الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

و ذكرهم بأيام الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى ونشكره وحده لا شريك له وهو أهلٌ للحمد والثناء، فما له سبحانه من عظيم صفات وجليل إنعام على خلقه يعجز أمامه العبد عن الشكر والثناء، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
ونسأله سبحانه وتعالى أن نكون ذلك العبد الذي قد أحسن إلى نفسه {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[1].
واعلم أنّ الله عزّ وجلّ غني عن خلقه، وأنه سبحانه وتعالى حميد محمود حتى لو لم يثنِ عليه الخلق فهو سبحانه وتعالى كامل الصفات وهو سبحانه وتعالى له جميل الإنعام اعترف الخلق أو لم يعترفوا.
في لقائنا هذا نذكّر بعضنا بعضًا بأيام الله، وقد أمَر الله عزّ وجلّ نبيه موسى عليه السلام، وما أمر به الأنبياء قبلنا أمرٌ لنا ما لم يأتِ ما يخالف ذلك.
{وذكِّرْهُم بأيـــَّـامِ اللهِ}[2]
الأمْر في القرآن يتردّد بين الوجوب والاستحباب، لكن الأصل في كل أمر الوجوب، إلّا إذا جاء دليل ينقل هذا الأمر عن الوجوب.
 وبالنسبة لهذه الآية لا يوجد دليل ينقل هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب فيبقى التذكير بأيام الله من واجباتنا، نذكّر نفسنا ونذكر غيرنا.
ننظر لسياق الآية.. هذه الآيات في صدر سورة إبراهيم، بعدما ورد في أول السورة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله، يخرجهم إلى صراط العزيز الحميد؛ أتى في نفس السياق خبر عن أنك يا محمد لست فريدا في الطريق، مثلك من قبلك من الأنبياء ومنهم موسى، والسورة تسمى سورة إبراهيم.
يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} بأي شيء؟ { بِآيَاتِنَا} ماذا يفعل صلى الله عليه وسلم؟ { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} من أي شيء؟ { مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } وهو الشاهد الذي نريد نقاشه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.


إذن لو نظرنا لسياق الآيات يصبح معناها
أن الله تعالى له أيام، وهذه الأيام آيات، وهذه الآيات لا تنفع إلا لمن كان وصفه صبارًا شكورًا، وهذه الأيام التي هي آيات التي تنفع الصبار الشكور يجب علينا أن يذكر بعضنا بعضا بها، وأن لا ننساها.
هذه الأيام بمثابة الآيات البيّنات، أي علامة ودليل. مثلا السماء والأرض آيات تدلّ على عظمة خالقها، فأيام الله تعتبر آية تدلّ على صفات لله.
كأنه يقال لك اعلم أن الله تعالى له أيام، وأن هذه الأيام يجب أن تكون بالنسبة لك آيات إن كنت صبارًا شكورًا، أي إن كنت عبدًا وصفك الكمال؛ لأن الدِّين نصفين، نصف صبر ونصف شكر، كأنه يقال أن أيام الله آيات لكن لمن كان مؤمنا.
عُبّر عن وصف الإيمان بصفتين في المؤمن وهي الصبر والشكر.
ما هي أيام الله التي من الواجب أن تبقى في ذاكرتنا حاضرة، وأن لا ننساها، وأن بقاءها في ذاكرتنا حاضرة دليل على إيماننا وأن بقاءها في ذاكرة حاضرة دليلٌ على أننا متصفون بالصبر وبالشكر التي هي صفتي كمال الإنسان المؤمن؟
من هنا يبدأ النقاش ونبدأ بأثر ورد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث تردد الحكم عليه بين القبول والضعف المقبول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}: بنعم الله تبارك وتعالى[3].
يصبح معنى أيام الله النعم، وفي رواية لمسلم أن أيام الله هي أيام نعمه ونقمه.
وهذا مناسب جدًّا لختم الآية، صبار وشكور. ففي أيام تصبح الدنيا ضيقة وفي أيام تكون الدنيا ذات سعة.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم وبأيامه في الأمم المكذبين ووقائعه بالكافرين، من أجل ماذا؟ (ليشكروا نعمه، وليحذروا عقابه) وهذا مناسب للآية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
إذن أيام الله ستكون من وجه: نعمة على الخلق، ومن وجه آخر: نقمة من بعض الخلق.
فعليك أن تصنع سجلًّا تاريخيًّا للأحداث التي تدور حولك بالنسبة للعالم، وللأحداث التي تخصك كإنسان.
نحتاج ذاكرة قوية في أفعال الله عزّ وجلّ التي بها يربّي عباده بنعمه التي يتقلب الخلق فيها.
فما أضعف ذاكرة الإنسان تجاه نعم الله، وما أشد سرعة نكرانه، لذلك أتى الأمر إن كنت تريد أن تحسن لهم ماذا تفعل؟ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}.
ذكرهم كيف صنع الله لهم، قلّب عليهم ماذا فعل الله لهم وأعطاهم، فإن كثرة مساس النعم تميت الإحساس بها، فيفقد الإنسان شعوره تجاه تمييز الله له وإعطاؤه النعم، فإننا غالبا ونحن نتمتع بالصحة لا نشعر بها، وغالبا ونحن نتمتع بالنوم بطريقة يسيرة دون أن نصاب بالأرق ولا بالأمراض التي تتصل بالنوم ولا يكون عندنا آلام تمنعنا من النوم، غالبا أن ما نشعر أن سهولة النوم نعمة.
وهكذا حال الخلق كلهم، إلا من كان مع نعم الله صبّارًا شكورًا، فقبل أن نتكلم عن الضيق، نقول نحن مع النعمة نحتاج أن نكون صبّارين شكورين.
لكن لنقف أولًا عند أيام الله، ولنترك أيام الله التي هي بالنسبة للناس، يعني بالنسبة للدول، بالنسبة للجماعات، ولنفكر أولًا في أيام الله بالنسبة لنا.
كلٌّ منّا لله معه أيامًا.. فرّج عليه ضيقه، رفع منزلته، أعطاه، استجاب له دعاءه، أطعمه وسقاه، لله عزّ وجلّ مع الخلق كلهم أيام، أنعم فيها على الخلق بالخروج من الضيق إلى السعة، غيّر أحوال البلاد والعباد بعد جوع شديد، وبعد فقر وبعد نقص، زادهم وأعطاهم وأكرمهم.
فهذه الأيام التي لله وتخصنا أين هي في ذاكرتنا؟! بل أننا غالبًا لما يكون هناك شدة نعيشها ثم يذيقنا الله عزّ وجلّ الفرج؛ فإننا نبقى نحبس مشاعرنا وراء الشدة؛ هناك نوع من المشاعر بمجرد ما نتذكر الأماكن التي عشنا فيها الشدة تبقى مشاعرنا التي عشناها وعشنا فيها الشدة موجودة، في مقابل مشاعر الفرح بالفرج مفقودة! وإذا قص عليك شخص غالبا قصة دخوله في الشدة وخروجه منها فإنه يختصر القصة من جهة الخروج، ويطيل المقام وهو يحدثك عن الشدة، ولما يأتي وقت الفرج وقت الثناء على الله تجد الكلام مختصر والثناء مقطوع!
والسبب؟! طبيعة الإنسان التي يُطلب منّا معالجتها.
أوصاف الإنسان كما في سورة المعارج:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} ثم أتى الاستثناء {إِلَّا الْمُصَلِّينَ }[4].
أكيد أن هؤلاء المصلين، لصلاتهم وإيمانهم أثر على طباعهم التي ابتلوا بها.
ابتُلِينا بطباع تجعلنا أميل لإنكار النعمة.
ما هو المطلوب منك تجاهها؟ تهذيبها، فضع يدك على عيبها من أجل أن تؤدبها.
لاحظ أن هذه الطباع التي ابتلينا بها هي المواطن التي في نفوسنا التي يطلب منا تزكيتها، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[5].
فمن العيوب التي ابتُلِيَت بها النفوس أنها سريعة الجحود، سريعة النسيان للنعمة، فرحة بالنعمة بخيلة بها، أول ما تنزل عليها المصيبة أو الضيق تجزع، فالنفس هلوعة أي أن ردود أفعال النفس -إن تُرِكت على هواها- كله هلع، إن أتاها خير هلعت خافت يضيع، وإن أتاها شر هلعت كأنه لا فرج ولا مخرج.  ومن هنا يأتي اليأس من روح الله، ومن هنا يأتي الطمع في غير الله.
