الأحد، 15 مارس 2015

عبادة الشكر - اللقاء الرابع


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى أن يسّر الأسباب، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذه الأسباب ويجعل قلوبنا وعاء للخير ويملأها خيرا بهذا العلم العظيم وهو الفهم عنه سبحانه وتعالى والفهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم.

مَرّ معنا في الأسبوعين الماضيين الكلام حول عبادة الشكر التي تمثّل نصف العبادات، أو تكاد تمثّل الدين كله، فإذا نظرنا لها من جهة قلنا أن الشكر والصبر يتقاسمان العبادات، فالعبادة في حياتك كلها عبارة عن شكر وصبر، هذا من وجه، ولو نظرنا نظرة أخرى سنقول أن الحياة كلها تستلزم منك عبادة الشكر، حتى توفيقك للصبر يستلزم منك شكرا كونك وُفّقت أن تكون صابرا حكيما ضابطا لنفسك، فينتهي الأمر إلى أن عبادة الشكر تكاد تكون الدين كله، لكن هل القلوب كلها قابلة لهذه العبادة؟ هناك عبادات كثيرة بدنية، يمكن أن تتحملها النفس فتنجزها، في مقابل أن عبادة الشكر تغفل وتسهو عنها! لماذا؟ هل لصعوبتها؟ نعم، عبادة الشكر من أصعب العبادات، لماذا؟ مَرّ معنا في الأسبوع الماضي الكلام حول المؤثرات التي تؤثر على الإنسان وتحوله لكافر بأنعم الله، واتفقنا أن كلمة كافر التي نستعملها في هذا السياق تعني كافر كُفر نعمة أي الكفر الأصغر، الذي لا يخرج عن الملة. ذكرنا عدة أسباب، هذه المرة سنذكر سببا واحد يجعل عبادة الشكر صعبة وهو التعود على النعمة، فتصبح النعمة عادة، فلا يشعر العبد إلا بما ينقصه فقط، فقط الذي يفقده هو الذي يشعر بعدم وجوده، ولو جاءه يشكر، لكن كل شيء موجود لا يشعر به، وسأعدد أمثلة لذلك ثم ننتقل لنموذج للكافرين. كنت أتمنى أن نتكلم عن نموذج الشاكرين (سليمان عليه السلام) ثم نموذج الكافرين في قصة سبأ لكن الظاهر لن يتيسر لنا سوى الكلام عن نموذج الكافرين.

سنضرب أمثلة لنعم كثيرة نتمتع بها والغفلة والتعود عليها أغفلتنا عن عبادة الشكر. نبدأ بالأشياء المادية، نبدأ بالقدرة على التنفس، من هذا الأمر الصغير، والقدرة على إدخال الماء والطعام وإخراجه مثلا، هذا النموذج بالضبط سترى ضده الذي يحملك على الشكر العظيم لما ترى المرضى في المستشفيات، تفهم إلى أي درجة أنت مُنعَم عليك بيسر وسهولة هذا العمل، ثم نترقى لنرى نعمة عظيمة مثل نعمة الستر، فلو تفاضحت ذنوب الناس وخرجت خباياهم وظنونهم ما عاشرهم أحد! وهذا الكلام على كل الناس، لو تفاضحوا بذنوبهم التي تخصهم في بيوتهم، أو بما يمر حتى على خواطرهم من ظنون قلوبهم لما عاشر أحد أحدا! فمن نعم الله العظيمة على الخلق الستر، أنه يسترهم، وهذه النعمة وهي معاملة الله لخلقه باسمه الستير نعمة مغفول عن شكرها، مرّت علينا الحياة وربنا يعاملنا بستره على ما بطن وظهر من الأمور.
من المسائل المهمة جدا والتي تعتبر نعمة عظيمة: أن ليّن لك أطرافك من أجل أن تكون راكعا ساجدا، نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا مَن قَسَت أطرافه، إلى آخر ما نتصور من النعم سواء كانت المادية أو المعنوية أو الدينية،
بل إن ما يرزقك الله به من طباع وسماحة نفس وكرم وحسن خلق وسعة تحمل للخلق، هذه كلها من نعمه، وأنت لابد أن تكون عليها شاكرًا. فضعْف التأمل في حالنا وفي نِعم الله عز وجل علينا أضعف عبادة الشكر، وأصبحنا لا نرى نعمةً إلا ما وافق هوانا فقط! والذي لا يوافق هوانا ليس بنعمة! ولهذا كُمَّل الإيمان يرون أقداره كلها نعمة.

آخر عبادة ناقشناها الأسبوع الماضي هي عبادة حسن الظن بالله، واتفقنا أن الذي يشعر بالنعم سيترقى أن يكون دائما محسن الظن بالله، هذا الذي يترقى -في غالب حاله- سيرى كل أقدار الله نعمة، لأنه يرى وراء هذا الضيق الفرج العظيم. يقول لنفسه: (لو ما دخلت هذا النفق الضيق ما كنت أستطيع أن أخرج لهذه السعة العظيمة)، فهو وهو في داخل النفس يثني على الله ويشكره أن أدخله النفق قبلما يخرج للسعة العظيمة لأنه محسن الظن ومتأكد كما أن بعد اليوم غد، كذلك بعد هذا الضيق فرج، لكن ليس أي فرج، الفرج العظيم! النعمة التي كان لا يستطيع أن يتحصلها إلا عن طريق هذا الضيق.

ولو نظرت ليوسف عليه السلام ستتصور، من الجب إلى العبودية إلى السجن، ثم كان هذا طريق الرقي للمُلك! يأتي من يقول: ( فليعطينا الله الرزق من دون هذا كله)! نقول: لو كنت في الجنة ستتمنى ويأتيك مرادك، لكن اختبار المرء هنا في أن يبتليه الله، يضيّق عليه فيرى حاله هل يشكر أم يكفر، فإذا شكر خرج إلى السعة، وإذا كفر حتى لو خرج إلى السعة لا يشعر بها! إذن ما دمت تفهم أن هذه الدنيا دار ابتلاء لابد من الضيق يسبق السعة، ولابد أن كل سعة هناك ما هو أوسع منها، ولا تصله إلا مع ضيق شديد! هذا حكم الله على أهل الأرض، سننه، يرقّي الخلق من ألطف وأضيق المخارج، ثم يعاملهم باسمه اللطيف فيخرجهم من حيث لا يحتسبون، فمَن أحسن الظن كان في الضيق كمن كان في السعة، ومَن أساء الظن ضاقت نفسه عن ذكر الله وشكره، وإلا فمَن هذا الذي يكون في سجن، مظلوم، بعد عبودية وجب، ويكون همه في السجن أن يدعو إلى الله؟! انظر إلى يوسف عليه السلام، ماذا كان موقفه في السجن؟ "إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"، أي أنه وهو في الضيق كان مُحسنا، فكيف وهو في السعة؟!

نحن نشعر أن المضائق تقلب أخلاقنا، فنكون شديدي الحزن، شديدي العصبية وقت الضيق، ما السبب؟ لماذا هذا حالنا ويوسف عليه السلام أصحابه في السجن ما رأوا منه شيئا، ما رأوا إلا خُلُقه، ثم قالوا له: "إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"؟ لماذا؟ ما الذي في نفسه؟ و ما الذي يعتقده لذلك كان في هذه الحال؟ حسن الظن بالله. الذي يحسن الظن تهدأ نفسه ويقاوم سوء الظن الذي يلقنه إياه الشيطان، يقاوم الخواطر، ينزه الله ويقاوم الخواطر.

جمعنا بين 3 مفاهيم المرة الماضية، بين:
·        الشكر.
·        وحسن الظن.
·        والتسبيح.

هناك علاقة بين الشكر وحسن الظن: كلما كان الإنسان يشعر بنِعم الله، وفي عقله سِجِلّ واضح وذاكرة قوية لنِعم الله كان أكثر حسن ظن بالله، وركزنا أننا كل يوم نردد على أنفسنا من أسماء الله عز وجل ما يزيدنا حسن ظن به، وقلنا بالذات اسم الملك، فاسم الملك هو الذي وراءه التدبير، فالملك العظيم هو الذي يدبر شأن الناس.

