نقل لكلام
الشيخ الذي تم شرحه في هذا اللقاء:
وكل هذا مشاهد بالتجربة، ومثل واحد من هذا النوع، إذا تدبرته ونزلته على أحوال
الناس، رأيت الفرق العظيم بين المؤمن العامل بمقتضى إيمانه، وبين من لم يكن كذلك، وهو
أن الدين يحث غاية الحث على القناعة برزق الله، وبما آتى العباد من فضله وكرمه المتنوع.
فالمؤمن إذا ابتلي بمرض أو فقر، أو نحوه من الأعراض التي كل أحد عرضة لها، فإنه
- بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضى بما قسم الله له - يكون قرير العين، لا يتطلب
بقلبه أمراً لم يقدر له، ينظر إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، وربما زادت
بهجته وسروره وراحته على من هو متحصل على جميع المطالب الدنيوية، إذا لم يؤت القناعة.
كما تجد هذا الذي ليس عنده عمل بمقتضى الإيمان، إذا ابتلي بشيء من الفقر، أو
فقد بعض المطالب الدنيوية، تجده في غاية التعاسة والشقاء.
ومثل آخر: إذا حدثت أسباب الخوف، وألمت بالإنسان المزعجات، تجد صحيح الإيمان
ثابت القلب، مطمئن النفس، متمكناً من تدبيره وتسييره لهذا الأمر الذي دهمه بما في وسعه
من فكر وقول وعمل، قد وطن نفسه لهذا المزعج الملم، وهذه أحوال تريح الإنسان وتثبت فؤاده.
كما تجد فاقد الإيمان بعكس هذه الحال إذا وقعت المخاوف انزعج لها ضميره، وتوترت
أعصابه، وتشتت أفكاره وداخله الخوف والرعب، واجتمع عليه الخوف الخارجي، والقلق الباطني
الذي لا يمكن التعبير عن كنهه، وهذا النوع من الناس إن لم يحصل لهم بعض الأسباب الطبيعية
التي تحتاج إلى تمرين كثير انهارت قواهم وتوترت أعصابهم، وذلك لفقد الإيمان الذي يحمل
على الصبر، خصوصاً في المحال الحرجة، والأحوال المحزنة المزعجة.
فالبر والفاجر، والمؤمن والكافر يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية، وفي الغريزة
التي تلطف المخاوف وتهونها، ولكن يتميز المؤمن بقوة إيمانه وصبره وتوكله على الله واعتماده
عليه، واحتسابه لثوابه ـ أموراً تزداد بها شجاعته، وتخفف عنه وطأة الخوف، وتهون عليه
المصاعب، كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}. ويحصل لهم من معونة الله
ومعينه الخاص ومدده ما يبعثر المخاوف. وقال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ}.
2- ومن الأسباب التي تزيل الهم والغم والقلق: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل،
وأنواع المعروف، وكلها خير وإحسان، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم
بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب
لثوابــه، فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه
واحتسابه، قال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خير ممن صدرت منه. والخير يجلب الخير، ويدفع
الشر. وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجراً عظيماً ومن جملة الأجر العظيم: زوال الهم
والغم والأكدار ونحوها.
فصـــل
3- ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المكدرات:
الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة. فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك
الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه،
وازداد نشاطه، وهذا السبب أيضاً مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه
وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، وبعمل الخير الذي يعمله،
إن كان عبادة فهو عبادة، وإن كان شغلاً دنيوياً أو عادةً أصحبها النية الصالحة. وقصد
الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهم والغموم والأحزان، فكم
من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة، فصار دواؤه الناجع
(نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته).
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه، فإن هذا أدعى
لحصول هذا المقصود النافع، والله أعلم.
4- ومما يدفع به الهم والقلق: اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر،
وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي، ولهذا استعاذ النبي
صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فلا ينفع الحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن
ردها ولا استدراكها وقد يضر الهم الذي يحدث بسبب الخوف من المستقبل، فعلى العبد أن
يكون ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك
يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن.
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فإنما يحث مع
الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو بحصوله.
والتخلي عما كان يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين
والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم ((احرص
على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان
كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))، فجمع صلى
الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال. والاستعانة بالله وعدم
الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة، ومشاهدة
قضاء الله وقدره.
وجعل الأمور قسمين:
قسماً يمكن العبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه، أو دفعه أو تخفيفه
فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده.
وقسماً لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم، ولا ريب أن مراعاة
هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم.
فصـــل
5- ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته: الإكثار من ذكر الله، فإن لذلك
تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فلذكر الله أثر عظيم في حصول هذا المطلوب لخاصيته،
ولما يرجوه العبد من ثوابه وأجره.
6- وكذلك التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع
الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان
العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا. فإنه إذا قابل بين نعم الله
عليه - التي لا يحصى لها عد ولا حساب - وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى
النعم نسبة.
بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى
والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله
بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوةُ أجرها مرارة صبرها.
7- ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله
عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى
من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))، فإن العبد إذا نصب بين عينيه
هذا الملحظ الجليل رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق
وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله
التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.
وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه
قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب
الفرح والسرور.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نكمل إن شاء الله ما بدأناه أمس من
الكلام حول رسالة الوسائل المفيدة للحياة السعيدة..
أمس بدأنا بأول سبب ذكره الشيخ وهو الإيمان
بالله والعمل الصالح، وهو سبب لسعادة الإنسان, لماذا هو سبب لسعادة الإنسان, وما
معنى إنسان يؤمن بالله؟
أي يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى كامل
الصفات ويعرف أسماءه وصفاته ويتيقن ويؤمن بها, فستكون النتيجة أنه يعظم الله
ويحبه, فإذا عظم الله وأحبه قبل منه كل شيء, فإذا أتته مسرات تعامل معها كما يحب
الله, وإذا أتاه مالم يسره تعامل معه كما يحب الله .
إذن ماهي معاملة الإنسان الذي يؤمن
بالله للمسرات التي تأتيه؟
ثلاثة أمور :
يقبل . يشكر. يستخدمها
فيما يرضي الله .
ومعنى يقبل: أي يقبلها كما هي ولا
يعيبها, فإذا كنت حقًّا مؤمن بما رزقك إياه
مما يسرك ما تنظر له إلا على أنه يلائمك, ولا تطلب زيادة عليه أو نقصان, ولا تقول
لو كانت كذا كانت أفضل .
وإذا أتاه مالم يسره يعامله بنوعين :
الصبر . المقاومة.
في أمور مما لا تسرك يمكن أن تقاومها
وفي أمور لا يستعمل معها إلا الصبر .
والمقاومة تعني : مقاومة اليأس و وكل
شيء إذا نزع و يمكن أن يعود وبأحسن مما فات أعامله بمقاومة اليأس .
الصبر :كل شيء نزع وسنه الحياة ألا
يعود أعامله بالصبر .
والذي لا يؤمن ما حاله وكيف يستقبل
النعم ؟ بالطمع، والهلع .
أولًا: إذا أتاه ما يحبه يستقبلها
بالطمع, ولسانه دائمًا ينتقد النعمة, مثلاً إذا أتته ألف ريال أراد ألفين, وإذا
أتاه ولد أراد ولدين، وهكذا دائما طمعان لا يرضى بما قسم له .
