بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا
وجلاء أحزاننا وهمومنا اللهم آمين.
في مجلسنا
هذا الذي نرجو من الله أن يكون مجلس علم يقبله الله ويكتبنا من الذاكرات الشاكرات على
نعمائه، سنتدارس مطلع هذه السورة العظيمة سورة غافر، أو كما سُمّيت في بعض المصاحف
بسورة المؤمن.
وهذه السورة العظيمة هي أول سورة من السور التي ابتدأت
بـ (حم)، وهذه السور لها ميزتها، نسأل الله أن ييسّر في لقاء ونتكلم عن الميزات
التي تجمع بين هذه السور، لنصرف وقتنا اليوم في مدارسة هذا المطلع الذي يحمل معاني
عظيمة، أسأل الله أن يجعلها ثابتة في قلوبنا عاملين بها مؤمنين بها، اللهم آمين.
بدأت السورة كما هو متبين بقوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ}، ومن المعلوم أنّ السور التي تبدأ بالحروف المقطعة يكون موضوعها الدفاع
عن هذه المسألة العظيمة (الكتاب والرسول والمرسِل سبحانه وتعالى).
ثم وُصف سبحانه وتعالى بأوصاف دلالتها واضحة وأثرها
واضح في الكتاب، قال سبحانه وتعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} الذي يستحقّ
الألوهية، المعبود الذي كملت صفاته، الله {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ
الْمَصِيرُ}.
وكل اسم من
هذه الأسماء له أثره في القرآن، مناسبته واضحة هنا في ذكر تنزيل الكتاب من الله العزيز،
ويظهر أثر اسم العزيز في السورة خاصة وفي القرآن عمومًا في كل موطن نرى فيه نُصرة الله
لرسله، ففي السورة: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا}[1]،
وأيضًا: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}[2]،
ففي السورة ظهر آثار اسم العزيز، وفي القرآن كله ترى آثار اسم العزيز الذي قهر
بعزته كل مخلوق، الذي من عزّته عزة الامتناع فلا يصل إليه مخلوق، بل هو سبحانه وتعالى
المنفرد بالألوهية المنفرد بالعزة سبحانه وتعالى.
العليم ويظهر أثر هذا العلم بوضوح، فإنّ في القرآن أخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة
وعن أسماء الله وصفاته وأفعاله، وهذا كله من تعليم العليم لعباده.
وأيضًا هو غافر الذنب وما نراه في القرآن من
دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة والاستغفار، ومن فتح باب قبولها، فإنها من آثار
هذه الصفة غافر الذنب، ومن آثار وصفه أنه قابل التوب.
وكل ما نراه
من نقمه الشديدة التي تحل بمن يستحقّ وتكون بسبب المعاصي هذا كله يدلّ على أنه شديد
العقاب، وكل ما نسمعه في القرآن من نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة كله يدلّ عليه
ذي الطول، وما نراه من أدلة استحقاقه للألوهية يدخل في قوله: لا إله إلا
هو.
إذن معنى ذلك أنّ أهل الإيمان يرون آثار هذه الصفات
في القرآن ويتتبعونها إلى أن يصلوا لقوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فكلما رأى المؤمن أحكامه سبحانه وتعالى، ثواب المحسنين
وعقاب العاصين، علم أنّ إليه المصير سبحانه وتعالى.
بعدما أخبر عن كمال صفاته التي تظهر آثارها في الكتاب
أخبر عن انقسام الناس على الكتاب فقال سبحانه وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ
إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذه السورة العظيمة يدور موضوعها حول هذه الكلمة، فإنّ
في السورة جدال أهل الباطل في القرآن، وجدال أهل الحقّ في القرآن، وجدال أهل الحقّ
في القرآن يعني يجادلون عن القرآن، وأتت في هذه السورة قصة مؤمن آل فرعون، ومؤمن آل
فرعون جادل عن الحق لما جاء موسى عليه السلام بالحق.
فكأن هناك ثلاثة أطراف لما يأتي الحق:
1.
طرف يأتي بالحق، وهو في القصة موسى عليه السلام
2.
وطرف يجادل في الحق، وهو فرعون
3.
وطرف يجادل عن الحق، وهو مؤمن آل فرعون.