فكل هذه أمراض للقلوب، علاجها ß {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ }.
فأنت في تاريخك مع الله من المؤكد أنك عشت تربية لله، مؤكد أنك عشت ضيقًا، ثم أتى وراءه فرجًا.
لما عشت ضيق وفرج ما المطلوب منك؟ أن تجعل هذه الصورة محفوظة محفورة في الذهن، بمثابة القاعدة، وكل مرة تدخل فيها في ضيق ماذا تقول لنفسك؟ سأذوق الفرج قريبًا، فمن فرج علي أولًا سيفرج علي تاليًا، وهذا بالضبط هو حسن الظن المبني على معرفة الله.
هكذا يخرجنا للكلام عن الظنون، ماذا تظن بالله؟
واعلم أن أمراض القلوب من الشح ونسيان النعم ونكرانها وعدم الالتفات إليها غالبا يدور في الظنون، فماذا تظن بالله؟
فإذا أتينا إلى مسألة مثل مسألة الطمع في المال، حب الظهور، التكاثر، التفاخر، كلها أمراض قلبية، لماذا؟ لأن من كان قلبه صحيحًا ممتلئ حسن ظن بالله وممتلئ معرفة بالله؛ كل همّه ما هو صيتي في السماء؟! ما سُمْعتي في السماء؟
وقد ورد في الحديث ((مَا مِنْ عَبْدٍ إِلا لَهُ صِيتٌ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا كَانَ صِيتُهُ فِي السَّمَاءِ حَسَنًا وُضِعَ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا كَانَ صِيتُهُ فِي السَّمَاءِ سَيِّئًا وُضِعَ فِي الأَرْضِ))[6]، والمقصود أن هذا الذي قلبه سليم هو الذي أتى وصفه في سورة الإنسان { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[7].
المقصود أن هؤلاء القوم الذين رزقهم الله قلبًا سليمًا يعرفون من هو الله، يحسنون الظن به، رغائبهم كلها حول رضاه وثنائه، فلما يسمعون في القرآن كما في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}[8] يعني ماذا؟ يثني عليكم، إذا أُسنِدت الصلاة إلى الله أصبحت ثناء الله عليك في الملأ الأعلى باسمك، واذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا يعني أنك طوال ما أنت عايش- ليس شرطا الذكر باللسان - الذكر باللسان المعنى الواضح، لكن من ذكر الله أن تقصد بأعمالك ثناء الله، ذكر الله أي أن تبقى ذاكرا له ما تنساه، ما تأتي تدخل في أعمال وتلقى قلبك يلتفت للناس، حب ثناءهم وحب الظهور، وتبقى تشعر أن قلوبهم جنة تريد أن تسكنها وتريد أن يلهج لسانهم بالثناء عليك.
فأنت لما تبقى ذاكرًا لله، ذاكر بلسانك مع مواطنة قلبك، أي التسبيح والتهليل والتحميد.
لكن هناك ذكر مهم جدا وهو أن تبقى ذاكر لله وقت قيامك للعمل، فلست آلة تقوم بالعمل ولا تجد في قلبك ذكر.
ولا تنس أبدا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف صلاة المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [9] أي أنهم في نفس الصلاة قلوبهم ليست معلقة بثناء الله، وهكذا لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم صلاتهم للعصر ينقرونها ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا أي في وسط الصلاة، فما المقصود؟ قلوبهم ليست ملتفتة إلى ثناء الله.
فالمقصود أن من حسن ظنه، وطاب قلبه بمعرفة الله؛ هذا شخص تفكيره دائما في ثناء الله، وحسن الظن هو الذي يجعل العبد ينتفع من تربية الله، حسن الظن هو الذي يجعل العبد إذا دخل ضيقا قال هذا الضيق ممر السعة سيوصلني لابد إلى السعة، ولما يسمع سورة الضحى دائما يتذكر {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[10] هذا الذي يحسن الظن بربه يعلم أن مضائق توصله إلى أي شيء؟ إلى السعة، فيذكر فيما مضى ما مر عليه من أيام الله، وكيف أخرجه الله من الضيق إلى السعة،
فيخرج بنتيجتين:
1-           إذا أقبل عليه ضيقا رآه باب السعة.
الآن وأنتم داخلين للقاعة هل الباب واسع بسعة القاعة أم ضيق؟ ضيق، لكن لما دخلت القاعة من الباب الضيق وجدت فسَحة، فهكذا سنة الله، أنك تدخل إلى الأمور التي فيها سعة لكن من باب ضيق.
فمن عرف الله وعرف أيامه، حبس نفسه عن التسخّط أو سوء الظن، وهو يدخل من الباب لا يقول لنفسه أني سأدخل إلى ضيق إنما يقول هذا الباب إلى سعة.
المشكلة أن أعيننا لا ترى السعة إلا بعدما تمر الباب، فكان أين الاختبار الذي نختبره؟ في وقت الضيق، من أنت وماذا تظن بالله، من أنت وما ثقتك وحسن ظنك بالله.
هذا أول أمر تنتفع منه وأنت تنظر إلى أيام الله، فلما تكون عندك ذاكرة قوية لأيام مرت عليك كان فيها ضيق ثم أتاك السعة أول شيء ستخرج به أنه سيكون عندك حالة من حسن الظن، وعرفت سنة الله، ولما تأتيك الاختبارات الجديدة في الضيق تعرف مباشرة أن وراء هذا الضيق سعة.
2-           أنك ستقوم بالوظيفة المطلوبة منك.
لأن أثر حسن الظن هو قيام القلب بالوظائف المطلوبة منه، ما هي الوظيفة؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، فأنت إذا أحسنت الظن قمت بوظيفة الصبر، فإذا أتتك السعة قمت بوظيفة الشكر.
بمعنى لو قويت ذاكرتك في الأيام التي مرت عليك وتذكّرت جيدا كيف نقلك الله من الضيق إلى السعة وجعلت هذا أمام عينيك، ستخرج بنتيجة مهمة رئيسية وهي: حسن الظن بالله، ولا تستهين بهذه العبادة (الوظيفة) القلبية.
الله عزّ وجلّ لما يذكر أهل النار يقول في حقهم {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}[11] ولما كان إبراهيم عليه السلام يخاطب قومه ويريد أن يدعوهم قال لهم {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؟ ماذا تظنون به؟ فالظنّ بالله عماد الانفعال في الطاعات والعبادات.
وهذا ينقلنا إلى:
أن من أحسن الظن أحسن العمل:
فإذا ظننت أن هذا الضيق بابٌ للسعة صبرت، وأنت عند الباب شكرت وأنت في السعة، أما من كان كما قال الله عزّ وجلّ في سورة محمد وفي غيرها من الآيات {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[12].
ما في تفسير لأي أحداث ولا أي أحوال، ولا سؤال ماذا تظن في الله، وكيف يعاملك الله، وما معنى هذا الحدث بالنسبة لك، بل أن من رحمة الله قبل أن يأتيك الضيق الكبير الذي وراءه السعة الكبيرة تمر بمواقف صغيرة فيها ضيق وسعة سريعة لتذكرك أن ترى هذه سنة الله ضيق ويأتي وراءه السعة، ضيق خفيف ليوم أو يومين ثم يأتي وراءه السعة، حتى إذا أتى الضيق الكبير، الضيق الطويل تبقى هذه كلها في ذاكرتك، ذكرهم لا ينسون أيام الله.
ما تكون مرت عليك الأزمات الكبيرة وخرجك الله منها؛ ثم تجد نفسك كأنك لا سمعت ولا رأيت، وكأن الله ما رباك، وكأنه ما علمك أنه مالك الملك وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء يعز من يشاء يذل من شاء.
يقول سبحانه وتعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[13]، إذن لا يمكنك أن تنفك أبدا عن آثار كمال صفاته، أنت تتقلب في آثار كمال صفاته، أنت تتقلب في تربيته لك !