ثانيًا: يكون دائما هلع, والهلع درجة
أعلى من الخوف وكأن قلبه نزع من مكانه! ويكون هلع على النعمة التي رزقه الله إياها,
لأنه نسي المقدمة وهي أن الله عز وجل هو الذي وهب وهو الذي يحفظ, أتظن أنك أنت
الذي أتيت بهذه النعمة؟! اسأل الله الذي وهبك أن يحفظها لك .
لذلك ليس من الطبيعي القلق على النعم,
هذا يخالف ثقة الإنسان بربه, فإذا وجدت نفسك لا تنسب النعم لله اقرأ عن اسمه الوهاب
والمنان والرزاق وغيرها, وإذا نسيت بأن الله عز وجل هو الذي يحفظ اقرأ عن اسم
الحفيظ الحافظ والوكيل والولي, وكل هذه الأسماء تنفعك لكي يستقيم اعتقادك في ربك, ولا
تنسى أبدًا ما وصف الله في سورة الفجر {فَأَمَّا
الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.
{كَلاَّ} لا هذا العطاء كرامة ولا المنع كرامة, ولو كان العطاء كرامة ما سقا
الله الكافر شربة ماء, لكن هذا ابتلاء وهذا ابتلاء, وكلا الأمرين اختبار, والذي
ينجح هو الذي يصبر ويشكر .
يقول الشيخ في آخر هذا السبب :
وكل هذا مشاهد بالتجربة
أي الإنسان المؤمن إذا حصل له أمر قبل
وشكر واستعملها فيما يرضى الله وانتفع, وإذا كان غير مؤمن حصل له الهلع والخوف .
والسبب الثاني من أسباب السعادة هو :
2- ومن الأسباب التي تزيل الهم والغم والقلق: الإحسان
إلى الخلق بالقول والفعل، وأنواع المعروف، وكلها خير وإحسان، وبها يدفع الله عن البر
والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه
صادر عن إخلاص واحتساب لثوابــه
إذا كان الإنسان مغموم أو يريد أن يكون سعيدًا يعلم أن من أسباب
سعادته بأن يحسن, واعلم أن الإحسان إلى الخلق ينفع البر والفاجر, والمحتسب وغير
المحتسب, ولكنه ينفع المحتسب أكثر من غير المحتسب, ومعنى احتساب الإنسان: أي وقت
إحسانه للخلق يريد أن يحبه الله {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[1] .
تحتسب الإحسان على الله, تمدي يدك
للإحسان إلى الناس تقول في قلبك ها أنا أتقرب إليك أود أن تحبني, لأني أعلم أنك تحب
المحسنين, إذاً الإحسان ينفع المؤمن والفاجر لكنه ينفع المؤمن أكثر من غيره لأنه
يحتسب .
إذًا الاحتساب حديث بينك وبين نفسك
لحظة العطاء عند البدء بالعطاء إلى أن تمد يدك وتعطي الناس، حديث تقوله في نفسك
وتدفع أي حديث غير هذا من قلبك, فتقول أنا أعلم أن الله يحب المحسنين، وها أنا يا
ربنا أُحسن وأُحب أن تحبني فلذلك أحسنت .
فإذا وقع في قلب الإنسان حب الله كان
جزاءه حب الله له, فما علاقة حب الله للعبد والسعادة بأن كلما أحبك الله أتتك
السعادة, والدليل أن الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف سبب
للسعادة {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
فما علاقة الحب بالسعادة؟ علاقة
منطقية، إذا أحبك الله كان وليك, ومن كان وليه الله شرح صدره ويسر أمره وسدده
ووفقه وأنار له طريقه {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}[2] .
إذن الإحسان ينفع في كل حال ولكن ينفع
المؤمن أكثر من غيره؛ لأن المؤمن يريد بإحسانه أن يحبه الله, يحتسب على الله، يعني
وقت ما يبدأ في العمل يكلم نفسه إني لا أريد إلا هذا الأمر، وأعلم أن كل صاحب دعوة
يُختبر في دعواه.
ولكن هناك مشكلة أخرى.. مثلا يقول أنا أريد أن أحسن لكي يحبني الله
وإذا أحبني أتاني كل الخير وأقول لربنا أنا يارب أحسنت من أجلك, أول ما تقول هذا الكلام لابد أن تعلم أن وراءه
اختبار {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[3].
ونضرب مثال على ذلك: يوجد لديك خادمة
ويوم ما ذكرت لك شيء من أحوال بلدها, ثم أشفقتِ عليها, وأحببتِ أن تحسني إليها وأردتِ
من هذا الإحسان أن يحبك الله فأعطيتيها، ثم بعد قليل كسرت لكي شيء مهم وذلك نتيجة إهمالها,
ماهي مشاعرك الآن وما الذي وقع في قلبك؟!
الناس مختلفين.. قسم مؤمن بالله
وأقدراه وتقول خيرًا, وقسم يقع في قلوبهم أهذا جزاء المعروف! وهذا القسم لا يعرفون
أن تفسير الشيء الذي كسر اختبار لإحسانك، هل أنت تحسن من أجله سبحانه وتعالى أو
تحسن من أجل الناس وتنتظر منهم هم أن يعطوك خيرًا.
فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير،
ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: }لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{[4].
لكي ينفعك لابد أن يكون ابتغاء ومرضات
الله, فالشرط مهم, وقلنا أن الإحسان إلى الخلق ينفع البر والفاجر, والمحتسب وغير
المحتسب , لكن دائمًا دائرة السعة التي يحسن فيها الإنسان غير المحتسب تكون بسيطة,
في مقابل لما يحسن لوجه الله تكون واسعة, ويكفي في ذلك أن الله عز وجل قال في ذلك }نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ ووصف
الأجر أنه عظيم. ويكفي أنه قال }وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{.
إذن لا يغرك أن كل الناس مؤمنهم وفاجرهم
يعملون الإحسان وينتفعون به, اعلم أن الإحسان ينفع المؤمن نفعاً حقيقياً وطويل المدى.
ما وجه انتفاع المؤمن في حياته وقلبه
من الاحسان؟
من آمن بالله يهون الله عليه بذل
المعروف ويشرح صدره لبذل المعروف, لماذا؟ لأن كل من آمن بالله، وعلم أن الله مطلع على ما قام في قلبه، وعلم أن الله يحب هذا
العمل, وعلم أن الله قال في الحديث القدسي ((اذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ
مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا..))[5] فيضع الريال يقول أتقرب إليك شبرًا, وهو على يقين أن الله سيتقرب
إليه ذراعًا, وهذا المؤمن يعلم أنه لو أحسن عامله الله باسمه الشكور, فيعمل العبد
العمل القليل يعطيه الله الأجر الكثير، لماذا؟ لأن الله من أسمائه الشكور, يعطي على العمل القليل الأجر
الكثير .
ومن الأُجور التي تترتب على الإحسان
وتورثك انشراح الصدر: أن الله عزّ وجلّ ييسّر عليك العمل الصالح والعفو والإحسان
والبذل, انظر إلى هذه الدائرة عندما تبدأ تحسن من أجل الله وأنت تعلم من تقرب إلى الله
شبرًا تقرب الله إليه ذراعًا, يتقرب الله إليك ذراعًا ييسر لك الأمر، ويشرح صدرك
نتيجة العطاء، ويجعلك دائم العطاء, كل هذا من آثار شكره سبحانه وتعالى .
