السبت، 25 أكتوبر 2014

(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)


 
بسم الله الرحمن الرحيم
أخواتي الفاضلات، إليكم سلسلة تفاريغ من دروس أستاذتنا الفاضلة أناهيد السميري حفظها الله، وفّق الله بعض الأخوات لتفريغها، ونسأل الله أن ينفع بها، وهي تنزل في مدونة (عِـلْـمٌ يُـنْـتَـفَــعُ بِــهِ)
تنبيهات هامة:
- منهجنا الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
- هذه التفاريغ من اجتهاد الطالبات ولم تطلع عليه الأستاذة حفظها الله، أما الدروس المعتمدة من الأستاذة فهي موجودة في شبكة مسلمات قسم (شذرات من دروس الأستاذة أناهيد)
http://www.muslimat.net/
- الكمال لله عز وجل، فكتابه هو الكتاب الوحيد الكامل السالم من الخطأ، فما ظهر لكم من صواب فمن الله وحده، وما ظهر لكم فيه من خطأ فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله..
والله الموفق لما يحب ويرضى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

محاضرة أُلقيت في الكويت يوم الجمعة 9 جمادى الأولى 1434هـ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمده سبحانه وتعالى ونشكره أن شرح الصدور للعلم -ولا تنشرح الصدور إلا بأمره-
ونحمده سبحانه وتعالى ونشكره أن حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا -وهو الذي يحبّب الإيمان ويزينه في قلوب الخلق-
نسأله سبحانه وتعالى أن يزيدنا إيمانا وأن يثبتنا ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))[1].
والإيمان هذا الكنز العظيم الذي وهبه الله -عز وجل- للخلق طريقك إليه بالاعتماد على الله.

نناقش قوله تعالى في سورة النحل:
{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[2].
هذه الآية العظيمة أتت في سياق عجيب، سياق يمتنّ الله فيه على خلقه بنعَمِه، فلما بدأت هذه السورة بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي سيأتي أمر الله، والمقصود به يوم القيامة.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} العظيم الكريم من مثله؟! ليس كمثله شيء.
ثم يقول سبحانه وتعالى واصفًا فعلًا من أفعاله العظيمة: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ} ينذرون ماذا يقولون؟ { أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}.
فنجد في هذه الآيتين التي ابتدأت بها سورة النحل أركان الإيمان:
1.    في قوله تعالى: (أتى أمر الله) الكلام عن يوم القيامة، الإيمان باليوم الآخر.
2.    وفي قوله: (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا ) الإيمان بالله.
3.    وفي قوله: (ينزل الملائكة) الإيمان بالملائكة.
4.    وفي قوله: (بالروح من أمره) المقصود به القرآن، الإيمان الكتب.
5.    وفي قوله: (على من يشاء) الإيمان بالقضاء والقدر، أنه سبحانه وتعالى يشاء ويختار، ومشيئته واختياره تابعة لحكمته.
6.    وفي قوله: (على من يشاء من عباده) والمقصود بالعباد هنا هم الرسل الذين يختارهم الله تعالى، الإيمان بالرسل.

ثم يأتي في السياق ما يدل على استحقاقه سبحانه وتعالى للألوهية، حيث أمر الخلق أن يؤلهوا ويعظموا،  وأرشدهم إلى نعمه عليهم وكيف أنه سبحانه وتعالى يستحق أن يكون وحده المحبوب، وحده المعظم، فقال لنا سبحانه وتعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وكلمة (بالحق) كلمة عجيبة، كأنه يقال (لا إله إلا الله) هي الحق؛ لأن معنى لا إله إلا الله : لا أحد يستحق أن تحبّه وتعظّمه وتتذلّل بين يديه وتكون عبدًا له إلا الله، فأتت السماوات والأرض تشهدان بهذا الحق.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} تدلّك على الحق، وهذه الجملة في الآية سنحتاجها ونحن نشرح الآية التي هي مقصودنا (وعلى الله قصد السبيل) أي لا تنسى أن الله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

ثم يقول سبحانه وتعالى بعدما ذكر لنا أنه خلق السماوات والأرض بالحق من أجل أن تدلّك على الحق {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}.
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} من نطفة حقيرة، { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، وآية النحل تشبه آية سورة يس {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[3] إلا أن هناك فرق في السياق، ففي يس كان على وجه العتاب للخلق الذين يخاصمون ربهم في حقه، وهنا أتت على وجه الامتنان -والله أعلم-.
تصور أنت أتيت من نطفة ثم وصلت حتى بلغت أن تكون لحما وتأتي إلى الأرض ما تستطيع أن تعبر عن حاجاتك إلا بالبكاء، ثم يفصّحك فتنطق فتستطيع أن تعبّر عما في وجدانك، فكان المطلوب أن أول ما تستطيع أن تعبر ما في وجدانك توافق ما فُطرت عليه من التوحيد، لأنك فطرت على التوحيد، فمِنَ المنن العظيمة قدرتنا على الفصاحة والبيان.
ثم انظر لهذه النعم { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} والأنعام خلقها لنفسها؟ لا، بل لكم، ماذا لكم فيها؟ {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
ثم يقول سبحانه وتعالى {وَلَكُمْ} ولكم أنتم، ولكم ماذا؟ { فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ليس فقط مصالح مادية، لا بل أيضا جمال، لذلك لما تسمع في سورة الأعراف لما أنزل الله -عز وجل- آدم إلى الأرض امتنّ عليه بأن كساه لباسًا، وأيضًا وريشًا.
المقصود أنك تعيش على درجة الرفاهية، هذه الحيوانات التي تنتفع منها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون، ليس فقط انتفاعًا ماديًّا بل أيضا معنويًا، وهذا دليل على أن الناس يستمتعون لما يذهبون لحديقة الحيوانات، نستمتع بجمال ما خلق الله.

