الأحد، 19 أكتوبر 2014

تفسير سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, الحمد لله الذي يسر لنا هذا اللقاء وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءًا مباركًا مرحومًا.. اللهم آمين.

 ما مكانة سورة الفاتحة في الدين؟ هي أم الكتاب, يعني الدين كله فيها, فالدين بالإجمال في الفاتحة وبالتفصيل في بقية سور القرآن. نحتاج أن نفهمها بالتفصيل لماذا؟ لأننا نقرأها في كل ركعة في الصلاة، ركن من أركان الصلاة.

"الاستعاذة والبسملة: وقوع الاستعاذة والبسملة لهم علاقة قوية بين بعض، فالاستعاذة من أجل دفع شر الشيطان أن يقع عليك وسوسته أثناء الصلاة، والبسملة من أجل أن تخرج من الشر الثاني الذي هو الاعتماد على النفس.
الاستعاذة : ألوذ بالله وأعتصم به وأستجير بجنابه من شر هذا العدو أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. 
البسملة : وأستعين بالله متبركاً باسمه تبارك وتعالى -لا بحولي ولا بقوتي- أن أفهم ويحضر قلبي حال قراءتي للفاتحة" .

 المستحضر للفاتحة يقع في قلبه أن الله عز وجل يكلمه: ((فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) . إذن في الفاتحة لابد من أجل أن يردّ الله عليك تكون كل آية في الفاتحة حاضر القلب فيها, فلما تنتهي السورة تقول (آمين) يعني اللهم استجب, فأنت كنت تدعو, وكما اتفقنا الله عز وجل لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. فإذا كنت لاهي (آمين) ليس لها معنى؛ لأنك كنت ساهيًا.

 اتفقنا أن سورة الفاتحة هي أم الكتاب, كونها أم الكتاب معناها أن الدين إجمالا موجود في الفاتحة.
الأمر الثاني: لابد أن تتصور وأنت تصلي أن الله تعالى يكلمك فيها, فيكون قلبك حاضرًا ليكلمك الله.
الأمر الثالث: ثمَّ في الفاتحة أنت تطلب من الله بدليل قولك (آمين) فإذا لم يكن قلبك حاضرًا معناها ما استفدت من قراءتك. ليكون قلبك حاضرًا لابد أن تفهم الآيات.. {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ما معنى الحمد؟ يعني يقع في قلبك الثناء على الله. الألف واللام التي في (الحمد) معناه كل أنواع الحمد, تسمى (أل) الاستغراق؛ يعني كل أنواع الحمد لله ما هي إلا لله تعالى, اللام في (لله) يعني يستحقها الله. ما معنى الثناء؟ ماذا يقع في قلبك بمعنى الثناء؟ أولًا الحمد غير الشكر, ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟ الشكر يكون على نعمة وعطية أتتك، أما الحمد فهو أمر آخر مختلف, الحمد أنت تعتقد أن الله كامل الصفات، ثمَّ من كمال صفاته له جميل الإنعام عليك. الشكر يأتي لما تأتي النعمة,

أما الحمد طول الحياة المفروض أن تكون حامداً لما تراه من كمال صفات الله عليك وعلى غيرك, يقع في قلبك أن الله كامل الصفات. إذا اعتقدت أن الله كامل الصفات لابد أن تعتقد أنه وحده كامل الصفات وكل أحد غير الله ناقص الصفات. لا تنسوا أنكم تخرجون من الحج بهذه المعلومة: كل العباد على حد سواء فقراء، والله وحده الغني الحميد إذا تيقنت أن كمال الصفات لله وأن كل أحد غير الله ناقص الصفات ماذا تفعل؟ تتعلق بمن؟ تؤله من؟ .. ما تتعلق إلا بالله وما تعظم غيره؛ لأنك تعلم يقينا أنه لا كامل الصفات إلا الله ولا أحد أجمل عليك الإنعام إلا هو سبحانه وتعالى. الشاهد على ذلك الذي ترى فيه آثار أنه كامل الصفات تربيته لكل العالمين أنه رب كل العالمين, ربهم أوجدهم, أعدهم, أمدهم. لو كنت مسؤولًا أن تدبر شؤون بيتك وشؤون بيت أختك مثلًا, سافرت وأنت مسؤولة عن بيتك وبيت أختك ما تشعري أنك قادرة على إتقان بيتك وبيتها, لو بيتك وبيت أختك الأولى وبيت أختك الثانية والثالثة؟! لا يمكنك! فأنت عبد يصعب عليك تدبير نفسك، فقط بيتك وبيت أهلك, بل أنت نفسك يصعب عليك أحيانًا تدبير نفسك، لابد أن يكون معك مُعين. فسبحان من دبّر كل الخلائق أوجدهم وأعدهم وأمدهم وأعطى كل واحد مصلحته بلغته إلى حده. إذن معنى ذلك الذي يشهد أن الله كامل الصفات وأن العباد ناقصين الصفات تدبير الله العباد.