ما صفات الملِك الذي يدبرني؟
مررنا على صفات الملِك في آية سورة الحشر. قلنا أن الملك الذي يدبرنا وصفه:
1.    أنه قدوس: أي منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال.
2.    ثم أنه سبحانه وتعالى سلام، صفات كماله سالمة من النقص، فكل صفاته صفات كمال، وصفات كماله سالمة من النقص. ثم أن هذا الملك الذي وصفه الكمال التام ليس في صفاته أي صفة نقص.
3.    مؤمن: أي مصدق لخلقه ما وعدهم، مؤمّن لهم من المخاوف. فإذن كل شيء وعدك الله إياه لا بد أن يفي لك بوعده، لذلك كان لابد أن تثق بهذا الملك العظيم ثقة تامة وتحسن الظن به، ولو تأخر شيء تأخر من أجل أن يأتيك في أحسن حال!
4.    ثم أن هذا الملك العظيم الرب الكريم الذي يدبر شؤونك مع وصفه أنه قدوس سلام مؤمن فهو مهيمن: كل شيء بيده سبحانه وتعالى، بل السموات  الأرض كلها في يمينه كخردلة في يمين أحدكم، فهو على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، وكل شيء في مُلكِه، لا يستطيع أحد أن يخرج عن سلطانه، وهو مع هذا مطلع على كل شيء في حال خلقه، فليس بغائب عنهم وليس ببعيد، وعليهم سبحانه وتعالى مهيمن كلهم، فهذا الملك الذي أنت عبد له مع كمال صفاته لا يخلفك وعده، وأنت شديد الثقة به وتعلم أن كل شيء بيده.
5.    ثم مع فهمك أن كل شيء بيده وأنه مهيمن على كل شيء وقريب لكل شيء، فهو عزيز سبحانه وتعالى، أمره نافذ، لا راد لأمره " وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، لازالت هذه علتنا أننا لا نعلم مَن هو ربنا!
6.    ثم أن هذا الملك العظيم الرب الكريم مع كل هذه الصفات فهو جبار، يجبر قلوب المنكسرين، ويقصم الجبارين، فأي حاجة لك فهو مؤمن سبحانه وتعالى، مصدق لوعده، إذا طلبته يعطيك، وأي مظلمة لك لا تسأل إلا إياه، يجبر قلبك من أثر المظلمة ويقصم الجبارين.
7.    ثم مع كل عطائه هذا وقربه وعنايته بخلقه، فهو متكبر عنهم غير محتاج إليهم، متعال سبحانه وتعالى، لا يمكن لخلق أن ينفعوه ولا عبادة و لا شكر تنفعه سبحانه وتعالى إنما النفع كله للخلق، فمع عطائه وقربه وزيادة عنايته بخلقه ووفائه بوعده وجبره للخلق، مع كل أنواع العطايا فهو عن شكرهم مستغنٍ، لكن المصلحة في الشكر عائدة لك " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" لكننا أدخلنا سياسات أخرى للمحافظة على ما نملك! سياسات بعيدة عن الشكر، فعندما تريد المرأة أن تحافظ على زوجها مثلا، ما سياستها في المحافظة عليه ؟ شدة المراقبة له مثلا، وتغفل تماما عن قوله تعالى: " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ". نقول: (الحمد لك يا ربنا، أعطيتنا النعمة)، إلى هنا الحمد لله، لكننا تصورنا أن المحافظة على النعمة دورنا! ما تصورنا أن الذي وهبنا هو الذي يحفظها، ولذلك لا يوجد (احفظ الله يحفظك) ولا " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"! وعلى ذلك نسعى بأقدامنا وأيدينا وأفكارنا، ونُشغِل أنفسنا في المحافظة على هذه النعمة، ونخاف لو خرج أن يرى أحدا أو يُعجَب بامرأة أو يغضب مني لأني فعلت أو فعلت، ولا أتصور أن قلبه ممكن أن ينقلب علي دون أن أفعل أي شيء، ألا تَحْدُث هذه المواقف؟! ليس شرطا مع الزوج، حتى مع مَن نعاشره، فجأة بدون مناسبة انقلب، لأن قلبه يقلبه الله.

قاعدة حفظ النعمة الشكر، ثم أنه سبحانه وتعالى وعدك ولا يخلف وعده، قال: " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، لكن إذا اتكلت على نفسك بحفظ النعمة فقد بدأت بإهلاكها!

نعود لما يسبّب لنا حسن الظن. الشكر مبني على معرفة أن الذي وهب لنا النعمة هو الملِك، والذي يعاملنا فيها وفي غيرها هو الملِك، ونحن وظيفتنا العبودية، اسمنا المشترك أننا عبيد، نحن عبيد لأي ملك؟ لملك كامل الصفات، من الشرف أن تكون عبدا له. هذا الملك ليس مثل ملوك الدنيا أبدا، إنما ملك مستغنٍ عنك، أنت إليه فقير، يعطيك ليس من أجل أن تعطيه، فأنت أصلا لو اجتمعْت أنت ومَن في الأرض كلهم أحياءهم وأمواتهم من أجل أن تنفعوه بشيء لا يبلغ أحد فيكم نفعه، فهو عن كل أحد سبحانه مستغنٍ. إذن لماذا نشكر؟ لأن الشكر مرجعه ومرده لنا { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.

هذا الملك الذي نحسن الظن به لكمال صفاته سيأتي لنا عدو يشوشنا في كل حال! الملك يُدخلنا في اختبارات وهذه الاختبارات عبارة عن مضائق تَخرُج منها إلى السعة، إلى فضاء واسع. وقتما نكون في الضيق يأتينا عدونا فيوسوس لنا أن لا فرج، أنه الهلاك، بكل أنواع التخويف!

ما دورنا من أجل أن نحفظ على أنفسنا حسن الظن بالله؟
أرأيتم آية سورة الحشر { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} ثم ماذا ؟{ سُبْحَانَ اللَّهِ }، فعندما تسبح بعد الصلوات كأنك تقول: أنا أنزهه سبحانه وتعالى وأُبْعِد من خاطري أي خاطر يمر علي فيه سوء ظن بهذا الملك العظيم. إذن أنت طيلة الوقت على درجة من التوازن النفسي والانشراح القلبي بأنه لا يأتيك إلا خير من الملك العظيم، حتى لما يعاقبك على خطأ وقعت فيه، مع أنه أولا يعاملك بحلمه الطويل العظيم، غمرنا الله بحلمه وإلا ما بقيت نِعم على خلْق، وحلم الله ليس باليوم أو اليومين أو الثلاثة أيام بل بعشرات السنين، ويكفي في حلمه ستره على الخلق مع الجرائم التي تُرتكب -نسأل الله أن يغفر لنا- في الخلوات، ومع الظنون التي ترتكب في حقه، ومع ذلك يعاملنا بحلمه.

لكن إذا وقع وعاملك بشيء من العقوبة فأولا لا بد أن تعرف أن عقوبات الدنيا كلها اسمها ذوق، فقط تذوق العقوبة، أنت لم تُعاقَب إنما تذوق العقوبة فقط! ثم هذا الذوق الذي تذوقه لأنه رب عظيم وله صفات الكمال لا يُخرِجك إلا لخير، مع أنها عقوبة لكن لا تُخرِجك إلا لخير. العبد لما يحسن الظن بالرب يرى حتى العقوبات مُخرِجات إلى خير، فلما يأتيك عدوك ويخوفك من أي شيء لا تظن ما يمليه عليك، هو يملي عليك مخاوف وأنت المفروض تطمئن للملك الذي يدبرك.

لو كانت لشخص قضية في محكمة، قضية شائكة، وقيل له: (هذا محامي شاطر -كما يعبّرون- وله في القضايا تاريخ طويل، وهذه 100 قضية نجح فيها، فسلّمه قضيتك وسترتاح). أول ليلة يسلّمها إياه يبات مطمئنًا متصورًا أنه أزاح الهَمّ عن نفسه وذهب لمن صفاته تصلح لهذه القضية. فانظر لقوة الثقة بالناس وضعف الثقة بالله!! لذلك لا يبات العبد مهموما إلا إذا كان لا يعرف الله، لكن لو كان يعرف الله حق المعرفة لظن فيه حسن الظن، وحُسْن الظن لا يمنع عملا واستغفارا وتوبة وسعيا بالقدم، أنا لا أتكلم عن الأفعال، إنما عن استقرار القلب، اثنان يحصل لهما نفس المصيبة، أحدهما مستقر نفسيا، مطمئن، يعلم أنه خارج من ضيق لسعة، وكلما وسوس الشيطان –ولابد أن يوسوس- سبّح العبد ونزه الله. إن شاء الله بذلك يكون تبيّن لنا العلاقة بين الشكر وحسن الظن والتسبيح.

ما معنى التسبيح؟
أي كلما خطر على بالك خاطر، خصوصا في أوقات الضيق، بأي نوع من المخاوف، تنزه الله أن يعاملك هذه المعاملة، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء)، أي أنك إذا ظننت به ظنا حسنا ونزهته أن يأتي من عنده شر عاملك بهذا، وإن ظننت فيه ظن سوء وظننت أنه يأتي من عنده شر أعطاك الخير لكن ما متّعك به! أي تبقى طيلة عمرك متقلبًا في مخاوف، قلق وفزع، ويأتيك الخير فتقول: (أخاف أن يحصل كذا)، وطيلة الوقت تتكلم عن مخاوف، لماذا ؟ سيطر الشيطان على القلب. دائما يقول: (ما الذي يضمن لي أن هذا البيت سيبقى؟! ما الذي يضمن لي أن يحصل كذا وكذا؟! ما الذي يضمن لي أن الزوج لا يتركني؟! وأن هؤلاء البنات لن يتزوجوا ويتركوني؟!). من أين نأتي لك بضمانات؟! أنت في ضمان الملِك وأمانه، فاسأل الملِك الذي يدبرك أن يجعلك في حفظه وأمانه وضمانه، لكن لأنك لا تعرفه ولا تحسن الظن به لما تأتيك خواطر سوء الظن لا تسبحه، لا تنزهه كما ينبغي، لا تدفع خواطر سوء الظن فتزيد سيطرته عليك! وغالب ما يحصل في المجتمع من قلق يأتي من مخاوف، فلو كانت ستنجز في الصباح شيئا بسيطا تافها تجدها طيلة الليل تتقلب قلقة، ولو كان سيأتيها ضيوف ثاني يوم تجدها طيلة الليل وهي قلقة على ما ستفعل. من أين تأتي الطمأنينة؟ من معرفة الله، من طلب الاستعانة به، من حِفْظِه فيحفظك.

تصور كيف هذا الإنسان القلِق لا يستمتع بأي شيء في الحياة. شاب مثلا قلِق، اشترى سيارة ووضعها خارج البيت، فلك أن تتصور ماذا سيفعل هذا القلِق، كل عشر دقائق سينزل لها، ولو كانت هناك نافذة يطل عليها كان ذهب إليها وعاد كل حين، وتجده خائف أن تُسرق، أو أن يجرحها أحد من الأولاد، إلى آخر قائمة المخاوف، فأصبحت النعمة في حقه نقمة! لأن ليس عنده الاستيداع -أي أن يستودعها الله-، وليس عنده أن هذه النعمة في حفظ الله، ليس عنده " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، هذا بالإضافة إلى مَن يخاف مِن العين!

نجد والله شبابا وشابات جاءهم الزهد في أشياء كثيرة لكن ليس مِن مدخل صحيح، هناك مَن يزهد في السيارة الجديدة خوفا من العين ومِن كذا وكذا، فالقلق عَكَسَ على النفوس الدمار، حتى النعم تتحول في حق هؤلاء إلى نقم! ولذلك: (أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء). فلو ظننت فيه حسن الظن أعطاك على ما تظن. والمرة الماضية قررنا أن عبادة حسن الظن عبادة لا تنفك، فأنت طيلة الوقت تعبد الله بهذه العبادة، إما أن تحسن الظن فتكون عابدا، أو تسيء الظن فتكون آثما، ثم تأتيك تلك الآية { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ }فما الذي يسقط الإنسان في الحضيض؟ سوء ظنه.