لا تنسَ يا أيها المؤمن أن الإحسان
إلى الخلق يأتي بعد الإحسان في عبادة الرب مباشرة, عنوان سعادة العبد الإحسان في عبادة
الرب والإحسان إلى الخلق, وهذه علة اجتماع الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة في مواطن
كثيرة في كتاب الله, وصف الله عزّ وجلّ في سورة البقرة في وصفين للمتقين {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيؤتون الزكاة}
الاقتران دليل على أن السعادة مبناها
وركيزتها أمرين :
1.
الإحسان في عبادة الله.
2.
الإحسان في معاملة الخلق .
وكل ما أحسنت وأنت تريد وجه الله كلما
يسّر الله عز وجل عليك سبل الإحسان .
فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خير ممن صدرت منه. والخير
يجلب الخير، ويدفع الشر. وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجرًا عظيمًا
نتيجة أمره بالمعروف، وأمره بالصدقة، وإصلاحه
بين الناس.
ومن جملة الأجر العظيم: زوال الهم والغم والأكدار ونحوها.
إذن لما تحسن إلى الناس ما الذي يكون
في قلبك وماذا تعتقد يأتي بعده وما هو مقصدك؟ حب الله, ثم إنك تعلم لو أحبك الله
طابت لك الدنيا, لابد أن ننتبه أن هناك طريقان:
1.
طريق أن يحسن إلى الخلق ومقصده مباشرةً أن ينشرح صدره.
2.
وطريق أن يحسن إلى الخلق لكي يحبه الله فإذا أحبه الله كان من الآثار
أن يشرح صدره .
والطريق المستقيم كما هو الذي وضح في
الآية {لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء
مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
ومن الأُجور العظيمة زوال الهم والغم,
يجب أن يكون أمام عينينا حب الله لا زوال الهم, فإذا وقعت المحبة طابت الدنيا, ومن
طيب الدنيا ينشرح صدر الإنسان.
السبب الثالث من أسباب السعادة:
3- ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال
القلب ببعض المكدرات: الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة.
لو لديك أمر في حياتك
يسبب لك القلق والتوتر وكثره التفكير, وكل وقت تفكر من أين سيبتدئ ومن أين سينتهي
وما الذي سيحصل فيه..! الذي يساعدك لدفع التوتر أن تشتغل في علم أو عمل نافع, أول
ما يجول في خاطرك ما يوترك وبدأت تحسب حسابات لو حصل كذا ماذا سيحصل ولو حصل كذا ماذا
سيحصل، مباشرةً اشتغل بعلم أو عمل نافع, والذي سيحصل في قلبك أنك ستقوى على
الشيطان, فهو الذي يذكرك بما يوترك, فقاومه بالعمل.
أشغل قلبك بحاضر جيد ولا
تشغله بصفحات الماضي, والحاضر إما علم او عمل.
فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه
نفسك إن لم تشغلها
بالحق وما ينفعك شغلتك بالباطل ومالا ينفعك.
وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم
والغم، ففرحت نفسه، وازداد نشاطه، وهذا السبب أيضاً مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن
المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو
يعلمه، وبعمل الخير الذي يعمله، إن كان عبادة فهو عبادة، وإن كان شغلاً دنيوياً أو
عادةً أصحبها النية الصالحة. وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهم والغموم
والأحزان، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة
كالأمراض الجسمية, فعندما حلت الهموم
في قلبه أصابت الأمراض بدنه لأن بدنه تابع لقلبه. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ((ألا
وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)([6] لابد أن تفهم أن الإصلاح من جهتين
:
1.
صلح الجسد من جهة عمله الصالح .
2.
صلح الجسد من جهة صحته.
إذا صلح قلبك تأتي الصحة في بدنك, فمن
صلح قلبه استعان بالله أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله, فلابد أن يتبع صلاح
قلبه صلاح بدنه.
فصار دواؤه الناجح (نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه،
واشتغاله بعمل من مهماته).
فالجسد يمرض بعد إصابة القلب بالهموم،
وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها, انظري مثلاً عندما يصيبك الهم حتى يديك لا تستطيعي أن
ترفعيها وتكوني على فراشك لا تستطيعي أن تتحركي, وإذا كنتِ شديدة الغم وتغفو عينك
وتفتحيها تكرهي أنك فتحتيها من جديد, بل قد يصل الإنسان إلى حد الاكتئاب! إذن ماهي
الأسباب التي تدفع عنك؟
الاشتغال بعمل أو علم نافع، وهذه الأسباب
تنفع كل الناس كما قال الشيخ؛ لأن همومهم التي في قلوبهم الانشغال عنها بالعلم أو
بالعمل تسبب النسيان, فإذا وقع النسيان زال جزء كبير من الهم، هذا بالنسبة للأمر المشترك
بين المؤمن وغير المؤمن .
وبالنسبة للمؤمن الأمر أعلى من ذلك,
فعندما يذهب يتعلم مثلاً القرآن أو السنة, ما الذي سيحصل له؟ سيجلس مجلسًا تحيط به
الملائكة, يذكره الله فيمن عنده, ويكون أشغل قلبه بغير همه, والأمر الآخر الأهم أنه
سيُذكر عند رب السماء! فيثني عليه سبحانه وتعالى, فيقع عليه الانشراح, هذا لو كان
اشتغل بأمر ديني. وإذا اشتغل بأمر دنيوي
أيضا لابأس عليه, ويستعين به على طاعة الله ويحتسب الأجر.
إذن المطلوب منك عندما تدخل في حال
الهم والغم والاكتئاب: لا تستسلم، اشتغل بعمل من الأعمال النافعة أو علم, ونحن
نقول لك ابتدئ بالاشتغال بالعلم الشرعي اليسير, اُدخل إلى علوم الشريعة وأنت تريد
أن يطيب قلبك؛ لأن مما يطيب القلوب ويصلحها وينسيها الهموم ذكر الله، وذكره يكون بقراءة
القرآن والعلوم النافعة, وإذا لم يتيسر لك ذلك اشتغل بأمور الدنيا واحتسبه على الله، وتقول لنفسك أنا أتعلم لكي
أنفع المسلمين وأنفع نفسي .
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس
وتتشاقه، فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع. والله أعلم.
