الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى الذي عَرَفه أولياؤه
بنعوت جلاله, واستنارت قلوبهم بمعرفة كمال صفاته, وتعرّف إليهم سبحانه بما أسداه
إليهم من إنعامه وإفضاله، عباد علِموا أنَّ الله هو الواحد الأحد الربّ الصمد الذي
لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله, بل هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه
به أحد من خلقه لا نحصي ثناءً عليه, هو كما أثنى على نفسه، هو الأول الذي ليس قبله
شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والباطن الذي ليس دونه شيء والظاهر الذي ليس فوقه
شيء, الحيّ القيّوم السميع الذي يَسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنُّن
الحاجات؛ فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تُغلطه المسائل، ولا يَتبرَّم بإلحاح الملحِّين
في سؤالهم، ولا يمنعه حركة قلوب عباده من أن يعطيهم وهم مُلحّون، البصير الذي يرى
هذه الحركات، كما يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء
حيث كانت من سهْلِه أو جباله، وأعظم من هذا وأَلْطَف رؤيته لتقلّب قلب عبده ومشاهدته
لاختلاف أحواله.
فسُبحان الملك العظيم الربّ الكريم، إن
أقبل عبده إليه، تلقَّاه, وإن أعرض العبد لجهله، لم يَكِلْه إلى عدوِّه ولم يدعه,
بل هو أرحم الراحمين، أرحم به من الوالدة بولدها الرفيقة به, فإن تاب العبد، فهو أَفْرَح
بتوبته من الفاقِد لراحلته حين يجدها, وإن أصرَّ على الإعراض ولم يتعرَّض لأسباب
الرحمة فهو يُكرِّر عليه تربيته, فإن أصرّ إلا الشَّقاء فقد استحقّ الهلاك، ولا
يهلك على الله إلا الشقي الهالك؛ لعظيم رحمته وسِعة إفضاله سبحانه وتعالى.
نشهد بأنّه لا إله إلا هو وحده لا شريك له،
نشهد أنّه تقدَّس عن الأضداد والأنداد والشركاء، نشهد أنه لا مانع لما أعطى ولا مُعطي
لما منع، ولا رادّ لحُكمِه ولا معقِّب لأمره.
ونشهد أنَّ نبيه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين, وجعل
أفعاله منارًا للسالكين, وافترض على العباد طاعته ومحبّته وتعظيمه وتوقيره والقيام
بحقوقه, نشهد أنه صلى الله عليه
وسلم بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقّ جهاده،
وأقام الدِّين، وتركنا على البيضاء الواضحة البيّنة للسالكين, بيّن لنا الدِّين
خير بيان، وأظهر لنا طريقه خير ظهور، وصف لنا حركات القلب وسكناته وأخطاره ومايتعرّض له،
وهو صلى الله عليه وسلم الذي
قال: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا
صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،
أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[1].
وهذه المضغة العجيبة هي سبب شرف الإنسان وفضيلته
التي بها فاق جُملة من أصناف الخلق, فإنّ استعداد الإنسان لمعرفة الله عزَّ وجلَّ هذا
الاستعداد للمعرفة والعلم الموجود في القلب هو الذي يُشرِّف الإنسان، وهو الذي فاق
به جُملة المخلوقات.
وهذه المعرفة في الدنيا جمال القلب وكماله,
وفي الآخرة عِدَّته وذخره. فإذا امتلأ القلب عِلمًا عن الله، تقرَّب إلى الله وسعى
إليه، تجده بنور الله يستضيء، والجوارح تكون مثل الخدم يستخدمها القلب، ويستعملها
استعمال المالك للعبد، ويستعملها استعمال الراعي للرعية، ويستعملها استعمال الصانع
للآلة.
فمدار صلاحنا: (قلوبنا)، فالقلب هو المقبول
عند الله إذا سَلِم من غير الله, وهو المحجوب عن الله إذا صار مُستغرِقًا بغير
الله.