ما علاقة التسبيح بحسن الظن بالله؟
مُحسِن الظن بالله يعرف ما معنى سبحان الله، فسبحان مادتها الأصلية من سَبُح، أي بَعُد، فأنت تسبّح أي تقول: (أنا أبعد كل ظن سيء، كل صفة نقص أبعدها في قلبي عن الله). مَن الذي يخطر عليك خواطر النقص ؟ الشيطان. أنت تعبد الله بدفع خواطر النقص، إذا دفعت خواطر النقص في الله إذن تعتقد كماله، اعتقاد الكمال يأتي بالثقة وهي حسن الظن، تقول: (لا يأتي من ربنا إلا كل خير، أنا متأكد أن بعد هذا الضيق فرج). بل
يأتيك الرجل الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لو أقسم على الله لأبره، هذا شخص يعيش على حسن الظن. يُقال له: (سيأخذونك نتيجة هذا الدين الذي عليك)، فيقول: (والله سيفرج الله علي)، ويفرج الله عليه بما قام في قلبه من حسن ظن! فهذا الذي لو أقسم على الله لأبره لابد أن يعرف ربه حق المعرفة، ولابد أن يكون مسبحا له حق التسبيح، ولابد أن يكون منزها له حق التنزيه، وهذا كله يبني حسن الظن، المعرفة مع التنزيه تأتي بحسن الظن الخالص.

ماذا كان يظن يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت؟ ماذا قال؟
{ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} أي أسبحك وأنزهك أن يكون ما حدث لي من دخولي في بطن الحوت ظلما، إنما ضيق إلى فرج، ثم: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }، أنا الذي كنت من الظالمين. ومثله موقف أيوب عليه السلام، قال وهو في شدة الألم: { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، هذا الذي أظنه فيك، أنا مسني الضر، ولم يقل: (أنت ياربنا مسستني بالضر)، قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ } وهذا من تمام التأدب وحسن الظن بالله. ثم ماذا يظن في ربه؟ { وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ولذلك مَن أراد أن يفهم حسن الظن فليعتكف على سورة الأنبياء ويرى كلامهم عن ربهم وتعظيمهم له وحسن ظنهم به. فكلما مررت بالألم تقول: (أنا على يقين وحسن ظن بالله أنه أرحم الراحمين)، كلما دهلت ضيقا بسبب سوء تصرف منك تقو: (سبحانك إني كنت من الظالمين)، كل هذا مبني على معرفتك بالله.

فلو أردت أن أضع برنامجا مثلا لعلاج القلق، عندي مثلا مراهق قلِق، شاب قلِق، ماذا سأفعل؟ ما قاعدة معالجة القلق؟ معرفة الله. القاعدة التي تسبب الطمأنينة وانشراح النفس أن تكون سورة الإخلاص قاعدة الحياة، فقط سورة الإخلاص، وهذا لا يعني الاستغناء عن غيرها، لكن نقول: هات سورة الإخلاص ستعرف ماذا تفعل بعد ذلك، لأنك في كل المواطن وقبلما تنام تذكَر نفسك فتقول: لا تقلق، لا تخف، فأنت لك واحد صمد.

ما معنى صمد؟
أي تفهم أمرين:
1.    أنه كامل الصفات، وهات كل الصفات وقل عنها أنها كاملة.
2.    تفزع إليه كل الخلائق فيعطيهم مرادهم.

فعندك واحد فقط، لن تتشتت، ولن تذهب يمينا ولا يسارا، واحد فقط، وصْفُه أنه كامل الصفات. ما فِعْلُه؟ فِعْلُه أنه يعطي خلقه كل مرادهم، متى؟  لما يفزعون إليه. ستفزع إليه بماذا؟  أول فزع حقيقي هو الفزع بقلبك، ثم بعد القلب يأتي البدن، لكن وأنت على فراشك أول ما يأتيك الشيطان ويقول لك: (سيحصل لك حادث لما تركب غدا السيارة ويحصل لك مثل فلان)، فمباشرة يفزع قلبك إلى الله وتطلب حفظه سبحانه وتعالى، وعلى هذا يندحر الشيطان، لأن لك مَن تصمد إليه.

عيب القلقين الاسترسال للفكر والاستسلام له، عيب الموسوسين سواء قلق أو اكتئاب أو وسوسة أنهم لا يقطعون الوساوس، أقطعه بماذا؟ أذكّر نفسي بأن لي واحد صمد ألجأ إليه في الرخاء والشدة، ثم يمكن أن يعبّر عن هذا الفزع بعمل، ولذلك كان النبي صل الله عليه وسلم أول ما تضيقه المضائق يفزع إلى الصلاة، فيفزع إليه، يصمد إليه. أترى سورة الاخلاص التي يحفظها أبناؤنا من رياض الأطفال؟ تشكّل شخصياتهم! نحن دائما كلنا { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} مهما كان في ظاهرنا قوة.  وطفلك هذا صغير ضعيف، سيكبر وسيبقى ضعيفا، فالضعفاء كلهم بحاجة إلى قوي، مَن القوي؟ الله. ما علاقتك بهذا القوي؟ إليه تفزع.

لا ينتهي الكلام عن حسن الظن أبدا!! لكن لنتفق فقط على القاعدة:
حسن الظن مبني على أمران وهما:
1.    معرفة الله.
2.    وتنزيهه.
أي المعرفة مع التسبيح، وحتى لا تنساها كن حافظا لآية الحشر: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} إلى أن وصلنا إلى { سُبْحَانَ اللَّهِ } أي الملك اعرفه وسبحه، وهذا يورثك حسن ظن به.

عبادة حسن الظن لا تنفك عن العبد، إما تكون محسنًا الظن أو مسيؤه، ليست هناك حالة ثالثة، سواء في حالك أو حال غيرك، فأنت أحيانا تمر على مريض أو معاق أو فقير ثم تسيء الظن في الله، تقول: لماذا يا رب فعلت به هكذا؟ فهذه الكلمات سوء ظن في الله، ليس على حالك إنما على حال غيرك، فأنت تقلب بصرك في الحياة وتمر عليك أحداث إما مسيء الظن بالله أو محسن. إذن لا تنفك عن حسنات بسبب حسن الظن، أو سيئات بسبب سوء الظن.

من أين آتي بحسن الظن الذي يدفع سوء الظن؟
لو ملأت نفسك بحسن الظن سيندفع سوء الظن، وسوء الظن ليس قضية طويلة، إنما تمر على القلب في ثوان، مناقشة قلبية وتنقلب الصفحة وتذهب!

حسن الظن مبني على أمرين:
1.    معرفة الملك العظيم.
2.    وتنزيهه سبحانه وتعالى.

تعرفه، وكلما ازددت معرفة زاد عدوك بالضغط عليك. وأنت في الضيق بالذات يقول لك: (لن تنفرج الهموم، لن تخرج من هذه المشكلة، ستخرج منها إلى أسوأ ما يكون)، وهو يلقنك هذا الكلام ماذا تقول؟ (لا والله، لا يأتي من الملك العظيم إلا كل خير، لكن ليس شرطا أن يكون الخير على هواي، الأكيد أني سأخرج إلى خير وإن كنت لا أفهم ما هو الخير). كم دخلنا مضائق رأينا فيها الشر التام لكن كان فيها الخير.

ألم يخرج يوسف عليه السلام من الجب إلى العبودية؟ البئر أهون حالا من العبودية، ثم كنا نتصور أنه سيخرج من العبودية لفرج لكنه يخرج من العبودية إلى أسوأ منها، إلى السجن، لكن في نهاية الأمر تنظر فترى أن هذا هو الطريق إلى المُلْك، لكن الذي يعرف ربه يقول كما قال يوسف عليه السلام "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي"، يرى هذا كله من الإحسان، ثم يقول: "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"، أي عاملني الله باللطف ونقلني بلطفه من حال إلى حال وهو العليم بما يصلحني الحكيم في فعله.

ومثله موسى عليه السلام، لما كان في تلك الحال عند فرعون ثم هرب ثم عاد ثم قاد، الله عز وجل يقول عن هذه الأحداث كلها التي حدثت من فعله سبحانه وتعالى على موسى: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي"، "وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي"، "وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا"،كل هذا ليصلح للقيادة، فكان كل هذا تجهيزا للقيادة! فسبحان مَن دبّر خلقه على كمال صفاته، ونقل الخلق من ضيق إلى سعة رفعة لمنازلهم، فمن قَبِل رَفَعَه الله، ومَن ردّ رِفْعَة الله لا يُرفع أبدا! نسأل الله أن يحسن ظنونا فيه ويفتح لنا باب العلم به ويجعل تسبيحنا حقا تسبيح، لأن التسيبح الذي يخرج من اللسان لا بد أن يوافقه الجنان حتى يثقل ميزان العبد.

مناقشة حسن الظن ستوصلني إلى الشكر، فأنا كلما حدث لي حدث سواء نظر الناظر إليه أنه خير أو شر في نهاية الأمر أنا أتجرد وأنظر إلى أن فاعله كامل ومحدثه كامل فيبقى لساني لاهجا بالشكر له سبحانه وتعالى، يبقى الشكر ديدن العبد، يعلم أن النعم منه، وأن حفظها عليه سبحانه وتعالى، لكن بين أن يهبك وأن يحفظ النعمة هناك عبادة أنت تقوم بها وهي الشكر، فإذا انعدم في القلب الشعور بالنعم من المؤكد ستنعدم عبادة الشكر، فلا تسأل بعد ذلك عن تفرّق النعم وذهاب بركتها، وهذه النقطة إن شاء الله نتكلم عنها في النهاية لننتقل إلى نماذج الكافرين.

