا الذي ينظر له؟! يرى أن لا حل.
ونحن الآن للأسف نعاني من حالات كثيرة من الاكتئاب سببها أن الإنسان يمر بأزمة صغيرة أو كبيرة فيعامل المُنعِم سبحانه وتعالى باليأس أو الكفران، ييأس أن يبدله الله خيرا من نعمته هذه ويكفر ما مضى من نعم.
فهذا اليأس والكفر من الإنسان إنما هو معاملة لله بسوء الظن، ما ظن أن الله -عز وجل- يفرج عليه وقريبا. ومن هنا نخرج للكلام حول سوء الظن، لماذا الكفران؟ بسبب سوء الظن، ييأس من رحمة الله فيكفر نعم الله التي مضت، وإذا كفر النعم التي مضت وهو يائس من الله ولا يظن أن الله في مستقبل الأمر يفرج عليه.
·       ما سوء الظن؟
شعور قلبي يعتقد صاحبه فيه أنه لايأتيه من الله خير -هو لا يقول ذلك صراحة فتعبيراته مختلفة- فلا ينتظر إلا الشر. فهذا مسيء الظن بربه، وهذا سوء الظن يستحكم في القلب فيكون لامنفذ للقلب إلا من سوء الظن، وقد يمر كخاطرة، يعني إما قلوب استحكم فيها سوء الظن أو قلوب يمر بها سوء الظن بالله مجرد خاطرة.
-      نبدأ أولا بوصف أفعال هذا سيء الظن:
سيء الظن من جهة الجوارح في حالة تردد، كلما أقدم على مسألة ينتظر الشر قبل الخير، فترى ما في قلبه يؤثر على إقدامه وشجاعته وتصرفاته فتراه مهزوزا، طيلة الوقت يخاف أن يقدم على أي شيء، ويشعر أن وراء كل شيء شر، بل ويفسر كل ما يحدث له على أنه شر، وهذا اسمه في التعامل الشرعي (متشائم).
كما ذكر ابن القيم أن المتشائم لما يسمع (ياسمين) يقول: مادام سمعت هذه الكلمة فلن أجد إلا يأس ومين، ومين تعني فراق وموت، فتتحول هذه الكلمة الجميلة وتدل على معنى جميل من سوء ظنه إلى كلمتين تدل على ما في قلبه.
هذا المثل لتتصور كيف أن ما في القلب ينعكس على تفسير الأحداث، وعلى هذا تراه مترددا خائفا، دائما يخرج من لسانه: (أنا ليس لي حظ، والمنحوس منحوس وإلى آخره). كل هذا لأن في القلب سوء ظن بالله، ولا تنس أن الاسم العظيم الذي يجب أن يكون في القلب هو اسم الرب ليس معروفا كما ينبغي، هذا على اللسان والجوارح تجده شخصا مترددا خائفا، حتى لو ظهر بمظهر الشجاع لكنه من الداخل منتظر للشر.
·       نرى الآن ماذا ينقص هذا السيء الظن من علم؟
هذا المرض يمكن أن يصيب الخلق كلهم، عولجت بأن تردد على نفسك كل يوم وبعد كل الفروض وقبلما تنام وفي أذكار الصباح والمساء تقرأ سورة الإخلاص والفلق والناس، وسأقف عند واحدة من هذه الـثلاثة سور ونتفق ماذا يجب أن يكون في قلوبنا منها، وكيف أننا نرددها كل يوم من أجل أن نصل لهذا المعنى فنقطع عن قلوبنا سوء الظن بالله.
نقف عند سورة الناس، سورة الناس فيها ثلاثة أسماء عليها مدار أسماء الله -عز وجل- كلها:
1.   {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الاسم الأول: الرب.
2.   {مَلِكِ النَّاسِ} الاسم الثاني: الملك.
3.   {إِلَهِ النَّاسِ}[16] الاسم الثالث: الإله ودائما يُشرح مع الله.
كل مرة تقول لنفسك: أنا أستعيذ وألجأ لمن أعتقد أنه ربي وملكي وإلهي –بالترتيب- لأنها بالترتيب في الفهم. الرب: يربيك، ينقلك من حال النقص إلى حال التمام، وهذا الرب هو الملك، أي أن الذي يربيك هو الملك الذي أنت عبد له.
نأتي للصفة التي دائما ينقصنا معايشتها وهي صفة العبودية، كلنا عبيد الله، عبيد للملك، والملك هذا هو يصرّف شؤونك، فانظر كيف لما يظن الإنسان بملك الملوك خيرا، يظن بمالكه خيرا، ماذا ينتظر منه؟ وانظر كيف لما يظن بمالكه شرا، ماذا ينتظر منه؟ الشر. فكأنك كل حين تقول لنفسك: أنا عبد لملك لكن ليس أي ملك!
Ü في رحلة سريعة نتعرف على الملك وعلى أسمائه كما وصف نفسه في كتابه.
سأختار موطنًا مشهورًا، دائما يُردّد على الناس وهو موطن سورة الحشر، ماذا يقول الله -عز وجل- في وصف نفسه الملك؟ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} لابد أن تعرف أولا أنه سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الله الملك، لأن في الإعراب الملك بدل من الله، أي أن الله هو الملك والملك هو الله، ويأتي بعد الملك {الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}[17] سبع صفات للملك، من أجل ذلك كان الإعراب مفيدًا في الفهم، فنحن نقول: الملك بدل من الله، يعني الله هو الملك والملك هو الله، وما بعدها من أسماء هي صفات للملك، وبهذا الإعراب نفهم المسألة.
à فما وصْف الملك الذي أنت عبد له؟ كل اسم من هذه الأسماء له أثر في فهمك لعبوديتك لله -عز وجل-.