فهذا القلب هو المخاطَب وهو المعاتَب وهو
الذي يَسعُد بالقرب من الله، وهو الذي يحصل له الفلاح إذا تزكّى، وهو الذي يخيب ويشقى
إذا دنَّسه وداسه العبد ودسَّه، إنّ تدْسِية العبد لقلبه كأنّه يضعه تحت قدمه؛
لماّ يمنع عنه التزكية كأنّ هذا يُدَسِّيه فيدُسُّه فيدوسُهُ.
فقلوبنا هي مدار صلاحنا وفلاحنا، إذ كل
إناء ينضح بما فيه، وكل قلب يتحرّك بما فيه، هذا القلب العظيم إذا عرفته وتقلّباته،
فقد عرفت نفسك؛ وإذا عرفت نفسك فقد بدأت في معرفة ربك، والعكس بالعكس.
وكن حذراً
أن يُحال بينك وبين نفسك, وأن يُحال بينك وبين قلبك.
فكيف يحول الله بين المرء وبين قلبه؟! - أمر
عظيم خطير –
-
يحول الله بين الإنسان وبين قلبه بأن يمنعه
من مشاهدته ومن مراقبته ومن معرفة صفاته.
-
و من معرفة كيف يتقلَّب بين أصبعين من
أصابع الرحمن.
-
و من رؤية أنه يهوى، فلما يهوى يهوي به
الهوى إلى أسفل السافلين.
-
يحول بين المرء وقلبه فينخفض إلى أودية
الشياطين، لا يرى حين يهوي ولا يراه كيف يرتفع ويرتقي.
فالذي لا يعرف قلبه لا يعرف ربه ومن ثمَّ حكم على نفسه أنه أهلٌ أن يُحال بينه وبين
نفسه فإن الله يحول بين المرء وقلبه.
وما أعظمها من آية والله عز وجل يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[2]. فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه هذا أصل الدين،
ومعرفة القلب وأعماله ستجده جانبًا عظيمًا من جوانب الإيمان, فإنَّ للقلب أعمال
عظيمة، وكثير من المستقيمين غفلوا عن قلوبهم وما أدركوا خطرها، ولذلك التزكية إنما
تُجدي وتُعطي نتيجة إذا كانت بعد رؤية آفات القلوب.
وآفات القلوب أصعب من آفات الأبدان؛ لأنه
كما هو معلوم أن غاية مرض البدن أن يُفضي بصاحبه إلى الموت أمّا مرض القلب فيُفضي
بصاحبه إلى الشِّقاء الأبدي. والطريق للشفاء من هذه الآفات العِلم عن الله سبحانه
وتعالى، ولذلك وصف اللهُ كتابه : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}[3] شفاء لأمراض الصدور .
إذن لابد أن نعتني غاية العناية بقلوبنا ولتكن
هي بداية رحلتنا إلى ربنا، فإنّ الله سبحانه وتعالى أَمَر بتطهير القلب وتنقيته وتزكيته،
فليس بِدعًا من القول أن نعتني بتزكية قلوبنا، بل جعل الله سبحانه وتعالى من غايات
رسالة الرسول تزكية الناس، فلما أخبر عن بعثه في الأُميين رسولاً منهم, أخبر عن
أفعال الرسول:
1.
الفعل الأول: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}
2.
الفعل
الثاني : {وَيُزَكِّيهِمْ} هذا مدار نقاشنا
إذن الرسول أُرسل بما معه من كتاب يتلو
عليهم آياته, وآيات هذا الكتاب تُزكي بها النفوس. ولذلك في قوله تعالى في سورة المدثر: {وَثِيَابك فَطَهِّرْ}[5] جمهور المفسرين أن الثياب هنا المقصود بها
القلب.