انظر إلى تدبيرك لا تستطيع تدبير نفسك، وانظر لمن دبر من في السماوات والأرض! لما يأتي الحج وترى أننا لسنا وحدنا المسلمين، وتنظر إلى الناس من مشارق الأرض ومغاربها وما تعرف لغتهم, فهؤلاء كلهم وغيرهم من أهل الكفر يدبرهم الله, يحيي من أراد، يسوق الخير بألطف ما يكون وليس فقط للبشر. { رَبِّ الْعَالَمِينَ }العالمين أتت من العلامة -علامة على الله- كل شيء موجود هو علامة على الله. فالله مربي للإنس والجن ومربي للأرض وما يخرج منها والسماء وما ينزل منها كل هذا تحت تدبير الله, فأنت ترى في الكون تدبير الله الذي يشهد لك أن الله كامل الصفات في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.

 إذن ما معنى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؟ الحمد الثناء على الله لما تراه من كمال صفاته الحمد لله: يعني أنا أثني على الله معتقدة أنه كامل الصفات, ما الذي يشهدك على أن الله كامل الصفات؟ أن الله (رب العالمين) أوجدهم وأعدهم وأمدهم. إذن افتح عينيك وانظر لعجيب تدبير الله الذي تجده في نفسك وتجده في غيرك وتجده في المخلوقات وكيف أن الطفل الصغير أول الولادة عندما يأتي لأمه يقع في قلب الأم المحبة فتعتني به غاية الاعتناء، تكون في تعب والمتوقع أنها تدفعه لكن يوقع الله من تدبيره في قلبها شدة الشفقة وشدة الحب له من أجل أن ترعاه, هذا من عجيب التدبير أن طفل لا يملك لنفسه شيء يسخر الله له عاطفة ومحبة بهذه الصورة, مع أنه لما تنظر إليه لا يبادلك ولا ينفعك ولا يكلمك ولا شيء إنما بمثابة العالة عليك، مع ذلك يوقع الله في قلب الأم التعلق به والمحبة والشفقة من أجل الرعاية. هذا كله من عظيم تدبير الله، يشرح صدور الناس بعضهم لبعض للإعانة، وأحيانا العكس تغلق الصدور, لكي يزيد ثناؤك على الله . انظر إلى عظيم تدبيره في السماء والأرض، انظر إلى ما يقع عليك خاصة وعلى العالمين عامة, من أجل ذلك لا تتصور أن الله خلقنا وتركنا هملا؛ الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا. { رَبِّ الْعَالَمِينَ } أنت تحمد الله وتثني عليه لأنه ربى عباده, { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } وتثني عليه أنه رباهم برحمته. انظري للآيات مرتبطة ببعضها {الْحَمْدُ للّهِ } الذي وصفه أنه {رَبِّ الْعَالَمِينَ}أنت تثني على الله بما تجده من عظيم تدبيره وعظيم تدبيره مبني على الرحمة. { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

 الرحمن الرحيم: اسمان لصفة واحدة والصفة هي الرحمة.
الرحمن: ذو الرحمة الواسعة.
الرحيم: ذو الرحمة الواصلة.
نحن العباد كم من المرات يقع في قلوبنا رحمة لأحد لكن هل كل ما وقع في قلبك رحمة استطعت أن توصلها للمرحوم؟ أحيانًا يقع في قلوبنا رحمة على أحد لكن ما نستطيع نساعده, وأحيانًا رحمتنا ضيقة ما نرحم إلا أولادنا, جيراننا والذين نعرفه، أما غيرهم ما نرحمه. الله تعالى الرحمن ذو الرحمة الواسعة, والرحيم ذو الرحمة الواصلة فلو رحم أحد لابد أن تصله. لكن وصول الرحمة ليس كما تتصور تمطر عليك مطرا ، لذلك الرحيم مناسبة لاسم اللطيف؛ يعني يرحمك بألطف ما يكون شيء ما يخطر على بالك؛ ممر ضيق في الحياة تتصور أن ليس فيه رحمة فيكون هذا الممر الضيق مخرج إلى رحمة الله. لكن كيف تصل؟ بلطفه تعالى, بألطف ما يكون شيء ما تنتظره يكون سبب لرحمته. يقول الله تعالى في موطن آخر: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لماذا اجتمع الرحمن مع صفة الاستواء على العرش؟ ماذا تعتقدون في صفة الاستواء؟ أن الله على العرش استوى، وأن الله عز وجل عالي على خلقه مستوي على عرشه استواء يليق بجلاله بدون كيف المهم استواء يليق بجلاله. العرش أكبر المخلوقات وأوسعها, السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في فلاة والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة؛ فهذه صحراء لو رميت فيها حلقة فالكرسي بالنسبة للعرش مثل لو رميت حلقة في فلاة يصبح هذا من أوسع المخلوقات. لماذا أتت صفة الاستواء على العرش مع صفة الرحمن؟ قال أهل العلم: أوسع الصفات أتت مع أوسع المخلوقات كما أن كرسيه وسع السماوات والأرض والعرش أعظم من الكرسي كذلك الرحمة أوسع الصفات؛ يعني رحمته وسعت كل شيء لا يوجد شيء يخرج من رحمته سبحانه وتعالى. فالله يعامل عباده بالرحمة قبل أن يعاملهم بغضبه بمرات و مرات. ما الفرق بين الرحمن والرحيم ؟ الرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة؛ رحمته وسعت كل شيء لذلك {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال أهل العلم: "أوسع المخلوقات مع أوسع الصفات", أوسع الصفات الرحمة, وأوسع المخلوقات العرش. من أجل ذلك اقترن الرحمن الذي هو اسم من أسماء الله العظيمة التي تدل على الرحمة بأعظم المخلوقات الذي هو العرش.
 إذًا العباد يرحمون، لكن هل رحمتهم واسعة؟ لا, العباد يرحمون لكن هل رحمتهم واصلة؟ لا.