وفي القرآن
الذي هو الحق نرى ذلك، فإنّ الله عزّ وجلّ أرسل رسوله بالحق، أتوا كفار قريش وغيرهم
ممن كفر جادل في الحقّ، أتى المؤمنين المتقين يجادلون عن الحقّ، ويبقى هذا الأمْر إلى
قيام الساعة، فإنّ حولنا كما نرى مَن يجادل في هذا الحقّ ويبذل الجهد في إبطاله، والله
أرسل رسوله بالحقّ ونحن مؤمنين بذلك، فيقيّض الله من خلقه مَن يجادل عن الحقّ، وهذا
ما نرجو أن نكون من أهله جميعًا، أن نكون ممن يجادل عن الحق، فإنّ الله ابتلى أهل الحقّ
بالمجادلين رفعة لمنازلهم، وتقوية لإيمانهم، وتكفيرًا لسيئاتهم، نسأل الله أن نكون
جميعًا منهم، نجادل عن الحقّ، وندفع الباطل، ونُظهر راية التوحيد ما أمكننا ذلك بلا
كسل ولا تواني، اللهم آمين.
لما أخبر سبحانه وتعالى عن كماله وعن كمال هذا الكتاب
بظهور هذه الأسماء والصفات فيه، أخبر عن قوم يجادلون في آيات الله، وجعل هؤلاء المجادلين
لهم صفة واحدة: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، فهم
يجادلون في آيات الله لكن نرى تقلبهم في البلاد يعني نرى تمكّنهم في البلاد، نراهم
من هنا الدولة العظمى، ومن هنا أصحاب الاقتصاد العالمي، ومن هنا ومن هنا كما نسمع ونرى،
فيقال: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أنت مؤمن لابد أن تكون على
يقين أنّ هذا امتحان من رب العالمين لنفوس المؤمنين الذين يثقون أنه لا يمكن أن يجادل
في آيات الله أحد إلا وهو كافر.
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} اليوم الذين تراهم يجادلون
لا يغرونك .
وانظر إلى من قبلهم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} إذن من نوح من أول رسول وكل أمة تحزّبت واجتمعت
وكذّبت، لم يقف أمرهم عند التكذيب وردّ الحقّ، إنما تحوّلوا إلى أعلى من ذلك، وهذا
من قوة كراهية الحق: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}، هموا
وجمعوا قواهم وكادوا أن يقع منهم لكن معلوم أن الله عز وجل يحفظ أنبياؤه ورسله، وفي
فعل قريش من الاجتماع حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإرادة قتله التي أتت وراءه
حادثة الهجرة هذا كله يُشير إلى هذا الأمر أنّ كلّ أمة تُكذّب ثم تهمّ برسولهم ليأخذوه.
وهذا الجدل هل هو لإرادة الحق؟ {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}، ونهاية هذه الأحداث التي قد تكون طويلة لما تعيشها لكنها
قصيرة، {فَأَخَذْتُهُمْ} فأخذهم الله بسبب هذا التكذيب، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} فانظر
لأحوالهم ترى كيف كان عقابهم.
فلا يطول
عليك زمن مجادلة أهل الكفر، ولتعلم أن مجادلة أهل الكفر وصعودهم في أعلى قمة الدنيا
وهم يجادلون في الله وفي الحقّ تُنبئ ببداية نهايتهم.
يقول عز وجل: { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ} فهم حقًا يستحقّون ذلك، ويستحقّون لأنهم جادلوا في الله عز وجل
فحقّت عليهم كلمة العذاب.
ثم أمام هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله
نجد المؤمنين.
إذن نزل هذا الكتاب من الله العزيز العليم، كذبت أمم
وظهر تكذيبها بالمجادلة، {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}
أمام هؤلاء يأتي الصنف الثاني الذي سيكون موضوع بحثنا بالتفصيل.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا} إذن نحن أمام خبر عن ملائكة عظام، ما صفتهم؟ يحملون العرش، يعني ليسوا أي
ملائكة إنما حملة العرش الكرام.
وهؤلاء الكرام
سيكون لهم عمل مع الذين آمنوا سيتبيّن لنا، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ} الملائكة التي تحمل العرش والملائكة الذين حول العرش هذه أعمالهم: {يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وهذا أمر واضح، تسبيحهم بحمد ربهم أمر واضح
وإيمانهم أمر واضح في كونهم يعظّمون الله وينزهونه ويؤمنون به، وهذا عمل مستمرّ، يسبّحون
ويسبّحون ولازالوا يسبحون، ويؤمنون ولازال تأتيهم من أسباب زيادة الإيمان ما تأتيهم.
ونأتي للعمل الثالث الذي فيه الإشارة المطلوبة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
إذن هم: يسبّحون ، ويمؤمنون ، ويستغفرون.