أما ذهاب بركتها فهذه مسألة نعاني منها و غير مُلاحَظة، الناس يقولون: (الشكر يسبّب الزيادة، وعدم الشكر يسبّب النقص لكننا لا نرى نقصا!)، نقول لهم: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" وسينزل عليك عذاب وأقرب عذاب أن تُحرَم هذه النعمة، فيرد الناس يقولون: (لا عذاب ولا غيره، لم نشكر والنعم باقية!) سنأتي لمفهوم غاية في الأهمية وهو مفهوم البركة، هذا المفهوم أزيح عن عقولنا حتى في المعاملات البسيطة.

البركة من صفات الله تعالى، "تَبَارَكَ" أي أنه سبحانه وتعالى هو الذي له البركة في أسمائه وصفاته وذاته وأفعاله، وهو الذي ينزّل البركة على الخلق، فإذن قد تُوهَب مواهب، قد تُعطَى عطايا، لكن بدون الشكر تـُنزع بركتها، كأنها تبقى هيكلا لكن دون نفع حقيقي، وما نراه من عقوق الأبناء أحد آثار نزع البركة، فعقوق الأبناء منهم وهم يتحملونه، لكن أتساءل: (نحن نعيش ونربي ونبذل ونتعب ثم في النهاية كل تصرفاتهم عكسية!) ويمكن أن يجتمعوا كعصابة على الوالدين! لماذا يحصل مثل هذا؟ إلا أن الله نزع البركة من الأبناء.
البيوت واسعة والحمد لله، لكن النفوس ضيقة، لماذا؟ نُزعت البركة. أبناؤك كُلٌ منهم في سرير، وكل يوم نفضّ مشاكل بين المتخاصمين، لماذا؟! مع أن كل واحد في مكان، مع أنهم كانوا ينامون فوق بعضهم سابقًا، الآن كل واحد في سرير لكن نُزعت البركات.

الناس يشترون حوائجهم للشهرين والثلاثة ولا يشبعون، ويأتوا أولادنا كل يوم متضجرين، كل هذا من آثار نزع البركة. لنرى الجوالات، ولتعرف تاريخك في الجولات اكتب كم جوالا اشتريته، وانظر كيف هذا سقط في الماء، وهذا احترق ..الخ، كل هذا من آثار نزع البركات، بل من آثار نزع البركات العظيمة أن يحفظ الخلْق القرآن ولا ترى أثرًا لآية من كتاب الله على هذا الشخص! هذا من أعظم صور نزع البركة!

ثم نأكل أحسن أكل، ونشرب أحسن شرب، في أجواء صحية تامة، ثم يوقظنا أحد من النوم فلا نستطيع أن نقوم. الصحة ضعيفة، وكل يوم يخرج لك سبب لهذه الصحة الضعيفة، والصحيح أن البركة نُزعت من الأبدان، من الكلام، من الحفظ، من البيوت، إلا من رحم ربي بالطبع، لكن كصورة عامة الناس في نَهَم، والناس يتوسعون ولا يشبعون، في البيوت والملبس والمأكل، ولا يشبعون! لأنهم لا يشكرون، فمن ناحية مادية يعطيهم الله، لكن ينزع منهم البركات، فإذا نُزعت البركات ولم يلتفت أحد إلى خطورة نزع البركة وأن شكرا لم يحصل، يتحول الأمر من نزع البركة إلى نزع النعمة نفسها! مثال ذلك ما حصل لقوم سبأ، نقف عند هذه القصة قليلا ونرى ماذا حدث لقبيلة سبأ الذين باسمهم سميت سورة.

وهذه السورة جمعت قصتين: قصة سليمان عليه السلام وهو نموذج الشكر، عنده نعم عظيمة لكنها ما غرته، إنما بقي ناسبا النعمة لله، شاكرا لله عز وجل على أنعمه، ومثله داود عليه السلام، وكيف كان من أعظم النعم أنه يسبح فتأوب الجبال معه، أي ترد عليه تسبيحا، وهذا كان مما يزيد الإيمان ويبين للعبد مقدار وأثر الشكر، فالشاكر كثير التنزيه والتسبيح والذكر ثم يثبته الله بمثبتات ترفع وتزيد إيمانه، في حق داود كان هناك حق خاص أنه كان يسبح فترجع الجبال له، لكن لو ترى على قدر حالنا، لما تكون شاكرا وتسبح يرزقك الله مَن يعينك على ذلك، مثلما طلب موسى عليه السلام " كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا" معنى ذلك أن من النِّعم على العبد أثرًا للشكر أن يرزقه مَن يعينه، ومَن يذكر معه، ليس معنى ذلك أن نقوم بذكر جماعي. يذكُر معه أي أن نذكّر بعض، أستحثه على التسبيح، فلو مَرّ علي أمْرٌ أحكيه وأقول: (سبحان الله كيف أخرجني الله، وكيف وُفقت، و الحمد لله كيف ربي يسر الأمر) فتكون مع مَن تصاحب ذاكرا لله مسبحا منزها.
وهي كلمتان: نسبحك، ونذكرك. فكلما خطر علينا خاطر الشيطان وجاءتنا خواطر التثبيط، يقول لي الأخ المعين: (لا تظن بالله هذا الظن، تنبه، لا يأتي من الله إلا خير)، فننزه الله سويا، ثم نبقى له ذاكرين دائما، فهذا من النعماء التي تحتاج إلى شكر، فإذا وُفّقت لأخ من هذا النوع فأكثر الشكر، فالإخوان غالبا ما يأتون على الهوى، يعني نحن نصاحب الناس لأنهم موافقون لهوانا وليس لنسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا!

ننتقل لقصة القوم الذين كفروا وهم قوم سبأ. السورة أتى فيها قصة داود وسليمان الشاكرين، وقصة سبأ الكافرين، ماذا كفروا؟ كفروا أنعم الله.

يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } أي أن مساكنهم كانت آية من آيات الله، وسبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن، ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما، وبالعرب خصوصا، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين، ممن كان يجاور العرب، ويُشاهَد آثاره، ويتناقل الناس أخباره، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق، وأقرب للموعظة.

لماذا ذُكرت قصت سبأ؟
أولا سبأ معروفة عند العرب، أصبحت مَثَلاً عند العرب وكيف تفرقوا، حكاها الله لينقل لنا صورة حدثت في التاريخ لقوم كان مُنعَم عليهم غاية النعم، ثم بسبب كفرهم مزقهم الله كل ممزق! ثم أنت اعتبر، أي ضع هذه الصورة التاريخية أمامك، واعلم أن الذي يفعل فعلهم سيفعل الله فيه نفس الفعل، وأنت تلتفت يمنة ويسرة فترى بلدة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا، ثم كفرت بأنعم الله، فماذا فعل الله بها؟ "فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ"، أصبح لباسًا، أذاقها لباس أمرين: الجوع والخوف.

وأنت تأمل يمنة ويسرة سيتبين لك الأمر جيدا، وستعلم أن هذه سُنّة الله، مَن يعامل الله هذه المعاملة فهذا فعل الله معه، فلا يغرك حلمه ولا بقاء النعمة عليك، ولا أرصدتك الموجودة في البنوك، لأننا دائما إذا أراد الشيطان أن ينزع ثقتنا بالله يضع لنا بديلا، فدائما البدائل عندنا أموالنا، أولادنا، بيوتنا، يذكّرنا بها لنسترخي ونطمئن، ونقول: أنا لا أحتاج لزيادة. على ذلك عبادة الشكر ليست ذات بال لي، نحن لا نقول لأنفسنا هذا الكلام بألسنتنا، نستحي أصلا، لكن هذه خواطر تدور ونحن نتفرج عليها، ولا أقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وسبحان الله، هل أنا إلا عبد فقير وهو الغني وأنا في كل وقت إليه محتاج!
سكوتك عن هذه المحادثات القلبية نوع موافقة تسبب استقرارها، لأن كل بلية قلبية من الرياء والعجب والكبر تبدأ خواطرًا مسكوتًا عنها، فتنتقل لتصبح ثوابت! تصبح مشاعر ثابتة، فالمطلوب منك لما تمر هذه الخواطر وتمر عندك مشاعر الاستغناء عن الله، هذه المصيبة العظيمة التي يلقنها الشيطان لنا، وأني عندما أكون مريضة لا أحتاج فأنا طبيبة وزملائي كلهم أطباء وعندي مستشفى! انظر للثقة، هذه الخاطرة لما تمر لابد أن تستعيذ بالله منها، إذا تركتها تستقر يتحول العبد من شاكر لأنعم الله إلى كافر أظهَرَ استغناءه عن الله، فعرّض نفسه لتربية الله، لتأديب الله، فانظر لشخص يفكر هكذا وكيف تُنزع منه النعمة نزعا، كيف يضعه الله في موقف يجرده من قواه من أجل أن يتأدب! فنحن لا نعرض أنفسنا لمثل هذا، إنما أول ما تمر علينا خواطر فاسدة من هذا النوع نسبحه وننزهه ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لكن عداوة الشيطان ليست واضحة، إحساسنا بالعداوة وجريانه في دمنا وخواطره ليس واضحا، لذلك عبادة الاستعاذة العظيمة لا نقوم بها كما ينبغي.

هناك عبادتان مهجورتان وأثر هجرهما ما تراه من تخبط الناس:
·        الاستعانة.
·        والاستعاذة.

لا نتخيل أني لما أقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ميزان حسناتي يزيد ويكف الله عني الشيطان. لا شعور أن الاستعاذة عبادة تقرب إلى الله، تبين أنك ذليل منكسر، تريد حفظه سبحانه وتعالى، ومثله عبادة الاستعانة المغفول عنها.

فقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} أي: محلهم الذي يسكنون فيه.
{آيَةٌ}: آية من كثرة النعم، آية يتكلم عنها الناس، آية بمعنى أن ما هُم فيه من النعم كان أمرا مدهشا، يتحدث الناس عما هم فيه من نِعم وحضارة ونعيم في الدنيا، مثلما تأتي لشيء عظيم تقول: (هذا آية من آيات الله)، مثلما يقول الناس: (هذه آية في الجمال).