بمعنى أنك لا تذهب وتبحث عن عمل يجلب
لك الاكتئاب, ابحث عن عمل يشرح صدرك, مثلا أنت الآن في المنزل وأولادك تأخروا عليك,
وبدأ الشيطان يصف لك وصفًا دقيقاً بالذي يمكن أن يحصل، وفي أي شارع وخصوصًا لو كانوا
يمرون على شارع ممتلئ بالحوادث.. وتأتي من ذاكرتك بعض الحوادث التي رأيتها وفي عشر
دقائق تكادي تنهاري! وأنت الآن مطلوب منك أن تطبخي لهم وأنت مائلة للمطبخ وعندما
تدخلي في الطبخ تنسي نفسك, إذن اتركي الانشغال واتركي الهاتف واتركي التفاصيل التي
لا تجلب إلا التوتر, تخيلي أنه قد يكون والدهم ترك الهاتف في السيارة أو وضعه على
الصامت وتتصلي ولا يرد عليك وتتنظرن ربع ساعة فتزيدين توترًا, وهذه الربع ساعة
اختبار لك, لذا لا تستسلمي للشيطان, استودعيهم الرحمن واسألي الله أن يلطف بهم
ولهم واذهبي إلى عملك الذي يلهيك والتهي به, لا تتركي نفسك ولا تقولي أنا لا أستطيع
أن أكون هادئة؛ فكثير من الناس يرون أن القلق دليل على الحرارة وحياة القلب, وهذا
باطل وهو من وحي الشيطان . وكل توتر وحزن
وهمّ على أمر ماضي وأمر آتي هو من وحي الشيطان, أما ما مضى فقد انقضى لا يد لك فيه،
وأما ما هو آتي فهو في الغيب عند الله, فإذا
كنت مؤمن بالله, قوّي نفسك على الشيطان بانشغالك بعمل, وهذا يكون على الهمّ
يشغلك لوقت طويل لا الهم الذي يشغلك في ربع ساعة.
فعند ذهابك إلى فراشك يكون وقت عصيب
وبالذات إن لم يكن يغلبك النعاس فالشيطان يقلقك حتى أنك تنام غير ذاكر لربك.
فالشيطان يصطاد الناس على جزئيين :
1.
جزء ينومه من غير أن يقول الأذكار ويجعل له آية الكرسي كأنه سيقرأ
البقرة كلها، ويجعل والمعوذات ولنفث على الجسد كأنه سيقوم الليل كله!
2.
وجزء يذكره بما يوتره ويجعل قلبه يغلي, ويدخل إلى عالم من الاكتئاب
والحزن ولا يتركه حتى يبكي, وقد يكون على ما مضى أو الذي في حكم الغيب, وهذا من تلاعب
الشيطان بنفوس المؤمنين .
أما المؤمن لا يحزن على الماضي, وأما
الآتي يوكل أمره إلى الله عز وجل, ولذلك من صفة السبعين ألف الذين يدخلون الجنة
بغير حساب ((وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[7].
الصفة التي قبلها ((لا يَتَطَيَّرُونَ)) ومعناها: لا يتشاءمون, يعني مثلا يأتي أحدهم في موقف ما ويقول أظن أن
القضية ستفشل ويقول أيضا أظن أني لست نافع في هذا الأمور وأظن أن الرجل لن يبقى وأظن
أن الأولاد لن يصلحوا.. ومن أخبرك بذلك إنما ذلك من آثار التشاؤم, وكلما زدت تفاؤلًا
بالله وثقة، قربك من ظنك, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي
بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاء))[8].
الحساسية مرض يصاب به الإنسان يهلك
قلبه, كما أن حساسية البدن تهلك الجلد, تجعلهم يهرشوا جسدهم حتى يخرج الدم,
والحساس من أي كلمة يسمعها وتسبب له الغم كأنه يهرش في قلبه حتى يمزقه! فالحساسية
ليست صفة مدح بل أنها مرض يسبب سوء الظن بالله .
إذن الذي زاد هموم الناس عدم فعاليتهم
في شيء لا في علم ولا عمل, أنت فقط لو فتحت إذاعة القرآن وركزت فيها ستحصل من
العلوم مالا تتصوره, تصور إذا أتى من البرامج ما يناسبك ومهما كنت مهمومًا سيذهب
قلبك مع البرنامج ولو خمس دقائق وستركز، وبمثله كلما أتى علم نافع سيأخذ قلبك
ويجذبك, وأحيانًا تكون هذه الهموم مفتاح خير كثير إلى الإنسان فيتحول منها إلى
الاستقامة. فكم من شخص دخل مدارس التحفيظ ودخل إلى العلم
الشرعي بسبب أي أزمة, فرأى أن الأزمة كانت باب خير عظيم عليه وأراد الله أن يصل إلى
هذا الحال.
4- ومما يدفع به الهم والقلق : اجتماع الفكر كله على
الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على
الوقت الماضي، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن -في الحديث
الذي رواه البخاري ومسلم
فالحزن على
الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها، وقد يضر الهم الذي يحدث بسبب
الخوف من المستقبل.
إذن لدينا مشكلتين تسبب عدم السعادة :
1.
الهم على المستقبل .
2.
الحزن على الماضي .
فيكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح
يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن
الهم والحزن.
من أسباب السعادة أن تجمع قوتك وفكرك
على يومك وحاضرك, فلا تنظر إلى أولادك كل يوم وتقول أين سيكون مستقبلكم وأين
ستجدون وظائف! هذه أمور قضاها الله، فماذا يقال لك؟ كن ابن يومك, وفي هذا اليوم
الذي يجب عليك أن تفعله اهتمّ به, لا تقل أنا أخاف من غدٍ وأخاف أن يحصل كذا, ابذل
جهدك في يومك فإن أصلحت ما تحت يدك أصلح الله لك مستقبل الأمر, وهذه من حيل
الشيطان.
مثلا أنت الآن تصلي العشاء وأنت ممن
فتح الله لك قيام الليل، وتفكر وأنت في الصلاة أنك لن تقوم الليل لأنك مريض، يدخل
عليك هم وأنت في شغل عنه الآن! وأنتم تعلمون أن الإحسان في الفريضة أولى من الإحسان
في النافلة. فيأتي يضيع عليك الفريضة بالاهتمام
بالنافلة, يقال لك {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}[9].
أنت الآن لا تهتم إلا في دائرتك من
الأعمال والمطلوب منك، أنجزه فيصلح الله لك المطلوب منك في وقت ثاني, تعامل مع الأقدار
الواقعة, ولا تتعامل مع مضى ومع ما لا تدرك وقوعه, وهذا كله من الإيمان بالغيب ومن
الإيمان بالقضاء والقدر{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}[10] يعني تكون متزن المشاعر, لا عندك حزن على ما مضى
ولا أنت لاهثًا على ما هو آت, والذي سيحصل لك إذا لم يأت على ما تريد تتحطم! فكن
ابن يوم.
ودائمًا يأتي سؤال هل التخطيط
للمستقبل ضدّ هذا الأمر أم معه؟
نقول إذا كانت هناك عوامل التخطيط
للمستقبل فمثلا معك مال وتريد أن تتخذ قرار شراء، فهذا في الواقع, ولكن إذا لم يكن
معك مال وتفكر ليل ونهار كيف تشتري بيت في كذا وكذا والعوامل الرئيسة ليست بين يدك,
فكأنك تضرب في الخيال, فالتخطيط يكون لما تكون الأدوات والإمكانيات متاحة وبين يدك
هنا يقال لك خطط، ووقت ما تخطط لا تضرب في الخيال بل في شيء من الواقع.
ولذلك لما يأتوني أبناء ويقتربون من
سن الدراسة أبدأ أخطط لهم أين يدرسون, ولكن إن لم يكن لدي أبناء وأبقى أفكر أن مدراس
الأولاد فيها مشاكل وإذا جاء الأولاد لا أعرف ماذا أفعل..! فنحن نشوي أنفسنا ونحن
بعيد عن المسألة, نحن ننتقل من الواقع إلى شيء غائب ولا علاقة لنا به .