فإذن التزكية ليست أمراً ثانوياً, إنما أَمَر
الله بتطهير القلوب، والنبي صلى
الله عليه وسلم أخبر عن أثر القلب في حياة الإنسان, وكيف أنّ القلب هو
الموجّه المخطط وأن الاعضاء والجوارح هي المنفذة ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ)), فإذن لمّا نبحث في هذا الباب لابدّ أن يكون أمام عينينا خطورته وأهميته،
فسلامة القلب وخُلوصه من كل ما يعيقه عن الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة, قال
تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[6].
الآن كثير من المشكلات بين الناس -وخاصة
بين طلبة العِلم- سببها أمراض تعتري القلوب، ولا توجد حقائق شرعية ولا سبب لما
يفعلون إلا أنك تقول : يوجد مرض, يوجد غلّ وحسد وكبر واحتقار وسوء ظن, وهذه ليس
لها حلّ إلا أن تُعالَج القلوب؛ لأننا -يا قوم- في سفر إلى ربّنا، فلو ضللنا
الطريق مالذي يردّنا ؟! {وَعَلَى اللَّـهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[7].
إنّ من عرف أنه يسير إلى ربّه بقلبه، عرف
أهميّة إصلاح قلبه، وعرف خطر الأمراض على القلب؛ لأنك لما تُصاب في يدك التي تكتب
بها بمرض فهذا المرض على حسب شِدَّته يعوق يدك من القيام بما يجب, وإذا أصابك مرض
في قدمك التي تسير بها فإن هذا المرض على حسب شدته يعوقك عن السير على قدمك, فإذا مرض قلبك
أكيد أنه سيعوقك عن السير إلى ربك! فالله المستعان وعليه التُّكلان .
فالواجب علينا أن لا نترك قلوبنا تطير إلى
أودية الضلال والأوبة فتعود لنا بالأمراض, بل علينا أن نعتني بقلوبنا ونحافظ عليها
ومن هذه المحافظة
معرفتنا بالأمراض التي يمكن أن تصيب القلوب.
نبدأ بالكلام عن أحوال القلوب
القلب له حالات يمُر بها ويتَّصِف بها، وحالاته
تعتمد على وصف الصحة أو حالاته تعتمد على وصف الحياة, أي قلبٌ صحيح أو قلبٌ حي.
1.
القلب الحي
هو القلب الصحيح, وهو القلب السليم الذي لا
ينجو يوم القيامة إلا من أتى به.
و السليم هو السالم الذي قد صارت السلامة
صفة ثابتة له، السلامة من أي شيء؟
نقول هذا القلب سلِم من أن يكون لغير الله,
سلِم من أن يكون فيه شرك, فلا يكون في هذا القلب السليم أحد غير الله فيكون كله
لله إرادةً ومحبة وتوكلاً وإنابة وإخباتاً وخشية ورجاءاً، فإرادته لله ومحبته لله
وتوكله على الله وإنابته إلى الله خلَّص عمله لله، وهذا إذا أحبَّ، أحبَّ في الله,
وإن أبغضَ، أبغض أعداء الله, وإن أعطى، أعطى لله, وإن منعَ، منع لله.
قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صَغُرت إلا
ويُنشر لها ديوانان (لمَ ؟ وكيف؟ ) أي لما فعلْت؟ وكيف فعلْت؟.
فهذا القلب السليم له أقوال وله أفعال:
فأقوال القلب هي العقائد، في مقابل أن
أقوال اللسان هي الخبر عما في القلب.
أعمال القلب هي حركاته: الإرادة، المحبة، الكراهية,
البغض, الرجاء, الخوف, الإنابة, الإخبات, الخشية ثم يتبعها أفعال الجوارح.
فالآن كل قول للقلب لِمَ وكيف؟ وكل فعل
للقلب لِمَ وكيف ؟
كيف أفعل هذا كله؟ يجب أن لا أتقدّم بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا بعقيدة ولا بقول ولا بعمل ولا بطريقة إنما
كما اتفقنا ( لم ؟ وكيف ؟ ) لم فعلته؟ من أجل من ؟ تريد رضا من ؟ وكيف فعلته ؟ هل
فعلته كما أمرك الله عز وجل أم خلاف ما أمرك ؟.
