الأحد، 7 ديسمبر 2014

الدعاء هو العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم
° الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ °
[ألقي هذا اللقاء في شهر رمضان المبارك عام1430]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقاؤنا إن شاء الله في شرح حديث ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))[1].
هذا مناسب لهذه الأيام المباركة، فإن أعظم ما يكون في هذه الأيام المباركة دعاؤه سبحانه وتعالى وذكره.
فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين أحسنوا في دعائهم وذكرهم لله تعالى.
حديثنا هو ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)).

لماذا كان الدعاء هو العبادة؟
لأن الدعاء فيه من التضرّع إلى الله، وإظهار الضعف والحاجة إليه أعظم ما يكون من العبد، فلذلك كان هو العبادة.
دعاء المسألة العبد يكون فيه أخشع ما يكون وفِكْره حاضر.
وأنتم تعلمون أنه كلما كان الفكر والقلب حاضر في العبادة، كلما كان صاحبها أقرب إلى الله.
فمن كان قلبه حاضرًا، كان دعاؤه مستجابًا.
لذلك القلب الحاضر يكون صاحبه عابد، فلما يكون قلبك حاضر في الصلاة تكون عابدًا كما ينبغي.
كذلك الدعاء، الغالب أن الإنسان لو كان له حاجة، يكون حال دعاؤه قلبه حاضر، فلذلك كان الدعاء هو العبادة؛ لأنه في الغالب أن الداعي يكون قلبه حاضر.
1-             الدعاء فيه التضرع إلى الله وإظهار الضعف والحاجة وهذا من أعظم ما يجعل الدعاء هو العبادة.
2-             الدعاء كلما كان القلب فيها أخشع، كلما كان صاحبها أقرب، والخشوع وحضور القلب أقرب ما يكون في الدعاء.
3-             أيضًا الدعاء هو العبادة لأن الدعاء ملازم للتوكل وللاستعانة، فإن التوكل هو اعتماد القلب على الله، والاستعانة هي اللجوء إليه طلباً للعون.
والتعبير عن هذان الأمران -التوكل والاستعانة- سيكون باللسان دعاءً وطلبًا، والتوكل مِن أعظم العبادات؛ لذلك كان الدعاء هو العبادة.

ومما تعلمه: أن الله من رحمته بعباده ينزل عليهم الحاجات، ويضيق عليهم أمور، من أجل أن يخرج منهم هذا الدعاء.
ولابد أن تتصور أن الداعي لما يدعو الله، من المؤكد أنه يدعوه لمصلحة ومنفعة تلحقه في الدنيا أو الآخرة. فالذي يدعو ربه للدنيا، لما لا يتحقّق له مراده، ربما ظنّ أن سعيه ضاع!
وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم دفع هذا الوهم بقوله: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، كيف ؟
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء هو العبادة سواء أجيب -أعطاه- العبد ما سأله أو لم يعطيه فإنه كسب العبادة بدعائه، كما لو قرأ أو صلى أو صام، فإن حصل مع هذه العبادة التي هي المقصود الأعظم من الدعاء (أن تعبد الله) مطلوبه، وإلا فهو غانم في كل الأحوال، غانم عبادة ربه.
فعلى ذلك.. وجب شكر الرب سبحانه وتعالى أن أمرك بالدعاء، وأن يسّر لك الدعاء، وأن أوقع عليك الحاجات والضرورات إلى سؤاله لتحصل لك هذه العبادة العظيمة.
لذلك كان بعض السلف يقول: "إنه تكون لي حاجة إلى الله، فأدعوه فيفتح لي من لذيذ مناجاته ما أتمنى أن حاجتي لم تُقضَ!"، لماذا ؟
يخشى من انصراف قلبه عن هذه اللذة، يخشى أنه إن حُقّق له مراده يقع في قلبه برود تجاه الدعاء.
لذلك من النعم عليك أن يورثك الله حاجة تلجأ بها إليه.