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا الكلام عن الأنعام، ماذا تفعل في السفر؟ تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس، أرأيت ما معنى شق النفس؟ أي بالتعب، ولم سمي التعب شق الأنفس؟ شق الشيء نصفه، فكأنك أنت ما تبلغ البلد إلا وقد ذهبت نصف قوتك، فالله -عز وجل- سخّر لك هذه الأنعام.

ثم يمتنّ علينا -ولا زال في الكلام حول الانتقال، لاحظوا أننا نتكلم عن السفر-:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} لكننا الآن نسافر ونركب أشياء أخرى غير البغال والحمير، فيقول سبحانه وتعالى {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}فتركبون ما يخلق الله.
السياق كله في الكلام حول المنّة، المنة بالأنعام خلق السماوات والأرض، ثم خلق الإنسان من نطفة والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع.

ثم يعود السياق مرة أخرى للكلام على المنن {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} الكلام الذي قبل هذه الآية يتكلم عن نعمة الأنعام؛ وكيف أنها تفيدك في السفر، ثم سيأتي كلام على أنه أنزل من السماء ماء إلى آخر السياق، في الوسط {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يأتي هنا السؤال المهم:
ما مناسبة هذه الآية في السياق؟ فيكون الجواب الذي لابد أن يكون بعد تأمّل وفهم ثم تفهم ماذا يجب عليك.
أولًا كنا نتكلم عن السفر المادي، وعلى أنك تركب مثل هذه الأدوات من أجل أن تصل، الآن تسمع {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي كأنه يقال لك أتشعر بالسفر المادي؟ تشعر كيف تركب الدابة من أجل أن تسافر؟ وبالطبع أنك في سفرك تخاف أن تضيع، تخاف أن تضل، وهذا أكثر شيء يخيفك في السفر، فإذا فهمت هذا في السفر المادي انقل هذا إلى المعنوي!
واعلم أنك في طريقك إلى الله تعالى مسافر، مسافر بأي شيء؟ هناك الخيل والبغال والحمير تركبها من أجل أن تسافر، وهنا تسافر إلى الله بِرُوحك، فأصبح السفر المادي يدلك على السفر المعنوي.
وإذا كنت تستدلّ على السفر المادي وعلى الطرق بخبرة الخلق، فاعلم أن الاستدلال على طريق الله لا يكون إلا بالاعتماد على الله.

ß  ما معنى ومنها جائر؟
عندما تخطئ الطريق وتدفع ثمنًا من وقتك ومن أعصابك ومن أوضاعك ومن مقاصدك... وقد يفوتك مقصدك نتيجة أنك أخذت مسارًا خطأً أو اتجهت اتجاه خاطئ، أرأيت كيف تخاف من الضياع، والضياع دائما له ثمن، ثمن من وقتك وثمن من جهدك وثمن من أعصابك، وأحيانا لا تستطيع أن تعود مرة أخرى إلى الطريق السليم، فماذا يقال لك؟
كما أنك تخاف خوفًا شديدًا من الضلال في الطريق المادي فتسأل الخلق أين الطريق؟! لابد أن تخاف خوفًا شديدًا من الضلال عن طريق الله.
ووقت ضلالك عن طريق الله لا تستطيع أن تعود، غالبًا الإنسان لما يشق طريقه بعيدا عن طريق الله ويُصر أن هذا هو الطريق الصحيح، يحصل له ما قال ربنا في سورة النور {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء}[4] أرأيت كيف الشمس ظاهرة، والسراب لا يأتِ إلا والشمس ظاهرة، فالطريق المفترض أن يكون واضح، ومع ذلك هو مُصرّ على أن هذا هو الطريق ويمشي وهو شديد الظمأ ومع ذلك يسير في الطريق الخاطئ، فلما يصل يجده سرابًا!
ولذلك الله -عز وجل- يقول في وصفه {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} عاش حياته على (يحسبه)، ما معنى ذلك؟ عاش حياته على (أحسب وكنت أعتقد وكنت أظن..) لكن هذا كله لا ينفعه في سفره إلى ربه لو ضلّ وأصرّ على ضلاله ستكون النتيجة في نهاية الأمر يجد نفسه في الهلاك، لابد أن يهلك! مع شعوره بالطمأنينة يظنّ أنه سائر في الطريق الصحيح وهو في أمس الحاجة لأنه ظمآن.
فإذن وأنت تسير إلى طريق الله لا تشتت نفسك، وأنت تسير إلى طريق الله كن على حذر شديد من أن تعتمد على رأيك