فالمقصود أن ذاكرتنا يجب أن نقويها في أيام الله، في نعمه وعطاياه، فمن المجالس المباركة التي نجلسها سويا نحن وأبناءنا، نحن وزملاءنا مجالس يكون فيها تذكير بعضنا بعض كم أنعم الله علينا، كم أعطانا، كم كُنا في ضيق فآوانا، كم فرج علينا، كم أغنانا، هذا الكلام ائتمارًا بأمره سبحانه وتعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، فإن من أدمن تذكر نعم الله عزّ وجلّ، انتقل قلبه إلى حسن الظن لابد، ومن كانت ذاكرته ضعيفة فأضعفها بعدم التذكير زادها وأضعفها بعدم التذكير، فلا تنتظر إلا سيء الظن بالله، فإذا ساء الظن بالله انعدمت الوظائف، لا يعرف أن يؤدي الوظائف التي يجب عليه، وإذا انعدمت الوظائف ذهبت العبودية.
{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} عُبّر عنها بأيام لأن مثل هذه العطايا والنعم تكون بمداولة هذه الأيام، ثم أن العبد إذا فهم ما معنى أيام الله عرف كيف أن الله عزّ وجلّ يبدل على الخلق أيامهم، فتشرق الشمس عليك وأنت في حالٍ من الضيق بسبب كذا وكذا، ما تغرب إلا وقد فرجها الله، فها هي أيام الله تبدل أحوال الخلق وهو سبحانه وتعالى يربيهم بذلك، لا يمكن أن يكون في شيء من قضاء الله وقدره لا يمكن أن يكون أبدا شيئا من العبث بل الحكمة التامة في أفعاله سبحانه وتعالى.
من أحسن الظن به عرف كيف الله عزّ وجلّ يقلب أيامه على الخلق، وينقلهم من النقص إلى التمام في إيمانهم. وليس على هواهم، ليس على دنياهم، ليس الكمال الذي تحسبه أنت كمالًا، إنما ينقلهم من النقص إلى التمام في إيمانهم الذي سيحمدونه وقت ما يلقونه، فيجدون ميزانًا قد ثقـله الله بهذه الأحوال التي دخلها العبد.
إذن حكمة الله ليس أن يوافق قدر الله هواك، إنما الحكمة والتربية التي تجدها في أفعال الله تساوي أنه سبحانه وتعالى يقدر عليك أقدارًا إذا انتفعت بها وكنت شاكرًا ثقل الله بها ميزانك، وإن كنت كفورًا أنت قد قضيت على نفسك، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[14]، وإلا هذه الأقدار مكتوبة.
 {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}[15] بمعنى: تأتيك الأقدار وقد كتبت في السماء اختبارات لك، أنت كيف ستتصرف أمامها؟ قد أُلهمت أمام كل قدر من الأقدار أن تسير في طريقين، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وهذه هي الوظائف التي يجب أن نقوم بها كما ينبغي، وهي معنى كلمة العبادة.
أيام الله هي نعمه وعطاياه –لو سرنا في هذا المسار-، وهذه النعم والعطايا يجب أن تكون ذاكرتك تجاهها قوية، أثر كون ذاكرتك قوية أن تحسن الظن بالله، فإذا أحسنت الظن قمت بوظائفك القلبية، ما هي؟ هي معنى العبودية.

أتينا هنا نريد أن نناقش هذا الجزء فإذا فُهم ستعرف أن تركب الثانية عليه، الجزء الأول تحتاج أن تعرف ما هي الوظائف القلبية التي يجب أن تعرفها وينفعك فيها كونك تتذكر أيام الله.
نبدأ النقاش بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[16]، هذه الآية العظيمة نرددها ونذكّر بعضنا بمعناها من أجل أن لا ننسى كيف نقوم بها.
معنى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أن الإنسان لم يُخلَق لأي شيء ثاني غير العبادة، مع ظهور المعنى ووضوحه؛ لكن واقعيًّا فيه علامة استفهام كبيرة! أين هي العبادة التي لا أنقطع عنها أبدا؟ أين هي العبادة التي من أجلها خُلقت وليس لأي شيء آخر؟
يُجاب على مثل هذا السؤال أن نبدأ بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[17] أي إلى قلوبكم وحدها، وإلى قلوبكم وقت قيامكم بالأعمال، أي ينظر إلى أعمال قلوبكم، وينظر إلى أعمال أبدانكم أين هي قلوبكم في وقتها.
فأصبح معنى ذلك أن عبادة العابد هي عمل قلبه
وأنت ما خُلِقت إلا لتعبد، ما خُلِقت إلا ليعمل قلبك عملا تتقرب فيه إلى الله، بحيث تصبح كل حياتك طالما أنك يقظان يجب عليك بعدد أنفاسك ودقائقك وساعاتك أن تعمل عملًا بقلبك تتقرب فيه إلى الله.
هل هذه الأعمال ستنشأ من عندي ابتداءًا أم ستكون ردود على أحداث تحصل لي؟ لو تمرن قلبك تمرينًا صحيحًا سيصبح الاثنين مع بعض.
الله عزّ وجلّ خلقنا وأوضح وصف لنا كما وصف النبي صلى الله عليه سلم ((كُلُّكُمْ حَارِثٌ وَكُلُّكُمْ هَمَّامٌ))[18] ما معنى حارث همام؟
حارث أي لا يجلس في مكانه، يعمل، لابد أن يعمل، وأيضا كثير الهم، أي يهم بقيام أمر، أي إذا ما حرث، إذا لم يمش على رجله وحرث، جلس في مكانه يفكر.
هذه الطبيعة بالضبط هي التي ستناسب معنى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ما خُلق الإنس والجن إلا ليعبدون، يقابل طبعهم أنهم عاملين حارثين وأيضا همامين.
والذي يأتي يقول أنا آمنت بالقضاء والقدر فلن أعمل، نقول لأنه وافق هواك وليس إيمانا بالقضاء والقدر، فمن يأتي يقول أني وصلت بالإيمان بالقضاء والقدر أقصى حد، فكانت النتيجة عندي أني لن أعمل ولا شيء، ربي سيقدر علي ما آكله وأشربه، نقول نعم لا بأس اعمل تجربة بسيطة ودعك في مكانك وحين تعطش لا تأتي بماء ابقى في مكانك، ولما تكون جائعًا لا تأكل إيمانا بالقضاء والقدر!
طبعا لن يعمل هذا، فمن يتحجج بالقضاء والقدر يتكلم عن هواه، لأن الله تعالى طبع النفوس على أنها حارثة همامة، ما أن تريد إلا تفعل، أي تبذل، فإذا ما استطاعت في بدنها تبقى بقلبها.
المقصود أن العباد لا يستطيعون أن يحتجّوا بالقضاء والقدر على أنهم عصوا الله ولا على أنهم تركوا بابه، بل الله عزّ وجلّ يقول في كتابه وهو يشير لمن اهتدى ولمن ضل -وهذا المعنى متكرر في كتاب الله-:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[19]، أي أنت همّام حتى لو هممت بالحسنة وتقربت إليه شبرًا بهذا الهمّ الذي تحمله تقرب إليك ذراعًا، وفي مقابل ذلك قال سبحانه وتعالى في الصنف الثاني {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[20].
ولهذا قال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}[21] من الذين {هَدَى اللَّهُ}؟ الذين أقبلوا، الذين قبلوا رسالة الرسول، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} استحق الضلالة لأنه رد رسالة الرسول.
إذن تقبل تتقرب إليه شبرا بالقبول يتقرب إليك ذراعا بشرح صدرك لهذا الذي قبلته، تُعرض يعرض الله عنك، ألم تسمع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة نفر من وجد فرجة فأوى إليها آواه الله ومن أعرض عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أعرض الله عنه، كيف أوّلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ ((أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ))[22]

إذن معنى قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أن العبادة هي الأعمال القلبية، وأنت لك في كل ساعة بل و في كل لحظة هم ولك في كل وقت حراثة وعمل تريد أن تعمله، هذا طبعك سيقابله مجموعة من العبادات القلبية..
فلو كنت تريد شيئًا أو تتمناه، فها هو باب الرجاء مفتوح لقلبك
لو كنت خائفًا من شيء ها هو باب الاستعاذة مفتوح لقلبك
لو كان عندك عوامل وتريد تحصيلها معًا، فها هو باب التوكل مفتوح على مصراعيه لك
ها أنت تشعر نفسك بأن أصابت قلبك غُمة من غفلة ها هو باب التوبة مفتوح لك،
وها هو باب الاستغاثة وباب الاستعاذة وباب الرجاء وباب الدعاء وباب الإنابة، وانظر إلى مجموع العبادات القلبية، فستجد أنه لا يمكن أن يأتي عليك وقت إلا وأمامه عبادة قلبية، غفل عنها من غفل وتيقظ له من تيقظ.