إذن من أسباب السعادة وزوال الهم
والغم: اجتماع الفكر على عمل اليوم الحاضر الذي أنت فيه, وقطع الاهتمام عن
المستقبل وعدم الحزن على الماضي, فهذا سيورثك تكميل الأعمال, العمل الذي بين يدك
لا يقطعه الاهتمام بعمل مستقبلي ولا التفكير فيه، فيحرص أن يتم له عمل الحاضر,
وكثير من الناس يدخلون في الضلالات والأوهام ودائرة التمنّي، يعني مثلا هو الآن يذاكر للاختبارات
المفروض يركز في مذاكرته، ولكن يبدأ يخطط لو أنا أخذت معدل كذا ماذا أفعل، وهذا
كله ضلالات يضل عقله, ويكون غالبًا هذا من عدم تدريبه على التفكير السليم, لابد أن
ندرب أنفسنا وأبناءنا على التفكير السليم.
مثلا يكون معك طفل صغير وأنت تدربيه على عمل ما
ويبدأ يضع لك اقتراحات وافتراضات خيالية، فماذا
تفعلي به؟ رديه إلى الواقع, وقولي هذا غير ملائم فكر بالذي بين يدك، لكي لا
يصبح تائه في حياته.
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته
إلى دعاء
لما يأمرنا بالدعاء بأي شيء نريده لا
يقول لنا ادعو وابقوا في مكانكم
فإنما يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد
والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو بحصوله. والتخلي عما كان يدعو لدفعه لأن الدعاء
مقارن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه
على ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله
ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله
وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [11]، فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور
النافعة في كل حال. والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين
الاستسلام للأمور الماضية النافذة، ومشاهدة قضاء الله وقدره.
اجمع بين أربعة أمور:
1.
الدعاء
2.
الاستعانة
3.
عمل القلب
4.
عمل الجوارح.
النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا أن
وسليتنا لتحقيق مرادنا هو دعاء الله والاستعانة به والعمل.
لنرى كيف يكون لذلك زوال الهمّ
والغمّ.. تصور أن لك صحبة غير صالحة تأمرك بالمنكر, وكلما تقدمت خطوة للمعروف ردتك
عشر خطوات للمنكر, وهذه الصحبة وراءها مصالح وهذه الصحبة تنفعك في الدنيا ولكن في
دينك تردك, وذهبت إلى الحرم وطفت وسعيت ثم ذهبت إلى موطن الدعاء المستجاب وتقول يا
رب خلصني من هذه الصحبة السيئة التي إذا نفعتني في الدنيا لم تنفعني في الآخرة,
يقال لك قد خطيت الخطوة الأولى, بقي عليك العمل .
والعمل هو عمل القلب وعمل البدن لكي
تتخلص منهم, أما عمل القلب فكراهيتهم في الله, وكراهيتهم تعني أنك لا تأتي لهذه الصحبة وهي تردك عن الله وتفتكر وتقول أنهم
ذهبوا بي واشتروا لي ونفعوني في الدنيا، فالأكيد أنك سترجع للوراء وتتصل بهم, لو أنت
صادق في كونهم صحبة تفسد عليك دينك, وأنت صحيح لا تريد إلا وجه الله, وتبيع الدنيا
وتشتري دينك وتريد رضاه, يقال لك ما يكفيك الدعاء فالدعاء أول وسيلة وخطوة, لابد
بعد الدعاء من عمل القلب وعمل الجوارح.
وأما عمل الجوارح فالابتعاد عنهم ومقاطعتهم, ولا
تذهب إليهم وتتودد لهم وتقول أنا أريدكم وأريد أن أبقى معكم ولكن لا أريد كذا
وكذا, ولكن هذه هي حالتهم.
افعل ما تستطيع وأنت صادق، تحرك
بمقدار شبر يحرك الله منهم ذراعًا, المهم لابد أن يرى الله منك بغضًا, مقاطعة
وكراهية قلبية, فلا أحد يستطيع أن يحكم قلبك, لكن أنت كلما تذكرتهم تقول كيف أتركهم
وهم خدموني وفعلوا لي, ولو دعيت ما دعيت وفي قيام الليل وفي الأوقات وأنت لم
تستعين ولم تظهر لله صدقًا ما ينفعك هذا الأمر .
فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر
بالحرص على الأمور النافعة في كل حال، يعني مما يدفع منك الغم أن تحرص على الأمور
النافعة, وأنت تستعين بالله على القيام بها ولا تكن عاجزا, ابذل جهودك في المقاومة
وأنت مستعين .
العجز هو الكسل, شخص ليس لديه رغبة أن
يتحرك.
اجمع همك على الوقت الحالي, ولا تشتت
فكرك في المستقبل ولا في الماضي, وفي الوقت الحالي وأنت تجمع همك على العمل اجمع
بين ثلاث صفات، ثم إذا فعلت الثلاثة (دعوت
واستعنت وعملت) واستفرغت جهدك في القيام بأي عمل ووقع خلاف ما نريد، تقول قدر الله
وما شاء فعل، هنا يأتي استسلامك للقضاء والقدر.
وجعل الأمور قسمين:
قسماً يمكن العبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه،
أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده.
وقسماً لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم،
ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم.
5- ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته: الإكثار
من ذكر الله، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه،
قال تعالى: {أَلاَ
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[12]، فلذكر الله أثر عظيم في حصول هذا المطلوب لخاصيته، ولما
يرجوه العبد من ثوابه وأجره.
هنا ثلاثة أمور :
أول أمر ما هو ذكر الله؟ هو التسبيح
والتهليل وقراءة القرآن، وتدخل العبادات كلها في ذكر الله لمن استحضر النية, فالصائم
الجامع لقلبه طول وقته على الله هو ذاكر لله، والذي يسبح وقلبه يتلفت يمين ويسار
هذا ليس ذاكر لله, لابد أن تعلم أن أصل الذكر عمل القلب, يبقى الله عزّ وجلّ على
بالك أكثر وقت ممكن وهو قبلة قلبك ، تكون بذلك ذاكر لله.
وللذكر مراتب:
1.
ذكر بالقلب والجوارح كالصوم والصلاة والصدقة وقراءة والقرآن وتسبح
وأنت جامع قلبك, وهذه أعلى مرتبه.
2.
ذكر بالقلب دون الجوارح، هذه المرتبة الثانية.
3.
ذكر باللسان دون القلب, وهذه أدناه وإن كانت ذكرا, ولكن أدناه من جهة
الأجر والأثر على القلب.
من الذي يستطيع أن يذكر جامع قلبه
ولسانه؟ من عرف الله, فكل من عرف الله وتجددت معرفته، يعني مثلا سمعت معنى اسم
الله الحميد والعظيم وتتصور أنه سيبقى أثره عليك, لابد أن تعرف الله ويبقى هذا
العلم من العلوم الظاهرة والمتجددة أمام عينك طول الوقت وترى آثارها طول الوقت.
الذاكر على الحقيقة يعرف الله حق
المعرفة ويرى آثار كمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى على حياته , الذاكر لله عز
وجل يقول هنا أرى آثار مغفرته وحلمه وغناه وسمعه وبصره، فهذا الذاكر لربه الذي
يعرفه ويرى آثار أفعاله وأسمائه, فيقول هنا لطف بي وعاملني بكرمه ولطف بي ولطف لي
وهداني إلى الصراط المستقيم.