ß  ما معنى (قصد السبيل)؟
-      السبيل بمعنى الطريق.
-      والقصد بمعنى أن تصل إلى غايتك أسرع ما يكون وأقصر ما يكون.
مثل ما قال الله -عز وجل- في حق موسى عليه السلام: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ}[5] أي اهدني الطريق السريع الذي يوصلني مباشرة إلى مقصودي، فهذا قصد السبيل وسواء السبيل كلها يقصد بها الطريق التي توصلك مباشرة إلى مقصودك وهدفك، ما تحتاج وأنت تسير إلى أن تدخل متاهات ثم تعود، فلما تدخل متاهات ثم تعود للطريق لابد أن تكون مجهدًا، ولابد أن تكون هناك آثار من ضياعك، لابد يكون وقتك قد ذهب.
فتخيل شخص سائر إلى الله وتاه عن الطريق ست أو سبع سنوات، ويعتقد نفسه أنه سائر على الطريق المستقيم وهو بعيد، وقد دخل في شيء من البدع ودخل في شيء من الضلال المغلف الذي لا يدري عنه، أو ضعف إيمانه أو نقص يقينه ثم يعود، ومن تاب تاب الله عليه، لكن هذه السبع سنوات ماذا تفعل بك؟ لابد أن يكون لها آثار عليك.
فكأنك تقول لنفسك وأنت تقرأ هذه الآية أني أريد أن أعرف الصراط المستقيم الذي يوصلني أسرع ما يكون ويكون سيري فيه بهمة مناسبة للصراط؛ لذلك إن أردت هذه المقاصد يقول الله -عز وجل- (وعلى الله قصد السبيل).
سنخرج بعبادة غاية في الأهمية نحتاجها بعدد أنفاسنا وهي عبادة الاستهداء.
ما عبادة الاستهداء؟ مبنية على أي شيء؟ متى تحتاجها؟ في أي وقت ستمارسها؟