ما الفرق بين الواصلة والواسعة؟ واسعة: أي أنها تسع كلَّ شيء. واصلة: تصل لكل أحد يريد الله أن يرحمه. واتفقنا أن اسم الرحيم يناسب اسم اللطيف؛ لأنَّ اللطيف له معنيين:
1. أنَّه دقّ ولطف علمه، أتى من جهة صفة العلم، دقّ علمه يعني يعلم دقائق ولطائف الأحوال، من أجل ذلك يعلم دقائق حركة قلبك، قال تعالى في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ، {وَمَثْوَاكُمْ}: -نسأل الله من فضله- إما إلى الجنة، أو -نعوذ بالله- إلى النار، مصير الناس إما إلى جنة أو نار على حسب متقلبكم، يعني على حسب تقلب قلوبكم، وفي الحديث: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) إذًا القلوب هي محط نظر الرب.
2. يأتي المعنى الثاني الذي يناسب الرحيم، أنه يلطف بعباده، يوصل لهم الرحمة من حيث لا يحتسبون، يوصل لهم الرحمة من مضائق المسائل، من مضائق المواقف، شيء أنت لا ترى فيه أبدًا أي آثار الرحمة، ثم يأتيك اللُّطف من داخله من مضائق المواقف، شيء أنت لا ترى فيه أبدًا أي آثار الرحمة، فيأتيك اللطف من داخله. إذًا الرحيم ذو الرحمة الواصلة، رحمته تصل إلى العباد بألطف ما يكون من طريق، بل هو إنَّه سبحانه قد يُقدِّر على العبد المكاره من أجل أن يرفعهم إلى ما يحبونه.

مثال: من رحمة الله بعباده أنهم إذا تعلقت قلوبهم بغيره؛ أذاقهم مرَّ التعلق بغيره إلى أن يخرج من قلبه، ويصبح حبه حب طبيعي. قال تعالى: سورة التوبة {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} ، هؤلاء كلهم حب طبيعي، لكن تأتي لحظة يصبحون أحبَّ إليكم، إذا كانوا أحبَّ إليكم؛ {فَتَرَبَّصُواْ}يعني انتظروا الله يخرجها من قلوبكم. مثال آخر: الرُّقية بالنسبة للمريض علاج وسبب، لكن عندما يقع في قلبك التعلُّق بالرقية أو بالراقي من دون الله؛ يصبح هذا الراقي بنفسه سبب لمآسيك، سبب لعذابك. لذلك السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يسترقون، لا يطلبون من أحد الرُّقية، هم يرقون أنفسهم بأنفسهم، نعم لا يوجد إشكال أبدًا أن ترقي نفسك بنفسك، لكنهم لا يطلبون الرقية؛ لأنَّ قلوبهم لا تتعلق بغيره. الذي وقع في هذا انتهى، أصلًا الذي يقع في هذا سابقًا ويتعلق؛ فهذا ربي ما يتركه، يجعل هذا الراقي هو سبب ناره، يجعل هذا الولد جمرة النار، يجعل هذا الزوج جمرة النار، الرُّقية مسألة سهلة، اقرئي الفاتحة سبع مرات، ولا بأس أن يرقيك أحد، لكن لا تتعلق به, فممكن أحد يتبرع إذا رآك مريضًا، ويقرأ عليك، لا تردِّيه، لكن لا تتعقلي إلَّا بالله. من رحمة الله إذا تعلَّق قلبك بغير الله؛ جعل الله الذي تتعلق به هو سبب عذابك، فتبغضه وتدفعه، حتى لا يبقى في قلبك إلا الله. من رحمة الله بعباده أنَّه سبحانه يصرف عنهم كلَّ تعلُّق يتعلَّقون به بغيره، لذلك أهل العلم يقولون: الله -عز وجل- يَغِير على قلب عبده، فيطرد من قلبه أي أحد غيره. فمهما تعلَّقت ومهما تلذذت بالناس؛ في لحظة تنكشف لك ورقة منهم، تتحطم وبعد ذلك تتركهم، وتذهب تنتقل إلى شخص آخر، تقول إن شاء الله التجربة الثانية تكون أحسن، لا يوجد تجربة أبدًا تكون أحسن، كل الناس سواء، كلهم فقراء، لا تجعل في قلبك إلا الله، اطلب من الله أن يقع في قلبك حبّه، وحبّ من ينفعك حبه عند الله، لا ينفعك لنفسك، بل ينفعك عند الله.. إذًا من رحمة الله بعباده الرحمة الواصلة أنَّه يوصل لهم الرحمة بألطف ما يكون، ومن لطفه في هذه الرحمة أنَّه سبحانه وتعالى قد يُقدِّر عليهم المكاره؛ ليجلب لهم المصالح.