ومعلوم أن لا ذنوب لهم يستغفرون عليها إنما يستغفرون
للذين آمنوا، ويقولون ما سنسمع بالتفصيل من قولهم.
إذن معنى ذلك الكفار أتى الخبر عنهم بصفة ذميمة، وهي
أنّهم يجادلون في آيات الله، والمؤمنين أتى الخبر عنهم بصورة لطيفة عجيبة فيها إشارة
إلى التكريم والرفعة، فلم يُذكروا إلا من خلال الخبر عن هؤلاء الملائكة الكرام الذين
يحملون العرش ولهم مكانة عند ربهم وكيف أنهم يستغفرون للذين آمنوا.
إذن أولئك يجادلون فيهلكون، وهؤلاء يؤمنون فيُستغفر
لهم حملة العرش، ومن يستغفر لهم؟ حملة العرش.
وهكذا تسير السورة تخبر عن أهل الكفر وكيف موقفهم،
وأهل الإيمان ما موقفهم، وبالصور اللطيفة تعرض موقف أهل الإيمان وكيف علائق أهل الإيمان
ببعضهم، وهذه صورة من العلاقة {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}
صورة لعلاقتهم بالمؤمنين.
وهناك يأتي قصة مؤمن آل فرعون وكيف تكون علاقته بموسى
عليه السلام، وهذا من قوم وهذا من قوم، وكأنّ الإيمان يربط الأباعد، فإنّ الفارق كبير
بين الملائكة والخلق -الناس-، ويزداد الفرق في كون أن هؤلاء الملائكة هم حملة العرش.
وهذا يشبه له فرعون وقومه وموسى عليه السلام وقومه،
ومع ذلك يرتبط مؤمن آل فرعون بموسى عليه السلام والرابط الإيمان، وترتبط الملائكة حملة
العرش الكريم والمؤمنين رابط الإيمان.
فما أعظمه من رابط تزول أمامه كل الحواجز! لا اختلاف
في الجنس هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر، ولا اختلاف في العروق، فهؤلاء من قوم وهؤلاء من
قوم، إنّما يربط الخلق الإيمان، وهذا مناسب جدًا لسورة الزمر، فإنّ سورة الزمر هذه
السورة العظيمة قد جاء فيها الخبر أنّ الله عز وجل يسوق الذين كفروا إلى جهنم زمرا،
وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا، فأصبح الرابط بين الخلق ليس الأجناس إنما العمل.
سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، وسيق الذين اتقوا
إلى الجنة زمرا، وهذا يتضح أكثر في واقع الحياة، فإن المؤمنين لما يكون الإيمان هو
الذي يربطهم يجدون كل شيء يزول من أجل هذا الإيمان، وتصبح المحبة مرتبطة بالإيمان والتقوى
وأسبابها وزيادتها، فنسأل الله أن نكون صادقين نحب من أجل الإيمان ونبغض من أجله، اللهم
آمين.
نعود إلى مقصودنا التفصيلي حملة العرش وعلاقتهم بالمؤمنين،
هذه العلاقة التي لا تشبهها علاقة! نحتاج أن نستحضرها دائمًا لنرى كيف ربنا في
الدنيا يكرمنا، فإنّ من كان حقًا مؤمنًا بالله مؤمن بالغيب مؤمن بالملائكة، يرى هذا
تكريم ليس فوقه تكريم، فإنّ العبد يكون نائمًا على فراشه تائبًا إلى ربه مستغفرا
له، ينام وحملة العرش يستغفرون له!
سنقرأ كلام الشيخ السعدي في تفسيره للآيات:
"يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين"
وهذا من آثار اللطف، يعني من آثار لطفه ما ستسمع،
"وما قيض لأسباب سعادتهم من الأسباب الخارجة
عن قدرهم" إذن سيكون هناك أسباب للسعادة، لكن هم لا يحصّلوها لنفسهم، خارجة عن
قدرتهم، ما هو السبب؟
قال: "من استغفار الملائكة المقربين لهم، ودعاءهم
لهم بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم" الله عز وجل يقول: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ
عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}
معنى ذلك الملائكة تستغفر لهم دعاء لهم وأيضًا لذرياتهم.
"وفي ضمن ذلك الإخبار عن شرف حملة العرش ومن
حوله" لاحظوا كلام الشيخ السعدي أولًا بدأ يخبر أنّ هذا كمال لطف الله بعباده
المؤمنين، كأنّ الغرض والمقصود من وراء الخبر، الخبر عن العباد المؤمنين والخبر عن
العباد المؤمنين سيقابل الخبر عن العباد الكافرين.