مثلًا تضيق بك الدنيا ويأتيك قرار
لابد أن تأخذه خلال ثانية -نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ جميع المسلمين- مثلا يشتعل
حريق في بيت, ومن أجل إطفاء الحريق تحتاج أنك تقفل مصدر الكهرباء, وفي لحظة الأزمة
أنت لا تهتدي إلى أي شيء, إلا أن الله يتغمدك برحمته ويعاملك بلطفه ويهديك إلى
التصرف السليم الذي به تنجو, فتقول هنا عاملني الله بلطفه وهدايته وبرحمته ورزقه
وعطائه, الذاكر لله يرى آثار كمال أسماء الله وصفاته وأفعاله في كل حياته, يفسر
حياته على ما يعرف من أسماء الله وصفاته, ولذلك كلما زادت معرفتك لله، استطعت أن
تفسر الحياة وما تضيق.
ولذلك يطيب القلب وينشرح الصدر لما
تعرف من هو الله , لما تكثر من ذكره ولما ترى آثار كمال صفاته سبحانه وتعالى في كل
شيء.
إذن الذاكر يعرف الله وهذه مسألة
مهمة, ثم هاجمه سوء الظن بالله والخوف من المستقبل أو الخوف على شيء, سبح الله فطرد
هذا الظن السيء؛ لأنّ من يسبح الله يقول بلسان حاله أنا على يقين أنه كامل الصفات،
أُبعد عنه سبحانه وتعالى كل خاطرة سوء ظنّ.
فالتسبيح مِن سبح، وسبح مِن السباحة،
والسباحة معناها البُعد, فالذي يقول (سبحان الله) يبعد عن قلبه أي خاطرة فيها نقص
عن صفات الله, بل يعتقد يقينًا أنّ الله سبحانه وتعالى له كمال الصفات ولذلك نقول
سبحان الله وبحمده. يعني أنا على يقين أنّه
كامل الصفات وأنّ آثار كماله أراها في حياتي, فمسألة الذكر لابد أن تأخذ حقها في
الفهم لأن كثير من الناس نقول لهم {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} يقول أنا جلست ساعة أسبح وأستغفر ولا أجد أثرًا!
نقول لا تظنّ أنّ هذا الذكر باللسان, وإن كان الذكر باللسان فصبر عليه سيأتيه النتيجة,
ولكن متى يكون سريع وفعال هذا الذكر؟ لما يعرف القلب الله ويرى كل الحياة من منظار
معرفته الله, يفسِّر كل الذي يمرّ عليه من جهة أن الذي قدره عليه كامل الصفات,
الذي أجرى عليك جميع الأقدار موصوف بكمال الصفات، فإذا كان الله الموصوف بكمال
الصفات أعطاك أو أخذ منك, فعطاؤه لحكمة وأخذه لحكمة.
إذن كيف ينفعنا الذكر؟
تعرّف إلى الله (أسماءه وصفاته سبحانه
وتعالى) وجدّد المعرفة به.
فتكون النتيجة أن عينيك ترى كل شيء
حولك بهذه المعرفة, فلمّا تتذكّر الله وتتذكّر كمال صفاته، يذهب اللون الأسود الذي
صُبغت به الحياة أو اللحظة التي صبغتها بأنها ضيق, وستنفرج بحسن ظنك بالله.
مثلًا أنت واقفة تتنظري السائق وتأخر
عليك, وبالتقدير العقلي يقال هذا ضيق وهذه مشكلة, وأول ما تذكري الله, ويكون الذكر
عندما تتذكري حكمته ولطفه فمباشرة يصبح الموقف أن لابد وراءه خير, وأول ما تضاء لكي
هذه الإضاءة مباشرة, ينعم الله إليك فترى الخيرة, وإذا بقيت هذه النقطة ظلمة هذا
لأنك لم تذكري الله .
ليس المطلوب منك أول ما تحصل الأحداث
مباشرة أن تكون مثالي وكل مرة تجد نفسك تقول هذا خير, فنحن بشر فينا الضعف والنسيان,
فكلما زاد إيماننا نجحنا أكثر وكلما نقص الإيمان كنا ضعيفين في النجاح.
فمثلًا لو كنت متوسطة الإيمان ودخلت
في موقف تأخر السائق عليك أول لحظة تشعر بضيق في القلب, ما الذي يوسعه ويكشفه؟ ذكر
الله . أول ما تذكر الله تذكر أنه يصرف
الأمور وتذكر أن أفعاله كلها حكمة.
فلو قلت سبحان الله أو الحمد لله أو
لا إله إلا الله المقصود من ذكره على لسانك أن ينصبغ قلبك بمشاعر أن الله حكيم,
نريدك في هذا الموقف تذكر من صفاته الحكمة, أول ما تذكر الحكمة فالذي سيحصل ومهما
تأخرت ساعة أو ساعتان أولًا أنك ستنجح في الصراع الذي في قلبك، ثانيًا سيريك الله
كيف تظهر آثار حكمته في هذا التأخير, فالذي سيحصل أنك ستزداد إيمانًا.
لما تكون عندنا ذاكرة ونقول المرة التي
فاتت رأيتم كيف عندما تأخرنا ربنا نجانا من كذا وكذا أكيد هذه المرة مثلها أو أحسن
منها, لما تبقى ذاكرتك ستنتفع بها ويزيد إيمانك, فذكر الله هو ذكر أسمائه وصفاته سبحانه
وتعالى, فأنت عندما تسبح أو تهلل أو تكبر أهم شيء أن تتذكر الله وتتذكر الصفة التي
يعاملك بها هنا.
مثلًا أنت في ضيق ولا تستطيع أن تأخذ
قرار، فتسبحه وتهلله وتكبره وتذكر أن من آثار صفاته أنه يلطف بعباده فيحسن ظنك به
أن يلطف بك ! فترى آثار لطفه .
يضيق عليك الأمر فتذكر أنه حكيم ينقص عليك المال
وتأتيك غُمة لأن لا يوجد مصروف فتذكر الله فتتذكر من صفاته أنه رزاق, وأنه يرزق
عباده من حيث لا يحتسبون، فمباشرة تزول الغُمة, ولكن هناك ناس نقول لهم أن ربنا
رزاق ويرزق عباده من حيث لا يحتسبون ويقولوا لكن ولكن ..! نقول نعم هو الأمر على
حسب الإيمان, كلما زاد الإنسان إيمانًا
كان التذكير بصفات الله تجعله يعود .
6- وكذلك التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها
والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها
حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا، فإنه إذا قابل بين
نعم الله عليه - التي لا يحصى لها عد ولا حساب - وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه
إلى النعم نسبة.
بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها
وظيفة الصبر والرضى والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها
والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوةُ أجرها
مرارة صبرها.
نبدأ بأول نقطة.. مثلًا تمرّ بأي ضيق سواء
كان صغيرًا أو كبيرًا, مما يشرح صدرك أن
تجلس مع نفسك أولًا قبل الناس وتتحدث، ليس بكلمة مجملة إنما بالتفصيل، تقول نعم
الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، عُدّ وعُدّ حتى تعجز عن العدّ! (بصر) وهبك, (سمع)
أعطاك، نتكلم ونسير على أقدامنا وأبداننا كذا وبيوتنا كذا وأزواجنا كذا وأولادنا
كذا وبلدنا كذا.. وعُد بكلّ التفصيل الممكن, وأنت ستزداد عدًّا كلما رأيت العبر,
كلما رأيت الناقص شعرت بالكمال.