قبل أن نناقش عبادة الاستهداء التي هي العبادة القلبية أذكركم بأصل الأمر، وهو أن الله -عز وجل- ما خلقنا إلا لنعبده، ونكرر هذا المفهوم مرارا وتكرار ولابد أن يكون واضحًا بيّنًا في ذهنك، الله -عز وجل- ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، ويجب عليك أن تفهم ما هي العبادة؛ أنت ما خُلقت إلا للعبادة أي أن ليلك ونهارك ما دام عقلك واعي معك فوظيفتك العبادة.
على ذلك {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[6] هل المقصود فقط العبادات البدنية؟ لن يكون هذا المقصود، أنت ما خلقت إلا للعبادة؛ من أن يكون عقلك معك لابد أن يكون دورك في الحياة أن تعبد، أي طول ما أنت مستيقظ في النهار أو في الليل وظيفتك العبادة، ولا يمكن أن يكون هذا محقق بمجرد العبادات البدنية، لابد أن يكون محقق بالعبادت القلبية.
فعلى قدر أنفاس يجب عليك أن تقوم بعبادات قلبية، وهذه العبادات القلبية تأتي في أوقات تجتمع مع البدن فتصير عبادات قلبية وبدنية، ولذلك ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[7].
المقصود أنك تعبد الله ليل ونهار بقلبك، وأنت حارث همّام، لا تنفك أبدا عن القرارات، طوال الوقت يكون عندك اضطرابات لتقوم بعبادات، فلما تكون شخصيتك مثلا ذات تردد، شخصيتك هذه تفتح لك بابًا لعبادة مهمة، فلما الله -عز وجل- جعلك من هذا الطبع ليس لتعرض ما أنت فيه على الخلق، لا، وإنما من أجل أن تنتفع من هذا الطبع بأن تقف بين يدي الله -عز وجل- . طوال الوقت أنت عندك حاجات وعندك مستلزمات وعندك هموم وعندك أشياء تهتم بها، فيقال لك سلّط على اهتماماتك وعلى ما تعتني به سلط عباداتك القلبية، فكلما احتجت شيئا افزع لمن يملكه، فإذا لم تفعل ذلك اختيارًا جرى عليك من الأقدار ما يجعلك تفعله اضطرارًا.
 بمعنى: نحن كلنا دول الخليج الماء عندنا من زمن قريب كان الأهل يشربوه بترابه، ما ننكر ماضينا القريب، ولا أحد يقول لك مرض الكلى ولا شيء، إنما (بسم الله) كانت تنفعهم غاية النفع! الآن نحن عندنا مياه صحية، فمال القلب إليها واعتمد عليها، فما قمنا بالوظيفة من أول ما احتجنا ((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ))[8] ما قمنا بالوظيفة من أول الوقت فحصل علينا من الأحداث ما أصبح يضطرنا للقيام بالوظائف القلبية، فَعُد عدد المرضى الذين أصيبوا بالفشل الكلوي أو ضعف في ِكلاهم وهذا من هنا وهذا من هنا، والسبب؟ أن هناك وظائف كان يجب عليك أن تقوم بها اختيارا، فلما ما قمت بها اختيارًا، دُفعت إليها اضطرارًا؛ حتى تتذلل لله وتقف وتقوم بالاستغاثة والاستعاذة والدعاء، فأنت دورك في الحياة أن تبقى عابدًا.
من رحمة الله ورأفته بعباده أن يدفعهم إلى أبواب طاعته، فالدفع لأبواب الطاعة أن يحصل عليك من الأحداث ما يجعلك مضطرًا أن تعبد هذه العبادات بقلبك، المفترض أنك طوال الوقت تشعر كأنك على خشبة في بحر، لكننا نشعر بالأمان، فتأتيك من الاضطرابات المتكررة التي تضطرك لأن تلجأ وتستهدي وتنكسر وتتذلل بين يديه سبحانه وتعالى.
إذا فهمنا أن دورنا أصلا هو العبادة بقلوبنا أتانا أحد العبادات المهمة جدا التي نحتاجها بعدد أنفاسنا والمواقف التي تمر علينا وهي عبادة الاستهداء.
عبادة الاستهداء مفهومها: أن تشعر بضعفك وفقرك وعدم قدرتك على معرفة الطريق الصحيح في كل موقف تعيشه بل وفي الحياة على وجه العموم!
عبادة الاستهداء مبنية على شعورك بالضعف بالفقر. أي نوع من الضعف والفقر تحتاج؟ الضعف والفقر هذا الذي مداره على فكرك، نحن ضعفاء بأبداننا، فقراء، وأيضًا ضعفاء بعقولنا وأفكارنا، كم مرة احتلنا لأنفسنا حيلة أوقعنا نفسنا في مصيبة بحيلتنا التي إحتلناها! فشعورك أنك فقير، ضعيف، تحتاج أن تهتدي في تفاصيل قراراتك، مشاعر الضعف والفقر تدفعك أن تمارس عبادة الاستهداء، لكن لمَ نحن مستغنين عن عبادة الاستهداء وما نشعر أننا نستهدي الله في كل قراراتنا وتفاصيلها؟!
السبب أن كل ما زاد الزمان كلما وثق الناس في أنفسهم، وشعروا أنهم قادرين على اتخاذ قرارات صائبة، والمشكلة أنهم يقولون في أذكار الصباح والمساء ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ))[9] إذن أنت تعرف أنك لو وُكِلت إلى نفسك، لابد أن يحصل الخذلان.
غياب مفهوم أننا فقراء، ضعفاء -في أبداننا وفي فكرنا- جعل عبادة الاستهداء عبادة ضعيفة، ولذلك الله -عز وجل- يقول {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي اعتمد على الله إن أردت أن تقصد أي سبيل يوصلك إلى الله، اعتمد على الله لكي يهديك أي سبيل تسير إليه.
وهذه العبادة نحن الآن في أمس الحاجة لها لما هو حاصل حولنا من كثرة الآراء وتشتتها.
مثلا تقلب القنوات التي تسمى القنوات الدينية، تسمع في القناة الأولى ضد ما تسمع في القناة الثانية، والثالثة ضد ما في الرابعة وهكذا، وفي نفس القناة تأتي بشيخ يقول كلام وشيخ آخر يقول كلام عكسه، وأنت تبقى طوال الوقت تقول ما آخرتها؟ حلال أو حرام؟! هذا واقع والناس تعاني منه، ما الحل؟
أولًا أنت بدأت المسألة خطأ، قلبك يجب أن يكون تام الاعتماد على الله في طلب الهداية.
تقول أن هؤلاء العلماء مصابيح يدلونا في الظلام، نقول نعم مصابيح يدلوك في الظلام لكن أنت تستنير بهدى علمهم بعد أن تتذل بين يدي الله، هم يمدّون يدهم لك ليساعدوك لتصل إلى الله -عز وجل- ولا يقفون بينك وبين الله، فكن حذرا من هذا المفهوم، ضعهم في المكان المناسب، ونحن بحاجة ماسة لعلمائنا الربانيين، لكن لا تجعلهم قاطعي طريق بينك وبين الله، إنما انكسر بين يدي الله، وكن تام الذل له، وهو الذي يشرح صدرك لتصل إلى الطريق المستقيم وينشرح صدرك للحق وتعرف القويم من غير القويم، كل هذا ليس بيد أحد من الخلق، كل هذا بيد الله -عز وجل-.
إذن {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} معنى من المعاني العظيمة التي تدفعنا إلى عبادة عظيمة وهي عبادة الاستهداء، وهذه العبادة ستشعر بقيمتها إن شعرت جيدا أنك في طريق سفر مظلم في الليل لا مرشد ولا دليل ولا أحد ينفعك، ما تستطيع أن تحرك ساكنا إلا أن يهديك الله أين هو الطريق، والله -عز وجل- في كتابه كرر أن الخوف من الظلمة وأن هذا الكتاب يخرجهم إلى النور من الظلمات إلى النور، فإذا تشبعت بمعنى أنك في ظلمة وتشبعت بمعنى أنك في سفر وتشبعت بمعنى أنك تحتاج إلى معرفة الطريق المستقيم وليس لك في معرفة الطريق المستقيم إلا بالاعتماد على الله تعالى، فإذا اعتمدت على الله وطلبت منه الهداية سخّر لك من يمسك بيدك فيدلك الصراط المستقيم.
ولذلك السلف رحمهم الله يقولون "إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسّك -أي إذا أصبح ذا دين- أن يؤاخي صاحب سنة فيحمله عليها" لكن من أين تأتيك هذه النعمة؟ ما تأتيك إلا لما أنت تكون ذا ذل وانكسار بين يدي الله.
إذن عبادة الاستهداء أول موطن تحتاجها هو وقت سيرك إلى الله.  وهذه لن تشعر بها جيدا إلا لما تعرف وصوفات الحياة، أنت في ظلمة تحتاج إلى نور، أنت ميت تحتاج إلى حياة إلى روح، أنت في طريق سفر، التيه أقرب لك من الهداية، فإذا فهمت هذا كله أصبحت شديد التمسك بطلب الهداية من الله.
وأنت تفهم هذا جيدا لو خرجت مثلا في طريق من الكويت إلى المملكة في الليل، وسرت الطريق صحراء ولا تعرف أي مخرج يخرجك أو يدخلك، صحراء وظلمة ولا أدلة، مالك في هذه اللحظات إلا أن تقول (يا الله)!
فإذا كنت تخشى على بدنك أن يهلك وأنت في طريق سفرك، فالواجب أن تخشى على روحك أن تهلك
لأن لو هلكت لا نجاة، لكن إذا هلك البدن آخرتها وأقصاها الموت في الحياة لكن إذا هلكت الروح انتهى أمر الخلق!.
إذن أول موطن من مواطن استعمال هذه العبادة العظيمة هو أن نطلب الهداية على الطريق المستقيم الذي يوصلنا إلى الله، ولا تنسى {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} ما معنى جائر؟ أي وأنت سائر في هذا الطريق المستقيم هناك تحويلة بسيطة زاويتها بسيطة جدا، لكن لو دخلتها ستخرجك من الطريق تمامًا، ستترك الطريق المستقيم فيه تمامًا، وترك الطريق الذي كنت سائر فيه، وأنت في بداية الأمر تقول فقط شيء بسيط، أنا لن أرتكب بدعة أو كبيرة شيء بسيط الذي أفعله، هذا الشيء البسيط ماذا يفعل بك؟ يخرجك تمامًا عن الطريق المستقيم.
إذن أول الأمر وأهمه في عبادة الاستهداء هو أننا ونحن سائرين إلى ربنا يجب علينا أن نستغيث به سبحانه وتعالى أن يدلنا على الطريق المستقيم الذي يوصلنا إليه ونطلب منه أن يحفظ قلوبنا من الجائر من الطرق، وهو وحده الذي يدل خلقه الطريق، وهو وحده الذي يحفظ خلقه من الطرق الجائرة، وحده لا شريك له، فلا يميل قلبك أبدا لأي سبب آخر تظن أنه سبب لهدايتك، ولا يميل قلبك أبدا لأي سبب آخر تظن أنه سبب لحفظك من الانحراف، لا تظن أن أحدًا يدلك على الصراط المستقيم ويحفظ عليه ويمنعك من أن تنزلق قدمك على الطرق الجائرة إلا الله، إذا ما حفظنا سبحانه وتعالى استحسنت عقولنا الطرق الجائرة.
تخيلي أنك سائرة في طريق مستقيم يوصلك للمكان الذي تريديه هذا هو الطريق المستقيم لكنه زحام، طويل، ثم هناك مخرج فارغ فتقول لنفسك –يلعب عليك الشيطان- اذهب من هنا قد تجد طريق تسير فيه، فلما تذهب لن تستطيع أن ترجع، انتهى ..! هكذا نفوسنا تقول.
وهكذا الطريق إلى الله، أنت سائر ومسافر في الطريق وعلى الله قصد السبيل، تسير ووجدت الطريق صعب لأي سبب، وهناك طريق ثاني شكله سهل، وقلبك يميل له، وهناك أشياء فيه تثيرك، فتمسكه، (منها جائر) لو مسكته تذهب بعيدا عن الطريق المستقيم!
في لحظة واحدة ممكن أن تضع قدمك في طريق غير صحيح وينتهي بك الأمر وتكون خارج الطريق المستقيم، ما في أحد يبيت ليلته مستأمن نفسه أن تزيغ إنما بت ليلتك وأنت متعلق بالله أن يحفظ عليك إيمانك.
فإذا كنت تريد الهداية فعليك بتوحيد الله بطلبها، وهذا الكلام نقوله في هذا الوقت لأن عقولنا قد باتت في حال من الضوضاء، وهذا يقول هكذا الطريق وهذا يقول لك هنا الطريق وتعال اتبعني هنا الطريق المستقيم، وهذا خطأ وهذا صح، إلى أن ضجت عقولنا لا ندري أين نذهب! ليس على الخلق قصد السبيل، بل وعلى الله قصد السبيل.