وهذا الفارق بين القومين، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}[23] هذه الأربع صفات هي التي تجعل الإنسان تغيب عنه العبادات القلبية إلى أن تمر عليه الأيام والليالي فلا يجد نفسه في موقف استغاث ولا في موقف استعاذ ولا في موقف رجى ولا في موقف ناجى ربه.. تغيب، تغيب.
وجد نفسه هو يجري بنفسه على أنه سيحصّل بنفسه، ونسي أنه يوجد عبادة اسمها عبادة الاستعانة، وإذا أتى ضيق جاءت عبادة الاستغاثة، وهناك قوم أسماهم الله عزّ وجلّ متقين، وهناك قوم اسمهم محسنين، وهكذا، كل هؤلاء ماذا فعلوا؟ فعلوا بقلوبهم قبل أبدانهم.
وقد ذكر فيما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لم يسبق القوم بكثير صلاة وصيام إنما سبقهم بشيء قد وقر في قلبه رضي الله عنه، فاستحق أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحق بذلك أن يكون أفضل تابعي الرسل، أي أفضل شخص بعد الأنبياء والمرسلين، لأنه حقق معنى الآية، حقق معنى أننا ما خلقنا إلا للعبادة، بدنك يثقل عليك إن ثقل قلبك، في مقابل أن قلبك يخفف عليك بدنك، أي أن قلبك لما يشعر بالخوف يصبح بدنك خفيف الهروب، ولما يشعر بالرغبة يصبح بدنك خفيف في الدخول والجري والذهاب، ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ))[24].
لكن مشكلتنا الأساسية لأن هذه المضغة لا نقاش حولها، لا يوجد تفصيل، لا أفتش، لا أقلّب، أين أنا من قلبي؟! هذا هو المهم.
فالمقصود بهذا الكلام باختصار أنك لابد أن تنظر إلى قلبك نظرًا فاحصًا، وترى ما الذي يؤثر عليه، وما الذي يجعله يتحرك ويتفاعل ويعبد؟ وما الذي يجعله يتخاذل ويرجع وينسى ويغفل؟

عنوان اللقاء {وذكِّرْهُم بأيـــَّـامِ اللهِ}، والمقصود بأيام الله نعمه سبحانه وتعالى، وهذه النعم لو بقيت ذاكرا ولسنة الله في التعامل مع خلقه وكيف يخرجهم من الضيق إلى السعة وكيف يعطيهم ويغنيهم، إذا بقيت ذاكرًا هذا كله ذكرا جيدا معناها سيترتب في قلبك حسن الظن.
كم متعك بالنعم، إذا مسك ضر بعد نعماء تمتعت بها كثيرا، الآن يقال لك ماذا تفعل يا عبدي، ماذا تظن بي؟ ماذا تظن بي بعد أن متعتك زمنا بهذه النعمة وأخذتها منك؟ أخذها اختبارا ماذا تظن برب العالمين؟ فما ظنكم برب العالمين؟
المقصود أن نبقى ذاكرين نعماءه، فإذا أصبح هذا ديدنك سيتحول إلى حسن ظن بالله، حسن الظن هذا سيسبب لك أن تقوم بوظائفك، (وظائف قلبك).
فأتى النقاش ما هي وظائف قلبي؟ كانت النتيجة هذه الوظيفة هي تحقيق قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وعرفنا معنى (إلا ليعبدون) لا يمكن أن تكون خُلقت وأنت تتصور أن الصلاة التي لا تأخذ منك إلا زمنًا يسيرا تكون هي هذه العبادة وانتهى الأمر، إنما هذه الصلاة كأنها موطن التدريب على العبادة، أنت بالصلاة تتعلم المناجاة، تتعلم كيف تكلم الله، تتعلم كيف تتدرب، كيف تناجيه وتناديه وتعظمه وتكبره.. تتدرب أن تقول لنفسك: الله أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وهو العظيم وهو الأعلى، وتقول اللهم اهدني وسدّدني واجبرني وارحمني، وتقول له إياك نعبد وإياك نستعين، وتنتظر منه أن يستجيب لك دعاءك.
فأصبحت الصلاة مكان للتدريب على أن يبقى قلبك عابدًا دائمًا، فكان معنى {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أنك موجود من أجل أن تعبد الله بقلبك، وقلبك هذا هو الذي سيأتي بعبادات البدن.
فهمنا الآن أن القلب هو الذي يُنظر إليه وهو الذي في الحقيقة يقوم بالعبادات، نريد قلبا كما ينبغي، فأين الأزمة في قلوبنا؟ ماذا فيها قلوبنا، ماذا فيها لأعرف كيف أعدلها؟
أمراض، هذه الأمراض بلاءات عليك، لنبدأ بالأمراض، ما علاج هذه الأمراض؟
كما قال سبحانه وتعالى في سورة الرعد {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}[25]
هذه الآية مثل ضرب للكلام حول علاج القلوب من الأمراض، أنزل من السماء ماء المقصود به العلم، فسالت أودية الأودية المقصود بها القلوب، لما نزل سيل على هذا القلب، سيل وليس نقطة أو نقطتين، ماذا حصل في الوادي؟ الوادي فيه أوساخ أصلا، لما نزل الماء كالسيل خرج الأوساخ إلى الخارج، أي بدأت ظاهرة للعين ثم طردها، ماذا يفعل العلم الغزير؟
يخرج الأوساخ، فكأنك تقولي أحتاج علم غزير، فيه تفاصيل، ينشغل قلبي بالتفاصيل، بحيث يخرج الأمراض.
لو كنت تغسل حوش البيت وهناك الأداة التي تغسل بها وبها فقط نقطتين ماء، هل تستطيع أن تغسل؟ لا، بل تحتاج ماء غزير يطرد الوسخ، بهذه الصورة تخيلها، نقطتين ماء كأنه نقطتين علم، كأنه نقطتين دواء لا ينفع، لابد أن يكون غزيرًا.
ولهذا الذي تقرؤه في القرآن وتسمع أوصاف دقيقة لله عزّ وجلّ يجب أن تكون هذه الأوصاف الدقيقة شاغلة لك، شاغلة تفكيرك، فتجمع كل ما قرأت في القرآن عن علمه، تجمع عن علم الله وتعلم أنه سبحانه وتعالى مثلا يعلم تفاصيل تفاصيل ما يدور حولك.
مثلا وجدت ورقة شجر في الأرض، تذكرك بأي شيء؟
قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}[26] إذن يعلمها، يعلم من أي شجرة سقطت، ومتى سقطت، وماذا سيحصل لها بعد السقوط، فلما تراها بعينيك تحملك إلى تفاصيلها، إلى تفاصيل تتعلق بعلم الله عزّ وجلّ.
هذا التفكير الآن هو وصف أولوا الألباب، أولي الألباب وصفهم الرئيس -أي الذي عنده لب، عنده قلب- يفكرون ويحللون ما يرون على ما يعلمون.
لا تنس {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا...} ما بهم؟ {غَافِلُونَ} الغفلة هذه عن الآيات المتكررة إنما هو بسبب الطمأنينة للحياة الدنيا، بسبب الرضا بالحياة الدنيا، الانشغال بالحياة الدنيا، من رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها منشغل بها، لابد أن تكون نتيجته { وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}.
المقصد أن قلوبنا التي نريد أن تقوم بالعبادات لابد أن تعرف أولًا أنها تحتاج إلى سيل من العلم.
السيل من العلم سيؤثر على أي شيء؟ سيؤثر على مشاعرنا
لما نأتي نعرّف الإيمان نقول هو: الاعتقاد الجازم أو الاعتقاد اليقيني.
الجازم واليقيني معناه أنك لما تؤمن بشيء أي تصدّق بأي خبر جاءك عن الله أو جاءك في السنة؛ ما يكفي مجرد التصديق لابد أن يكون التصديق وزيادة، فما هي الزيادة؟ الزيادة هي العمل، تصدق وتعمل.
بين التصديق والعمل هناك خانة، هي هي تخفف علينا العمل، وتدفعنا للعمل، وهي مشاعرنا.
أنت الآن تصدق الخبر، الخبر يؤثر على مشاعرك، مشاعرك تدفعك للعمل، ولذلك في دروس العقيدة تسمع أهل العلم يذكرون ركائز العبودية، الركائز التي تبنى عليها العبودية، هي الحب والخوف والرجاء، وهذه عبارة عن مشاعر .