تأمّلي الحمل والولادة ، الحياة مثل الحمل والولادة، عندما تأتي امرأة عندها أطفال، وتقول لك: أنا ليس لي طاقة أن أحمل مرة أخرى من المكاره، والتي ليس عندها أطفال تقول لها: لا، هذه المكاره محبوبة، مع أنها مكاره بمعنى المكاره، لكن يخرج في لحظة المكاره فبعد المكاره ما تنتهي كأن شيئًا لم يكن، هذه رحمة الله يأتي لطف الله، تكون في مأزق في المسألة، ثم تخرج إلى الرحمة التي تنسيك المكاره، سبحان من جعل لكلِّ شيء سببًا، وجعل لكلِّ نوع من رحمته صورة في الحياة تتصورها. هكذا رحمة الله، هكذا لطف الله، لو أخذت المسألة منفردة، لو أخذت الوحم منفرد مَكْرَه، لو أخذت الولادة منفردة مَكرها، لكن لو أخذت العملية كلها على بعض؛ تصبح نعمة، تنسين الألم بعد ما تولدين، مباشرة تصبح فرحة، هكذا هي رحمة الله تأتيك، تَخرج من المكاره إلى الرحمة العظيمة التي تُنسي المكاره.

إذًا الله رحمن ذو الرحمة الواسعة، رحيم ذو الرحمة الواصلة يوصلها لكل عبد كما يناسبه, لا تنتظر أن تنزل الرحمة مطرا، الله تعالى في أول سورة الملك يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني يرحمني أيسر ما يكون, لكن أليس الله عز وجل يقول للشيء كن فيكون فلماذا لا تصبح الرحمة "كن فيكون"، وينتهي الموضوع؟ الله عز وجل خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملًا، فلو نزلت عليك الرحمة مرة واحدة؛ لن يتبين الأحسن عمل من الأسوأ، ثم الدرجات العلا في الجنة ستكون لمن! إذن معنى ذلك أن الله –عز وجل– رحمن ذو الرحمة الواسعة التي تشمل كل العباد، قادر على إيصالها لكل العباد، لكن من عظيم رحمته بعباده أنَّه يوصل لكل عبد الرحمة من مكان، من جهة، ومن وضع .

مثال: تأتي امرأة تشتكي لأخرى زوجها أنه كثير الكلام، فتقول الثانية لها: احمدي ربك زوجي لا يتكلم أبدا! فهذه أتاها شيء هي بالنسبة لها بلاء، والثانية أتاها شيء بالنسبة لها بلاء. فهكذا هي البلاءات، أنت تتصور أنه لو أتاك شخص صامت ستكون أحسن، هذا الذي تعرفه عن نفسك دليل على أنك لا تعرف عن نفسك، الآن من تصورك لرحمة الله أن تعلم أن كل ما آتاك من قَدَر هو الذي يناسبك، أنت لا يناسبك إلا هذا، واحد يتكلم لأنه إذا ما تكلم ستتكلمين أنت، فأحسن يكون هو المتكلم. تأتي امرأة تقول أنا عندي دِين، وارتبطت بشخص قليل الدين، ربنا أتى لك بشخص قليل دِين؛ لأنه يناسبك وستصبحين المسؤولة عنه وتشدي نفسك، ولو كان أكثر منك دِين ستكسلين وستعتمدين عليه. إذًا من رحمة الله بالعبد أن يرزق كل عبد ما يناسبه، هذا من عظيم إيصاله سبحانه وتعالى الرحمة للعباد، يعني أنت الآن عندما يكون عندك مشاغل، عندك أحزان؛ لا تتصور أن هذه الأحزان ليست من رحمة الله، بل من رحمة الله الابتلاء بالأحزان؛ لأنك لو لم تحزن ستجد نفسك تنتقد فعل الله، تتكلم على الله، فالأحسن أن تكون ملتهٍ بأحزانك منكسر بين يدي الله؛ لعل هذا الحزن يرفعك عند الله . قد تمر على مواقف شخص يكون مريضًا، فيكون منكسرًا بين يدي الله، وأول ما تأتيه الصحة يعصي الله! فأفضل أن يكون مريضًا.

إذًا كلٌّ منّا الله عز وجل يبتليه بما يناسبه، ويكسر قلبه بالبعد عنه، يعني يبتليك بأقدار حتى تقرِّبك منه، إذًا هذا أعظم معاني الرحمة أن الله يبتلي العباد بأقدار تقرِّبهم منه، لكن ليس كل العباد يتقربون وينتفعون .