الآن سنتكلم عن أمر آخر وهو أننا نطلب الهداية من الله في كل شأن يخصنا..
أنت تريد أن يهديك الله -عز وجل- للطريق إليه، عندنا أمور كثيرة حولنا نحتاج فيها الهداية، اهتدي ما الذي يرضيك يارب في تعاملي مع هذا الزوج، في هذا الموقف، في هذه الحالة، اهديني لما يرضيك عني.
مثلا نسبة الطلاق ترتفع في المجتمعات لأن الناس يعتقدون أن آراءهم في هذا الموقف هي الصحيحة وأن انتقادهم للرجل أو المرأة هي الصواب، وأن ردود أفعالهم تجاه ما يحصل من أحداث هي الموفقة الصحيحة، ثم اسأليه أو اسأليها، كم استهديت الله وأنت تتصرف هذا التصرف؟ كم استهديت الله وأنت تقول هذا الكلام؟ كم استهديت الله وقت ما أردت أن تخرج من بيتك أو تخرجي من بيتك أو تفعلي وتفعلي؟ كم حصلت عبادة الاستهداء!!
وعبادة الاستهداء لها شروط، لا أكون مصر واتبع هواي ثم أقول يارب وفقني واهديني لأصل للصراط المستقيم وأنت مليء بهذه المشاعر المانعة لك من أي تفكير صائب، تكذب على الله إن قلت اهدني للصراط المستقيم وأنت في وجدانك ما تريد إلا ما تريده، ما تريد إلا هواك!
المقصود إننا نحتاج لعبادة الاستهداء في كل قرار نأخذه في حياتنا، مهما كان عندك من حيثيات ومعطيات على أساسها نتخذ القرار، الناس في فلسفة اتخاذ القرار يقولون أعطني معلومات أنا أعطيك قرار، نقول مهما جمعت من معلومات وصار عندي شيء كثير من الحيثيات وفهمت كثير عن الموقف في نهاية المطاف لن أستطيع أن آخذ قرارًا سليمًا إلا إذا عبدت الله بعبادة الاستهداء، فأنا أحتاج عبادة الاستهداء وأنا أسير إلى الله، أنا أحتاج عبادة الاستهداء وأنا أتصرف في حياتي وأتخذ قراراتي..
ومثله في تربية أولادنا، كثير من الأحيان نتخذ قرارات تحت الضغوط من أبنائنا أو من عوائلنا دون أن نمارس عبادة الاستهداء، فنطلب من الله أن يهدينا كيف نتصرف تصرفًا سليمًا تجاه هؤلاء كما ينبغي وكما يرضي الله.  عندنا أبناء كثيرا ما تكون شخصياتهم نعبر عنها بأنها مترددة، هكذا ربنا خلقها وابتلاك بهذا الشيء، أفعل أو لا أفعل، أذهب أو لا أذهب، فدائما معتمدين على المشاورة، أسأل هذا وأشاور هذا، فأين عبادة الاستهداء بحيث تكون هذه الاضطرابات والتغييرات والظروف التي تمر عليك أدخلتك أنواعا من العبادة!
إذن تغيب عبادة الاستهداء في أمور خطيرة، في أمور مصيرية، نحن ندعوا الله -عز وجل- أن يهديهم هم وما نطلب من الله أن يهدينا كيف نتصرف معهم، فأنت استهدي الله اطلب الله أن يهديك كيف تتصرف، الشخص الذي أمامك له مفتاح، فاطلب الله أن تمسك مفتاحه، فيكون في ميزانك.
هي عبادة ليس فيها دعاء، هي عبادة تفعلها بقلبك..
انظري كيف نفسياتنا مختلفة وطباعنا مختلفة، هناك أشخاص شخصياتهم ستولد لهم العبادات من جهة أنهم دائمي الخوف، عندهم اضطراب من جهة الخوف، فالعبادة دائما التي يعيشونها الغالبة على حياتهم هي طلب الأمان، اطلب من الله -عز وجل- أن يُؤمِّنه، أن يُسكِّنه، وشخص سيء الظن فيقوم بعبادة يسأل الله -عز وجل- بها أن يحسن ظنه.
فنحن شخصيات مختلفة تساوي أنواع من عبادات مختلفة كلها تدور حول استغاثة بالله، والذل بين يدي الله، والفقر له سبحانه وتعالى، والشعور بالحاجة التي لا تنقطع، فأنت لو وضعت يدك على مشكلتك وشعرت نفسك أنك متردد فتأتي في نفس الموقف تعرف أن عبادتك الآن أن تستهديه وتطلب منه أن يدلك الطريق ولا تحتاج إلى الجماعة الذي كنت تشاورهم ولا تشعر بمشاعر الندم بعد الاستهداء أبدا.
طباعك الشخصية تدفعك إلى أنواع من العبادات، هذه نعمة من الله؛ لأن لما يكون إنسان قوي العقل حاد الذكاء يكون مكانا للفتنة العظيمة، وفي عبادة الاستهداء كلنا بلا استثناء مهما طالت خبرتنا في الحياة مهما كنا شديدي الفهم لابد أن نقف مواقف نشعر فيها بالحرج، ما أعرف أن آخذ قرار على اليمين أو على اليسار، أمنعه من الخروج أو أأذن له، أعطيه أو أمنعه، أشتري أو أبيع، دائما نحن نعيش هذه المواقف، في النهاية أنت على قدر قراراتك على قدر حاجتك إلى عبادة الاستهداء.
تصوري لو كنت مثلا مسؤولة عن خمسة أطفال كل واحد من هؤلاء لابد أن تقومي معه في تربيته بعبادة الاستهداء، ولو كنت مديرة لمدرسة؟! كل هذه القرارات التي تتخذينها بدون استثناء تحتاج إلى عبادة الاستهداء، وهكذا.
إذن أنت تحتاج إلى عبادة الاستهداء وأنت سائر إلى ربك تريد الصراط المستقيم.
وفرع من هذا أنت تحتاج إلى عبادة الاستهداء في كل قرار تأخذه في حياتك.  
وأكثر شيء يؤثر علينا قراراتنا في علاقاتنا، إن مما ينقصنا خاصة النساء وقت تكوين علاقاتنا مع الناس الذين نعيش معهم، قريبين بعيدين، زملاء، غالبا ما نترك أمر اتخاذ القرار هذا زميلي وأدخله بيتي وأعايشه أو لا، غالبا ما نترك هذا القرار مائلا إلى الهوى! وما ندري أن (ومنها جائر) الطرق التي منها جائر من أخطر ما يجر الإنسان إلى الجائر من الطرق هو الصحبة.
وفرع من استهدائك أن تستهدي الله -عز وجل- أن تسير في الطريق الذي يوصلك إليه.
إلى أن نصل إلى أمر دقيق جدا من الاستهداء وهو استهداؤك في اختيار الصحبة التي تقبل عليك؛ لأن من أعظم أسباب السير في الطرق الجائرة الصحبة التي يصاحبها العبد، فلذلك هذا قرار خطير في حياتنا، يجب أن نقوم فيه بعبادة الاستهداء.
ثم اعلم أن هذه العبادة لو دربت قلبك عليها تدريبا صحيحا ومنعت نفسك من اتخاذ القرار قبل أن تفعلها بعد ذلك ستكون تلقائية تفعلها مباشرة، تشعر نفسك أنك لا تستطيع أن تتخذ قرار قبل أن تفزع إلى الله، هناك تدريبات تدرب الناس أن تخرجهم عن فطرهم وتجعلهم يعتمدون على أنفسهم اعتمادا كاملا! وهذا يخالف فطرتك؛ لأن فطرتك السوية فيها نداءات قوية تقول أنا ضعيف أحتاج إلى قوي، أنا فقير أحتاج إلى غني، أنا عاجز أحتاج إلى قادر، أنا جاهل أحتاج إلى عالم، فتأتي عبادة الاستهداء موافقة للفطرة السوية، ولما نترك عبادة الاستهداء نخرج منها إلى الضد ويصبح عندي مشاعر الثقة بأن قراري سليم، وأن دائما كل ما أفكر بنوع تفكير نتيجة خبرتي ونتيجة معرفتي أُسدد، فلما نخرج إلى هذا النوع من التفكير تصبح قد خالفت فطرتك التي في أصلها تحملك على طاعة الله والانكسار بين يديه.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله يعلمه دعاء يوافق الفطرة يقول له ((قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي))، ثم يقول له صلى الله عليه وسلم واصفا الأمر ((وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ))[10]
-        اهدني : أي اجعل قلبك يشعر بها، وانظر كيف أنت بحاجة وأنت سائر في الطريق إلى الهداية وكيف تخاف من الضلالة، وكيف تخاف من الضياع، وكيف تخاف من الطرق الجائرة..
-        ثم سددني يعني أن آخذ قرار سديد.
-       (واذكر من سدادك سداد السهم) كأن الشخص يرمي السهم ويأتي في موطنه.