"وقربهم من ربهم، وكثرة عبادتهم ونصحهم لعباد
الله" إذن في الآيات إخبار عن الملائكة حملة العرش وما يجب أن تكون عقيدتنا فيهم،
فهم لله قريبين وكثرين عبادة وناصحين لله، ينصحون لعباد الله يعني مخلصين في حبهم ليس
لهم مقاصد، لماذا نصحهم لعباد الله؟ قال:
"لعلمهم
أن الله يحب ذلك منهم" فهم يحبون المؤمنين حبًا لله، ويحبون المؤمنين لأنّ المؤمنين
يحبّون الله، فقال: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ} أي عرش الرحمن، ما عقيدتنا في عرش الرحمن؟ قال:
"{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} أي: عرش
الرحمن، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها، وأقربها من الله تعالى، الذي
وسع الأرض والسماوات والكرسي" الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها، أولًا هي سقف المخلوقات
وأعظم المخلوقات وأوسع المخلوقات وأحسن المخلوقات وأقربها من الله تعالى، الذي وسع
الأرض والسماوات والكرسي" إذن العرش وسع الأرض والسماوات والكرسي على عظمتها،
فمعنى ذلك أنه غاية في العظمة، وطبعًا هذا دليل على عظمة الله.
"وهؤلاء الملائكة" الذين نسميهم حملة العرش.
"قد وكلهم الله تعالى بحمل عرشه العظيم"
وهذا كما هو معلوم من أعمال الملائكة.
"فلا شك أنهم من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم"
إذن هذه عقيدتنا أيضًا في حملة العرش، أنهم أكبر الملائكة وأنهم أعظم الملائكة وأنهم
أقوى الملائكة.
"واختيار
الله لهم لحمل عرشه، وتقديمهم في الذكر، وقربهم منه، يدلّ على أنّهم أفضل أجناس الملائكة
عليهم السلام، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}"
إذن معنى ذلك أن هؤلاء الملائكة حملة العرش لهم ميزة تختلف، فهم في مرتبة أعلى من بقية
الملائكة، فلما اختارهم الله لحمل عرشه وقدمهم في الذكر وقربهم منه، هذا يدلّ على أنهم
أفضل أجناس الملائكة.
"{وَمَنْ
حَوْلَهُ} من الملائكة المقربين في المنزلة والفضيلة" إذن هم درجات الملائكة المقربين
في المنزلة والفضيلة بعد حملة العرش، أول عمل لهم:
"{يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} هذا مدح لهم بكثرة عبادتهم للّه تعالى، وخصوصًا التسبيح والتحميد،
وسائر العبادات تدخل في تسبيح الله وتحميده" لأن مقصود كل العبادات أن يعظم الله
بوصفه بالكمال وأن يعظّم بتنزيهه عن النقص، وهذا يدخل في قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ}.
"لأنها تنزيه له عن كون العبد يصرفها لغيره"
فكأنه يقال: يعبد الله ويقول لا يستحقّ أن يُعبد إلا أنت.
"وحمد له تعالى، بل الحمد هو العبادة للّه تعالى،
وأما قول العبد: "سبحان الله وبحمده" فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات"
إذن العبادات كلها داخلة في قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}، فإن من عبد فقد
سبح بحمد ربه فإنه بلسان حاله يقول: الله وحده المستحقّ للكمال المنزّه عن النقص وغيره
لا يستحقّ، وبهذا تكون كل العبادات إشارة إلى هذا المعنى: سبحان الله وبحمده، وقول
العبد سبحان الله وبحمده كلامه بذلك داخل في هذه العبادات.
"{وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا} وهذا من جملة فوائد الإيمان وفضائله الكثيرة جدًا، أنّ الملائكة
الذين لا ذنوب عليهم يستغفرون لأهل الإيمان، فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم"
معنى ذلك أنّ الإيمان سبب في هذه النعمة العظيمة؛ لأنّهم لا يستغفرون إلا للذين آمنوا
وهذا أمر مهم جدًا، وقد يظنّ البعض أن قوله تعالى في سورة الشورى: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}[3]
معناه أن لكل من في الأرض مؤمنهم وكافرهم! والصحيح أن هذا العام الذي في الشورى يعود
على الخاص الذي في غافر، فالملائكة يستغفرون لكن للذين آمنوا، وهذا من جملة فوائد الإيمان
وفضائله الكثيرة جدًا.