1.   قدوس: أي منزه عن كل صفات النقص. إذا كان كل صفات النقص هو منزه عنها أي منفية عنه فإذن ليس له إلا صفات الكمال، فأنا عبد لملك موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. وأنتم تعلمون أن الأفعال تأتي من الصفات، وأنك من الأفعال تعرف الصفات، بمعنى: كيف عرفت أن جارك كريم؟ خَرَجَت له أفعال كرم فعرفت أنه كريم.
إذن لما يكون الموصوف الذي تصفه موصوفا بصفات الكمال فماذا تنتظر من أحد موصوف بالكمال فقط؟ تنتظر منه أفعال الكمال. فأنت عبد لملك ليس له إلا صفات كمال، كل صفات النقص منزه عنها. فإذا كنت عبدا لملك كل صفات النقص منزه عنها إذن سيعاملك بصفاته، وصفاته كلها صفات كمال، إذن هل تنتظر من ملك منزه عن النقص ليس له إلا صفات كمال، هل تنتظر منه شرا؟! كيف؟! ليس له إلا صفات الكمال.
2.   ثم أن هذا الملك العظيم الرب الكريم موصوف بأنه سلام، وهذا الاسم بالذات لا تكتفي بأن يشير عقلك إليه ضمن اسم الملك، لأني المفروض لما أقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} كلما قلت ملك الناس أتذكر صفات الملك، لكن لا تكتفي حتى في اسم السلام أن تتذكره ضمن اسم الملك، فهو لوحده أُفرد، فأنت بعد الصلاة تقول: (اللهم! أنت السلام ومنك السلام)[18] لتذكّر نفسك بهذا الأمر العظيم.
·       فما معنى السلام؟
أما معنى السلام فيطول شرحه وهو كما يقول أهل العلم من الأسماء الجامعة، يدخل تحت اسم السلام الحياة كلها، لكن بكلام مختصر سأقولها في كلمتين: السلام يعني أن الله -عز وجل- صفات كماله سالمة من النقص، وهو سبحانه وتعالى مسلّم لعباده من الشرور والظلم.
أما المعنى الأول وهو أنه سبحانه وتعالى صفات كماله سالمة من النقص فسنضرب مثلا على الخلق، القاضي وُصِف بالعدل، ماذا تنتظر منه؟ العدل، لكنه بشر، ففي 100 قضية يصيب في 95 أو 96 و 5 قضايا لا يُوفّق أو يُسدد فيها، وهذا على بشريته، فصفة الكمال التي عنده وهي العدل ليست سالمة من النقص، لكن لما تأتي لصفات الرب الملك سبحانه وتعالى،كل صفاته سالمة من النقص، فأنت عبد لملك اجتمعت له صفات الكمال وسَلِمَت صفات كماله من النقص.
فيجمع الإنسان الذي أعظّمه ولو في التاريخ بين أمرين: صفات نقص وصفات كمال، ثم أن صفات كماله ليست سالمة من النقص، وإنما جُمع للخلق في كل صفاتهم بين الصفة وضدها، فإذا كان هذا مثلا عبد حي وله قوة وقدرة، يأتي النوم فيفقده قدرته، فبرغم أنه قوي وشجاع لكن يأتي النوم فيقطع عليه هذه القدرة. شاب في مقتبل العمر يأتي الموت يقطع عليه شبابه، وهذا من أحسن ما قيل في شرح قوله تعالى في سورة الفجر: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }[19]، يقول أهل العلم أن الله -عز وجل- جمع في الخلق كلهم الصفات المتناقضة، أي أن فيهم قوة وضعف، فيهم حياة وموت، فيهم يقظة ونوم، صفاتك كلها شفع، أي: صفة كمال وضدها، في مقابل أن الله -عز وجل- وتر ليس له إلا صفات الكمال، كل صفات الله -عز وجل- صفات كمال، وابتلى الخلق بصفات الكمال والنقص ليعرفوا حجمهم، فأنت عبد لملك قدوس وسلام. قدوس أي كل صفات النقص منزه عنها سبحانه وتعالى، ليس له إلا صفات الكمال، ثم أن كماله هذا سبحانه وتعالى سالم من كل النقص فهو مسلّم لعباده، لكن العباد لا يدركون تسليمه سبحانه وتعالى لهم.
3.   ثم هذا الملك العظيم الرب الكريم الموصوف بكمال الصفات مؤمن، فهو مؤمّن للخلق ما يخافون، مؤمنٌ مصدق لهم ما وعدهم، فلك أن تتصور كيف لما يكون لك ملك كل وعد وعدك إياه خاصة لك لابد أن يَنْفَذ، يقول لكم: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، وأنت تعرف أنه ملك ومؤمن مصدّق لخلقه ما وعدهم، مادام وعدك أنك لو شكرت سيزيدك، اشكر فقط وسترى وعود الملك!
ومَرّ معنا سابقا كلام ابن عباس –رضي الله عنه-، يقول: لو انطبقت السماء على الأرض لوجد المتقي له أبوابا لأن الله -عز وجل- يقول {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[20]. هذا وعد الله! ولو انطبقت السماء على الأرض ستخرج ستخرج لأن المؤمن إذا وعدك لا يخلف وعده. فالمعنى أنك تحتاج أن تعرف مَن هو الملك الذي أنت عبد له ليبقى في قلبك حسن ظن به.