إذن كأنه يقال: من أجل أن يعمل قلبك، وينتفع من العلم لابد أن يخلو شعورك من الدنيا.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هذا الرجاء، {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الرضا مشاعر، {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} والطمأنينة أيضًا مشاعر، كل هذا الذي يحصل من مشاعر الإنسان تساوي إشغاله عن المقصود.
إذن أنت من زمان تسمع أخبار وتسمع آيات القرآن وعندك مفاهيم كثيرة موجودة وما تنقصك المعلومات، ومع ذلك كل هذا الذي تسمعه تجده لا يؤثر، ما السبب؟ ما الذي حاصل لنا؟
هناك كلام لكن ما في مشاعر.. المشاعر محبوسة وراء الكلام.. الكلام الذي تسمعه كلام الله هو نفس الكلام الذي سمعه الصحابة، النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن معه أداة تجعل هؤلاء ينتقلون من الباطل إلى الحق إلا القرآن، ونِعم بها من أداة، دخل إلى أفئدتهم، انشغلت به مشاعرهم، فأصبحت كلمات القرآن حية في قلوبهم، فما أن يسمعوها إلا وتنادي معاني في عقولهم، فيتصرفون تعقلهم (أي تمنعهم) هذه الكلمات عن الخطأ، تمنعهم عن أن يسيروا وراء هوى أنفسهم .
فالمقصد أن هذه الأخبار الكثيرة التي نسمعها ونحن لا نشك فيها والفضل لله، لكن مع أننا نسمعها كثيرا لكنها ما تحرك مشاعرنا، والسبب أن مشاعرنا أصلا مشغولة، تائهة، لها من الاهتمامات وفيها من التطلعات والآمال ما يمنعها من الانتفاع، يقطعها عن الانتفاع.
إذن اعلم أن العبادة أصلها هو عمل قلبك، وعمل قلبك هذا إنما هو انفعالات شعورية تقوم بها، وطالما شعورك منفعل بغير الحق منشغل عن الحق، لن يتحقق في قلبك عبادة كما ينبغي.
وإذا أردت أن تقارن بين قوي الإيمان وضعيف الإيمان ماذا تقول؟
كلاهما يصدقون الأخبار، لكن قوي الإيمان شعوره تجاه الحقائق أقوى، بدليل آية الأنفال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[27] كل هذه الثلاثة عبارة عن مشاعر:
1.            وجلت قلوبهم شعور
2.            زادتهم إيمانًا شعور
3.            على ربهم يتوكلون شعور
ثم أتت الأعمال البدنية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وبعدها قال الله عزّ وجلّ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الذين يملكون شعور حقيقي تجاه الحقائق.
فإذا خليت قلبك من المشاعر وبقيت تذكر نفسك بأيام الله، بقيت تُخلّي قلبك من الدنيا، لا ترضى بالدنيا، لا تطمئن لها، إنما هو زاهي اليوم غدًا يصبح حطيمة، غدا يصبح لا شيء، الذي أنت معتني به اليوم غدا لا يساوي شيئا.
فالمقصود أن مشاعرك لا تنشغل بالدنيا إنما ذكر نفسك دائما بأيام الله.
وأيام الله ما مضى عليك من نعمائه وأيام الله ما مضى عليك أيضا من عطائه سبحانه وتعالى وما مضى على غيرك من الأقوام، وأنت لو قلبت صفحات التاريخ سترى عجبا من أفعال الله عزّ وجلّ.
فمن اطمأن للدنيا خاب، ومن اطمأن إلى ربه ما يخذله أبدا.
فلابد أن نقوم بهذه العبادة العظيمة وهي تذكير بعضنا بعضا بأيام الله، نذكر بعضنا بعض من هو الله، أسماؤه وصفاته وأفعاله، كيف عاملنا بلطفه، وكيف عاملنا بستره، وكيف سبحانه وتعالى وهو الغني عنا يتودد إلينا بنعمه، وكيف مع طول مقامنا في ظلم أنفسنا بالذنوب يعاملنا بحلمه، فهذا كله نذكر نفسنا به، نذكر نفسنا بكل التاريخ الذي نملكه من أحداث وأحوال رأينا فيها آثار كمال الله.
ولذلك من الأشياء التي تعاتب عليها المرأة هروبها من عمرها، لأن هروب المرأة من عمرها يشغلها، يشغل تفكيرها عن تتذكر أيام الله!
المفروض أن تقوم بتقليب أيام الله تقليبًا، وقد ظهرت من الفلسفة عند الناس أنه لابد أن أبني لنفسي بيت ولابد أن أؤمّن نفسي قبل أن أصبح كبيرًا ولا أحتاج لأولادي ولا أحفادي، وحتى لا يرموني!
علينا أن نذكّر هؤلاء بأيام الله، نقول الذي رعاك في بطن أمك وأخرجك للدنيا سويًّا سليمًا، والذي أنعم عليك بستره وعطائه هذا العمر كله، والذي آواك ووهبك المال أولًا ونفعك ببدنك وفكرك فأصبحت موظفًا أو طبيبًا أو معلمًا... من فعل لك هذا العمر كله تأتي في آخره وتترك التوكل عليه وتتكل على نفسك؟!  هذا معناه أنك لا تعرف الله أبدًا!
ذكّرهم بأيام الله.. ذكرهم كيف أخرجهم من بطون أمهاتهم سليمين، اليوم نسمع هذا انقطع عنه التنفس دقيقة، وهذه الإعاقة حصلت له وقت بسبب كذا، وهذا خرج سوي سليم ما فيه شيء لكنه خرج مصاب بالتوحد..
وأنت أخرجك من بطن أمك سويًّا سليمًا، أنعم عليك بكل هذه الحواس كاملة، أعطاك ورزقك ودرست وتزوجت وأنجبت وفعلت.. هذا أنت؟ أم أن الله هو الذي أعطاك ووهبك؟! فالذي وهبك أولًا هو الذي سيحفظك تاليًا إن كنت عليه متوكلا.
ثم فكر في قبرك الذي سيأويك حقيقة، فكر ماذا بنيت في ذاك القبر؟ فكر ماذا تريد أن يفرش لك فيه!
فمن ظن أنه في لحظة يستغني عن الله فقد أجرم في حق نفسه، لأنك اسمك فقير وصفك الذي لا ينفك عنك أنك فقير وهو الغني، وصفك الذي لا ينفك عنك أنك ضعيف وهو القوي، وصفك الذي لا ينفك عنك أنك عاجز وهو القادر سبحانه وتعالى.
ذكرهم بأيام الله، كم أعطاك وآواك كم قواك، كم مرة كدت أن تسقط من طولك فقلت بسم الله لا حول ولا قوة إلا بالله فمدك بالقوة والعافية، كم مرة ظننت أنك ستهلك كم مرة أكلت فشرقت فظننت أنها النهاية فأخرجك، كم وكم! ذكرهم بأيام الله..
فالمقصود أن من عاملك بتمام الكمال بكرمه وعطائه وستره وحلمه وعفوه ورزقه تعامله بالنكران؟! أتعامله بالاعتماد على فقرك وضعفك وعجزك؟!
((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرَفَةَ عَيْنٍ))[28] وفي رواية: ((وَأَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي كُلَّهَا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))[29]
فالمقصود يجب أن تكون ذاكرتنا قوية تجاه عطاياه.
كم في سن الشباب كدنا أن نُهلك نفسنا، كم تمنينا أماني لو حققها الله كنا هلكنا! كم أخذ بنا بعيدا عن الهلاك، كم أنجانا رغم إصرارنا، هذا كله لا تنساه أبدا، خصوصًا وأنت ترى مشاهد تتكرر وناس يضيعون وأنت تقول سبحان من أنجاني وأخرجني وآواني وهداني وشرح صدري..
أنت لما تجد نفسك التي بين جنبيك تدعوك للمعصية، تدعوك للضلال فتجد أنه من رحمته ورأفته وستره يقطع عليك بابها، يمنع الباب، تريد أن تفعل الشيء الغلط فتجد الجماعة الذين تغتاب معه لا يردوا عليك..
 كم تفضل عليك بالحماية؟! كم رعاك؟! هذا كله من أيام الله علينا أن نتذكّره.