أنّ الملائكة الذين لا ذنوب لهم يستغفرون لأهل الإيمان،
وأكيد أن مع قوة الإيمان يكون الاستغفار مختلف عن ضعف الإيمان، كل ما زاد قوة
الإيمان كان الاستغفار أعظم.
ونحن في هذه الأيام المباركة من الضروري الاهتمام
بالأعمال التي تزيد الإيمان ومنها العبادات والطاعات والصلوات وقراءة القرآن، لكن لابد
ونحن في هذا كله يكون أن يبقى حديث قلبنا عظمة الله وجلال الله وجمال الله، ويبقى حديث
قلبنا لقاء الله والاستعداد له، ويبقى حديث قلبنا خوفنا من ذنوبنا العظام واستحياؤنا
من أن نلقاه فتعرض علينا هذه الذنوب ورجاءنا له أن يمحوها حتى نصل إليه وقد ذهب
آثارها، ونكون ممن نجى وابتعد عن النار، فالقلب يحتاج وقت الطاعات والعبادات جرعة إيمان
قوية، جرعة إيمان بعظمة الله جرعة إيمان بلقاء الله، جرعة إيمان بأنّ الحياة ما هي
إلا مسيرة سريعة تنتهي قريبًا ويذهب أهلها إلى المصير الذي كان من آثار عملهم في الدنيا!
إنّ المصلي الصائم اليوم وفي كل يوم يفكّر في وحشة
قبره، وفي ظلمته، فيطلب من الله الأنس، فيدلّه الله عزّ وجلّ على الأعمال ويقويّه على
أعمال تؤنسه في قبره.
إنّ المصلي الصائم اليوم يفكّر في موقف العرض على
الله، وماذا سيكون في صحائفه، وكيف سيلقى ربه، فكلّ هذا الإيمان ينفع الإنسان نفعًا
عظيمًا، منه أن الملائكة حملة العرش يستغفرون للذين آمنوا!
فلا يكون اليوم همّنا تحصيل أعمال فارغة، بل هذه الأيام
العظيمة التي نعيشها خاصة عن كل أيام العام، تحتاج منا مناجاة وتحتاج منّا صفاء، وتحتاج
منّا إنابة وعودة إليه سبحانه وتعالى وطلبًا لرضاه وتصوّر ما سنقبل عليه، فإننا سنقبل
على أمر عظيم!
نسأل الله أن يكون إيماننا يقيني لا ينفذ، ونلقاه
وهو راضٍ عنا، اللهم آمين.
"ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم لا تتم إلا
بها" هم يستغفرون للذين آمنوا، هذا الاستغفار كيف سيأتي؟ ليس مجرد طلب المغفرة
إنما هناك لوازم لذلك، قال:
"-غير ما يتبادر إلى كثير من الأذهان، أن سؤالها
وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب- ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة، بذكر ما لا تتم
إلا به" يعني عبد يقول يارب اغفر لي، معناه أنه لابد أن يكون يعلم أشياء عن الله
لذلك هو يطلب المغفرة، عبْد قام بذنوب لم يشعر بها أحد، أساء الظن في قلبه ولا أحد
يدركه ثم أتى يستغفر، يقال له لماذا تستغفر ماذا تعتقد في ربه؟ يعتقد أنّ ربه علم ما
في قلبه، ويعتقد أنّ ربه رحمته وسعت كل شيء فإذا تاب وعاد غفر له، ولذا المستغفرين
صدق استغفارهم يبكون بقوة اليقين بأنّ ربنا وسعت رحمته كلّ شيء ووسع علمه كلّ شيء.
"فقال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْمًا} فعلمك قد أحاط بكل شيء، لا يخفى عليك خافية، ولا يعزب عن علمك مثقال ذرة
في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ورحمتك وسعت كل شيء، فالكون علويه
وسفليه قد امتلأ برحمة الله تعالى ووسعتهم، ووصل إلى ما وصل إليه خلقه" الاستغفار
الحقيقي يلزم من ورائه أن تعلم أن الله وسع كل شيء رحمة وعلمًا، فإنّ الطالب
للمغفرة لا يمكنه أن يطلب إلا إذا علم أن الله مطلع على عمله، ولا يمكنه أن يرجو أن
يغفر الله له إلا إذا علم أن الله ذو رحمة واسعة.
"{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من الشرك والمعاصي"
يعني تابوا وعادوا إلى ربهم وأحسنوا في عملهم.
