الثلاثاء، 20 يناير 2015

امتلاء القلب بمحبة الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نبدأ بالكلام على مسألة هي غاية في الأهمية لكل شرائح المجتمع، سواء كانوا طلاب علم أو عوام أو طلاب علم مبتدئين، وهذه المسألة نكررها دائمًا لأهميّتها.
الموضوع هو موضوع (القلب) وامتلاؤه بحبّ الله، وما يزاحم هذا الامتلاء.
خلق الله -عزّ وجلّ- العباد لتبقى قلوبهم موحّدة له تعلّقًا وتعظيمًا، بمعنى أن لا يقع في قلب العبد غير الله متعلّقًا يتعلّق به، أو معظّمًا يعظمه.
وهذا الكلام كُرّر مرارًا عليكم، لكن نريد أن نطرحه الآن بطريقة أخرى، نتكلم عن ما يزاحم التوحيد في القلب، يعني عن ما يدخل شراكة مع الله في التعلّق أو التعظيم. والمسألة الأكثر خطورة وأكثر ملامسة هي الشراكة في التعلق، بمعنى أنه يقع في قلب العبد محبوب أو محبوبات تزاحم انفراد الله بالمحبة والتعلّق. وهذا الذي يقع في القلب ممكن أن يكون متغيّرًا، لكن يبقى وصفه أنه أمر يُتعلّق به، بمعنى أنّ الإنسان يبقى يتعلّق، لكن كلّ يوم له متعلّق جديد.
أيضًا الأشياء التي نتعلّق بها ممكن أن تُبادلنا هذا التعلّق، وهؤلاء هم بنو آدم (الأشخاص)، وممكن أن لا تبادلنا مثل الجمادات من بيوت أو أموال أو مجوهرات...
أحيانًا المتعلّق به هذا يكون صعب المنال، فيبقى التعلق بِنَوْلِه، يعني هذا متعلِّق بمرتبة معينة أو وظيفة معينة أو درجة علمية معينة، فيكون بذله -تعلّقه- من أجل أن ينال هذا الشيء، وممكن يكون المتعلق موجودًا ومتوفّرًا.
إذًا أشكال التعلّق التي تزاحم التعلّق بالله لو حُصرت سيكون مجموعها لها صورة واحدة، ما صورتها؟
صورتها: أن القلوب تلتفت لهذا المتعلّق به متلذّذة بالالتفات، تنتظر من المتعلق به الإسعاد، هذا الضابط مهم جدًّا، وسنبني عليه بقية الضوابط.
الآن نحرر الموطن التي يحصل فيها التفات للقلب عن الله.
الضابط: أن الشخص يلتفت قلبه عن الله، ماذا يريد؟
يلتفت وهو متلذذ بهذا الالتفات ينتظر من هذا الالتفات أن يكون سببًا لإسعاده!

نقدّم المحبة الطبيعية لئلا يشكل:
يخرج من هذا: أن يكون الشخص ينتظر من الله أن يسعده بما وهبه من نِعَم.
مثلاً: المحبة مع الأبناء محبة طبيعية، كيف تكون علاقتي بهم؟
متمثّلة بقوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}[1].
إذًا قلب العبد المتّزن يستمتع بما جعله الله وسائل للاستمتاع، لكنه ملتفت إلى الله أن يجعل هذا سببًا لإمتاعه.
واحد يلتفت عن الله للإمتاع، وآخر يلتفت لله من أجل أن يقع الإمتاع:
الذي يلتفت إلى الله: يعلم أنّ الأمر أمر الله، وأن الملك ملك الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء، معتقد يقينًا أنّ تحصيله للمصالح ما كان إلا بأمر الله، وأن إمتاعه بها لا يكون إلا إذا أذِن الله.
هذا الفارق الدقيق يجعل الموحِّد المتعلّقات ليست محطًّا لآماله، ولا يصِف لله من أي باب ستكون سعادته، ولا يقترح على الله حلولًا لمشاكله، بل هو ملتفت إلى الله، متعلّق به أن يهبه ما يصلح حاله.

التعلّق بغير الله هو الالتفات عن الله، كأنّ العبد لمّا يجد المتعلّق به يركن إليه، ويتصوّر أن سعادته بين يدي هذا المتعلّق به، وما تكون إلا حال وجوده، وإذا فُقد فَقد الأنس والسعادة!.
يشكل على هذا أننا نقول: من الطبيعي أن يكون في قلوبنا محبة للأشخاص والأبناء والأزواج ...؟
الجواب: أن هذه المحاب الطبيعية كلها وُجدت ابتلاءات للقلوب، هل يركن إلى محابه هذه ويتصوّر أن وجودها أو تحقّقها غاية مراده؟! أم أنه يجعل مراداته ومحابه وسيلة لزيادة التعلق بالله؟