وَضَعك الله في أحسن وضع؛ من أجل أن يكون هذا الوضع الذي أنت فيه سبيل للقربى له، شخص أعطاه الله الصحة؛ لأنَّ الصحة هي التي تقرِّبه منه، وآخر أعطاه المرض؛ لأن المرض هو الذي يقرِّبه منه، فذلك الصحة تكسره بين يدي الله شكرًا، وهذا المرض يكسره بين يدي الله ذُلًّا وطلبًا، الله عز وجل عظيم الرحمة، ذو الرحمة الواسعة، رحمته تصل لكل عبد، لكن ليس معنى رحمة الله أن يعطيك هواك، رحمة الله أن يرفعك، يُجْرِي عليك أقدار ترفعك عنده، ليس كل الناس يستقبلون هذه الرحمة كما ينبغي.

عندما تقول {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يرد الله عليك يقول: أثنى عليَّ عبدي ... عندما تثني على الله مرة واحدة، يكون وصفك أنك حمدته، عندما تثني عليه مرتين، تصبح أثنيت عليه، وعندما تثني عليه أكثر من ذلك، وصفك مجدته. فعليك أن تقف عند كل آية وأنت معتقد أن الله يكلمك أنت خاصة، لو كنت في الحرم، ثلاثة مليون يصلون، الله تبارك وتعالى يكلم كل عبد منفصل كلامًا يليق بجلاله، أمر لا تستطيع إدراكه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ماذا تعتقد في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؟ كما هو معلوم الله مالك يوم الدين ومالك كل الأديان, لكن في الدنيا كلنا مشتركين في هذا البلاء العظيم (المُلك) أنت تتصور أنك تملك سمعك، وبصرك، لسانك، تملك مالك وتملك أولادك وبيتك، هذا هو الذي يجعل غشاوة على عينك والصحيح: لو تريد أن تتدبر جيدًا .. هذا البصر في لحظة يُخطف، وهذا السمع في لحظة يُخطف، نسأل الله أن يحفظ ذرياتنا وشبابنا. شخص يركب سيارته وهو بكامل قواه، ثم في لحظة واحدة يفقد هذه القوة كلها بحادث، معنى ذلك أن الإنسان لا ينخدع هذه الخديعة، أنت تتصور أن صحتك جيدة؛ لذلك لا تستعمل "لا حول ولا قوه إلا بالله"، تتصور أنك تملك المال؛ لذلك لا تتصور المفروض أن يقع في قلبك أن هذا المال مال الله، أنت تعلم أن هذه الأموال مجرد أوراق، وانهيار السوق العالمي يفهِّمك أنها مجرد أوراق، والذي دخل الحروب يعلم هذا الشيء أنها أوراق، وأنتم مررتم بمثل هذا أيام غزو العراق للكويت، كان عندهم أوراق في محافظهم ودواليبهم، ثم في اليوم التالي أصبح لا شيء، ليس له قيمة، يعني هذه الأوراق مجرد أوراق، لا بد أن تشعر اتجاهها أنها مجرد أوراق، هذه مشاعر صعبة، أنت مرِّن نفسك على أن تشعر به . مَن مالك الملك على الحقيقة؟ الله عز وجل، ينزع الملك ممن يشاء، يعطيه من يشاء. معنى هذا لا تتعامل مع الأشياء على أنك تملكها ملكًا مطلقًا أنت لا تملك إلا شيئين:
 1. لا تملك إلا ما أكلت فأفنيت
 2. أو ما تصدقت فأبقيت.
 والذي تركته هذا مال للورثة، الذي يأتي لنا الغرور في الحياة أن الله ابتلانا بالملكية، نظن أنفسنا نملك الصحة والعافية، ونملك المال، وهو في الحقيقة هذا المال في لحظة تشعر نفسك أنك لا تستطيع استخدامه, وانهيار سوق السعودية في الأسهم أحد هذه الأدلة، رأيت كيف الناس كان عندهم وعندهم، ومرة واحدة أصبح ليس عنده أي شيء، مالك الملك هو الله عز وجل .