إذن السؤال الأول (لم؟) هذا سؤال عن
الباعث الداعي, هل تريد الدنيا؟ هل تريد المدح؟ هل تخاف الذم؟ هل أنت تستجلب
محبوب عاجل أم تدفع شيء تخاف منه الآن؟ أم أن باعثك على القيام بهذا العمل هو
العبودية, وأنت تطلب التودّد إلى الله بهذا العمل, وتريد أن تتقرب إلى الله, تريد
أن يحبك الله وتأخذ الوسائل إلى رضاه؟ يعني هل أنت تفعل هذا الفعل لمولاك أم لحظك
وهواك ؟ {وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ
مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}[8].
أما سؤال (كيف؟) فهذا سؤال عن المتابعة,
هل فعلت فعلك على ماشرع النبي صلى
الله عليه وسلم أم أنك اخترعته؟
إذن سلامة القلب ستكون بأن تفعل الفعل لله
فليس لك إرادة تُعارض الإخلاص, وليس عندك هوى يُعارض الاتباع، هذه هي حقيقة سلامة
القلب, فإذا بحثت عن القلب السليم فقد زكَّاه صاحبه فليس له إرادة تبعثه على
القيام بالعمل تُعارض الاخلاص, وليس عنده هوى يُعارض الاتباع.
فلا إرادة تعارض الإخلاص ولا هوى يُعارض
الاتباع وهذا هو القلب السليم
وضدّه مباشرة:
2.
القلب الميت
هذا القلب الميت - نعوذ بالله من موت قلوبنا – لا
حياة فيه.
و صفات القلب الميت:
أ. أول صفة للقلب الميت الذي لا حياة فيه : أنه
لا يعرف الله.
ب. ومن ثمّ لا يعبده بأمره وبما يُحب الله؛ هذا
واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه.
ج. لا يفكر وكل ماعنده الفوز بشهوته وحظه ليرضى,
فإذا لم يفز بشهوته وحظه سخط؛ فهذا أكيد أنه عبد لغير الله حبًا وخوفًا ورجاءً ورضًا
وسخطًا وتعظيمًا وذلاً.
د. هذا القلب الميت إذا أحبَّ أحبَّ لهواه, وإذا
أبغضَ أبغضَ لهواه, وإن أعطى أعطى لهواه, وإن منعَ منعَ لهواه. فهوى قلب هذا الإنسان
مُقدَّم عنده على الله وأحب إليه من رضى مولاه.
فمعناه أنك لو وصفت شكل القلب الميت ستقول:
الهوى أمامه
والشهوة
تقوده
والجهل
يسُوقه
والغفلة هي
مركبه.
فنعوذ بالله من هذه القلوب التي إمامها
الهوى, والشهوةُ والجهلُ والغفلةُ هي التي تقودهم، فترى تفكير هؤلاء مغمور في
أغراض الدنيا, فيهم سَكرة الهوى, تجد قلوبهم مخمورة بحب العاجلة، سبحان الله!
ينادَون إلى الله وإلى الدار الآخرة فلا
يستجيبون للناصح! فالدنيا هي التي تُسخطه وتُرضيه، والهوى يَصمّه ويُعميه. وهذا لا
يضر فقط نفسه! إنما مُخالطة صاحب هذا القلب سُقم, ومعاشرته سُم, ومجالسة مثل هؤلاء
هلاك! فهؤلاء أمراضهم قلوبهم الميتة تُعدي! فنعوذ بالله من موت القلوب .
3.
القلب السقيم
هذا قلب فيه حياة لكن أيضاً فيه علة. وكما يصف
ابن القيم هذا القلب: "له مادّتان تمُدّه" يعني مادة الحياة تمدُّ القلب
ومادة العِلَّة والمرض تمد القلب.