4.   المهيمن: الملك العظيم الرب الكريم كل شيء بيده، على كل شيء مهيمن، بل إن السماوات والأرض وهذا الفلك العظيم الذي يقولون لك عنه كل يوم أن درب التبانة جزء من دروب عظيمة، كله في يده كخردلة في يمين أحدكم! تام القدرة عليه سبحانه وتعالى، مهيمن يمسك السماء أن تقع على الأرض، يجري الفلك في البحر، يحفظ الأرض من أن تتزلزل وإذا شاء فتزلزت في دقيقتين تختفي دولة!
وقد رأينا وسمعنا وهذه لم تكن أول حادثة، لما حدث إعصار هاييتي وكان في 30 ثانية تساوي طرفة عين فتسقط دولة! لماذا؟ لأن المُلْك ملكه والأمر أمره وكل شيء بيده. فتصور أنك عبد لملك يمسك السماء أن تقع على الأرض، يجري الفلك في البحر، وإن شاء أوقفهم جميعا!
المهيمن سبحانه وتعالى على كل شيء قائم، وهذا اسم القيوم، فتصور هذه الشمس العظيمة لا تشرق في أرض أحد إلا لما تذهب للعرش فتسجد فيأذن الله لها. كل نبضة في قلبك لا تنبض إلا بأمره، مهيمن على الكون كله، وأنت يا عبد من هذا الكون بل أضعف ما في الكون! لا نبضة تنبض إلا بإذنه ولا نفس تأخذه إلا بإذنه. والجلطة القلبية التي بمقدار 2 ملم مثل رأس الدبوس، مَن يأمر الدم فيتجلط؟ القائم على سيلانه، وهذا الذي عنده كذا في قلبه وكذا في كبده وكذا في كليته، مَن الذي أحدث هذا ومنع هذا وأعطى هذا؟! المهيمن المسيطر على كل شيء.
فمن الفخر أن تكون عبدا لملك هذه صفاته، لكن المهيمن كيف يفعل في خَلْقِه؟ على كمال صفاته، يعني قيل لك: مع أن كل شيء بيده ومع أن الأمر أمره وأمره نافذ لأنه عزيز سبحانه وتعالى لكن مع ذلك لا يأمر إلا بما فيه منفعة للخلق لأنه كامل الصفات.
5.   عزيز أمره نافذ، تخيل سهام الليل، تقف بين يدي الرب وتسأله إصلاحا للقلب أو الأبناء أو الحال أو للبلاد والعباد وهو العزيز، لم تقف عند باب أي أحد يحتاج كذا وكذا ليفعل! بل ذهبت مباشرة للملك الذي يملك كل شيء وهو مهيمن على كل شيء وهو عزيز أمره نافذ، فتصور لما تطلب العزيز الذي أمره نافذ ولا راد لقضائه، سينفذ قضاؤه ولابد! لكن لما تفهم نفاذ قضائه ضع بين عينيك سورة يوسف وكيف قال أهل العلم أن بين رؤية يوسف وتحققها أقل شيء 35 عاما، والله -عز وجل- يقول في سورة يوسف: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[21] هنا علة العلل، هنا سوء الظن يأتي، يقول: دعوت ولم يستجب لي. نقول: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)، ألم تسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى)[22]. لا تظن أنك ستقف عند باب أحد غير الله وينفعك، حسبي الله وكفى، ثم لما يدعو: سمع الله لمن دعا، وإذا دعيت: فليس وراء الله مرمى، لأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز، أمره نافذ ولابد، لاراد لقضائه، لكن علة العلل (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
6.   ثم أن هذا الملك العظيم الرب الكريم جبار يجبر قلوب المنكسرين، وكم من قلوب منكسرة لا يجبرها إلا الله -عز وجل-، ونحن تاركون لهذه العبادة: عبادة توحيد الله بطلب الجبر، لا تطلب جابرا لقلبك إلا إياه، أليس الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط ولا يصبر على أذاهم؟ لكن أذاهم يكسر قلبي؟! عندك ربّ جبار، اطلبه يجبر قلبك، ولا تطلب الجبر من غيره لأن كل جابر غيره على الحقيقة كاسر أكثر! لأنه اليوم يجاملك ويطبطب عليك وغدا يجاملك ويطبطب عليك وبعده يجاملك ويطبطب عليك ثم إذا اتصلت عليه لا يرد عليك! مَلّ! يقول: إلى متى تعيدون نفس القصة؟! لكن لما تسجد بين يدي الملك وتعيد نفس الكلام والطلب وهو يرفعك درجات ويسمع صوتك وتعرفك الملائكة وتُذكر فيمن عنده، ثم يقضي أمره في غاية من اللطف في الوقت المناسب الذي ينفع كل الناس في هذه المسألة وأنت غافل عن حكمته.
ثم أن هذا الجبار كما يجبر القلوب المنكسرة فهو يقصم الجبارين، كأنه يقال لك: لا تحمل هَمًا، كل الذين تراهم جبارين سيقصمهم الملك العظيم
7.   ثم أن هذا الملك العظيم متكبر عن كل أحد، متعال متعاظم لا حاجة له عند هؤلاء الخلق برغم عطائه، وبرغم أنه يسمع دعاءهم ويلبي نداءهم ويستجيب لهم، ومع ذلك فهو متكبر متعال غني عن الخلق كلهم. ولا تظن أنك تنفع ربك بأي شيء من الطاعات والعبادات، بل هو عنك غني وأنت إليه فقير.