نضيف مفهومًا جديدًا، معروف لكن نصله بمسألة التعلق: ألا وهو مفهوم (الابتلاء).
العبد موقن يقينًا -كما ورد في سورة العنكبوت وغيرها- أنه لن يترك إلا وهو مبتلى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[2]، لا بد أن يُفتن، يُفتن بماذا؟
أعظم الفتن تكون في المحبوبات التي تعلّقت القلوب بها، وقد ذكرنا أن المتعلقات قد تكون مادية وقد تكون معنوية. يعني قد تكون أشخاصًا محبوبين، وقد تكون أموال، أو بيوت، أو جمادات أو أحياء، قد يكون المتعلق به موجودًا ويبادلني أو لا يبادلني، وقد يكون المتعلق به بعيدًا وأبقى متعلقة بنَوْله!
المتعلقات هذه أشكال وألوان: متعلق بدرجة علمية، متعلق بمكانة اجتماعية، متعلق بخيال لا يعرفه! عشق الصور! ... كل هذه أنواع عجيبة من التعلق.
تأتي وراءها مفاهيم غاية في الخطورة: أهمها: مفهوم الابتلاء.
ميل القلب لغير الله تلذّذًا بهذا الميل، طلبًا للسعادة، هذا هو التعلّق.
المطلوب أن يكون أُنْسُك التامّ بالله، مطلوب أن لا تزاحم لذّة التعلّق بالله لذّة، ولا يزاحم الشوق إلى الله وإلى مراضيه شوق.
الواقع أنه يُقطع علينا بابتلاءات تسبّب لنا الالتفات، فنشتاق لغير الله! نتلذّذ عند غير الله...!

هناك مفهومان متناقضان:
1.     أن يصبح لك تلذذ لكن يلتفت قلبك إلى الله.
2.     أن لا تبعد فتتلذّذ فتأنس بغير الله.
رأس المفهومين: التفكير في نهاية العبد وفيما سيحاسب عنه.
أنت لمّا تنتهي من الحياة أول شيء يحصل لك تنقطع عن كل المتعلقات، بحيث لا يكون لك أُنس إلا بما جعلته لك أُنْسًا، من العمل الصالح -نسأل الله من فضله-، أو خلافه.
أمر آخر: يوم القيامة ستحاسب على إحسانك في عبادة ربك الذي من أجلها خُلقت.
هذه النهايات تجعلنا ننظر إلى البدايات، مادام أني لن آنس إلا بعملي، إذًا مطلوب مني في الحياة أن لا آنس بغير هذا على الحقيقة.
الأمر الثاني: أنا سأحاسب يوم القيامة على أعمالي وعلى تعاملي مع الناس، ففي الدنيا لابد أن أراقب هذه المسألة وألاحظ أين مكان قلبي.
المقارنة بين المفهومين:
أنك يا عبد يسمح لك بالتلذذ بما رزقك الله من المحاب الطبيعية حبك للمال للأولاد ... بشرط أن لا يقع قلبك بالالتفات به.
قلبك ملتفت بالأنس بالله والتلذذ بالتعبّد له، وهذه المحاب الطبيعية الالتذاذ بها رزق من عند الله، فاطلب من الله أن يرزقك ما يؤنسك ويصلح شأنك ويبعدك عن الحاجة إلى الناس، ما يشبعك، ما يهنئك وقت نومك ... فكل المحاب طبيعية مطلوب منك أن تعلم أنها حاجات أوجدها الله في نفسك ابتلاءً. هذا الذي تحبه حبًّا طبيعيًّا لو كان من أكل وشرب، مطلوب منك أن تطلب من الله أن ينفعك بها، أن يجلبه إليك، فأين البلاء؟
هذا المفهوم الثاني: تأتي هذه الأشياء في حياتنا تدخل كأنها بلاء يلفت قلوبنا لها.
مثلاً: يفتح لك باب المال، يفتح لك باب الزوجة أو الزوج وحبّه، ابتليت بأن قلبك بدلًا من أن يكون ملتفتًا إلى الله يلتفت لهذه الأشياء الطبيعية الموجودة.
ماذا يجب عليك أن تفعل؟
لا تجعل غاية الأُنْس عندهم، لا تصفهم بالنفع الدائم، لا تتصوّر أنهم سبب الراحة المطلقة.
مثال آخر: اجتمعنا ببعضنا، وحصل في هذا الاجتماع شيئًا من الأُنْس والسعادة، الذي أتى به هو الله، وليس شرطًا أن يحصل هذا الأنس وهذه السعادة كلما اجتمعت بهم، ففي المرة التالية اطلب من الله أن يشرح صدرك، وهو وحده الذي سيشرح صدرك كما يشاء.
لا تتصور أن هذا الشخص شرط أن يكون موجودًا حتى يشرح صدرك.
لا تعش لهذا، ولا تكن رهنًا لأحد، وليس شرطًا أن تكون في هذا المستوى المادي أو هذا المصروف موجود أو هذا المال موجود حتى تكون سعيدًا، أو هذا الأكل كافٍ حتى تكون سعيدًا، أو هذا الشخص موجود في حياتي حتى أكون شخصًا متّزنًا وسعيدًا! لا.

توجد جهة أخرى: يُبتلى الإنسان بالفَقْد، ويكون في قلبه حب لهذا المفقود، فيأتيه البلاء من جهة تعلّقه بالله أن يصبّره، تعلّقه بالله أن يجبر قلبه.