"وهو لما غَلب عليه منهما" يعني هذا
القلب فيه محبة الله, فيه الإيمان, فيه الإخلاص, فيه التوبة, فيه التوكل, فهو حي
بهذا. لكن في الجهة الأخرى محبة الشهوات وفيه إيثارها والحرص على تحصيلها، وفيه
الأمراض الخطيرة: فيه الحسد, فيه الكبر, فيه العجب, فيه حب العلو, فيه الفساد في
الأرض – والله المستعان -.
وهو مُمتحَن بين داعيين:
1.
داعٍ يدعوه لله ولرسوله والدار الآخرة
2.
وداعٍ يدعوه للعجلة التي تعجل به في
العاجلة، أي يأخذ كل شيء بعجل من الدنيا، وهو يجيب أقربهما وأكثرهما جوارًا له –
والله المستعان –.
ولذلك في سورة الحج يقول سبحانه وتعالى مُخبراً
عن هذه القلوب: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ }[9] فالأول في قلوبهم مرض, وهناك القاسية
قلوبهم, وهناك من تخبت له قلوبهم .
إذًا الآية في سورة الحج تدل أن هناك ثلاثة
قلوب :
قلبانِ مفتونانِ وقلبٌ
ناجٍ.
فالمفتونان هما
1.
القلب الذي فيه مرض
2.
والقلب القاسي.
و الناجي هو
3.
القلب المؤمن اللين المخبت إلى ربه، وهو
المطمئن إليه الخاضع المستسلم المنقاد.
* وهذا الكلام تجده مقرراً عند ابن القيم في إغاثة اللهفان.
ما لذي عليّ فعله مادام أن هناك
قلب مريض وهناك قلب صحيح ؟
أول الأمر من المهم أن تعرف علامات الصحيح
من المريض! ثم إذا تحصَّل لك ذلك نأتي فنقول : كيف يكون
الصلاح ؟
•
علامات صحة القلب :
•
القلب الصحيح لا يزال يدفع على صاحبه ويؤلم
صاحبه حتى يتوب إلى الله ويُنيب.
•
القلب الصحيح إذا فاتته طاعة وَجَدَ
لفواتها ألمـًا أشدّ من فوات ماله.
•
القلب الصحيح إذا أتته مصيبة ميّز إن كانت
هي في الدين أم في الدنيا, فإذا كانت في الدنيا لم يُبالي, وإذا كان في الدين
فيفزع؛ مما يعني أن تمحيص المصيبة والبلوى التي تأتيك هل هي في الدين أم الدنيا
هذا يدل على حياة قلبك.
•
القلب الصحيح أشحّ بوقته أن يضيع من الشحيح
بماله.
•
القلب الصحيح يعتني بتصحيح عمله من جهة
نيته ومقصده أكثر من اهتمامه بكثرة الأعمال، فالمهم عنده أن يعمل العمل على سنة
النبي صلى الله عليه وسلم , وأن يعمل عملاً صادقاً مخلصاً ويفتش في نفسه عن إرادته
أهم عنده من أن يعمل أعمالاً كثيرة ولا يدري عن حالها .
•
القلب الصحيح لا يفتر عن ذكر ربه، ويجد
وحشة في نفسه إن طال مقامه ولم يذكر ربه.
•
القلب الصحيح يجد لذةً في عبادته خصوصًا في
صلاته فهي في الحقيقة حياته, ويجد لذةً في عباداته على وجه العموم.
•
علامات مرض القلب :
•
القلب المريض يُقدم الأدنى على الأعلى
فيهتم بتوافه الأمور على حساب دينه.
•
القلب المريض يكره الحق ويضيق به صدره.
خصوصًا أنّه يجد أن هذا الحق يخالف هواه فيكرهه. - يعني ليس كل حق يكرهه لكن يكره
الحق الذي يخالف هواه-
•
القلب المريض يقبل أي شُبهة تأتيه ويتأثر
بها –نعوذ بالله من الشيطان الرجيم–
•
القلب المريض يُحب المعصية ولا تُؤلمه
جراحات الذنوب.