ومن تمام تكبره وتعاظمه: أن لو أهل الأرض كلهم عصوه لا ينقص هذا في ملكه أبدا، لا يضره أبدا، مَن هذا العبد الذي نفع ربه وأعطى ربه شيئا؟! بل كلنا إليه فقراء سبحانه وتعالى. فانظر لملكٍ عبوديته تزيدك شرفا، وتفهم من هذا أن المعتز بعبودية هذا الملك لابد أن تنفعه عزته، وفي ذلك يقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وتيهاً       ***     وكدت بأخمصي أطأ الثريا
                دخولي تحت قولك يا عبادي      ***      وأن صيّرت أحمد لي نبياً
هذا يسبب العزة، أن لا أحد يقربني، أنا عبد لملك أسجد بين يديه، أدعوه وأسأله فيحفظني ويرد عني كل ما يمكن من شرور. منكم لا أخاف، ليس عندي قلق، مثلما خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ)[23] وإذا ضررت بشيء قد كتبه الله فأنا أعلم أن الرحمة في داخله. فانظر إلى عزة عبد كان حقا عبدا لملك عظيم، هذا الذي ينقصنا.
وبعد هذا الكلام كله كيف يمكن أن يمر على خاطرك أن الملك العظيم يمكن أن يأتي منه شر؟! لا يأتي من ملك هذا وصفه إلا كل خير، لكن انظر لأي درجة ضعف معرفتنا به سبّب لنا أن نرى الخير العظيم شرا، ثم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى فَلْيَظُنَّ بِى مَا شَاءَ)[24] ظُنّ فيه خيرا سيأتيك خيرا، لما تظن به شرًا سيأتيك نفس الأحداث لكن لن تحصل من وراء نفس الأحداث إلا شرا لأن الذي في قلبنا يصبغ الأحداث حولنا!.
لازلنا نتكلم عن حسن الظن بالله هذه العبادة التي لا تنفك عن العبد أبدا، وهي قاعدة الشكر، فالشاكر الذي ليس بكافر لابد أن يحمل في قلبه لربه حسن الظن به، واتفقنا ماذا يجب أن أتعلم عن الله ويكون هذا العلم في قلبي من أجل أن أستطيع أن أحقق حسن الظن.
أرأيت الأسماء التي تكررها هذه الأسماء تحتاج لفهمها بعمق لتأتي عبادة حسن الظن، واخترنا من بين هذه الأسماء اسم الملك الذي بيده كل شيء سبحانه وتعالى، واتفقنا أننا نتعرف على هذا الملك العظيم من خلال كلامه، واخترنا آية الحشر، وعرفنا أن الملك الذي نحن عبيد له ويقدر لنا الأقدار ويربينا وصْفُهُ أنه قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر. وفي موطن آخر الملك سبحانه وتعالى في سورة الجمعة وصف نفسه بأنه الملك القدوس العزيز الحكيم، فأضيف لصفات الملك السبعة أنه حكيم، وهذا الوصف للملك مناسب جدا لمسألة حسن الظن لأن الذي يسبب سوء الظن أنك تنظر إلى ظواهر المسائل.
النظر لظواهر المسائل قد تجعل العبد يرى الخير شرا والرحمة نقمة! لكن لما تعرف أن لك رب وهو الملك الذي عرفت وصوفاته، وأن هذا الملك حكيم أي يجري عليك من الأقدار التي لابد في نهايتها أن تكون خيرا، وحكمته سبحانه وتعالى البالغة لا يمكن أن يبلغها عقل لكن معرفتك به هي التي تسبب لك أن تعتقد أن وراء هذه الصورة خير.
ولو نظرنا لكثير من الأقدار التي تجري علينا بعقلنا البشري نراها في أولها شرا، ثم تجري الأقدار وترى وراءها الخير! الرب سبحانه وتعالى له سنن في معاملة خلقه. كم عمرك؟ 30؟ 40؟ 50؟ في هذا العمر من المؤكد مرت عليك أحداث رأيت في أولها شر، ثم رأيت الخير فيها، فذاكرتك مليئة بالأحداث لو حاولت تتذكر، وأكيد أنك عرفت ربك لكن بعد هذه المعرفة الطويلة من التجارب ما الذي يجعلنا كأننا لازلنا أطفالًا في المهد لا خبرة لنا بربنا؟! أننا ننسى، ليست لنا ذاكرة تسبب لنا حسن الظن، كم من المرات مررنا بمواقف صورتها الأولى شر ثم أتى وراءها الخير العظيم؟.
ثم أن ربك الكريم الملك العظيم يقول لك في وصف نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}[25]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[26]. يقول لك في وصف نفسه أنه حكيم، أي يضع كل شيء في موضعه. فالأحداث التي تمر عليك بتفاصيلها خير كثير وبركة عظيمة، لكن لا تنس أن الدنيا ليست غاية والغاية الحقيقية هي الآخرة، كل شيء تفقده في الدنيا ليس حسرة، الحسرة الحقيقية أن تفقد ظل الرحمن وقتما الناس تحرقهم الشمس حرقا! الحسرة الحقيقية أن تأتي لا عمل لك لرب كريم وصْفُه أنه شكور يعطي على العمل القليل الأجر الكثير وأنت حتى هذا العمل القليل ما حصّلته! الحسرة الحقيقية لما يُنادى أهل الإيمان أن ادخلوا للجنان ولا تكون من هؤلاء! هذه هي الحسرة الحقيقية.
وهذه الحسرات لما تَعْظُم في العقل ويشعر الانسان أنها حقا حسرة، لما تفهم أن هذه الحسرات وأن ربك حكيم تفهم أن الذي يجرِي عليك من الأقدار لتنجو في الآخرة والدنيا، لكن أرجع مرة أخرى أقول أن الآخرة ليست مهمة عند كثيرين، لذلك لما نقول لك: (لا يُجري عليك إلا ما يرفعك) تقول: (اجعل الآخرة للآخرة فأنا تفكيري هنا!). من أجل ذلك كان الإيمان باليوم الآخر سبب للاستقرار النفسي، وأن ليس كل شيء أحصّله في النصف الأول من الحياة، هناك نصف ثانٍ وهو الأهم أحصّل فيه الخيرات، والحكيم سبحانه وتعالى يدفعك بالأقدار للربح في كلا النصفين، في الدنيا والآخرة، يعني كل الأقدار التي تجري عليك فيها مصلحة ستجدها في الآخرة والدنيا، والدنيا في تفكيرك قبل الآخرة.