نحن لنا تاريخ في تعامله معنا يكون من النكران والكفران أن لا نتذكر، فإٍذا أحسنا إلى أنفسنا وأحسن بعضنا إلى بعض لابد أن نذكر دائما أنفسنا كم لطف بنا، كم فتح لنا أبوابًا من الأجور، كم أخذ منا الشرور وأبعدنا عنها، كم فتح لنا أبوابا للأجور العظيمة، حتى لما سبحانه وتعالى يعطيك نعمة ويأخذها منك وهو المالك سبحانه وتعالى لكل شيء يأخذها منك وينزّل عليك جبرًا ويكتب لك أجرًا، سبحان الله! يهبك أولًا، يمتعك، يأخذها منك، ينزل الجبر عليك، ثم يكتب لك أجرها، إذا قبلت جبره.
كيف بعدما يصيبك مصاب فتقول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}[30] هو المالك وأخذ ملكه ومع ذلك تستقبل جبره، فإذا فتحت إناء قلبك لاستقبال الجبر جبرك، تُجبر ويُكتب لك الأجر.
فكم تفضل علينا بأفضاله سبحانه وتعالى والتي نرى من أفضاله ما نراه في الدنيا، ومن أفضاله ما ننتظره يوم أن نلقاه.
ونحن نحسن الظن به أن لا يخيّب أهل الإسلام، وأن يجبر لهم النقص الذي يفعلونه في عباداتهم، وأن يعاملهم بفضله وهو سبحانه وتعالى الغفور الشكور الذي يغفر للعباد زلاتهم، ويشكر لهم قليل أعمالهم فنسأله سبحانه وتعالى أن يعاملنا بفضله ومنته وكرمه.

ثم قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} هذه صيغة مبالغة.
ما وصف العبد الصبار؟ وما وصف العبد الشكور؟
الصبر هو حبس النفس، الصبر كلمة دائما نتداولها، لكننا نحتاج أن تدخل إلى أعماقنا لنجعلها ضابطًا عندنا.
متى يحصل الصبر؟ متى وقته؟
في وقت الشدة والبلاء، لكن شدة بلاء أهل النعمة ما شكلها؟
 نحن الحمد لله في نعمة عظيمة ولما تأتي البلاءات تأتي بفضل الله خفيفة، لكن ما هو أصلا البلاء بالنسبة لنا؟
كل مرة يأتي الأمر على خلاف هوانا تجدنا مباشرة ما عندنا إلا البكاء والحزن، وجماعة تكثُر عليها المسألة فتقول أنا أصلا ما لي حظ! وكل واحد وردة فعله تختلف عن الثاني، لكن في النهاية بالنسبة لنا هذه مشكلة أهل النعمة، بالنسبة لنا المصائب هي أي شيء خالف هوانا كان كبيرا أو صغيرا نشعر نفسنا أننا ممكن أن نفقد أعصابنا -بتعبيرنا-.
متى تحتاج الصبر؟
بتعبير بسيط كل مرة تشعر نفسك أنك ستفقد أعصابك أنت تحتاج أن تكون صبّار، لذلك هي صيغة مبالغة.
نبدأ من أول الأمر، مع نعماء الله عزّ وجلّ على خلقه بدأ يشعر الإنسان بأقل نقص أنه كأنه مصيبة، أصبحنا حساسين تجاه النقائص، حساسية تمنعنا من شكر الله.
مثاله: أنا مثلا عندي ضيوف، وكنت مرتبة لنفسي أني لابد أن أحضر أربع أطباق مختلفة، فإذا صاروا ثلاثة أو إذا صاروا اثنين كأن مصيبة وقعت! فلما ينقص علي هذا الشيء القليل يمنعني من شكر ما أتى.
نحن يُنعم علينا بنعم فلما نرسم شكل معين للنعمة، لها زواياها، حتى تكون نعمة في حقي لابد أن يكون كل شيء موجود، نقص (أ) و(ب) و(ج) من كل الحروف الأبجدية نقول خلاص ننسى كل الباقي الذي عندنا ونفكر بالناقص، وعلى ذلك ماذا حدث؟ حدثت مشكلتين:
لا حبست نفسي عن هواها في الناقص، ولا قمت بشكر الله على الموجود، فذهبت صبار وشكور.
وهذه حيلة شيطانية خطيرة على الانسان، أن يجعل الشيطان بالإضافة إلى النفس، يثير النفس إثارة تجعلها لا ترى النعمة، وإنما ترى النقص.
وهذا يزيد أكثر مع زيادة النعم، أهل النعم دائما هم من يخاطبوا بهذا، لأن أهل النعم من كثرة النعماء يشعروا أن الأشياء الأساسية الموجودة في حياتهم لابد أن تكون موجودة.
كما نربي طفل صغير لا يعرف كيف كانت حالتنا أصلا، وكيف كان الناس يسكنون؟ وكيف أهل الجزيرة أهل خيام.. فيتصور أنه لابد أن يعيش الناس في منازل.. أسأل الله أن يحفظ علينا النعماء ويزيدنا شكرا والثناء وهو المستحق للثناء والشكر في كل الأحوال.
أصبح مجرد أن يخالف هوانا شيء ننسى النعمة التي أتت في الشكر، وننسى أن نتعامل مع النقص بالصبر، والأهم من ذلك أيضا وننسى أن الذي منع وحبس هو الحكيم، الذي ما يحبس عن خلقه بُخلًا، وهو الكريم، وهو الملك، وهو الذي لو أنفق على عباده كلهم ما يريدون لو اجتمعوا من أولهم لآخرهم جنهم وأنسهم وأعطاهم ما يريدون ما نقص في ملكه إلا كما ينقص المخيط أي الإبرة لو أدخلتها في البحر، هل تنقص من البحر شيئًا؟! فالله كريم حتى لما يحبس عنك ما يحبس عنك إلا الشر، ما يحبس عنك إلا ما يسيئك لو وصل لك.
فانظر كم خسارة خسرناها؟ خسرنا الصبر في مواطن النقص، وخسرنا الشكر على ما أعطانا، وخسرنا عبادة الله بحسن الظن به.
وهذه أعظم خسارة أن يمنع عنك شيء فلا تدري أن المنع هو عين العطاء، فلا تتمتع بحسن الظن الذي يأتي من ورائه كشف الحقائق، لأن من بدأ ربه بحسن الظن في فعله أبدى له ربه أسرار لحكمته سبحانه وتعالى، بدأ يتكشف لك الأمر بدأت ترى هنا وهنا كيف من نعمائه عليك أن منع عنك هذا، أنك لم تذهب مع هذا، أنه حصل لك هذا أنه نقص عليك هذا.
يتكشف لك الأسرار، لكن هذه الآيات ليس إلا لقوم يؤمنون، ليست إلا لقوم في قلوبهم حسن الظن بربهم، فإذن العبد لما لم يحبس نفسه وقت ما شعر بالنقص أو وقع عليه نقص -والنقص مقياسه أهواءنا- وليس النقص مقياسه أنه نقص حقيقي ولكن النقص غالبا مقياسه أهواءنا، وهناك أيضًا نقص حقيقي، والله تعالى أخبر كما في سورة البقرة أن يصيبنا بنقص في أموالنا وفي أنفسنا وفي الثمرات، نعم هناك نقص حقيقي، وهناك نقص فقط مقابل الهوى.
على كل حال إذا نقص شيء فالوظيفة القلبية التي يجب أن تقوم بها هي أن تجمع كل قواك وتذكر نفسك بأيام الله، وتقول نقصًا يجر كمالًا، وضيقًا يجر سعة، فتحبس نفسك عن أن تسيء الظن بربك.
واعلم أنه كلما زاد إيمانك وزاد يقينك، زاد اختبارك، بمعنى أن تطول فترة الاختبار، تطول فترة الضيق، لكن لما تنجح في هذا لاختبار تجد سعة مثل سعة الأفق، تخرج من هذا الضيق إلى سعة مثل سعة الأفق.
يقول سبحانه وتعالى كنموذج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} ماذا يفعل لكم؟ {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}[31]، أين يفسح لكم؟
يفسح لكم هنا، في صدوركم وقلوبكم وانشراح للصدر، يفسح لكم في قبوركم مد الأفق، يفسح لكم وقتما تلقونه، فانظري إلى الضيق، ما الذي يحصل وأنت تفسح لغيرك؟ لن تحصل لك مصلحة لما تفسح بل أنت ستتضايق، لكن يقال لك هذه سنتي، تضايق قليلا لكن ستفسح لك الأمور، يفسح لك في قبرك وفي الدنيا في قلبك، ولما تلقاه، بعد الضيق.