"{وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} باتباع رسلك، بتوحيدك
وطاعتك" يعني يكون مشرك يوحد، يكون عاصي يطيع.
"{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي: قهم العذاب
نفسه، وقهم أسباب العذاب" ومن آثار هذا الدعاء أن يُحفظ العبد من أسباب الذنوب،
فيبتعد عنها ويكرهها، ويُحفظ من أسبابها.
"{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ} على ألسنة رسلك {وَمَنْ صَلَحَ} أي: صلح بالإيمان والعمل الصالح"
لأن هذا الإيمان أن يكون مؤمن ويعمل أعمالًا صالحة.
"{مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ} زوجاتهم
وأزواجهن وأصحابهم ورفقائهم {وَذُرِّيَّاتِهِمْ}" إذن كل من كان معنا سواء كان
الأزواج أو الأصحاب أو الرفقاء أدخلهم جميعًا وأيضا وذرياتهم، ومعلوم أن المؤمن في
الغالب لا يكون له قريب أو صاحب إلا وهو مقترب منه في الإيمان، هذا الغالب على أحوال
الناس.
"{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} القاهر لكل شيء،
فبعزتك تغفر ذنوبهم، وتكشف عنهم المحذور، وتوصلهم بها إلى كل خير" والمقصود أن
هذه المغفرة ليس لها سبب وليس لها حامل إلا أنك عزيز، تفعل ما تشاء ولا يستطيعون في
ملكك شيء.
"{الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها"
فكأنهم يقولون مغفرتك لهم من فضلك عليهم، وأنت حكيم تعلم أين تضع فضلك.
"فلا نسألك يا ربنا أمرًا تقتضي حكمتك خلافه"
ولذا الذي يستغفر للكافرين أو يظنّ أنّه يغفر لهم فهذا لم يعلم أن الله حكيم.
"بل من حكمتك التي أخبرت بها على ألسنة رسلك،
واقتضاها فضلك، المغفرة للمؤمنين" إذن هذا من حكمتك، ثم طلبوا أيضًا فقالوا:
"{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي: الأعمال السيئة
وجزاءها، لأنها تسوء صاحبها" معناها أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا واتبعوا سبيلك،
وطلبوا أن يقيهم الله عذاب الجحيم، وطلبوا أن يدخلهم الله جنات عدن هم ومن صلح من أحبابهم
ومن أزواجهم ومن ذرياتهم، وطلبوا أن يقيهم السيئات، ما هي السيئات؟ قال: "الأعمال
السيئة وجزاءها، لأنها تسوء صاحبها.
{وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة
{فَقَدْ رَحِمْتَهُ}" يعني من وقاه الله السيئات في الدنيا فابتعد عن الأعمال
السيئة التي هي المعاصي أو الطاعات التي تشوبها الإرادات التي يريد فيها الإنسان غير
الله هذه هي السيئات، أن يقيه الله عز وجل السيئات فيجعله من أهل الإخلاص ويجعله من
أهل الطاعات، ويبتعد عن الشرك والمعاصي، يوم القيامة يكون ممن رحمه الله.
"{فَقَدْ رَحِمْتَهُ} لأن رحمتك لم تزل مستمرة
على العباد، لا يمنعها إلا ذنوب العباد وسيئاتهم، فمن وقيته السيئات وفقته للحسنات
وجزائها الحسن.
{وَذَلِكَ} أي: زوال المحذور بوقاية السيئات، وحصول
المحبوب بحصول الرحمة"
إذن معناها أدخلهم جنات وقهم السيئات، فإذا زال المحذور
بزوال السيئات وحصل المحبوب بحصول الرحمة فذلك {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا
فوز مثله، ولا يتنافس المتنافسون بأحسن منه".