ومما تراه بتكرار: أن كثير من الناس يجدون في قلوبهم ثُقلاً لهذا الدعاء، وما يثقله عليهم إلا الشيطان، فلابد أن لا تقتصر في قصدك ونيتك أثناء الدعاء على حصول المطلوب من أجل أن لا يسيطر عليك الشيطان.
وأنت تدعو اجمع قلبك أن تقصد التقرب إلى الله بالدعاء وأن تقصد عبادته التي هي أعلى الغايات.
فعلى هذا تكون على يقين من نفع الدعاء، وأن الدعاء هو العبادة وخلاصتها، فالدعاء يجذب القلب إلى الله، وتلجئك الحاجة للخضوع والتضرع له.
وهذا المقصود الأعظم من الدعاء أن تبقى خاضعاً متذللاً منكسراً؛ ولذلك يبغضه الشيطان ويثقله عليك.
وهذا الدعاء الذي فيه ذل وانكسار وطلب، أكمل بكثير من كثير من أحوال العبادة، وأكمل من بكثير من أحوال طاعة لا يوجد فيها هذا الذل والانكسار.
فلذلك كان من استولى عليه الشيطان، فثقّل عليه الدعاء، في حال نقص وحرمان لهذا الفضل، ولمثل هذا فلتنافس المتنافسون.
وهذا من ثمرات العلم النافع، فإن الجهل منع الخلق كثير من مقاصد العبادات، لو عرفوها لقصدوها.
ولذلك أنت مرفوع الدرجة مادام أنك بين يدي ربك سائل ومنكسر وراجي وخائف ولك مقاصد لا تسأل فيها إلا ربك..
فاجمع قلبك وقت الدعاء أن لا يكون مقصدك فقط ما تدعو وإنما يكون مقصدك أن تعبد، فالدعاء هو العبادة.

فكما ترى نفسك عابداً بالصلاة والصيام، كن عابداً بالدعاء.
ولذلك كلما كثر احتياجاتك وحاجاتك وقابلت هذه الكثرة بكثرة الدعاء، كلما كنت مباركاً طيباً.
والمحروم من حرمه الله.
فالله عز وجل ينشئ لك الحاجات لينشأ منك الطاعات والانكسار والذل بين يديه.
واعلم أن الأدعية القرآنية والنبوية فيها الكفاية، ولما تدعو بها لابد أن تتنبه أن الأمر بها والثناء على الداعين بها يستتبع –وراءه- لوازم ومتممات، فلما تسأل الله الهداية يستدعي هذا فعل جميع الأسباب التي تدرك بها الهداية.