·
مثلًا هل تشعر بنعمة الحرية؟ لا تشعر إلا عندما تسمع عن فلان لديه
ديون وأخذوه إلى السجن! ذلك الوقت يتحرك قلبنا إلى نعمه الحرية.
·
هل تشعر بنعمة النسب وأنك معروف وأن الله عز وجل شرفك بأنك من
والدين..؟ ما تشعر به إلا إذا قيل لك كذا وكذا.
·
هل تشعر بنعمة أن لك بيت تأوي إليه؟ لا تشعر إلا عندما قيل هناك أناس
مشردين ولا بيوت لهم وكذا وكذا ..
وهذه العبر تدور حولك, ولكن مع دوران العبر
ترى الناس مازالوا يمارسون البطر بقلوبهم قبل ألسنتهم، المفروض كلما رأينا ما
حولنا ما نتوقف عن شكره سبحانه وتعالى, نحمده ونسأله سبحانه وتعالى أن يبقي نعمه,
وألا يؤاخذنا بما يقول ويفعل السفهاء منا, نحن مشكلتنا الحقيقة السفهاء هنا وفي
العالم الاسلامي وهم المشكلة الرئيسة, فلما يترك السفهاء ولا يؤخذ على يديهم
والعقلاء لا يكونوا شاكرين على ما أنعم الله بهم عليهم، ذهبت النعم, وقلّ نعمة
تذهب عن قوم تعود إليهم!
إذن من العبادات التي نتقرب بها إلى
الله قبل أن تكون سبب إلى انشراح الصدر عَدّ النعم, يعني بمعنى كلما لقيت أن البطر
دخل إلى نفسك وبدأ يضيق قلبك بأن المكيف عطلان, أو بدأ يضيق لأن ينقصك في المطبخ
كذا وكذا وجيراننا لديهم فرن كهربائي ونحن لو يوجد لدينا، وفلان عنده كذا ونحن لو
يوجد لدينا... تبدأ المقاييس تزداد طمع, والحل أنه لابد لك من جلسة تعداد تعدّ
فيها نعم الله, وأنت متقرب إلى الله بِعَدّ النعم, كلما كنت حكيمًا ستكون أكثر
حساسية للنعم, وكلما كنت قليل الحكمة ستقول ما الذي لدي زائد على الناس بالعكس أنا
ناقص! هذا لا يأتي إلا من السفه.
مما يشرح لك صدرك أن تتحدث لنفسك قبل
الناس بعطايا الله وبنعمائه, فقلبك يفكر بالنعمة، ولسانك يتحدث بالنعمة، أول سامع
للتحدث للنعمة هو نفسك، فالذي ستقوله بلسانك
راجع على نفسك, فإذا عاد لنفسك سيشرح صدرك .
لا تقول الحمد لله نحن في نعمة وتسكت
فليست هذه هي الطريقة المقصودة, الطريقة المقصودة أنك تعدها نعمة نعمة، إلى أن تجد
نفسك دخلت في متوالية لا تنتهي من النعم, فلما تدخل هذه المتوالية تعرف أنك حساس
تعرف ماهي النعم .
أترى المنان كيف أعطاك النوال بغير
سؤال وجعلك من أهل الإيمان من غير أن تطلب؟ وهبك أن تكون من أبوين مسلمين من غير
ما تسأله, جعلك قريب من الحرم وتصل له بكل يسر وسهولة قبل أن تشتاق إليه, أتراه
كيف أصح لك بدنك وعقلك وسمعك وبصرك من غير أن تطلبه؟ كل هذا من عطاياه سبحانه
وتعالى.
المقصد أن تعداد النعم وسيلة عظيمة
لشرح صدر الإنسان نفسه, ما يضيق على الإنسان تعداد النعم إلا إذا وقع فيه السفه,
بطران لا يحس بنعم الله عز وجل.
وأنت تعد النعم ستجد أن المكروه الذي
سبب لك الضيق سيعد أيضًا من النعم! يعني تصور سنين وأنت بعيد عن الله, ثم أصبت بمرض,
وهذا المرض كان الخطوة الأولى نحو الاستقامة ونحو ذكر الله والتوبة عن ما مضى وطلب
حسن الخاتمة، ستكون المصيبة والبلية والمرض نعمة بحدّ ذاتها إن كنت تفكر فترى
الناس يحزنون عليك وأنت ترى أعظم مسراتك أتت من هذا الباب, ولهذا ترى السلف يقولون
على المرض "مرحبا بالمكفرات"! لماذا؟ لأن همّهم عندما يخرجوا من قبورهم
يخافون أن يحملوا أوزارهم على ظهورهم, فلما ينظروا إلى المرض النظر الحقيقي ويرون
أن الشوكة كفارة ولو احتسبتها كفرت أكثر فأكثر فكيف بالحمى، انظر إلى الحرارة كيف
تجعل الجسم يخرج العرق, فتخرج كمثله الذنوب لدرجة أنه يمشى الإنسان على الأرض ما
عليه خطيئة!
وأعظم من ذلك من أسباب معية الله
المرض, ألم تسمع في الحديث لما يخاطب الله عز وجل المؤمنين من بني آدم ((مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي.
قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعِزَّةِ؟ فَيَقُولُ: أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، وَلَوْ عُدْتَهُ
لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ))[13] وهذه بشرى لأهل المرض أن
الله معهم وإذا كان الله معك ((...كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي
يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا،
وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ
اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ...))[14].
شرف عظيم, تصوري من عطايا الله في
المرض أن هذا المريض بركته على نفسه وعلى من زاره, فلو زرته استغفر لك سبعون ألف
من الملائكة وتكون في خرفة من خرف الجنة ((مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ
فِى خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ))[15] والخرفة حديقة من حدائق الجنة .
وهذا كله يحول البلية إلى خير، وهكذا
الفقر لو أصيب به أحد كيف يتحقق في الفقر الكسرة الذي يحبه الله والذل في قلبك
ويحب الله هذه الكسرة والذل ويبغض الله الاستغناء عنه, فلما تكون لاهي ومستغني عن
عطاء الله فيأخذ منك العطية فتنكسر فيحبك الله, فتكون البلية في عينك وهي في حقيقتها
نعمة عظيمة.
بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله
بها العبد، متى يكون المرض نعمة متى يكون الله مع المريض ويحب هذا الفقير إذا أدى
فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأمل العبد
لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المرة حلوة
فتنسيه حلاوةُ أجرها مرارة صبرها.
واعلم أن الدنيا كلها ذوق, أنت تذوق
النعماء وتذوق الضراء ذوقا ذوقا ولكن ما تعيشه , مثلا أُم ولدت سبع أبناء وعانت
آلام الولادة في السبعة كلهم الآن بعد السبعة ماذا تذكر من ألامهم ..؟ ولا شيء , وكل الضرات تذهب وتُنسى، تذوقها
في وقتها تستعين وتصبر وترتفع درجتك يذهب الألم ويبقى الأجر عند من يضاعف الأجور
ويبقى عند الغفور الشكور , فتأتي يوم القيامة وترى جبال من الحسنات لا تعلم عنها
ولكنهه عاملك بفضله ولذلك أول ما يقول أهل الجنة {وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ}[16].