وبعد هذا الكلام الذي يدلّ على حب الملائكة حملة العرش
المؤمنين، ورغبتها في أن يغفر لهم رب العالمين، ويرفعهم ويدخلهم الجنات، تأتي آيات
نشير إليها فقط إشارة؛ يأتي الخبر عن الذين كفروا في ذاك الموقف، في الدنيا الذين
كفروا {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} ماذا حصل لهم؟ {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}،
في مقابلها في الدنيا المؤمنين يستغفر لهم الذين يحملون العرش، إلى أن نصل: {وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} انتقل الخبر على يوم القيامة،
{فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} أمام هذا الفوز العظيم وأمام هذه المحبة العظيمة
من حملة العرش للمؤمنين يأتي العكس:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ
أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} المقصود هنا الفضيحة والخزي يوم القيامة يُنادَوا،
والظاهر أنّ المنادين هم الملائكة، وهذا الشاهد، أنّ الملائكة حملة العرش ومن حوله
يدعون ويستغفرون للذين آمنوا، والملائكة أيضا، ولم يظهر لنا أنهم حملة العرش إنما الملائكة
تناديهم يوم القيامة لمقت الله معناها لبغض الله! يوم القيامة يمقتون أنفسهم أشد المقت
والسبب أنهم سيجدون ذنوبهم وعقوباتها، وهذا يصوّر لنا صورة عجيبة، أهل الإيمان يؤمنون
في الدنيا ويبذلون ويستغفرون وينوبون ويعودون ويغتنمون الأوقات الفاضلة في ذكر ربهم،
وهم مع ذلك يستغفر لهم الملائكة حملة العرش وتدعوا لهم فيأتون يوم القيامة في أحسن
حال، وهؤلاء الكافرين هالكين وما يهلك على الله إلا هالك، فتناديهم الملائكة أن الله
يمقتهم، في مقابل أن استغفار الملائكة للمؤمنين يدلّ على أن الله يحبهم!
فنسأل الله من فضله، نسله أن نكون مؤمنين متقين أصحاب
عامل صالح يحبنا الله ويحبنا أولياء الله، وما أعظم هذا الرابط وما أكثره فضلًا على
المؤمنين فإنه من ألطافه سبحانه وتعالى على خلقه!
خرج الشيخ السعدي رحمه الله بمجموعة فوائد في دعاء
الملائكة نذكر ما تيسّر منها، قال:
"وقد تضمن هذا الدعاء من الملائكة كمال معرفتهم
بربهم، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى" فالملائكة يؤمنون بالله بمعنى أنهم يؤمنون
بالغيب لأنّ الله عز وجل أخبر في حقهم أنهم يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، والإيمان
كما هو معلوم لا يكون إلا في شأن غيبي، فالملائكة يؤمنون بالله ويعرفون الله ويتوسّلون
إليه بأسمائه الحسنى.
"التي يحب من عباده التوسل بها إليه، والدعاء
بما يناسب ما دعوا الله فيه، فلما كان دعاؤهم بحصول الرحمة، وإزالة أثر ما اقتضته النفوس
البشرية التي علم الله نقصها واقتضاءها لما اقتضته من المعاصي، ونحو ذلك من المبادئ
والأسباب التي قد أحاط الله بها علمًا توسلوا بالرحيم العليم" المعنى أنهم يعلمون
أن الله عز وجل قد خلق البشر على حال فيها نقص، وفيها شهوات، وفيها أخطاء، فهم يتوسّلون
إلى الله ويدعون دعاء بأسماء الله وصفاته تحصل به من الله الرحمة، ولذا سألوا الله
برحمته وبعلمه، فهو يعلم نقص الخلق وضعفهم ويعلم المنيبين منهم ويعلم من غلبته شهوته
فندم وعاد إلى ربه، ويعلم من ضعفت إرادته ثم استيقظ من غفلته فهرب إلى جنابه، هذا كله
من علمه سبحانه وتعالى، ومن رحمته أنه يقبلهم بعد هذا البُعْد.
"وتضمّن كمال أدبهم مع الله تعالى بإقرارهم بربوبيته
لهم الربوبية العامة والخاصة، وأنه ليس لهم من الأمر شيء وإنما دعاؤهم لربهم صدر من
فقير بالذات من جميع الوجوه، لا يُدْلِي على ربه بحالة من الأحوال، إن هو إلا فضل الله
وكرمه وإحسانه" ليس لأنهم حملة العرش والمكرمين والذين لهم مكانة يدلون على ربهم
ويقولون لهم اغفر لهؤلاء! لا، إنما هم في غاية الأدب والذل ويقولون ربنا ربنا، ويقولون
إنك أنت العزيز الحكيم، فإننا نعلم أنك تضع الأمور في مواضعها، وأنت عزيز لا يردّ أمرك
أحد.
"وتضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة" يعني
هؤلاء الملائكة حملة العرش يوافقون ربهم تمام الموافقة. في أي شيء؟
"بمحبة ما يحبه من الأعمال التي هي العبادات
التي قاموا بها، واجتهدوا اجتهاد المحبين
ومن العمال الذين هم المؤمنون الذين يحبهم الله تعالى
من بين خلقه"
إذن هم يوافقون ربهم فهم يحبون ما يحبه الله من الأعمال
ومن العمال، فيعملون ويسبحون بحمده ويستغفرون للذين آمنوا وهم العمال الذين يحبهم الله.