à كيف أدفع نفسي لحسن الظن:
غلّب شأن الآخرة على الدنيا وقل: انظر هذا القدر الذي كله آلام، سيرفعني عنده لما أتعامل معه كما ينبغي، وأن كل تفاصيل الآلام فخير، فلا يأتي من الملك العظيم إلا خير، من رب كريم لا يأتي إلا الخير، وأنت ترى الضيق وتقول: خير، وتقول أن التفكير ليس هنا، وهذه كلها مضائق لا قيمة لها، ومهما كان هنا وحشة لازال يوجد أنس لكن أفكر لما أقبر وحدي، وهذا الذي يحصل من ضيق وراءه خير على الأقل يكون أنيسا لي في قبري، سيكون شافعا لي لما أقف بين يدي الله -عز وجل-.
تعلقك بالآخرة وفهمك لها سيعكس على نفسك حسن الظن. بعد قليل وقليل جدا سترى آثار الحدث الذي عشته وفيه ضيق، سترى كيف يأتي من ورائه الخير في الدنيا قبل الآخرة، لكن أقول لك وأنت وسط الحدث وترى ضيقه وضبابيته وأن آلاما موجودة فيه، اجمع قلبك وقل أن الذي يعاملني ملك عظيم رب كريم ليس له إلا كمال الصفات، فمن حكمته أن ينقص علي هذا. إذا لم ترى أي حكمة في الدنيا فلما تعامل هذا الحدث كما يحب الله سترى آثاره من عند لحظة القبض في أنك تُثبّت إلى وقت الحشر لما تلقى ربك وفي الوسط في هذه الحياة البرزخية.
لما تسمع كلمة الموت لا تظن أن الناس في قبورهم لا حياة لهم، فالناس ينتقلوا من نوع حياة لنوع حياة، من حياة يستأنسون بها مع الخلق إلى حياة لا يؤنسهم فيها إلا عملهم، وأنت في الحالتين حَيّ، لكن هذه حياة فيها مَن يؤنسك ومعك ما تأكل به وتشرب وتنام، وهناك حياة لا أنيس فيها إلا العمل الصالح وأكلك وشربك من جنات النعيم -نسأل الله من فضله-.
وأنت مررت بحياة ليست مثل هذه الحياة، ألم تكن في بطن أمك تأكل وتشرب بصورة لا يدركها الناس؟ ألم تكن حيا في بطن أمك؟ نعم عشت هذا وكنت منفردا ولم تبحث عن الأنس وليس من حاجاتك، ثم خرجت فكانت من حاجاتك الأنس واستأنست بالخلق، ثم ستخرج من هنا فتعيش وحدك لا يؤنسك إلا عملك الصالح، فمادام هذه حياة وسأقْدِم عليها ولابد أتزود لها فاجعل ما يجري عليك من أقدار سببا للزاد في هذه الحياة من عند القبض؛ من عند ما تبشرك الملائكة برب راض غير غضبان إلى أن تلقى هذا الرب فتكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، استعد لهذه الحياة، ليس فقط الاستعداد بالصلاة والصوم، هذا جزء مهم لكنه مبني على أنه كلما يعاملك الملك العظيم بمعاملة تقول: والله أقسم بالله أن وراء هذه المعاملة خير عظيم لكن عقلي ضعيف لا يدركها، فيقولون: أين؟ لا نرى شيئا! نقول: أقل شيء أن الكربة التي أعيشها أكيد أنها ستفرج علي كربة من كرب الآخرة يعيشها القوم وأنا لا أعيشها. ألا يأتي  يوم القيامة فيتمنى أهل العافية لو نشروا بالمناشير لما رأوا من منزلة أهل البلاء؟! تلك الحياة الحقيقية، تلك الأماني لما تكون فيها ولا تتحقق تصبح حسرة عدم تحققها، فانظر لمحسن الظن الذي يعرف الملك العظيم وكمال صفاته يقسم وهو في الضيق أن فرجا آتي، أن مع العسر يسرا أن مع العسر يسرا، لماذا؟ لأنه يعرف مَن ربه، ويقول أن هذه الدقائق والساعات والسنوات وراءها خير كثير، ثم بعدها في الدنيا قبل الآخرة سأرى الفرج.
ألم يدخل يوسف عليه السلام وهو كريم على ربه من الجب للعبودية للسجن؟! وهذا كله في الدنيا، إلى المُلك! ولما عاش المُلك عاشه وقد نسي ما مضى، فالآلام تُنسى وهذا من تمام رحمته وحكمته، وتبقى الأجور على الصبر على الآلام، ولو ما كانت تُنسى ما كان عاش الإنسان بعد كثير من الآلام عاشها، لكن عندك عدو يهيّج فيك اليأس والآلام! عدو من شياطين الإنس والجن، يجلسون معك ويقولون: (كنا وعشنا) وكلما تكلمنا أَثَرْنَا أنفسنا على قضاء الله -عز وجل- وقدره.
المقصد الآن من أجل أن يظهر إيمانك الحقيقي بصفات الملك العظيم ومن أعظمها صفة الحكمة لابد أن يكون موقفك في أول البلاء -والموفّق مَن يوفقه الله- أن تنظر بنظر مَن يعرف مَن دبر هذا الأمر. لو كنت تعرفه فآخر هذا البلاء فرج والفرج قريب.