من فضله أي عاملنا بمغفرته وفضله
ومضاعفه الحسنات ودخل الناس الجنات وهم لا يحصلون ذلك بمجرد عملهم , دائما طيب
نفسك أن المكروه والمصاب ذوق كما أن النعماء ذوق وكل شيء في الدنيا ذوق , حتى لقاء
الاحبة ذوق وحتى لقاء أبنائنا القريبين منا ذوق .
لو
مثلا عندي ابنة ذات العشرين سنه وعاشت معي عشرين سنه ثم زوجتها , ولما أزوجها
كأنها ما عاشت العشرين سنه معي كأني فقط ذقتها , ثم تأتيني الخميس وتجلس من الصباح
إلى الليل ثم عند ذهابها اسألها ذاهبة ..! , وهي كانت كل الساعات معي , حتى
السعادة ذوق فالدنيا كلها ذوق فالمرض ذوق والسراء ذوق كما أن الضراء ذوق , كلها
تذوقها , فتذوق السراء لتشتاق إليها ثابته عليك فتكون مشتاق للجنة , تذوق الضراء
والألم من أجل أن تحذر النار .
تذوق هذا وهذا لكي تختار أنت لنفسك من هذا وهذا الطريق ,فالدنيا كلها ذوق
واقرأ في كتاب الله {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ
دَعَا}[17]
{حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا}[18] فكل شيء مسّ وذوق وفي الآخرة النعيم -نسأل الله من فضله- هناك اجتماع
الأحبة، هناك التمتع بهم, يقع النعيم
الحقيقي, فإذا اقتنعت أنك ستذوق كل شيء ستمرر كل شيء وترى خيرة كل شيء, وترى كل
شيء يحملك إلى الخير؛ لأنه أتى ممن يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، والله لا
يكلفنا مالا نستطيعه, أحسنوا الظن به, يصبح على الأحداث نور تمشي به في الناس, أما
سوء الظن فكأن نور انطفأ وكأنك في ظلمة.
واعلم أن عدم العلم عن الله سبب لظلمة
الحياة، انظر ماذا يقول سبحانه وتعالى {أَوَ مَن
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ...
}[19].
كل واحد لا يعرف الله فقلبه ميت! وعلى
قدر ما تعرف الله على قدر ما قلبك يحيا، وكل واحد لا يعرف الله يعيش في ظلمة ولا
يستطيع أن يسير مع الناس, ولما يعرف الله يقتبس نورًا يستطيع أن يمشي به مع الناس,
تصور لو هذه القاعة ظلام, ونريد أن نتحرك من أجل أن نأتي بمنافعنا من هنا أو من
هناك, ما الذي سيحصل؟ أكيد سنصطدم ببعضنا ونتخبط, هذا سيفسر لك الواقع, فالذي لا
يعرف الله في مؤسسة وفي مدرسة حتى في أماكن الخير إذا ما يعرف الله فالذي سيحصل أن
الناس ستتخبط في بعضهم وسيظن أحدهم أن الآخر سينزع منه لقمته.
إذا عرف الناسُ اللهَ فقد حلقوا في
الأفق الرحيب, أرض الدنيا زحام إذا لم يوجد لديك نور تمشي به لا بد أن تصطدم
بالناس.
7- ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم
ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))، فإن العبد إذا
نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل
وهو أن لا ينظر إلى من فوقه فستكون
النتيجة
رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها،
وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه
بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.
وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية
والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم
والغموم، ويوجب الفرح والسرور.
هذه النقطة السابعة تؤيد النقطة
السادسة, ففي السادسة نقول لك عدّ النعم، والسابعة لك تزداد عدًّا لا تنظر إلى من
هو أعلى منك أطع أمر الرسول صل الله عليه وسلم ولا تنظر إلى من هو أعلى منك, وامتثل
هذه الآية القرآنية التي أمر الله فيها بعدم مدّ العين, يوجد موطنين أحدهم يخاطب
الله عز وجل النبي ومن يصلح لهم الخطاب {وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}[20]
أي لما ازداد نصيبهم في الدنيا زادت الفتنة {لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ} فأنت نقص نصيبك في الدنيا وتبع ذلك نقصت الفتنة, كلما زاد النصيب في
الدنيا زادت الفتنة, انظر إلى هذه الممارسة وكن حريصًا على ألا تقع فيها، غالبًا
نمدّ أعيننا إلى ما متّع به غيرنا وعندنا كثير من التعليل.
مثلًا ندخل بيت الناس ونقلب فرشهم لو
بأيدينا ونتأمل فيها حق التأمل وبعد ذلك نقول لها كم كلفتك ومن أين اشتريتها؟! أو
مثلا تجلس بجانبك امرأة وتلفت نظرك ساعتها وطول الدرس أنت تنظري إلى ساعتها تمام
التأمل وتركزي فيها ..
قال تعالى:
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} (لا
تمدن) وليس لا تفكر, استعمل عبادة غض البصر على ما متع به غيرك, أنتم الآن ألم
تقولوا لأزواجكم غضّوا بصركم! النساء رافعين راية غض البصر عن الرجال, ونسوا أنهم
هم مأمورين أيضًا بغض البصر عن الرجال .
وأيضًا نحن مأمورين بغضّ البصر عن ما
متع به غيرنا, ولا يحتال عليك الشيطان ولا يحتال عليك الناس لأن الناس يقولون هو
أمر طبيعي اسألي وأنا سأخبرك وأقول لك وكثير من الناس يقولون لكي نوفر على أنفسنا
الدوران في الأسواق وفي الأخير ستدور في السوق ولكن تحتال على نفسها.
لكي تجعل قلبك واقف عند أوامر الله وتنتفع
ولا يقع في قلبك حزن لا تعرف ما معناه على المدى الطويل، أطع ما أمر الله, وهذا
ليس بكلامي ولا كلام علماء النفس ولا علماء الاجتماع ولا مصلحين اجتماعين، الله
الذي خلقك يقول لك {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى
مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لا تطلق عينك غضّ بصرك ثم لا تسأل عن ما لا يعنيك ((من حسن إسلام المرء تركه ما
لا يعنيه))[21] يعني يبلغ الإنسان درجة الإحسان
في الدين لما يترك ما لا يعنيه عندما :
·
لا يمدّ بصره إليه
·
ولا يسأل عنه
·
ولا يتكلم فيه.
يجمع قواه كلها على ما يعنيه يصل إلى
درجة الإحسان, ولذلك أصبحت درجة الإحسان صعبة لأن عقولنا وأسماعنا وأبصارنا مشتغلة
فيما لا يعنينا .
إذن من الأسباب التي تسبب السعادة أن
ينظر إلى من هو دونه في الدنيا, والذي تكاد تراه أعلى منك تتعبّد الله معه بعبادة
غضّ البصر, غضّ بصرك بما مُتِّع به غيرك.
[1] [البقرة:195]
[2] [الأنعام:122]
[4] [النساء: 114]
[5] رواه مسلم في صحيحه
[6] رواه البخاري ومسلم.
[7] رواه البخاري في صحيحه.
[12] [الرعد: 28]
[14] رواه البخاري في صحيحه.
[18] الأنعام: 148
[19] الأنعام: 122
[21] حديث حسن رواه الترمذي
وغيره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.