هذا الحديث الآن سينقلنا إلى ما هي الطريقة التي بها أعبد الله بعبادة الاستهداء؟
هناك مشاعر داخل القلب لهذه العبادة.
ß  ما هي العبادات القلبية؟
العبادات القلبية عبارة عن الانفعالات الشعورية التي تشعر بها.  هي حركة للقلب وشعور، أشعر بالرجاء، أشعر بالوجل، أشعر بالخشية، تحصل لي حالة من الإنابة تحصل لي حالة من التوبة والندم.
لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي رضي الله عنه (وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ)، ما الذي يجمع في قلبك هداية الطريق؟ الخوف من الضلال.        إذن:
à  أول عماد للعبادة القلبية التي هي الاستهداء : أن يكون في القلب خوف من الطرق الجائرة
خوف من أن نسير طريق يبعدنا عن طريق الله، عبادة الاستخارة موجودة ومطلوبة، لكن مع عبادة الاستخارة هناك عبادة الاستهداء، أي تطلب منه سبحانه وتعالى أن يهديك إلى القرار الصحيح، وهذه عبادات مساندة بعضها لبعض تعيّشك طوال الوقت مع الله، وتجعلك محققا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، تحقق هذا بأن يبقى قلبك طوال الوقت مع الله.
ü    تستخير فعلًا.
ü    تستهدي قلبًا.
ü    تتوكل عليه عزمًا.
تخاف أن تتصرف مع ابنك هذا التصرف فتكون سببا لرده عن الطريق المستقيم، خائف أن تتصرف مع الزوج فيكون غضب الله عليك لأنك تصرفت بهذا التصرف، خائف أن تشتري هذا البيت فيكون سببا لذهاب البركة... إذن الخوف مصدر عبادة الاستهداء.
الذي يمنعك من عبادة الاستهداء عكسه: الطمأنينة للنفس، الطمأنينة لقراراتنا.
لو وصفنا الأخوة كطريق تسير به إلى الله، إن تركتِ عبادة الاستهداء في علاقتك مع الأخوات اللاتي تصاحبيها وتريدي منبر من نور معهم ستذهب بك هذه العلاقة إلى الطريق الجائر (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)، فنفس الطريق الذي سرته من أجل أن تصل إلى الله يسير بك فيمنعك عن باب الله، فتصبح بدل ما هي أخوة في الله يصبح حب مع الله، ويحصل حالات من الشرك والتعلق والانفلات، أو بالعكس تصبح حالات من الحقد ومن الكراهية ومن البغض ومن التنافس الممنوع، وهذا كله كانت بداية الطريق يريد أن يصل الإنسان إلى الله فجار فيه الطريق؛ لأنه لم يعبد الله بعبادة الاستهداء.
حتى ضيوفك في البيت الذين يأتوك استهدي الله ماذا تفعل معهم، استهدي الله يسد ثغرتك ويستر عليك ويوصلك ولا يصبح الضيوف الذين هم قربى إلى الله بعد عن طريق الله! لأن الضيف هذا أصبح كالهم الثقيل والسبب المجاملات، فبدل ما تستهدي الله ماذا نفعل مع ضيوفنا بحيث نصل للطريق المستقيم الذي يرضي الله وأصبحت عندنا مجموعة خانات نفعلها من أجل أن نرضي أنفسنا وليس كطريق أتقرب فيه إلى الله، ومن أجل ذلك الطريق التي هي إلى الله أصبحت جائرة بنا، في الحديث: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))[11] شرطين عظيمين، وإن حصل الإكرام قد يحصل بدون استهداء، بل من أجل تحقيق الذات تحقيق النفس، من أجل (أنا) وليس من أجل الوصول إلى الله.
تفاصيل كثيرة في حياتنا سنجد أن الطريق إلى الله الواجب علينا هو الاستهداء، فما تسير أول الطريق على أنك في الطريق ثم تجد نفسك قد خرجت من زاوية بسيطة ..