ولما تسأل الله الرحمة يقتضي مع ذلك فعل الممكن من الأسباب التي تنال بها الرحمة والمغفرة.
تقول رب ارحمني وهناك أسباب للرحمة.
فما أسبابها ؟
تظهر لك في الكتاب والسنة، معروفة أسباب الرحمة، معروفة أسباب المغفرة، معروفة أسباب الهداية.
فمثلاً يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنيايا التي فيها معاشي، ما الذي يقتضيه هذا الدعاء ؟
يقتضي أن تسعى في إصلاح دينك. كيف تصلح دينك؟
اسعى للعلم النافع، ولما تعلم العلم النافع اتبعه واعرف الحق واعرف الباطل، ادفع عنك فتن الشبهات والشهوات.
فإذا قلت: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}[2] مع هذا التضرع إلى الله اسعى في شكر نعم الله عليك وعلى والدَيك.
تقول يا رب أوزعني، فعليك أن تشكر، اطلب، وفي المقابل اعرف أسبابه التي تؤدي إلى هذا المطلوب الذي طلبته.
تقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} هذا كله تضرع، في مقابله اسعى في شكر نعم الله عليك وعلى والديك ، اعترافًا وثناءً وحمدًا واستعانةً بهذه النعم على الطاعة، وتعرف إلى الأعمال الصالحة التي تُرضي الله، وافعلها، واسعى في تربية ذريتك تربية صالحة...
وهكذا جميع الأدعية صريحة في الاتكال والتضرع إلى الله والتجاء إليه في حصول المطالب المتنوعة.
وأيضاً صريحة في الاجتهاد في فعل كل سبب يُنال به المقصود، فإن الله جعل للمطالب كلها أسباب، بها تُنال، وأمر بفعلها وأمر بالاعتماد عليها.
حتى في دعائك كل شيء تتأمّله افتح لنفسك أبوابه، تقول يارب تُب عليّ من هذا الذنب، وبعد أن تنتهي من صلاتك تسير بقدميك إليه! كيف؟!
هذا استهتار، هؤلاء قوم اتخذوا دينهم لهواً ولعبًا!
تعلم أنه ذنب وتقول يارب تب عليّ، فاقطع أسبابه، لا تسِر بقدميك إليه، فإن الله جعل للمطالب أسبابًا بها تُنال.
خُذ السبب مع اعتمادك وسؤالك الله عز وجل ينفعك، فالدعاء سيعبّر عن قوة اعتمادك، وأخذك بالأسباب التي تنجيك من الذنب والتي تفتح لك أبواب التوبة، هذه أخذ بالأسباب المعروفة في الشريعة.
أنت تطلب من الله أن يتوفاك مسلماً وأن يتوفاك مع الأبرار، تسأل حسن الخاتمة، حُسن الخاتمة أليس لها أسباب؟
بلى، إذًا هذا يستدعي منك فعل الأسباب، وإذا فعلت الأسباب وفّقك الله إلى هذه الخاتمة، الخاتمة الحسنة لها أسبابها فاسألها الله وفي ضمن سؤالك افعل هذه الأسباب.
واعلم أن الله إذا قبل دعاءك وفقك الله للأسباب التي تُنال بها الوفاة على الإسلام
ولذلك يقول الله {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[3] كيف يكون؟ هل هذا بيدي؟
يكون بفعل الأسباب والاعتماد على مسببها.
ذكرنا:
1-             لماذا الدعاء هو العبادة.
2-             وأن هذا يحتاج منك أن تجتهد فيه ولا تنظر إلى النتائج فقط، بل هذا نوع من التقربات مثل غيرها.
3-             الدعاء له لوازم ومتتمات.
4-             أن الدعاء في أصله فِعْل قلب قبل أن يكون فِعْل لسان، وما أدراك ما فعل القلب! هو الصلاح وبه الصلاح.

كلما ازددت عناية بقلبك كلما صلح عملك.
وكلكم تحفظون قوله ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[4] إذا كان القلب سبب لصلاح الجسد، فاعتني به.
وفي الحديث ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ))[5].
فأصبح لهو القلب، سبب لعدم قبول الدعاء، فإذا فهمت هذا اجمع قلبك.
وأول موطن تجمع قلبك فيه: الفاتحة، فأنت في آخرها تقول "آمين" يعني اللهم استجب، فإذا كنت تعلم أنها دعاء، فلابد أن يحضر قلبك فيها، وخصوصًا وأنت تقول {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فاجمع قلبك على حبك للصراط المستقيم وعلى فهمك أنك لا تهتدي إليه ولا تثبت فيه إلا بالاستعانة به.
5-             مما يعينك على أن يكون دعاءك نافع: تفهم ما تدعو به، ولذلك الأدعية التي تتكرر عليك ابحث عنها في مواطنها، يعني إذا كان الدعاء في البخاري افتح فتح الباري أو كتب الشرح، إذا كان الدعاء في مسلم، في الترمذي.. المهم أن لا تترك أبواب تفهم بها الدعاء إلا طرقتها، وهذا أيضاً نوع من الأخذ بالأسباب.
ففهمك للدعاء يجعل قلبك يجتمع أكثر عليه.
هذا ما تيسر ذكره في شرح ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، أسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أحسن في دعائه وفي عبادته سبحانه وتعالى.
وأن يجعلنا ممن استعان به على الذكر والشكر وحسن العبادة، وقَطَع اعتماده على نفسه، فبقي عند باب ربه يسأله أن يعينه على طاعته.. اللهم آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.







[1]  رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
[2]  الأحقاف: 15
[3]  آل عمران: 102
[4]  رواه البخاري.
[5]  رواه الترمذي وحسنه الألباني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.