"فسائر الخلق المكلفين يبغضهم الله إلا المؤمنين
منهم" ولذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[4]،
سائر الخلق المكلفين يبغضهم الله إلا المؤمنين، والملائكة يحبون المؤمنين لأن الله
يحبهم فهم يوافقون ربهم في المحاب.
ولذلك نُجرّم من أنفسنا ونخاف أن يقع في قلبنا حب
الكافرين، فإن حب الكافرين فيه عدم موافقة لرب العالمين، فكيف تحب من تعرف أن الله
يبغضه!
"فمن محبة الملائكة لهم دعوا الله" هم يحبونهم
لإيمانهم
"واجتهدوا في صلاح أحوالهم؛ لأن الدعاء للشخص
من أدل الدلائل على محبته، لأنه لا يدعو إلا لمن يحبه" فمعنى ذلك أن الملائكة
تحب الله وتحب من يحب الله، والمؤمنين شعارهم محبة الله، فالملائكة تدعوا للمؤمنين
لاشتراك الملائكة مع المؤمنين في محبة الله.
أيضًا من الفوائد قال:
"وتضمن ما شرحه الله وفصله من دعائهم بعد قوله:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}" قال: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فقال: "فيه التنبيه
اللطيف على كيفية تدبر كتابه"
وهذه المسألة التي ذكرها في أن هذه الجملة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، فيها كلام
عن التدبر مهم يحتاج مناقشة تفصيلية، نسأل الله أن نُرزق له وقتًا لمناقشته لكن الحقيقة
كلام مهم جدًا يحتاج كل من يشتغل في تفسير القرآن أن يهتمّ بالدلالة التي خرج بها الشيخ
من هنا.
في آخر كلامه قال:
"وتضمن ذلك" يعني تضمن دعاءه أيضًا
"أن المقارن من زوج وولد وصاحب، يسعد بقرينه،
ويكون اتصاله به سببًا لخير يحصل له" المعنى أن الأصحاب والقرناء والأبناء والآباء
يسعدون بهؤلاء الذين يعيشون معهم أو لهم صلة بهم، يكون اتصاله به سببًا لخير يحصل له
.
"خارج عن عمله وسبب عمله كما كانت الملائكة تدعو
للمؤمنين ولمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وقد يقال: إنه لا بد من وجود صلاحهم"
لابد أن يكونوا هم بنفسهم صالحين، لكن ما الفائدة من صالح ويقارن صالح؟! فيكون الدعاء
له ابتداءً والدعاء له تبعًا، يعني هذه المرأة وهذا زوجها كلاهما صُلّاح ينتفع كل واحد
من الآخر، فيُستغفر له بعينه لأنه صالح، ويُستغفر لقرينه، فتصبح المغفرة لكل واحد منهم
أتته من جهتين: من جهة نفسه ومن جهة أنه قارن الصالح، فتكون المغفرة أتت من الجهتين. الزوج تدعوا له الملائكة بالمغفرة وأن يُغفر لزوجته،
والزوجة تدعوا لها الملائكة بالمغفرة وأن يُغفر لزوجها، فأتى الاستغفار للزوج من جهتين
من نفسه ومن قرينه، وللزوجة من جهتين من جهة نفسها ومن جهة قرينها.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}
فهذا ماهو إلا منّة الله والله واسع عليم، أبواب الخير والمغفرة والصلاح واسعة، فمن
أقبل على الله ربح، فإنّ ذكره واستغفاره سبحانه وتعالى كل هذه أبواب تزيد العبد قربًا
وصلاحًا.
ولذا في يومنا هذا وأيامنا المقبلة بل وفي كل حياتنا
لابد أن يكون شغلنا الشاغل القبول، فإنّ أكثر ما يزعج النفس ويخيفها في هذه الأيام
وغيرها أن يجتهد المجتهد ويصوم الصائم ويقوم القائم ويتلو التالي وهو قد فعل فعلًا
يُمنع فيه من باب الله، فنسأل الله أن يقبلنا جميعا ويجعلنا مخلصين تائبين عائدين
مقبولين نحن وذرارينا ووالدينا ووالديهم وجميع المسلمين، اللهم آمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك
وأتوب إليك.
انتهى اللقاء بفضل
الله..