والآية هنا: ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا اللّه ويشكروه.
وهذه الآية جنتان عن يمين وشمال.
 (جنتان) يمكن أن تفهم بطرق:
1.    القرية نفسها يحيط بها جنتان وهم في داخلها.
2.    وقيل أن كل صاحب دار تحيط بداره جنتان عن يمينه وعن شماله.
سواء كان هذا أو هذا فقد كانوا في نعيم مقيم.

وكان لهم واد عظيم، تأتيه سيول كثيرة، وكانوا بنوا سدًّا مُحْكمًا، يكون مجمعًا للماء، السد المحكم كان أمر غير معروف، ثم ألهمهم الله إياه، ولما تقرئين الكتب التاريخية التي تصف هذا السد سواء في الكتب التاريخية أو في المستشرقين المعاصرين، كتبوا في صفة السد، فكان على صفة هندسية عظيمة، وكانوا يقولون أن أول مَن علم وتعلم صيانة الأشياء هم، لم يبنوه ويتركوه! كان عندهم صيانة دورية كل ستة أشهر إلى سنة، وكانوا  بنوه في مواضع معينة بحيث يكون نزول الماء لهم بصورة بديعة. أتوا في أضيق مكان في الوادي وبنوا السد، فلما ارتفع الماء عن السد وضعوا أشياء معينة لاستقبال الماء الزائد عن السد، ثم أتقنوا السد إتقانا لا يمنع به الماء تماما ولا يذهب، وأخرجوا منه مخارج بحيث تدخل على الجنتان وتسقيها.

باختصار: ألهمهم الله الإتقان الهندسي المادي لبناء السدود وللانتفاع من مياهها. فهؤلاء كانوا أصحاب جنتين، وأصحاب حضارة، هذا يذكّرنا بقارون الذي فُتحت عليه الكيمياء، لكن هؤلاء فُتحت عليهم الفيزياء، أي الزوايا الهندسية: طريقة المواد وكيف يستعملونها وفي أي زاوية، هذا ما فُتح عليهم كما فُتح على قارون الكيمياء، وكان يستعمل الأشياء التي تحوّل المعادن إلى أكثر نفعا، وهذا أمر لابد أن نتصوره: أن الله عز وجل لما يُنعم على قوم ينعم عليهم ببركات من الأرض والسماء، فهؤلاء أنعم الله عليهم ببركات من السماء: ينزل عليهم المطر دائما، أنعم عليهم ببركات من الأرض بهذه المناطق الجغرافية التي سمحت لهم ببناء السدود، ومن ثم ألهمهم الله من طرق الانتفاع. هو الأول الذي ابتدأ الخلق كلهم بالنعم، وهو الأول الذي علمهم كيف ينتفعون من النعم. ولما تأتي إلى أي اختراع ستفهم أنه تحت اسم الأول، وأن الله هو الأول الذي علّم هذا هذا الأمر، وسخر لهذا هذه التجربة، وأفهم هذا هذا الأمر، إذن هو الأول الذي سبق كل شيء.

يقال أن سبأ كانت تنتج أرضها مرتين على خلاف باقي الأراضي التي لا تنتج إلا مرة واحدة، ويقال أن من كثرة النعم التي كانوا يعيشونها أنهم كانوا لا يحتاجون إلى فلاحة ولا إلى حصد. لا يحتاجون إلى فلاحة لأن الأرض تنبت مباشرة، ولا إلى حصد، أي لا يحصدون الأشياء، فهي متدلية لدرجة أن المرأة تخرج على رأسها مكتل -الكيس الذي يضعون فيه الأشياء-، تمر بمكتلها فتهز الأشجار فتتساقط الثمرات داخل المكتل، وهذا من النعيم الذي كانوا يعيشونه، فكانوا آية فيما يعيشونه، كان يتحدث الناس عن نعيمهم، وكم يتحدث الناس عن حضارة الشرق والغرب، يتحدثون عنها لما أعطاهم الله. الكلام يطول من كلام المفسرين في كيف كان حالهم، لكن يكفيك في هذا كله أن الله عز وجل قال عنهم آية، فتفهم أن هذا ليس بالأمر العادي، أي أن الجنة التي يملكونها ليست كأي جنتين، هذا فوق الأمر العادي من اليسر والرخاء والكثرة والسهولة.

ثم وصف الله ما المطلوب منهم بعد هذا كله؟  "كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ" كلوا وتمتعوا واعتقدوا أن هذا من رزق ربكم. وهذا الذي اتفقنا عليه في أول قاعدة في الشكر: أن تنسب النعمة إلى الله، فكُلْ ولست ناسبا النعمة لنفسك، بل وأنت متأكد أنه من رزق ربك. لذلك الله عز وجل يحب مَن إذا أكل حمد الله، انظر كيف تتعرض لمحبة الله بكونك فقط لما تأكل تحمد الله، فهذا إشارة إلى أنك ناسبٌ النعمة إليه سبحانه وتعالى.كلوا لا بأس لكن مع اعتقادكم أن هذا من رزق ربكم، ثم "وَاشْكُرُوا لَهُ". ماذا أعطاكم؟ أمران، أولا الدنيا: بلدة طيبة، ولما يقول الله عز وجل (طيبة) عن أرض فلا تسأل عن طِيبها، حتى أن الوخم أي القاذورات والحرارة في الجو والمكروبات -كما يعبرون- أرضهم طاهرة منها، إلى درجة أنه يقال أن الرجل يسافر ثم يأتيهم فيكون معه شيء من الذباب والبعوض، فلما يقترب من أرضهم تموت، تطيّبه أرضهم، يعني أرضهم تطيّبه وتقتل عنه الحشرات، مثلما نقول: مكان صحي، نقاهة، يسترجعون فيه قوتهم.

فلما يصف الله عز وجل أرض بأنها أرض طيبة، لك أن تتصور كل شيء من صحة وهواء وماء ونظافة ويسر وسهولة، أعلى درجات الحضارة الممكنة بما يناسب العصر الذي كانوا فيه، وقد كانوا على وضع من المحاضرة لم يُنقل لأنه لا يُدرك، في نقل أشيائهم وإيصال الماء إلى مزارعهم، شيء من الحضارة، تقدُّم، لكن كله فَنِي! ثم ليس فقط بلدة طيبة تستمتعون بها، لكن أعظم النعم أن لكم رب غفور، فماذا يحدث إذا جمعتم بين الشكر والاستغفار؟ زاد طيب دنياكم، وصلحت آخرتكم.

لو كنت في موقف مثل هذا -ونحن حقا في موقف مثل هذا- ماذا سيكون منك من شكر واستغفار؟
لابد أن يلهج اللسان بالشكر والاستغفار، لكن لماذا لم يشعروا بهذه النعمة؟  نفس السبب الذي جعلنا اليوم لا نشعر بالنعمة -نسأل الله أن يحفظ علينا النعم- لكن لك أن تتصور لو كَفَر أهل الأرض، يأتي أولادنا يقولون: (هل تصدقون أن أهلنا لما كانوا يريدون أن ينتقلون من مكان إلى مكان ما كانوا يسيرون على أقدامهم أو الحيوانات التي تنقلهم، كانوا يركبون من الآلات أشياء توصلهم بسرعة)، ومن صفات هذا البلد أن الله قارب بين المسافات وذكر فيها كلامًا كثيرًا من أهل العلم لكن الله أعلم ما حقيقته. الكفر يذهب بالنعم، ليس شاهدي هنا، شاهدي أن الإنسان وهو يستمتع بالنعمة اعتادها، فلما اعتادها يغفل عن الشكر والاستغفار، لما تذهب ويذهب هو يأتي بعده مَن يقول: (ألم يكن عنده عقل؟ كيف لا يشكر؟! كل هذه النعم ولا يقول الحمد لله؟!). مثل مشاعرنا نحوهم الآن، "بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ"، لو خرجوا فقط خارج بلادهم لرأوا نقص الماء والطعام، كانوا محصنين بهذه النعم العظيمة، ومع ذلك ما شكروا، ماذا كان ينقصهم ليشكروا؟ أي شيء بلغوه؟ بلغوا في الدنيا الحد العظيم، ومع ذلك ما شعروا بالنعمة، لماذا لم يشكروا؟ لاعتيادهم على النعمة، كل شيء موجود وتحت اليد لا نظن للحظة أننا سنفقده، والله على كل شيء قدير! ألم يكن بنو إسرائيل بشر ثم مسخهم الله إلى قردة وخنازير؟ أليس الله على كل شيء قدير؟! المقصد أن العبد ضعيف في نسبته النعمة إلى الله، عقله يتوقف ويظن أن هذه النعمة لا تـُسلب، وأحسن مثال يمكن أن تعايشه: انظر إلى صحتك، من شباب إلى هرم، دائما لا يشعر بنا الشباب لما نقول: (يا ابني صحتك ستفقدها وتأتيك اللحظة التي تتثاقل فيها أن تقوم)، انظر فقط لنفسك لما تكون مريضا وصحيحا، وانظر كيف تبات صحيحا وتصبح مريضا فما تستطيع أن تقضي أقل حوائجك، ارتفاع بسيط في درجة حرارتك يكدر الحياة! فمَن قال لك أنك مالك للنعمة؟ مَن قال لك؟! كل النعم عارية، أي (سلفة)، وهبك الله إياها، إن شكرت ثبتت، وإن كفرت نزعت، أو نزعت بركتها. فشعورك بأن النعم عارية يجعلك تحافظ عليها، لكننا لا نشعر بذلك، مثل الجارة التي اقترضت من جارتها ثم نسيت الموضوع وظنت أن هذه القطعة تملكها! وهكذا صحتنا وأولادنا وبيوتنا وكل ما نملكه نظن أنه تحت سيطرتنا، إنما هذا المُلك تخويل، تفويض محدود الزمن، إذا أحسنت أُحسن إليك، وإذا أسأت نُزع أو نُزعت بركته.