•
القلب المريض لا يُحب ذكر الله ولا الأماكن
الطيبة ولا أهل الخير, لا يُحب الطاعات وتكون ثقيلة على قلبه.
•
القلب المريض ضعيف في خوفه من الله – والله
المستعان - .
*وهذه أشهر
العلامات، وهناك كثير من أهل العلم من تكلم عن علامات صحة القلب ومرضه وهناك قصيدة
لطيفة لابن عتيق يتكلم عن صحة القلب وسقمه فيُنصح بقراءتها.
مرةً أخرى :
القلب الصحيح هو الذي همّه كله في الله, حبه كله له,
وقصده لله وبدنه لله وأعماله لله ونومه لله ويقظته لله. هذا يُحب الخلوة ويؤثرها
على الخُلطة إلا حيث تكون الخُلطة أحب إلى الله. صاحب القلب الصحيح كأنه يقول في
حياته: لببيك وسعديك, يتمثّل أنه سامع مُطيع ممتثل, يشعر بنعم الله, فهو الذي قال
الله عز وجل فيه : {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن
مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}[10] , فهذا قلبه حي وفيه نور, ومن أجل أنّ في
قلبه نور فهو يسمع ويُبصر ويعقل.
أما القلب الميت فإنه لا يسمع ولا
يبصر! قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا
لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ}[11], يعني أن القلب الميت لا يسمع ولا يبصر, والقلب الحي يسمع ويبصر ويعقل.
و أما القلب المريض فقال سبحانه وتعالى:
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ
إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}[12], إذن هؤلاء أبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص, لكن حياة البدن دون
حياة القلب مثل البهائم, لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب لكنهم مثل ما قال الله عز
وجل : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي
يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}, الله شبَّههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي
وهي لا تسمع إلا نداءً لكن لا تفهم مالذي يقوله! والمعنى أن مثل هؤلاء مصابون
بالصمم والعمى المعنوي .
ماذا نفعل إذا وجدنا قلوبنا مرضى ووجدنا العلامات تنطبق
علينا؟
علاج القلب المريض :
أول أمر وقبل كل شيء : الاستعانة بالله على صلاح
القلب.
أنت قلبك لا تملكه مهما فعلت, إذا لم تستعن بربك
ليس لك حيلة. النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي
يدعو ربه بثبات قلبه على الهدى، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث
أنس يُكثر أن يقول: ((يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قَلبي على
دينِكَ)) [13]
، وقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ ((مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ)) فَقِيلَ : وَلَا
أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي
رَبِّي بِرَحْمَةٍ))[14].
فعلينا أن نعبد الله بالاستعانة, تلك العبادة
العظيمة التي أُهملت, ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ
اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ))[15], عبادة على قدر
أنفاسك تقوم بها.
هدي الأنبياء والصالحين في الاستعانة
هذه الاستعانة وحدها موضوع خطير يكفيك أن تفهمه من أجل أن تصل، الآن
أنت تستعين بالله على صلاح قلبك هذه الاستعانة عبادة وقُربى إلى الله. انظر
للأنبياء والصالحين كيف كان هديهم في الاستعانة وافعل مثلهم:
1.
نوح عليه السلام كما في سورة الأنبياء : {وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[16] إذن طلبَ الغوث من الله، فأدركته رحمة
الله.
2.
أيوب عليه السلام : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ
وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن
ضُرٍّ}[17] فهذه الاستعانة والانكسار والذل.
3.
يونس عليه السلام : {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[18].
4.
زكريا عليه السلام: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً
وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى
وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}[19]
المقصود
(فاستجبنا له).
5.
النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل في
حقه وحق أصحابه : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[20].