لو جلس بجانبك أحد في الحرم ووسعت عليه استجابة لأمر الله، مثلا ساعة ونصف أنت في ضيق، يساوي أن يفسح لك هذا الفسح كله! فهكذا سنة الله عزّ وجلّ يضيق عليك الأمر بمقدار هذه الساعات، بمقدار هذه الأيام، بمقدار هذه الشهور، بمقدار هذه السنوات، ثم يلحقك فسحًا عظيمًا، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ}[32] فيحصل أجر هذا هنا.
فالمقصود أن الصبر هو حبس النفس لحظة وقوع الأمر الذي لا يلائمك، أحبسها عن أن تنفعل انفعالا عشوائيا، الصبار هذا واحد تمر عليه أمور لا توافق هواه، تمر عليه أمور تزعجه، يمر عليه فقد، فالنفس تذهب وتعود حتى لو كان فيه إيمان تذهب وتعود، تحدثه بحديثٍ لا يرضاه الله، والشيطان يلقي في أذنه أمورًا فيها إساءة ظن بالله، وهو ماذا يفعل؟ يدافعها دفعا، والصبر أن تدافع هذا الكلام الذي تسمعه فلا تضيق به، لا يخرج من لسانك ما لا يرضي الله، ولا يدور في وجدانك ما يغضب الله، ولا تتصرف بيدك أو بقدمك أو ببدنك ما يسخط الله فيصبح الصبر هو حبس النفس وقت انزعاجها عن أن توافق هواها.
ولذلك الصوت العالي وقت المصاب، الانفعالات التي لا يحبها الله ولا يرضاها كلها نتيجة أننا لم نمرن أنفسنا على أن نضبط أنفسنا عن هواها، دائما أنفسنا على أهواءها.
نترك أنفسنا تنفعل كما تريد، وهذه طريقة تعبيرنا، نريد أن ننتهي من الموضوع فنقول: هذه طريقة تعبير الشباب عن مشاعرهم، نقول هذا غير صحيح، هذه طريقة ترك الإنسان نفسه على هواه.
وهكذا قيسي نفسك وانظري كيف لما ينكسر كأس واحد من الطقم الجديد الذي اشتريتيه! تنفعلي!
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبةً                     فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا؟!
بمعنى أن ترك أنفسنا هكذا تفعل ما تريد في نهاية الأمر ستأتي في موقف تريدي أن تمسكي لجامها ما تستطيعي، وتأتيك من الخواطر التي ما تتمني أن تمر على خاطرك، ويلقى في قلبك كلام ما تتمني أن يأتيك، والسبب عدم تمرين النفس على الضبط. لابد أن تضبط نفسك، يجب أن تمرنها على الضبط، وإذا مرنتها على ضبط اليسير سُددت في أن تضبط نفسك في وقت العسير، هذا كان الصبار.
ذكرهم بأيام الله وستجد أيام الله عزّ وجلّ ستجد نفسك في أيام الله عزّ وجلّ تذكرت أياما وُفقت فيها للصبر ونفعك الله بصبرك وأوصلك إلى ما تريد، تتذكر تلك الأيام وتبقى سائرًا على ما سددت عليه.
مثله شكور
ما معنى شكور؟ من الشكر، وهي صيغة مبالغة، نريد أن نعرف ما هو الشكر بالنسبة لنا؟
الشكر هو الثناء على الله بجميل إنعامه، الحمد هو الثناء على الله بكمال صفاته.
الشكر هذا يمر بكم مرحلة؟ متى تصبح شاكرا؟ متى ستشكر؟
أول وأهم شيء حين أشعر بالنعمة، لما يكون عندي إحساس، وقد مر علينا أن كثرة المساس تميت الإحساس! بمعنى أن أول دعامة للشكر هي بنفسها قد تكون بنفسها مفقودة، وهي الإحساس بالنعم.
للشكر خمس دعامات
 






حتى شكرك هذا من توفيق الله، وكلما ازددت تفكيرا في النعم شعرت أنك عاجزًا عن عدها من جهة، وعن شكرها من جهة أخرى، إذن العجز عن الشكر كأنه هو قلب الشكر.
الإحساس بالنعمة: وهذه الدعامة هي منطلق الشكر، لن تكون شاكرا إلا إذا شعرت بالنعمة، وهذه الدعامة هي التي تواجه مشكلة عندنا، لأن لو أتيت لرقم ثلاثة وهي معرفة طريقة التعبير عن الشكر ستجدي أن كل العبادات عبارة عن شكر.
مثلًا شاب يصلي، ثم وقع عليه شيء لا يلائمه كالرسوب في الاختبار، كان يحتاج في الرسوب أن يعامل الله بالصبر، تجده ترك الصلاة! لماذا تركت الصلاة، والصلاة شكر لله! فيرد عليك ردّ غير متصور ويقول لك: أين هي نعم الله!
هذا الكلام يتداوله الشباب، على أن نعم الله تعالى عنده هي النجاح فقط، ولا صحة ولا عائلة ولا شيء من هذا يعتبر عنده نعمة.
فأول مشكلة نعيشها فقداننا للإحساس بالنعم.
من التعبيرات الكثيرة التي تدل على عدم إحساسنا بالنعم وتدل على البطر أن آتي أقول الأولاد أزعجوني أنا كنت في بيت أهلي مرتاحة معززة ومكرمة، هذه كلمات تدل على البطر!
مثله الزوج لو قال ما لا يناسبك، نقول كنا في بيت أهلنا وما علينا منكم !
كل هذا نفس الطريق، شعور بالبطر ومن ثم ما في شكر للنعمة، على أن الدنيا يجب أن تكون تامة ما فيها مشاكل، والدنيا هي بلغة منغصة، بلغة فقط يبلغك الآخرة، وهذه البلغة بنفسها مليئة بالتنغيص، إذا فهمت هذا فهمت متى سيكون الشكر، ما تفقد شعورك بالنعمة.
ذكّرهم بأيام الله، ذكرهم أننا أبصرنا وغيرنا لا يرى، أننا نتمتع بجميع أعضاء أبداننا وغيرنا لا يتمتعون.
ذكّرهم بأيام الله، ذكرهم أن فقدًا بسيطًا نعيشه يقابل نعمًا كثيرة نتمتع بها.
لابد أن نقلّب على أنفسنا مثل هذا الكلام، لا تكلمني عن غيرك، لا تكلمني عن الشباب الذي لم ينضج بعد ولم يفهم المسألة كما ينبغي، بل تكلم مع نفسك، لابد أن تعطي نفسك زمنًا تعبد الله بهذه الآية، تذكّر نفسك بأيام الله وعطاياه ومننه، تفصيلًا، إلى أن تصل إلى شعور العجز بأنك تستطيع عدها، فلما تشعر بشعور العجز عن عدها؛ فقد بلغت أن تشكر النعمة.
لابد أن تكون عندنا عاصفة نبدأها بقدرتنا على الكلام وقدرتنا على مخاطبة الناس والتعامل معهم ونعيش في أمن، ما ينتهي الكلام، من أين تبدأ ومن أين تنتهي لا تعرف في النعم، نعم تخصنا ونعم تخص بلادنا نعم تخصك كمؤمن مسلم، نعم تخصك كون الناس في ظلمة وأنت في نور.
يحكي لنا جماعة كانوا في أرامكو السعودية وقت ما حصل زلزال اليابان وهم هناك! فكانوا في ناطحة سحاب عالية، وقع الزلزال فاهتزت الناطحة كلها، فكانوا ثلاثة في المكتب هذا، اثنين مسلمين وواحد بدون دين، فوقت وقوع الزلزال الاثنين المسلمين سجدوا في الأرض طلبا لله واستغاثة به، وهذا الثالث صار يدور في الغرفة ولا يعرف لأي اتجاه يتجه ويفكر أن يلقي نفسه من النافذة!
فأنت مهتدي إلى أين الطريق هذه وحدها نعمة عظيمة تتمتع بها، الناس كلهم عندهم سؤال مُلِحّ في فطرهم أين القوي العظيم الذي ألجأ إليه؟ أين ركني الشديد الذي آوي إليه؟ وأنت كل يوم تقول لنفسك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}[33] أنا لي صمد أصمد إليه، لي ركني الشديد ألجأ إليه، أنا ضعيف وعندي القوي، بابه مفتوح، بل ينادي خلقه في الثلث الأخير من الليل.