بلغنا في الكلام حول قصة سبأ إلى نهاية هذه الآية، فهمنا أن هذا رزق من الله، أمرهم الله عز وجل أن يأكلوا ويتمتعوا لا بأس، لكن مع بقاء أمرين:
1.    النسبة و الشكر من جهة.
2.    و الاستغفار من جهة أخرى.

لماذا الاستغفار يلحق الشكر؟
لأن العبد مهما بلغ في طاعته لربه  وعبادته لابد أن يكون مقصرا، فمن أجل سد هذا التقصير عليه أن يكثر من هذا الاستغفار، ونحن المفروض نقوم بهذا العمل مع الاعتقاد في كل مرة نصلي فيها وبعدما ننتهي نستغفر ثلاثا، لماذا؟ لاعتقادنا أن صلاتنا لابد يكون فيها من النقص في شكره سبحانه وتعالى فنستغفر.

فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة:
منها: هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها: أن اللّه جعل بلدهم، بلدة طيبة، لحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الرغد فيها.
ومنها: أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم، ولهذا قال: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ

أي أن هذا فهم آخر للآية، أن الاستغفار ليس أمرا إنما الاستغفار جزاء، جزاء على الشكر، كأنه يقول لهم: كلوا وانسبوا النعمة إلى الله واشكروا، وبسبب شكركم سيثبت طيب بلدكم، وسيعاملكم الله باسمه الغفور.

"كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ": أي معتقدين أن هذا من رزق الله، واسم الرب هنا له دلالته لكن الوقت ضيق، لكن افهموا أن اختيار اسم الرب له علاقة بتربيته وعطائه، فهو المنعم سبحانه وتعالى الذي يستحدث على العباد النعم دائما، ثم بعدما تنسبوا النعمة إلى الله "وَاشْكُرُوا لَهُ"، فإذا فعلتم هذا توفر لكم أمران: "بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ"، أي ثبات طيب البلد عليكم، "وَرَبٌّ غَفُورٌ"، أي رب لشكركم سيعاملكم بمغفرته.

ولاحظ أمرا عجيبا في الآية، أن الله لم يأمرنا أولا بالشكر، بل أمرنا أولا بالتمتع، فأولا أتى: "كلوا"، تمتعوا، من أجل أنكم لو أكلتم وأصابتكم النعمة لابد أن تكونوا فزعين إلى ربكم، ناسبين النعمة له، وعلى هذا من الخطأ الشائع بين الناس أنهم  يأكلوا ويستمتعوا ويتحدثوا عن النعمة منسوبة إلى أنفسهم فتلهيهم النعمة عن ذكر ربهم وشكره. وانظر وقتما نأكل شيئا نحبه، كم نتغزل في هذا المأكول؟! في طبخه، أو في وزنه، أو في المحل الذي يبيعه، أو في إتقانه، ثم ينفض المجلس في الغالب على لا شكر! أو قليل من الشكر! لا ذكر أو قليل من الذكر! نادرا ما ننتبه أن المفروض لما نأكل فنتمتع مباشرة ننسب النعمة إلى الله: "كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ"، لو فعلتم ذلك طيّب لكم المقام طيبا زائدا، وأيضا غفر لكم ذنوبكم، هذا معنى وهذا معنى.
1.    انسبوا النعمة إلى الله و استغفروه و اشكروه.
2.    أو معنى آخر: كلوا النعمة  وانسبوا النعمة إلى الله و اشكروه، سيكون أثر ذلك أن يطيّب عليكم حياتكم، ويغفر لكم في أخراكم.

ومن النعم التي أنعمها الله عليهم: أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة، - الظاهر أنها: قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف، وقيل: إنها الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها، بغاية السهولة، من الأمن، وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبينها، بحيث لا يكون عليهم مشقة بحمل الزاد والمزاد.

انظر كم نعمة عليهم؟
·        جنتان.
·        جعل الله بلدههم طيب.
·        وعدهم إن شكروا له أن يغفر لهم.
·        أن الله سبحانه وتعالى سهل لهم طرق التجارة.

حتى لما قالوا: (ما عندنا لا يكفينا) يسّر لهم طرق التجارة وأمن طرقهم وأبعدهم عن الخوف من أجل أن يصلوا إلى مرادهم، وهذا ذُكِر في الآية بعد ذكر إعراضهم: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} سيروا فيها ليال وأيام، ما وصفكم وأننم تسيرون ليالي وأيام ؟  آمنين.

وأنتم لو قرأتم في التاريخ ستعرفون ما معنى كلمة آمنين، مر على المسلمين أزمان يقول ابن كثير في البداية و النهاية: (لم يحج هذه السنة من هذه الجهة أحد لأن قطاع الطرق سيطروا على الطريق. هذه السنة لم يحج إلى بيت الله إلا نزر يسير من أهل مكة وما حولها لأن قطاع الطرق أحاطوا بمكة). اقرأ في البداية و النهاية وغيرها، ستجد معنى كلمة آمنين، والقوم اليوم قدرتهم على السفر بل قدرتهم على التنقل في داخل المدينة أمر لا يَشكُرون عليه، فقليل من الزحام ماذا يفعل في أعصابنا؟ تجدون ما تجدون من السباب! مع أننا في ظلال نعمة عظيمة، فلا دبابات في الشوارع، ولا أصوات لطلق النار، و لا خوف من خروج هذا ولا هذا علينا، أيا كانت بيوتنا سواء داخل الحواري أو في شوارع مفتوحة، الناس يرتادون بيوتهم ليلا ونهارا، فهذه (آمنين) نعمة عظيمة يذكّرنا الله بها، والتذكير هنا نفس تذكير قريش، ذكّرهم الله بالنعمة، ذكرهم الله بنعمتين غاية في العظمة {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} هؤلاء نفس النعمتين، (كلوا) أي أطعمهم، (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) أي آمنهم من خوف، فتبقى هذه هي سقف نعم الدنيا.
نحن ذكرنا سابقا أن الإنسان حتى يعيش مستقر النفسية غير متطلع إلى شيء لا يبلغه لا بد أن يجعل سقف أمانيه في الدنيا محدودًا بما ينفعه، ورد ذلك في الحديث، وهنا أيضا موطنان ورد فيهما الأمر:
·        من بات آمنا في سربه.
·        معافى في بدنه.
·        عنده قوت يوم.
 فقد حاز الدنيا بحذافيرها، أي مَلَكَ الدنيا بحذافيرها، يقول ابن عمر: (ولو كان له خادم لأصبح ملكا متوجا)، أي أنه بلغ الغاية في النعم. فهل هذه النعم محسوس بها؟ من كثر ما نحن غرقى فيها لم نشعر بها، وهاهم هؤلاء لا يقدرّون نعمة الله!

ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي: سيرًا مقدّرًا يعرفونه، ويحكمون عليه، بحيث لا يتيهون عنه {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} أي: مطمئنين في السير، في تلك الليالي والأيام، غير خائفين. وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم، أن أمنهم من الخوف.

يُقال في حقهم أن الله عز وجل يسّر لهم علم الاتجاهات، وقرّب لهم ما نسميه الآن بالخرائط المكانية، صار عندهم علم، فصار انتقالهم من بلدهم إلى البلدان التي يريدونها في وقت انتقالهم لا يتيهون، يسيرون في أقرب الطرق فيختصر عليهم الزمن و في نفس الوقت لا يضيعون، ثم يسّر الله لهم أن يكون من قريتهم إلى القرى التي فيها مصالحهم قرى كثيرة في الوسط بحيث أنهم لا يستوحشون، أي دلهم على مصالحهم، وجعل لهم من ألطافه نعيما لم يكن في أيديهم، أي لم يكن في أيديهم أن يجعلوا القرى في الطريق بحيث لا يستوحشون، فخفّ عليهم الزاد، حتى وهم مسافرون لا يحملون أشياء كثيرة معهم، مطمئنين أن هناك قرى يمكن أن يستمتعوا بمرادهم فيها، فتعلموا الجهات وعرفوا الطرق وماتاهوا، لأنه كما هو معلوم أنك بدون دليل تضيع، فجعل الله لهم في الأرض منارات يهتدون بها، كل هذه نِعم عاشوها واستمتعوا بها وحصّلوا بها نِعم الدنيا، وهذا كله معه رب غفور إذا عاملوه بالشكر.


ما النتيجة؟
" فَأَعْرَضُوا"، وكلمة (أعرضوا) تتسع وتضيق، أي تَصْلُح لكل أحد في نفس الموقف. أعرضوا عن المنعم وعن عبادته، نتيجة ماذا؟ لأنهم بطروا النعمة وملوها، جاءهم الملل. حتى إنهم طلبوا وتمنّوا أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى التي كان السير فيها متيسرا! {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بكفرهم باللّه وبنعمته.

ما معنى الإعراض؟
أي أن شخصًا يعطي الطريق الصحيح ظهره، يُعرض عن الطريق الصحيح، و المعرض لا يأتي إعراضه إلا بعد نداء،
أي أنّ الله يناديه وهو يُعرض عن ندائه! فبماذا ناداهم الله؟ بالنّعم.

بماذا أعرضوا عن ندائه؟
1.    ملوا النعمة.
2.    واعتادوها لدرجة أنه انعدم شعورهم بها.
3.    وتصوروا تمكنهم التام منها، تصوروا أنه لا يمكن أن تتغير الأحوال.

هذا لو استقر في القلب لابد أن يولّد شعورا بالاستغناء عن الله، وعن دعائه وعن سؤاله و عن الانكسار بين يديه و الذل له. شخص متأكد أن النعمة لن تتغير، متى سيسأل الله: يا رب بارك لنا فيها وثبتها علينا؟ متى وهو متأكد أنها لن تتغير؟! ثم شخص مَلّ النعمة (طفش)، فهذا متى سيقول يا رب ثبتها وهو أصلا كاره لها؟ متى سيطلب ثباتها أو بقاءها؟ ثم شخص اعتادها، مات في قلبه الشعور أنه مُنعَم عليه أصلا، ومادام ليس شاعرًا بالنعمة فهل سيقول: يارب لك الحمد والشكر ثبت علينا نعمتك؟!