فالمقصود أن العبد عليه أن يحتمي بربه وخالقه من أجل ان يُسدَّد. أنت
هذا مرادك وتريد صلاح قلبك, لكن ما الطريق للصلاح؟ الطريق يُدلك الله عز وجل عليه
ويفتح لك أبوابه, ولذلك قال الله عز وجل في حق موسى وهارون : {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[21],
يعني لما
أعطاهم الكتاب هداهم الصراط؛ بمعنى أن الله عز وجل يُعرّفك ويُعلِّمك الأمور
بالتفصيل ويُلهمك العمل، ولذلك لما تسمع عن أجر هؤلاء المؤمنين فيما فعلوا وانتفعوا
بإيمانهم, تسمع الله عز وجل يقول في حقهم : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}[22], يعني يهديهم بسبب إيمانهم.
المقصد أنّ العبد عليه أن يعتني بالاستعانة لأنه كلما عظمت الاستعانة قرُب السداد
و قد كان سهل بن عبد الله التُستري يقول: "ليس بين العبد وربه
طريق أقرب إليه من الافتقار", إذن الفقر هو طريق العبد, والاستعانة هي طريق
صلاح القلب والذي يقول {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ}[23] هذا يقول ثبتنا واهدنا وزدنا هدى. فالذي يقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ}[24] لو جمع قلبه فيها فقد حقَّق مطلوبه من الاستعانة. وهذا يجعلنا نُكثر
من طلب العون من الله والإكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله.
إذا كنّا
فهمنا أن هذه أحوال القلوب (حي, ميت , مريض). وعرفنا علامات مرض القلب وحياته.
وعرفنا أن الاستعانة هي طريقنا المجمل لصلاح القلب؛ بقي علينا معرفة منافذ الإصابة
بأمراض القلوب!.
منافذ الإصابة بأمراض القلوب :
1)
النظر : لأن النظر هو الذي يُصور الأشياء
للقلب فيُريه الحق والباطل والعبر والعظات.
2)
السمع: لأن به يسمع الهدى وبه يسمع الضلال
أو لا يُفرِّق.
3)
التفكر : يعني أسلوبك في التفكير, وهذا
النوع يحصل في القلب فيسمع ويبصر بطريقة صحيحة لكن يفكر بطريقة غير صحيحة، يرى
الأشياء لكنه يركبها معًا في أسلوب تفكيره بصورة خاطئة، فهو نوع فساد يحصل للقلب يفسد
به تصوره وإرادته ويتعطل سيره إلى الله أو أحياناً يمنعه بالكلية.
على كل حال الآن عرفنا الخطر الشديد الذي مصدره القلب, وكان من الواجب
علينا أن نعتني به وعلينا أن نرى الأمراض التي يُمكن أن نُصاب بها, وكيف نرعى
قلوبنا إن كانت مريضة, وكيف نتتبع أعمال وخُطَّة من أجل أن تنشط, ونرى قلوبنا واللحظات
الحاسمة والمعركة التي تعيشها والصراع الذي هو باقٍ وكيف أنّ نحن عندنا ثغرات كما
اتفقنا (سمعنا وبصرنا).
أسأل الله
العظيم رب العرش العظيم أن يُصلح قلوبنا وقلوب المسلمين ويفرج علينا كربنا بأنفسنا
فإننا قد ابتلينا بقلب يتقلب وبنفس تهوى لا يُشفيها ولا يردها إلا الملك العظيم .
[1] "صحيح البخاري" (كِتَاب
الْإِيمَانِ/بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ/52), ومسلم (كِتَاب
الْمُسَاقَاةِ/ بَاب أَخْذِ الْحَلَالِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ/1599).
[13] "سنن الترمذي" (أبواب القدر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم /7:باب ماجاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن) صححه الألباني..
[14] "صحيح مسلم" (كِتَاب صِفَةِ
الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
- لن
ينجي أحدا منكم عمله قال رجل ولا إياك يا رسول الله قال ولا إياي إلا أن يتغمدني
الله منه برحمة/2816)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.