هذا الإيمان يسبب لك حسن الظن به، فإذا أحسنت الظن به آلامك ستنخفض وتبدأ تشعر بما يجب الشكر عليه، وتقول: لو ما عشت هذه المواقف ما كنت عرفت كذا وكذا. مثلا: شخص عاش الخوف في موقف أو آخر، كربة مرت عليه وعاش فيها الخوف، بعد هذا الخوف يقرأ في كتاب الله -عز وجل- أو في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسمع عن المخاوف يوم القيامة وهو قد عاش جزءا من الخوف فيقول: إذا كان خوف في الدنيا وكان قلبي مخلوعا وقدماي لا تحملاني فكيف مخاوف الآخرة! لابد أن أبحث عما يرد مخاوف الآخرة. فانظر كيف الرب العظيم يربيك ويكرمك بهذه المضائق التي تحصل لك.
à  ماذا الذي يجعلني أنسى الأحداث التي رأيت فيها فرج الله؟ هل هذا نقص إيمان؟.
في الوسط اتفقنا أن ذاكرتنا في فرج الله ضعيفة مع أننا عشناها كثيرًا في الصغير والكبير، ما الذي يجعلنا ننسى؟ هي بالضبط أسباب نسيان النعم.
الفرج الذي عشته عبارة عن نعمة، قد يكون الفرج الذي خرجت له ما شعرت أصلا أنه فرج، ولو شعرت أنه فرج فعندي أسباب لنسيان النعمة من بينها الانشغال بالدنيا وتفاصيلها مما يسبب للإنسان أن ينسى كثيرا من عطايا الله -عز وجل-. قُل لي: ما الذي يجعلني أبقى ذاكرا لتفريج الله؟ الذي يجعلك ذاكرا لتفريج الله أن تستعمل {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[27] وسأضرب لك مثالا: هذا المستشفى كنت فيها ومرضت وسخر الله لي طبييا وتعالجت، وأتذكر الآلام، فلما أحكيها لأولادي أقول: هذا المستشفى كان فيها طبيب ليس مثله، فتجد أننا نثني على أحد غير الله! قد مرت الأيام فلا تقول: (مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله)[28] لأننا شكرناه وانتهينا، بقيت الذاكرة التي في عقلك ما هي؟! السؤال هنا، هل تفهم اسم الأول والآخر؟ لأنه الذي يشكّل لك إعادة النعم لمكانها وصاحب الأسباب.
الحاصل أن كثيرا من النعم تمر فيحمد الله باللسان ولا يستقر في القلب نسبتها إلى الله، تمر كما يمر أي شيء ولا تحدّث عن الله بالثناء لدرجة أننا نقول: لابد أن نذكّر أنفسنا دائما أنه في هذا الموطن فرج الله عليّ، في هذا المكان أخرجني الله من الأزمة، تبقى تردد هذا الكلام على نفسك، لا تتحدث عن فلان وعلان! المشكلة ستدور مرة أخرى في نسياننا لنعم الله -عز وجل-.
 من الأسماء التي تضيفها للملك العظيم أنه حكيم، فمن أجل أن تحسن الظن وتكون من الشاكرين على نعمائه لابد أن تفهم أن ظواهر المسائل ليست حكما عليها، فكم أخذ الله بأيدينا إلى الفلاح ونحن نظن أن هذا الأخذ إلى الخسار! ونحن مثل الطفل الصغير الذي لا يدرك حقيقة مسألته.
سأضرب لك مثالا بحياتنا لتتصور كيف لما يعامل الكبير الصغير وكيف نحن نعامل ربنا، كثيرا ما تخرج الأم أو الأب ولا يريد ولده يراه وهو خارج، الشاهد أن ابنتي رأتني وأنا خارجة وأمسكت بي مصرة أن تخرج، فسآخذها معي، أقول لها: (تعالي أغير لك ملابسك لنخرج). باب الخروج في جهة وغرفتها في جهة، فحتى أخرجها أرجعها غرفتها، وهي تبكي بكل صوتها: (لماذا؟! من هنا الخروج). وأنا أصر وأقول لها: (لماذا تبكين؟ أنا سأخرجك) وهي لا تفهم! بعدما يلبس ويخرج تخرج الابتسامة على شفتيه ويوقف الصراخ. ونحن نقول: صحيح أني في الصورة الظاهرة كنت أأخذك عكس الطريق لكن ما أخذتك عكس الطريق إلا لأخرجك في أحسن حال! هذا الطفل الصغير ما الذي ينقصه؟ أن يعرف أنني حقا أريد مصلحته، فنقْص هذا المفهوم جعله يبكي بكل صوته ويظن بي سوءا ويظنني أخادعه ويعتقد بي شرا لأنه لا يعرف أني حقا أريد الخير له! كم من المرات أخذتنا أقدار الله لما في ظاهره عكس الطريق وهي في حقيقتها لتصل الطريق وأنت في أحسن حال؟.
وها هو اللطيف الخبير ينقل يوسف عليه السلام من بلاد لبلاد ويخرجه وهو في أحسن حال. سأأخذ موقفًا واحدًا من القصة الطويلة: ألم يوصي يوسف عليه السلام صاحب الرؤيا قائلا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}[29]، فأنساه الله. ما بها الدنيا تضيق بهذه الصورة حتى الذي وصاه لم يتذكر؟! لا، هذا ضيقٌ إلى فرج عظيم! وانظر الفارق الشاسع بين أن يخرج يوسف على يد هذا الشافع الذي هو سجين مثله وكيف سيترجى الملك أن شخصا طيبا في السجن فأخرجوه، وبين أن يخرج يوسف عليه السلام وهو عزيز له الكرامة وله فضل على الملك. أي مخرج كان خيرًا له؟ صحيح لبث في السجن بضع سنين لكن هذه البضع كانت تساوي المُلك! فانظر للملك الحكيم.