إذًا يوم القيامة يكون سبحانه وتعالى قد جعل العباد سواء من جهة ملكهم، فأنت عندما تعيش الحياة؛ أول شيء لا تتصور نفسك مالكًا. قد ترى شخص غني أمامك، ماذا يقع في قلبك تجاه هذا الغني؟ أنه مالك، اعلم أنه لا يملك الملك إلا الله، من أجل هذا لا تعلِّق قلبك بأحد. 
عندما تسمع أن الله مالك يوم الدين، وتعرف أن ابتلاءنا كله أتى من جهة الملك أستفيد استفادتين :
 أ ) على نفسك: لا تتعامل مع نفسك أنك مالك مطلقًا، بل الذي يملك على الحقيقة هو الله.
ب) على الناس: تجد أمامك شخص عنده مُلْك، ماذا يقع في قلبك اتجاهه؟ في الحقيقة إنما هو عبد مسخر، سخَّره الله على هذا المال، فعندما تريد مال، وتجد غني؛ فلا تتصور أن هذا هو الذي يعطيك، بل حقيقته أنه فقير، اطلب من مالك الملك. عندما تحتاج مال، أو عندما تحتاج حتى مشاعر وأحاسيس، عندما تحتاج أقل ما تحتاج، أو أعلى ما تحتاج، وتجد شخص أمامك يملك الذي تحتاجه ماذا يقع في قلبك؟ أن الله عز وجل مالكه في الحقيقة، وإنما ملَّك الله هذا العبد على هذا الشيء؛ ابتلاءا لك، تتمسك بالذي ملك في الدنيا أم تتمسك بمالك يوم الدين المالك الحقيقي؟ نحن في المواقف نكون متفاوتين, فالملك عندنا أصبح حجاب بينك وبين مالك الملك . يعني شخص يملك أمامك أصبح كأنه حاجر بينك وبين مالك الملك، وهو الصحيح أن الذي في حقيبته ما يملكها إلا الله, عندما يكون عندك دَيْن وشخص يجلس بجانبك، ويفتح حقيبته يريد أن يخرج لك النقود، قلبك يكون متعلق معه, هذه هي المصيبة أنت لا يتعلق قلبك إلا بالله هذا معنى ليس سهل، يحتاج منا إيمانًا حتى نصل لهذه الحالة..

إذن {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ما معناها؟ أنه سبحانه وتعالى مالك ليوم الدين والدنيا، مالك للملك إطلاقًا, لكن لماذا مالك يوم الدين؟ لأن الله ابتلانا في الدنيا بأن كل واحد منا يملك شيئًا، فصار ملكنا للأشياء حاجز بيننا وبين التعلق بأن الله مالك الملك. من يتخطى هذا الحاجز؟ الذي يزيد إيمانه بفقره وبغنى الله، كلما زاد إيمانك بفقرك، كلما زاد تعلقك بالله . لذلك يُشهدك الله عز وجل فقرك، يأتي أحد يقول لك: أنجز لي هذه المعاملة، فترد عليه: والله لا أملك، والله لا أستطيع، وهو لا يصدقك، فيقول لك: أنت شخص في هذا المكان ولا تقدر, وأنت تكون صحيح تعرف أنك لا تستطيع. أو أحيانا يقع في قلبك أنك سوف تعمل لفلان كذا وكذا ثم تبحث عن أوراقه ولا تجدها، تأتي أوراقه إليك، وتنساها، إلى أن الله يُخرجه من عندك وأنت لم تفعل شيئًا؛ لأنك أنت لا تملك لنفسك النفع؛ فكيف تملكه لغيرك؟! لا تملك أن تدفع عن نفسك الضر؛ فكيف تملكه لغيرك؟!

إذًا لابد أن تعلم أن مالك الملك على الحقيقة هو الله. أذكركم بوصية ابن عباس مرة أخرى: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ)) يعني أنت لا تملك شيئًا على الحقيقة إنما مالك الملك هو الله. لو كان هناك خلاف بينك وبين الزوج، أو خلاف بينك وبين الجارة، مَن الذي يملك قلب هذه الجارة أو هذا الزوج؟ ما يملكه إلا الله، لا تطرقي أبواب غير الله، لا تطرقي إلا باب الله؛ لأن باب الناس يجعلك ذليل لهم، لكن باب الله يجعلك صاحب العزة.

كلما زدت إيمانًا، عاملك الله برحمته ولطفه، وساق إليك الخير من حيث لا تحتسب. تريد أن تُقدِّم أوراقك؛ اذهب قَدِّم وقلبك معلق بالله ويائس من كل أحد، تريد أن تذهب للطبيب، اذهب وقلبك معلق بالله.

 الواسطة فيها مخالفة من جهتين: من جهة الشريعة ومن جهة العقيدة، عندما تذهب للواسطة تكون ذليل، نقطة ذُل مع أنه لا يملك شيئًا، ولو كان سببًا شرعيًّا قلنا لا بأس؛ لكنه سبب ممنوع شرعًا.

لا تنسوا وأنتم تقولون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أن الملك ابتلاء ابتلانا الله به؛ ليرى بعد ما نملك نستغني عنه أم أن قلوبنا معلقة به؟ أنت الآن مالك الصحة من أعطاك الصحة؟ ما أعطاك إلا الله، ابتلاك بملكك للصحة تشكر أم تكفر؟ ! إذاً الملك ابتلاء، تذكَّر آية سورة الإنسان {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} أنت لا تملك، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} يعني أنت أصلًا لا شيء، وبعد ذلك صرت سميعًا بصيرًا؛ حتى يبتليك الله بعد ذلك {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} لما ملَّكك السمع والبصر بعد أن لم تكن شيئًا مذكورا ابتلاك هل تكون شاكرًا أم تكون كفورًا؟ هذه مصيبة الملك، العباد يملكون، ويعتقدون أنهم يملكون على الإطلاق، وأنت في الحقيقة لا تملك حتى صحتك.