à  الأمر الثاني الذي نحتاجه من أجل أن يدفعنا لعبادة الاستهداء: شعورنا تجاه الأبواب التي توصلنا إلى الله.
علاقتي بوالدي باب من الأبواب التي توصلني إلى الله فأحتاج أن أستهدي وأنا أعاملهم، وأنا أعامل إخواني زملائي أو أشقائي،كل هؤلاء أعرف أنهم أبواب توصلني إلى الله، ما أستثني باب استهدي فيه، ولا أشعر أن هذا الباب أنا لست بحاجة إلى الاستهداء، كأنه نقول تبصّر بالأبواب التي توصلك إلى الله واطلب الله فيها أن يهديك؛ لأن أحيانا كثيرة تغلبنا طباعنا أو تغلبنا خبرتنا فنشعر أن هناك أشياء لسنا بحاجة إلى استهداء فيها، كما تأتينا أشياء نشعر أننا لسنا بحاجة لعبادة الاستعانة فيها.
الاستهداء والاستعانة عبادتين متوازيتين.
مثاله: لما تكوني خبيرة في طبخ طعام معين عبادة الاستعانة تكون ضعيفة، لماذا؟ لأن خبرتك غلبتك في هذه اللحظة، فكذلك ونحن في مواقف كثيري التعامل مع أحداث، أتعامل مع أحد وأقول (يا رب اهدني معه) فيقال لك : ابتعدي أنت، أنا أعرف لهم هؤلاء، وهذا قانون: (أنا أعرف لهم) أو أنا أعرف أن أتعامل مع هؤلاء، أو أنا التي تقضي لك الشأن.. كل هذه الكلمات تقطع عليك عبادة الاستهداء.
إذن أنا أخاف أن أعمل عمل يجعلني بعيدا عن باب الله، وأيضا يجب علي حتى أعبد الله بعبادة الاستهداء أتلمس الأبواب التي توصني إلى الله وأتحسس ضعفي، كلما شعرت بالقوة حصل لك الاستغناء  {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[12] فهذا شيء يخيفنا أن نأتي في لحظة ونشعر أننا في حال غنى عن الله.