قد تقول: يمكن أن أصل لهذا كله بدون هذه الأزمة. نقول: كيف؟! ألا تعلم أن الدنيا جبلت على الشقاء لتأتيك اللحظة في الآخرة التي لا عمل ولا تعب إنما يحصل الناس منازلهم على قدر جهدهم هنا، والدنيا دار ابتلاء، وإذا كان خَلَقَها الله لهذا الأمر ووعدك أنك لو استقمت ستحصل الخير الكثير فاستقم لتحصل من ورائها المنازل العالية. هل الاستقامة يسيرة؟ لا، لابد تمر بتعرجات وأنت متمسك بالطريق، والذي يثبتك في الطريق معرفتك له سبحانه وتعالى، فكلما عرفته تيقنت والله كما أن بعد اليوم ستغرب الشمس ويأتي غدا مثله بل أيقن منه أن فرج الله قريب! وأنه سيأتي من وراء هذا الفرج الخير الكثير، لكن {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[30] لا تتسرع في مشاعرك فتيأس وتكفر بنعمة الله ويقع في قلبك سوء الظن به، ومن جهة أخرى لا تتصرف خلاف ما يحب الله.
وهذه الصعوبة: أن ترى ضبابا أو صورة مسيئة ثم تصبر وتقول: والله وراءها الخير الكثير، فيكون الصبر سببًا لانكشاف الضر، فحسن الظن يكون وأنا وأضع قدمي في أول الصورة فأقول: والله خلف هذا البلاء خير كثير، وليس بعد أن ينتهي الموضوع وتنكشف الخيرات أقول: أنا مريت بشيء جيد! هذا التحديث بالنعمة، أما حسن الظن فيكون في البداية والدنيا ضائقة والرؤية معتمة وأنت في الخارج وترى القدر فتقول: والله لا يأتي من ورائه إلا خير فهو تدبير من رب حكيم، أهم شيء وأنت ماش في الطريق تستقيم.
ماذا لو ما استقمت؟! مع عدم استقامتك سيأتيك أثر عدم استقامتك وإن عاملك باسمه الحليم لكن يأتي لك بعض آثارها، وحتى هذا ابنيه على حسن الظن لأن كون الله يذيقك بعض آثار عدم استقامتك فيسبب لك الاستقامة ويخفف عنك الجزاء يوم القيامة فهذا بنفسه نوع رحمة، فحتى لو تألمت من معاملته لك بالعدل لأن الله يعامل عباده بالعدل والفضل، العدل بأن يتجاوز عن أخطائهم، والفضل بأن يعطيهم على قدر ما فعلوا.
لو نظرت لمعاملة الله -عز وجل- بالفضل أو بالعدل، في الاثنين تحسن الظن به، فأين العلة؟ العلة أننا لا نعرف الملك الذي نحن عبيد له، لا نعرف الرب الذي أوجدنا وأمدنا وأسعدنا ولذلك لا تجد في قلوبنا الإله، ذاك الإله المحبوب المعظم الذي لا تمر خاطرة على عقولنا تقول أن يأتي منه شر، فالرب الذي أوجدك وأعدك وأمدك والملك الذي يصرّفك كامل الصفات هو إلهك الذي تحبه وتنتظر منه كل خير، وإن مرَّت بك أزمات أو ضاقت عليك الدنيا فهو وحده مفزعك وملجؤك وهو الذي تستخيره فيدُلَّك ماذا تتصرف، وهو الذي تقف بين يديه فيعطيك من الخيرات وانشراح الصدر ما لا يستطيع كل الخلق أن يعطوك اياه، فهذا كله مبني على أن تعرف أنت عبد لأي ملك.
راجع نفسك: ماذا تعرف عن الصمد الذي تفزع إليه القلوب في كل حال؟ ماذا تعرف عن الواحد سبحانه وتعالى؟ في آية الكرسي ماذا تعرف عن الحي القيوم، عن العلي العظيم؟ كل هذه نقاط ضعف تسبب في نهاية الأمر أن أقل مشكلة يصبح الإنسان فيها يؤوس من ربه مالك الملك، كفور بما أنعم عليه.
فانظر لعبادة حسن الظن كيف لا تنفك عن العبد، وحسن الظن وسوءه ليس فيما يخصنا فقط بل فيما يخص غيرنا، فأحيانا أقف أمام شخص وُلِد وهو معاق فيمرر الشيطان في عقلي: لماذا يا ربنا تفعل به كذا؟! فهذا سوء ظن، وتقول لي: (لكن أجبني، لماذا يفعل به ربنا كذا؟) لن أجيب! لأن الملك العظيم الرب الكريم الذي صفاته كمال وراء كل أفعاله حكمة، لكن العقل الصغير لا يمكن أن يدرك ولا حتى اليسير من حكمته! فلما تكون معظّمًا الله حق تعظيمه ليس لك إلا حسن الظن به، وانتظار الخير منه.
حسن الظن هذا سيسبب الشكر على الأحوال كلها، فلماذا لا يوجد شكر؟ لأنه لا يوجد حسن ظن. لماذا لا يوجد حسن ظن؟ لأننا نجهل بربنا، نعرف توافه الأمور ولا نعرف ربنا! ولذلك لام الله الخلق لما يعرفون ظاهرا من الحياة الدنيا كما قال تعالى في سورة الروم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[31].