 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تأتي القضية المهمة، بعد ما أثنيت على الله؛ يأتي الخبر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: يعني أعبدك، ولا أعبد أحدًا غيرك.
{وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: يعني أستعين بك، ولا أستعين بأحد غيرك, في ماذا؟ في عبادتي، بل وفي حياتي كلها .

 أولًا: يعني يعتقد أن ربه عالٍ عليه وهو تحت, فالعبد وصفه ذليل، منكسر. نعبد: طريق معبّد: يعني طريق مذلَّل، العبد منكسر، ذليل لربه، أنت لا تصبح عبد حين تمنُّ على ربك بالعبادة وتقول أنا حجيت، وصليت، وبنيت مسجدًا ... في سورة الطور يقول الله عز وجل {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} وقايتك من عذاب السموم كيف؟ بِمِنَّة الله عز وجل، فلابد أن تتصور حقيقة نفسك. في صحيح البخاري في كتاب الرقاق أورد البخاري هذا الحديث: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ)) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ)) . لا تتصور أنك تدخل الجنة بعملك، فنحن نسعى، نطوف، نفعل كل الذي نقدر عليه بقدر ما نستطيع، ونقارب الصواب والسُّنة، ثم تتصور أن عملك هو الذي يُدخلك الجنة؟! لا، سددوا وقاربوا، فقط افعلوا هذا السبب، ثم أبشروا أن الله يعاملكم باسمه الغفور الشكور، يغفر لك تقصيرك، ويشكر لك قليل من عملك، قليل فقط، لكن ليس قليل وأنت مستهتر، لا تكن ممن اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا.

فالناس ينقسمون إلى قسمين:
 1- ناس كما قال الله في يحيى عليه السلام: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} الذي يأخذ الكتاب بقوة ويأخذ العمل بقوة، يعني يسدد ويقارب ويبشر.
2- والذي يتخذ دينه لهوًا ولعبًا يقول: أنا أحسن من غيري، صليت وحجيت، وأذكر الله أحسن من غيري! لا تمنُّوا على الله بأعمالكم، الله عز وجل يمنّ عليكم أن هداكم، الله عز وجل غني عنكم، غني عن العالمين.

 إذًا ماذا يقع في قلبك؟ أنك أنت المحتاج، أنت العبد الفقير المنكسر الذليل بين يدي الله، نسأل الله أن يشرح صدورنا لهذا المعنى؛ لأن هذه العبودية معنى عالي، يوجد ناس يعيشون حياتهم عبيد لهواهم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فكن عبدًا لله.
كيف عبد لله؟
يعني عبد منكسر ذليل له، عالم بأنه كامل الصفات، وعالم أنه سبحانه وتعالى ما يُصَرِّف عليك إلا ما ينفعك، لا تتصور العبادة بكثرة العمل الصالح، بل بكثرة الذل وقت العمل الصالح. في الحديث عندما قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس وبين الصحابة قال: ((فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ)) مُدَّ أحدهم يعني مقدار حفنة اليد، نحن لو أنفقنا مثل أُحُد ذهبًا ما نبلغ هذه الحفنة منهم، لماذا؟ لأن قلوبهم فيها قمة التذلل والانكسار.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ماذا تحتاج؟ يكون واقع في قلبك الانكسار، الذل، الشعور بالفقر، تشعر أنه حقيقة لا حول لك ولا قوة، تشعر أن أهم شيء يا رب ما يكون بك غضب علي، إذا لم يكن بك عليّ غضب لا أبالي .

إذًا العبد الذليل يكون محور حياته كلها أن الله يرضى عنه، يبذل كل جهوده أن يرضى الله عنه، فيكون ذليلًا منتظر رضاه، إذا ما أصبحت عبدًا لله؛ ستصبح عبدًا لغيره، يعني ستصبح عبد الزوج، عبد الجيران، عبد الأحباب والأصحاب، زملاؤك في المدرسة والمعلمات اللاتي معك، عبد الدينار، عبد الخميلة.. فالشرف لك أن تكون عبدًا لله؛ لأنه سبحانه وتعالى كامل الصفات، أنت لا تستطيع أن تحب أحدًا إلا إذا كان عالي كامل، من أجل هذا لابد أن لا تنسى آية الكرسي {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}، ثم ختُمت بأنه {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، إذًا هو وحده العليّ الذي تتعلَّق به، هو وحده العظيم الذي تُعظِّمه، فإذا علمت أنه عليّ؛ تعلقت به، فصرت منكسرًا له، ذليلًا له، لابد أن ينكسر قلبك قبل أن ينكسر لسانك، لابد تكون ذليل بين يدي الله، راضٍ به .