بدأنا بمقدّمتين:
1-    سُمح لك أن تكون لك علاقات مع الناس بالمحبة الطبيعية، ومسموح لك أن تتلذّذ بها، لكن نقطة البداية أن لا يلتفت قلبك إليها شاعرًا أن اللذّة عندها! هذا الخطأ، إنما قلبك معلّق بالله، هو سبحانه الذي يسخّر لك ما يجعلك في حال طمأنينة، قلبك طوال الوقت معلّق بالله أن يجلب لك ما يكون سببًا لإسعادك بالمحاب الطبيعية أو بغيرها.
2-    نحن قوم نُبتلى بأشخاص، بمرغوبات، بمحبوبات، بمتعلّقات... تأتي تصادمنا في طريقنا، نُبتلى هل يلتفت قلبنا لها أم تبقى قلوبنا معلّقة بها؟! تأتي بقوة هذه المتعلقات -البلاءات-.
مثلاً: ابن، أب، أخوة، وهذه دائمًا يحصل فيها إشكال، علاقة دخلت على العبد فيها نوع تلذّذ، هذا نوع بلاء؛ لأنه المطلوب منك أن لا يلتفت قلبك على هذا الشخص على أنه مصدر للأُنس والراحة والتلذذ!

تقول: أنا آنس لما أراه وأكلمه. نقول: لابد من التفريق بين المفهومين وهما غاية في الدقّة: لا يلتفت قلبك للشخص، اعتبر الشخص كأنه مال لتتصور المسألة، ليس من المنطِق أن تشعر أن هذه الأوراق سبب لسعادتك! تشعر أنها شاغلة فكرك، ملتفت إليها، لكن تصوّر أنك مُبتلى، المبتلى ماذا يفعل؟
المبتلى يزيد تعلّقًا بالله أن يجاوز به البلاء، يزيد تعلّقًا بالله أن يصلح له ما ابتُلي به ويجعله سببًا للبركة عليه، ليس شرطًا أن يفقده، نحن نتكلم عن بداية المسألة وليس وقت ما تصل لحدّ العشق!
مال دخل علي في حياتي، بيت، منصب، درجة علمية... هذا يلفت نظري، يبقى قلبي متعلقًا بالاستمتاع به، أشعر أني لما ملكته كل مشاكلي حُلّت!
كل هذه تفكيرات باطلة، كل لذائد الدنيا زائلة، آلامها قبل لذاتها!
ماذا أفعل؟
تصور هذا الشخص، أو المال، أو البيت، أو الدرجة العلمية... بلاء، لا يجب زواله، لكن من أول الأمر تعامل معه على أن الله ابتلاك بهذا المال، فتوسّل إلى الله أن يبقيه سببًا لصلاحك، لا تركن له، لا تشعر أنه موجود إذًا حلت مشاكلك! لا تتصور أنه ملجؤك ومدّخلك وهو الركن الشديد .. بل تصور أنك لكل شيء فاقد، وأن الله بمنّته وكرمه ينفعك بهؤلاء.
لما نفعك به في صحبة أو جلسة أو لقاء... ليس شرطًا أن يكون في كل لقاء سببًا لصلاحك، لا تصفهم بالنفع الدائم، ولا تصفهم بأنهم سبب للراحة الدائمة!، هذا الموقف كان فيه سبب الراحة، لعلم، انشراح الصدر (رزق من الله)، الموقف الثاني لن يكون فيه الراحة إلا إذا توسّلت إلى الله أن يجري لك انشراح الصدر، قد يجري على يديهم أو على غيرهم..

أعلم يقينًا أن هذه المفاهيم صعبة وتحتاج إلى مناقشة عدة مرات حتى تتفكك مفاهيمها..
في الحقيقة أن هذا المفهوم مهما كرّرنا فيه نشعر أن المفاهيم جديدة، لكن المطلوب الآن في هذا اللقاء ليس مجرّد المعرفة، المطلوب من هذا الكلام شدة التصوّر له.

نحتاج أن تفكّر في أن المفروض والحقيقة أن يكون أُنسك بالله، وهؤلاء الموجودون عبارة عن أشياء جعلها الله سببا للأنس، ابتليت بها، لا يميل قلبك لها أُنسًا! استأنس بها على قدر ما يعطيك الله فيها أُنسًا، وإذا نقص شيء منها من الأنس لا بأس، فأُنْسك الحقيقي بالله.
كلما نضجت اضمحل في قلبك الأنس بشيء غير الله، إلى أن تُقبض أرواحنا ولا أُنس إلا به -نسأل الله من فضله- فيدخل قبره مستأنسًا!
وهذا هو الهمّ، الهمّ: أني ماذا سأفعل لما أكون وحدي؟! بماذا سآنس إذا اعتدت على عدم الأنس بالله؟!

ونسأل الله تعالى أن يتفضّل علينا بالفهم والعلم عنه أن يشرح صدورنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل قلوبنا مستأنسة به سبحانه وتعالى، وأن تبلغ قلوبنا معرفة الطريق للأنس به سبحانه وتعالى.
انتهى اللقاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




[1] الفرقان: 72.
[2] العنكبوت: 2.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.