لما أتى زلزال تسونامي الأول لأندونيسيا كنا نقول أن هذا أمر الله وقدره، والله حكيم، ولا شيء كان سيرده، وكانوا يقولون: (لو كانت هناك مقاييس للزلزال البحري كانوا استطاعوا أن ينقذوا الناس ويفعلوا ويفعلوا). 3 سنوات أو أقل، من تسونامي ذاك إلى تسونامي الذي أتى بعده!  كل ما تتصور من أدوات حديثة موجوده ومع ذلك في أقل من دقيقتين تكاد تختفي دولة! لأن أمام الملِك لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا،ومع هذا لازلت تجد أن الله يعامل الخلق بالحلم، ولازال لما ينظرون لقدرته وعظيم سلطانه يكلمونك عن الدنيا وأهلها ويناقشونك عن التفاصيل بشيء من القصور! إذن لماذا لم تنفعهم أدواتهم؟! لأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء. أترى كل هذه الأسباب؟ من عظيم نعمائه.
-      مَن الذي قبل: الله أم الأسباب؟
الذي سبّب الأسباب هو الله، والذي ينفعك بها الله.
فإذن لما يريد الله أن ينفعك بالسبب ينفعك، ولما يريد أن يعطل عليك السبب يكون بين يديك ولا تنتفع به! هؤلاء قوم إبراهيم وها هي النار وهذه إرادة الإحراق، وادٍ كله جمر مشتعل ومن حرارته لا يستطيعون أن يقتربوا ويرموا إبراهيم، ورموه بالمنجنيق من مكان بعيد وألقوه في الوادي، فهذه النار التي هي سبب للإحراق يعطلها الأول الذي سبّب الإحراق فيها ويجعل هذه النار بردا وسلاما، لماذا؟ لأن الذي أعطى الأسباب هو الأول، والذي ينفع بها ويعطي نتائجها هو الآخر، فمهما كانت الأسباب بين يديك فلن تنفعك إلا بأمره، فأحسن الظن بالله.
الذي ابتلاك سيعطيك من أسباب الخروج ما لا يمر على خاطرك، هو مالك الأسباب، وستأتي أحداث وأوضاع لا تملكها وتخرج من الأزمة، فقف عند باب رب الأسباب واسأله أن يسبب لك أسباب الفرج، ولما تقف بين يديه اشكره أنه مع سلطانه وعظمته وتكبره واستغنائه فتح لك بابه خمس مرات في الصلاة، وليس فقط، هناك موعد خاص في ثلث الليل الأخير يقترب منك سبحانه وتعالى وهو القريب العالي، العظيم في ملكه، ويقول لك: ألك حاجة؟ يناديك وهو المستغني عنك: هل من سائل فأعطيه؟ هذا بنفسه يحتاج لعبادة شكر متصلة.
لو قال لك أحد: الشهر القادم عندك موعد مع الملك. ماذا يحدث في النفس من الفرح؟ فكيف لما يقال لك: ستلقى الملك خمس مرات في اليوم؟ لكن {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[32]؟ لماذا لا يوجد هذا التعظيم؟ ضعف الإيمان بالغيب سبّب كل هذه السلسلة من ضعف الشكر، فالصلاة لوحدها تحتاج عبادة شكر طويلة أن فتح لك الباب وجعلك تسجد بين يديه وتطلب ما تريد وهو الملك المهيمن العزيز الجبار، في أي وقت تطلب هذا هو الباب مفتوح، فالعبد كلما اقترب وعرف ربه كلما ابتلي توحيده: هل أنت لواحد أم مشتت فيك شركاء متشاكسون؟.
أسأل الله أن يجعلنا لواحد، ويقوي توحيدنا، ويعلمنا عنه، ويزيدنا حسن ظنٍ به سبحانه وتعالى.

جزاكم الله خيرًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






[1] الراوي: - المحدث: ابن القيم - المصدر: زاد المعاد - الصفحة أو الرقم: 2/339خلاصة حكم المحدث: حسن
[2] الضحى11.
[3] فصلت23
[4] التكاثر 1-2
[5] الراوي: سعيد بن أبي هلال المحدث: السيوطي - المصدر: الجامع الصغير - الصفحة أو الرقم: 3366خلاصة حكم المحدث: مرسل
[6] إبراهيم7.
[7] الراوي: زارع بن عامر بن عبدالقيس العبدي المحدث: الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 5225خلاصة حكم المحدث: صحيح
[8] المعارج 19-22.
[9] رواه البخاري.
[10] الإسراء11.
[11] الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 2714خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
[12] الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: ابن حجر العسقلاني - المصدر: بلوغ المرام - الصفحة أو الرقم: 451خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن
[13] طه 33-34.
[14] الراوي: أنس بن مالك المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3791خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح
[15] هود9.
[16] الناس 1-3.
[17] الحشر22.
[18] رواه مسلم.
[19] الفجر3.
[20] الطلاق2.
[21] يوسف21.
[22] الراوي: - المحدث: الفيروزآبادي - المصدر: سفر السعادة - الصفحة أو الرقم: 310خلاصة حكم المحدث: صحيح
[23] الراوي: عبدالله بن عباس و أبو سعيد الخدري و عبدالله بن جعفر المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 7957خلاصة حكم المحدث: صحيح
[24] الراوي: واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة المحدث: السيوطي - المصدر: الجامع الصغير - الصفحة أو الرقم: 1933خلاصة حكم المحدث: صحيح
[25] النساء122
[26] النساء87.
[27] الضحى11.
[28] الراوي: النعمان بن بشير المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم:3014خلاصة حكم المحدث: حسن
[29] يوسف42.
[30] هود 112.
[31] الروم 7.
[32] نوح 13.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.