من رضيَ؛ فله الرضا. كلما زاد انكسار قلبك؛ زادت عطايا الله لك، كيف سينكسر قلبك؟ لا تستطيع أن تكسر قلبك بنفسك، ولا تستطيع أن تتذلل، إلا أن تستعين بالله أن يرزقك الذل، إذًا هذه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

إذًا من أول الكلام: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني الثناء على الله لكمال صفاته، وأعظم ما ترى فيه كمال الصفات أنه رَبى العالمين، رَبى العالمين برحمته سبحانه وتعالى، فهو الرحمن ذو الرحمة الواسعة، الرحيم ذو الرحمة الواصلة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ومالك الدنيا أيضًا، فهو سبحانه وتعالى مالك يوم الدين, تفهم أنه تعالى مالك يوم الدين لما تزول الحواجز, فابتلاك في الدنيا بماذا؟ بملكك، لكن في الحقيقة أنت لا تملك، إنما الذي يملك على الحقيقة هو الله. بعد ما أثنيت على الله، يبدأ الطلب، تقول: إياك نعبد يا رب، ومن أجل أن أعبد، إياك نستعين، يرد الله عليك يقول: (هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) هذه على { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيستجيب الله لك استعانتك .

ثم تأتي الكلمة المهمة: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} جاء الطلب العظيم؛ أنك تطلب من الله الهداية إلى الصراط المستقيم . الهداية الى الصراط فيها أمرين:
1- أن تتعلم هذا الصراط المستقيم؛ أي تتعلم سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويقع منك الإخلاص .
2- وأن تَثْبُتُ على هذا الطريق. الصراط المستقيم هذا كل يوم تحتاج أن تطلبه؛ لأن انحرافك عن الصراط المستقيم سهل، بسرعة، الدنيا تشتتك عن الصراط المستقيم.

إذاً عندما تقول {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}ماذا يجب أن يكون واقع في قلبك؟ يا رب اهدني الصراط المستقيم؛ لأصل إليك بطاعتك، بعبادتك، حتى بتربيتك لأولادك اطلبي الصراط المستقيم من الله في كل أمر يختص بحياتك في الدنيا، أو بحياتك في الآخرة؛ من أجل أن لا تأتي اللحظة التي تقول فيها: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، أنت من هنا اطلب الصراط المستقيم. الله عز وجل لمن تطلبه وقلبك حاضر ماذا يقول لك؟ يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل؛ يعني لا يردك، ولا يخذلك، لكن لابد أن تكون حاضر القلب، وقت الفاتحة لا ينفلت قلبك؛ لأنك تكلم الله، تسأله فيعطيك، فتخيلي على قدر الركعات أنت تقولين {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}, والله عز وجل يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. ماذا يعني الصراط المستقيم؟ يعني أن تسير في أعمال قلبك وفي أعمال جوارحك على ما يرضي الله, ماذا يُرضي الله؟ يرضيه أمرين:
 1) أن تتابع سنه النبي صلى اله عليه وسلم.
 2) وأن يكون عملك طالبًا فيه رضى الله وحده. وحتى يكون عملك فيه متابعة للسنة، وفيه طلب الإخلاص لابد أن تتعلم، إذًا المطلوب منك أمرين
1. كأنك تقول يا رب علمني الصراط المستقيم
2. وثبتني عليه.

 {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ولا تجعلني من المغضوب عليهم ولا الضالين. أما المغضوب عليهم: فهم اللذين تعلموا ولم يعملوا ، كاليهود. وأما الضالين: فهم الذين عملوا من غير علم ، كالنصارى. فكل يوم تجد نفسك كلما دعوت؛ علمك الله عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، علمك الله عنه، علمك عن دينه، رباك، أراك، فأنت بكل ما تملك من قوة قل: اهدنا الصراط المستقيم؛ من أجل هذا العباد من حال نقص إلى حال كمال، يكون إيمانهم ضعيف، ثم يقوى إيمانهم . من العباد من ينزلون إلى تحت، ومنهم كلما زادوا قوة في اهدنا الصراط المستقيم؛ زادهم الله، وزادهم علمًا إلى أن يبلغوا من السن الأربعين، وتأتي هذه المرحلة الفاصلة في الحياة بعد ما يربيهم الله لما يبلغ أربعين عامًا فيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} كلما تقدَّمت إلى الأمام كلما زادك الله فهمًا عنه وعلمًا عنه . لذلك من الفخر أن تبلغ الأربعين وأنت على الإسلام ثابتًا، تقوم تسأل الله أن يُكمِل عليك النعمة إلى ما بعد ذلك.

الإنسان المفترض عندما يصل للأربعين يكون استوى تفكيره، فهِم عن الله، علَّمه الله، فتصبح السنوات التي بعده سنوات زيادة إلى الأعلى، كل الذي قبل الأربعين فيه صعود ونزول، بعد الأربعين المفترض كل الخط إلى الأعلى، من أجل هذا عندما يبلغ العبد الأربعين عامًا يقع قلبه الفخر أن الله ثبته إلى الأربعين، بعد ذلك يبذل جهوده أكثر أن يزداد شكرًا على ما مضى، وأنه نجّاه من أن يكون في فتره الشباب الأول بعيدًا عن الدِّين. الله عز وجل ثبّته على الدين إلى الأربعين هذه نعمة في حدّ ذاتها، بعد الأربعين يا الله أزداد شكرًا على ما مضى، وأزداد عملًا فيما هو مستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.