نسأل مَن جاور الحرمين، الذين بينهم وبين الحرم أقل من 56 كيلومتر، أو الذين حول الحرم أيضا، لكن لأني أكلمكم يا أهل جدة فلنتكلم على الـ 56 كيلومتر. إلى أي درجة نحن نشعر بنعمة القرب من الحرم؟ إلى أي درجة نتذكر النعمة فنشكر الله ونسأله أن يثبتها علينا؟ لا تقولوا: نحن نعتمر في كل شهر مرة. أنا لا أتكلم عن الفعل، أتكلم عن المشاعر. هل تشعر أن الله اختصك فقرّبك؟ أم تشعر أن الأمر طبيعي أن تكون هنا وأصلا لا زيادة في ذلك؟! وكم يمر على الخواطر من شبابنا وشاباتنا الهجرة العكسية! كم يأتي في أذهانهم أن الأفضل لو خرجوا! فتصور أن شخصا قريب من مكان يحبه الله، ولو دخلت هذا المكان الذي يحبه الله يُبارك لك في عمرك وصحتك وأعمالك فتصلي الظهر كأنك صليت مائة ألف مرة، وتطوف حول الكعبة فتخرج وقد غُسلت من ذنوبك، تمسح على الحجر الأسود أو الركن اليماني فتتساقط ذنوبك. لو نويت عمرة وسعيت 7 مرات يقال لك: هذا موطن ادعو فيه بما شئت، هذا موطن لاستجابة الدعاء. كل خطوة ترفعها ترفعك درجة وكل قدم تضعها تحط عنك خطيئة، لكن الهَمّ ليس للآخرة لذلك لا قيمة لهذه النعمة عند كثير من الناس، عند مَن جاور الحرم، وأحيانا عند مَن طلّ عليه! لماذا؟ اعتاد. انظر للناس المحرومين البعيدين كم يحسدون هؤلاء القريبين! ويا لحسرة قلبي، القريبون بدون مشاعر اتجاه هذه النعمة! كثير من الأحيان أصلا ما تخطر هذه النعمة  على البال.

المقصود أنه قارب لك المسافات، وقرّبك من رضاه، وقرّبك إلى أرض يحبها، ويسّر لك الوصول، وجعل الطريق آمنا، وكل شخص منّا عنده من النعم التي تقربه من هذا المكان الذي يحبه الله لكننا غافلون تمام الغفلة عنه، واحسب النعم بعد ذلك على هذا.

والدان موجودان، أو والد منهما، باب للجنة مفتوح، دعاء مستجاب، رضا يصلح الدنيا، ثم لا يمر على خاطرنا أن نشكر الله على بقائهما أو بقاء أحدهما! ولا تسأل عما بعد ذلك من الأعمال، أنا لا أتكلم عما بعد ذلك. إذا جاء الأول جاء الذي بعده، إذا جاء الإحساس بوجود النعمة يأتي الذي بعده الذي هو أنواع الشكر.

الزوج باب من أبواب الجنة، لا بد من الشعور بنعماء الله أن يسّر هذا الباب. مهما عَسُر باب الزوج لا زال قريبا، فلم يقال لك: اخرجي بسيف للجهاد، ولم يقال لك: اعملي الليل والنهار. قيل لك: (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ). أليس هذا قريبا؟ قريب، ويسير على مَن يسره الله، لكن كم من امرأة تقول: (والله أنا كنت في بيت أهلي أحسن) وأخرى تقول لبناتها: (أحسن لكم أن لا تدخلوا هذه التجربة المُرة) إلى آخر أسماء الزوج المسكين في الجوال، إلى آخر ما يقال. ستقولين: (لكنه يقول كذا وكذا). أنتِ لستِ باب الجنة له فاتركيه، هو باب الجنة لك. كل شحص يفكر على قدر ما فُتح له من أبواب.

الأبناء نعمة عظيمة من الله، لو أحسنت تربيتهم أحسن الله إليك ببقائهم بعدك سبب لجريان الأجور في ظلمتك، سبب لإضاءة قبرك، وهم قريبون وفي متناول اليد. لو عَبَدْت الله بعبادة الاستعانة أعانك عليهم مهما صعبوا. في النهاية كم من متسخط على هذه النعمة!

هذه النعم التي غالبنا يشترك فيها، وهذا مختلف عن النعم الخاصة: أنه أعطاك عقلا يوزن الأمور، رزقك حكمة تتخذ قرارا سليما، أعطاك ذكاء، سرعة حفظ ...الخ.  كل هذا بين ثلاث مشاعر: إما عدم الشعور بالنعمة، أو الملل منها، أو شعور أنها لا تذهب، أني متملّكها، صاحبها، ولهذا لما تأتينا لحظات وننسى بعد قوة ذاكرة نفجع على أنفسنا ونقول: أي شيء أأكله لتبقى ذاكرتي كما هي؟ أي شيء أفعله من تمارين عقلية لأبقى كما أنا؟ إنما هذه نعمة كُفِرت و لم تُشكر فكان هذا الجزاء!

 المقصود من كل هذا النقاش أن نرى أن قوم سبأ تكرروا نماذج. أين النماذج التي تكررت؟ في نفوسنا. ما الفعل؟ عُد نعمة الله علينا: نأكل ونشرب، آمنين، وفوق هذا أصحاب صحة الحمد لله جيدة، فأتى الثلاثي الذي تـُبنى عليه متعة الحياة، وأعظم من هذا وهذا أنك لو شكرت طيّب الله لك الحال " بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ".

لماذا يعرض هؤلاء بعد كل هذه النعم؟ إما ملل، أو عدم شعور بالنعمة، أو إحساس بتمكنهم من النعمة. ثم يأتي على هذا كله تنغيصات لا تخلو الحياة منها. كل هذه النعم ونحن ناسون لها، ثم يأتون إلى سنة الله في الحياة وهي التنغيص فيجعلونه العظيم الذي يكدر الحياة، فيصبح إعراضهم مُركّبا من عنصرين:
الأول يدور حول النعمة: نسيان، ملل ، إحساس بالتمكن.
الثاني: تعظيم منغصات الحياة.

لو قلت: اذكري لي عيوب أولادك؟ زوجك؟ قد نصل لعشرة.
لنحصي حسنات الزوج، هذه تحتاج تفكير حتى نكون مخلصين! أترون هذه القاعدة؟ تُجرّ على كل شيء. السيئات ظاهرة، واضحة، والحسنات تكاد تكون مخفية. ما هذه السياسة النفسية؟ هذه سياسة تعظيم النقائص، كل شيء ناقص أعظمه.

قولي لابنتك: عندنا (عزيمة ) نريد أن نذهب إلى أناس. أول كلمة تقولها: ليس عندي ما ألبسه. مع أنك لو فتحت خزانة الملابس تجدينه يكاد يسقط! في تصورها أن الناقص عليها كل شيء، واحسبي على ذلك كل شيء. كم مرة سُئِلنا: ماذا ينقصكم؟ وكم مرة قلنا: الحمد لله لا ينقصنا شيء، نحن بخير حال. وأحيانا لما يقال لنا: ماذا ينقصكم؟ و لا يكون عندنا ما ينقصنا نفتش لنُخرج ما ينقصنا! أترون هذه السياسة النفسية كيف تحتاج لتهذيب؟! دائما قطّع عروق الاحساس بالنقص، وهذا ليس له علاقة بالزهد أبدا، أنا لا أتكلم عن الزهد فالزهد مرحلة أعلى بكثير من ذلك، أنا أتكلم عن سياسة عدم إذهاب قوة النفس. لا تٌذهب قوتك بالتفكير بالمفقود، استمتع بالموجود. وهذه السياسة تريح نفسك من التعلق والقلق والوهم  وأحلام اليقظة -ظاهرة عند الشباب-، نائمون في أحلام اليقظة وتاركون الواقع تماما، منفصلون عنه، سبهللة لا في أمر الدين ولا الدنيا، ينام على الكنبة فقط يحلم ويحلم!

هذا الواقع لو رضيت به ينمو وينمو. لو نظرت لمسألة مثل التجارة. التاجر يبدأ بالشيء البسيط جدا الذي لو حسبته بالعقل تقول: هذا لا يأتي بشيء، لكن الله لما ينزل البركات على الأشياء يفتح الفرص للعباد، ونحن كلنا مثل الطير لو توكلنا حق التوكل، نغدو من أجل أن نحصل خيرا فتُفتح لنا أبواب لا تخطر على خواطرنا. أكون قد ذهبت لأحصّل ريالاً فيفتح الله لي غدا بابًا لأحصل مائة ريال، والأمر ما كان يمر على الخاطر. فالمقصد أن هذه المعادلة أهلكت طاقات النفس، منعت الزيادة، والزيادة محبوسة بالشكر. بركة السماء والأرض محبوسة بالإيمان والتقوى فالله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} كيف سيعاملهم؟ {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} من أين؟ {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. أي أن بينك وبين البركة باب، حُبست  البركة وراء هذا الباب، ماهو الباب؟ أن تؤمن وتتقي، وأعظم الإيمان أن تؤمن أن النعم كلها من الله فتكون لاهجا بالشكر.

ما الذي يحبس الزيادة؟ الشكر، فالشكر إن أتى فُتح باب الزيادة. أي أن الزيادة محبوسة مرهونة بالشكر، ونحن عندنا الزيادة مرهوبة ومحبوسة بالجد و العمل!! هل هذا يعني أن العمل و الجد لا علاقة له؟ أنت إذا استعملت الشكر تُرزق الحول والقوة على الجد والعمل وفتْح الأبواب والتوفيق في اتحاذ القرار...الخ. هات الشكر يأتي وراءه التوفيق لكل شيء "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ".