فهذه النعم التي تعيشها أين مبدأها وأين منتهاها؟ ما لك إلا أن تكون عاجزًا عن شكره، فالمقصود ذكّر نفسك بأيام الله، امتثل أمر الله، حرّك قلبك حرّك مشاعرك، لا تكن ممن رضي بالحياة الدنيا واطمأن لها وغفل عن آيات الله، هذه صفة إذا تسربت إلى النفوس أصبح الصراع على الدنيا، وأصبح الناس يتفاخرون ويتكاثرون ولا يفكروا إلا في منزلتهم عند الخلق ويطلبون ثناء الناس ويفقدون صفة الأبرار، لأنهم لا يفكرون في ثنائه.
فالمقصد أن الصبار الشكور هذا المؤمن الذي قد أنعم الله عزّ وجلّ عليه بالإيمان ذاكرته قوية في نعم الله، ما ينساها.
ثم يأتي الأمر المهم جدا وهو يفكر في نعم الله وهو النسبة، نسبة النعم بالتفصيل إلى الله، نعمة نعمة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسُخْطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَجُرُّهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ))[34].
كم تعلقت قلوبنا بالخلق وظنت أنهم يعطوك، كم تحركت القلوب ثناء على الخلق والتفتت التفاتة بسيطة إلى الرب.
إذن النسبة بالتفصيل {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[35] أفرأيتم الماء الذي تشربون، أفرأيتم النار..كل هذا أفرأيتموه؟! لما نطبخ نستعمل ثلاثة أمور: (نتائج زراعة الخلق، نتائج الماء، ونتائج النار) فالأكل الذي نأكله الآن ليس آخره المكان الذي أشتري منه الخضار، بل آخره ما زرع الله تعالى لنا، ما أنعم الله تعالى به علينا، نقول نحن نعرف أنفسنا، نحن صحراء أليست جزيرة العرب صحراء؟!
لما ترى تموينات غذائية، تجد من خيرات الأرض، من أين أتت؟ من الذي أتى بها؟ في التفكير العام هذا البترول! البترول من حبسه لهذا الزمن؟! إلا الذي يملكه ويملك السماوات والأرض.
فالمقصود أن النعم لا تنتهِ، وتقليبها لا ينتهِ، ونسبتها من العبادات التي تحبس نفسك عليها، أليس {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}؟! إذن لما تجلس تراجع تنسبها نعمة نعمة، كلمة كلمة، إلى الله تكون ذاك الشكور الذي شكر الله، لا تعامل نفسك ولا تعامل الله بالإجمال، لأن الإجمال هو الذي يجعل مشاعرنا في مكان ثاني، نحن مشاعرنا تنشغل بالتفاصيل.
انظري لما تقول لك زميلة بعيدة ويقال لك أنها مريضة تشعرين بالشفقة عليها يحصل في قلبك شفقة لها، لكن لما تصبح قريبة منك المريضة وكل يوم تسمعي تفاصيل ما الذي يحصل؟ تنشغلي بها.
نحن مشاعرنا تنشغل بالتفصيل، لذلك لما تكلمني عن النعمة وتكلمني عن نعم الله وتذكر نفسك وتذكر الناس بالنعم وتسند النعم إلى الله تحتاج ماذا؟ كلام تفصيلي لتنشغل مشاعرك وفؤادك بالله وبالثناء عليه، ثم اسمع عن أسمائه وصفاته وانظر إلى كمال أفعاله، انظر إلى آثار أفعاله سترى كماله سبحانه وتعالى.
المقصود أن من شكر الله عزّ وجلّ كان له بصر حاد وذاكرة قوية في نعماء الله، وأشغل لسانه بالثناء على الله تعالى، وأكثر من العلم عن الله.
ثم اعلم كما قال سبحانه وتعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي بعد أن تعلم أنه يستحق الشكر وأنه حق، انظر إلى كرمه وعطائه، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[36] إذن مع أنه حقه ويستحقه سبحانه وتعالى ومع ذلك عاملنا بكرمه وفضله، فمن شكر شُكِر له، {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}.
كن فاهمًا هذه القاعدة، بهذه الطريقة فكر، ما في يوم تمد يدك تُعين أحدًا إلا ومردود هذه الإعانة لك، ما في يوم تسقط نعمة في الأرض وتحملها إلا هذا حمل النعمة والمحافظة عليها مردودها لك، ما في يوم تحمل هم أن يلقى شيء من نعم الله في مكان لا يليق -ما في يوم تحمل هم هذا- إلا مردوده لك.
{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} تكفروا ما تشكروا، تتبطروا، تعاملوا نعماءه على أن لابد أن تكون موجودة والذي لا نأكله اليوم ونستغني عنه لا بأس والذي لا يناسبنا نتركه.
لابد أن تعرف عن الله {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
إن شكرتم وإن آمنتم وإن أحسنتم هذا كله لمن؟ لأنفسكم، وإلا فإن الله عنك غني.
من هذا الذي يستطيع أن يقول أنا أبلغ نفع الله فأنفعه، من هذا الذي يقول هذا الكلام؟!، لا أحد ولا احد يجرؤ على ذلك، لا نبلغ نفعه فننفعه ولا نبلغ ضره فنضره بل هو الغني سبحانه وتعالى تام الغنى .
فإذا علمت تمام استغناؤه عنك وعن الخلق كلهم وعمن في الأرض جميعا، وعلمت فقرك التام إليه وأنك لا تملك القوة لتفعل شيء وأن ليس لك حول ولا قوة لتهش ذبابة عنك- إذا فهمت هذا جيدا -وكنت تام الفقر فكن تام الصبر والشكر، وكن ذاكرًا دائمًا أيام الله.

أسأل الله بمنّه وكرمه أن يجعلنا ممن صبر وشكر وبقي ذاكرًا أيام ربه وأثنى عليه بقلبه ولسانه ونفعه الله بصحبة تذكره بأيام الله.
فإن أكثر ما يفسدنا هي أن نصاحب قوم قد ابتلوا بمرض البطر، فإن أمراض القلوب من الأمراض المعدية، فكن حذرًا أن تكون بطرًا على نعمة الله ناسيًا لنعمائه وكن حذرًا أن تصاحب أحدًا بهذه الصفة.
نسأله وهو المسؤول وحده أن يقبل منا عملنا وأن نكون ممن يقال لهم قوموا مغفور لكم.




[1] الإسراء:7
[2] إبراهيم:5
[3] رواه أحمد وغيره  وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
[4] المعارج
[5] الشمس
[6] أخرجه البيهقي في الزهد (2/309 رقم 820) . وأخرجه أيضًا: البزار كما في مجمع الزوائد (10/271) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح . والطبراني في الأوسط (5/257، رقم 5248) وابن عدي (2/163 ترجمة 352 الجراح بن مليح) وقال : حديثه لا بأس به، وهو صدوق، ولم أجد في حديثه منكرًا .
[7] الإنسان.
[8] الأحزاب
[9] النساء: 142
[10] الضحى
[11] فصلت:23
[12] محمد: 12
[13] الحديد.
[14] الإنسان:3
[15] الحديد:23
[16] الذاريات:56
[17] رواه مسلم في صحيحه.
[18] قال في "التمييز": ليس بحديث ويقرب منه "أصدق الأسماء حارث وهمام". قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَإِنَّمَا كَانَ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ أَصْدَقَ الأَسْمَاءِ ؛ لأَنَّ الْحَارِثَ هُوَ الْكَاسِبُ ، وَالْهَمَّامَ هُوَ الَّذِي يَهُمُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ لا يَنْفَكُّ عَنْ هَذَيْنِ.
[19] محمد:17
[20] الصف:5
[21] النحل:36
[22] رواه مسلم في صحيحه.
[23] يونس:7
[24] رواه مسلم في صحيحه.
[25] الرعد:17
[26] الأنعام:59
[27] الأنفال:2
[28] المستدرك على الصحيحين للحاكم، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
[29] المستدرك على الصحيحين للحاكم، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
[30] البقرة.
[31] الحديد:11
[32] الحديد:12
[33] الإخلاص
[34] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم، غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو، تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ.
[35] الواقعة
[36] إبراهيم:7

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.