كثير ممن يملك النعمة لما يدخل في هذه المعادلة التي من عنصرين:
·        عنصر يُفْقِده الشكر.
·        وآخر يعظّم في قلبه المفقود.
لما يمر بأقل منغصات يصل إلى حال اليأس من روح الله، وتجده يسقط في أقل ضيق، ولو ذكّرته بالنعم لا يذكر شيئا، وتجد ألسنة تكفر بنعمة الله فتقول لك: (أنا مستعد أن يأخذ ربنا كل النعم ويعطيني هذا فقط).كم قيل هذا الكلام؟ وفي هذا سب للرب! وسب لحكمته سبحانه وتعالى! هل تظن أن يمنع عنك ما تحتاجه ويعطيك ما لا تحتاجه؟! هذا من سوء الأدب مع الله أن يقول أحد: كل ما أعطاني ربي لا أحتاجه أصلا، و الذي لم يعطيني هو الذي أحتاجه. هذا من سوء الأدب مع الله. ألا تعلم أن الله هو العليم الحكيم؟ يوسف عليه السلام بعد كل الذي مَرّ به يقول: "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". أي:  لما قلبني في هذه الأحوال وأعطاني هذه العطايا وهو يراها عطايا، يراها أنها من آثار لطفه وعلمه وحكمته، فكيف للعبد الضعيف الذي لا يعرف لنفسه مخرجا من أزمة يقول على ربه اللطيف العليم الحكيم أنه أعطاه ما لا ينبغي عطاؤه ومَنَعَه ما يحتاجه؟! هذا سوء أدب مع الله، واعتداء عليه سبحانه وتعالى. هذا بالضبط مسبة الرب العظيم، فلو كنت معظما لأحسنت الظن به واعتقدت يقينا أن مابين يديك هو الذي تحتاجه، وما حُبس عنك ومُنع هو بالضبط مالا تحتاجه. ثم استعمل التكيف.

التكيف النفسي قدرة عند الخلق لكن الشيطان يحجزنا عنها. كل النفوس بل حتى الأبدان تتكيف مع ما يعطيها الله. النفوس و الأبدان أصلا خَلَق الله فيها القدرة على التكيف مع ما يعطيها الله. الذي يصاب بنوع من الفشل الكلوي -أسأل الله أن يحفظ الجميع- ثم تنتشر السموم في بدنه، ولم يتعالج بعْد. يبدأ الجسم يتكيف مع السموم، يتعايش معها، لدرجة أنه لو بقي 3 أو 4 سنوات بهذه الحالة وفي بدنه السموم و ما غسل، أول مرة يغسل فيها يحصل له اختلال في بدنه، أي لما يأخذون منه السموم يحصل له اختلال في البدن، لماذا؟ من قوة تكيف البدن مع السموم! فسبحان الله كيف الله عز وجل حتى لما يبتلي الإنسان يجعل عنده قدرة على التكيف مع الابتلاءات. هذا المثل البدني عظّمه أنت في المسائل المعنوية، الله عز وجل ينزل الضيق وينزل معه الصبر، وينزل معه الفرج. ثلاثي: ضيق، صبر، فرج. تضيق الدنيا، تُرزق صبرا، ثم هذا الصبر يرفعك إلى الفرج. الصبر هو التعبير عن التكيف.كلنا بدون استثناء عندنا قدرة على التكيف مع الأحداث والأوضاع والأحوال. إذا جعلونا نعيش في بيت صغير نتكيف، وإذا جعلونا نعيش في بيت كبير نتكيف.

لما أعطاك الله كل شيء يعينك على أن تكون من الشاكرين، لماذا تعرض؟ تعرض لماذا بعد هذا كله؟
معادلة الإعراض سببها أمران:
·        سبب يتصل بالنعمة الموجودة.
·        و آخر يتصل بالنعمة المفقودة.

أما السبب الذي يتصل بالنعمة الموجودة فأحد 3 مشاعر:
·        ملل.
·        اعتياد للنعمة.
·        شعور أنها تحت يدي.
هذا مع الشيء الموجود.

أما مع الشيء المفقود فأعظّم كل مفقود. هذا يساوي شخصا معرضا.

الجزاء:
"فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ".هذه عقوبتهم. فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة التي أطغتهم.

النعمة التي كانت عليهم وهي سبب طيب أرضهم وخروج زرعهم هي الماء، هذا الماء نفسه كان سببًا لغرقهم.
فأبادها عليهم فأرسل عليها سيل العرم، وسيل العرم أي السيل المتوعر الذي خرب سدهم مع حرصهم على صيانته، وأتلف جناتهم وخرب بساتينهم. جاء الماء فأزالهم!! وهذا الكلام سهل جدا تصوُّره، سواء أهل جدة يتصورونه أو كل مَن رأى أحداث اليابان سيتصوره. كيف أن ماءً لطيفًا وليس نارا لكنه يُحْمَل حملة واحدة! فيجعل الأرض كأن حربا كانت فيها -هذا أقل تصوير يُصوّر به الدمار الذي يحصل بعد الماء- كأن حربا قامت هنا وهذه آثار الحرب! وهذا الماء اللطيف فكيف لو كان نارا ماذا كان سيكون؟!

مِن هنا فَهِمْنا أن النعمة نفسها التي تعامَلْت معها ببطر هي نفسها التي ستكون سببا للعقوبة! أي: تتحول النعم التي بين يدي الإنسان بدلا من أن تكون نعمة تصبح عقوبة. كم من أموال تركها الورثة على أنها نعمة للوارثين ثم كانت عليهم عقوبة؟ تقطعت الأرحام، قامت القضايا في المحاكم، حصل وحصل وحصل بسبب هذا المال الذي هو في أصله نعمة لكنه تحول إلى عقوبة.

ثم تبدلوا بعد الجنتين التي عاملوها بالبطر بجنتين، ووصْف الله عز وجل لهذه الأشجار التي لا تنفع بجنتين من باب العقوبة! أي أن الله عز وجل وصف هذه العقوبة التي نزلت عليهم بأنها جنتين، لأنهم يستحقون. ما رأوا تلك الجنتين الخصبة جنتين فخذوا هذه الأشجار التي لا تنفع وطعمها مُر، خذوها و اعتبروها جنتين لكم، لأن مثلكم لا تصلح له النعم! ما رأيتم الجنتين جنتين كما ينبغي، فانظروا لهذه على أنها جنتين. العقوبة هنا حتى في التعبير. كان عندهم جنتين يستمتعون بها، فلمّا ما شعروا بنعمتها أبدلهم الله بصورة تشبه تلك الصورة لكنها لا تنفع. فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة والأشجار المثمرة وصار بدلها أشجار لا نفع فيها. لماذا لم يتركها أرضا بور؟ زيادة حسرة، لتعرف قدرة الله، فذلك الخضار والشجر كله سيذهب وستنبت هنا أشجار لكنها ليست تلك الأشجار!

{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} أي: شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا {خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وقيل أن خمط معناها مُر، فأصبح فيها ثمرة تُؤكل لكن طعمها مُر، فلا يُحتمل التلذذ بها لكن يقوم بها البدن. هم إما أن يأكلوه أو يموتوا، فسيأكلونه مع مرارته!  فانظر كيف يضطرهم إلى النقمة. كانوا يتمتعون بالطعام اللذيذ، ذهب الطعام اللذيذ، وأتت أشجار فيها طعام لكن طعمه مُر، فإما أن يأكلوه أو يموتوا، فسيأكلون لكن سيأكلون المُر. فسيأكلون من الأشجار لكنها ليست كتلك الأشجار، وسيأكلون ويجدون طعما مرا مضطرين لأكله. ثم بقي عندهم شيء من سدر قليل، و السدر هي الشجرة المعروفة، لها ظلال لكن إنتاجها قليل، وهي أصلا في أرضهم قليل، لكنها زاهرة، مظلة، ثم لا إنتاج! الإنتاج قليل، وهي أصلا في أرضهم قليل، وهذا من جنس عملهم. أشجار كالأشجار، ثمار كالثمار، لكن هذه تنفع، وتلك لا تنفع.

فلما تنزل العقوبة على البطر لن تستطيع تفاديها، عقوبة البطر لا تستطيع تفاديها. اضطروا أن يأكلوا من مُر الشجر، وهكذا كل بطران سيضطر أن ينفعل مع العقوبة رغما عنه! أي ستُغلق عليه كل الأبواب. كان في بيت واسع وبطران عليه طيلة النهار. يقول: والله أموت ولا أبيع بيتي. فتأتيه أحوال تضيق عليه الحياة إلى أن يضطر إلى بيعه فينتقل من السعة إلى الضيق. وهو لو كان باختياره ما فعل لكن الله عز وجل يقدّر عليه من الأفعال التي تضطره لدفع ثمن البطر الذي كان يعيشه! واسأل أهل الواقع والأسهم والتجارات ماذا يحدث لما يعاملون الله عز وجل بما لايليق، يعاملهم بحلمهم سنين ثم يدفعون ثمن البطر الذي فعلوه.

كيف عاملهم الله عز وجل؟
هذا ليس ظلما منه لهم، وليس تعديا، والله عز وجل منزه عن الظلم سبحانه وتعالى، لكن هذا جزاؤهم بما فعلوا، فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح بُدلت تلك النعمة بما ذكر.

ثم في نهاية الآية يقول سبحانه وتعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}. أي: مَن كفر بنعمة الله وبطر النعمة هو الذي يُجازى لأنه سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا، فالمسألة الآن تحتاج منا إلى شديد وكثير مراجعة. كلما أُنعم عليك بنعمة اعلم أن الذي يثبتها ويزيدها هو شكره سبحانه وتعالى، وإن تركت الشكر عاملك الله بالحلم، فإن زاد بطرك لابد أن تقع عليك العقوبة لأن الله سبحانه وتعالى يعامل العباد بعدله. ثم كل العقوبات في الدنيا إنما هي ذوق! المصيبة الكبرى لما تجتمع هذا العقوبات على العبد يوم القيامة.

انتهت سلسلة لقاءات الشكر ولله الحمد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.