à  الأمر الثالث الذي يأتي بعبادة الاستهداء: أن أنظر إلى وجه آخر لعطايا الله وهي أنها فتنة واختبار.
أي أن العطية التي أتتك على طاعتك تعتبر فتنة واختبار، الدليل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} نتيجة أنهم طائعين، بعدها ربنا يقول: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}[13] فكونك ربنا يعطيك عطية على استقامة سرت فيها لابد أن تنظر إلى وجه الفتنة في هذه العطية، فتستهدي الله كيف تتصرف معها.
فلو طلبت الولد فوهبك إياه، هذه عطية لها وجه آخر وهو أنها فتنة، فلما ترى الوجه الآخر تشعر أن مطلوب منك أن تخاف وتستهدي الله وتطلب منه أن يدلك على الطريق الذي عليك أن تسيره وأنت تتعامل مع هذه العطية، لماذا نستهديه في هذا الموطن؟ لأن أحيانًا كثيرة نحن نتعامل مع الله بطباعنا! فلما تعامل الله بطبعك بعد ما كنت شديد اللهفة عليها وأنت طبعك ملول، فأنت في غاية الشوق إلى هذه النعمة لما تأتيك النعمة وما تستهدي الله كيف تعامليها، يذهب عنك شوقك إلى النعمة وتعود طباعك، يحصل الملل من النعمة، فيحصل بعد الملل البطر على النعماء!
كم من طالب علم ومحب للعلم بقي يقول يا رب علمني، يا رب دلني على الطريق، يا رب أجد أحد يعلمني.. ربنا رزقه من يعلمه وجلس أمامه ودرس يوم ويومين شهر شهرين وهو مشتاق ومتحمس، ثم بعدها ملّ! نزل منحنى عنايته بالنعمة وسار على طبعه.
إبليس يركب طباع الخلق، ولو أن الخلق استهدوا الله كيف يعاملوا النعمة، دلَّهم الله وأعطاهم الحول والقوة للمعاملة، لكن نحن نعامل النعمة أول الأمر بالشوق، بعد ذلك تختفي ويبقى طباعنا.
انظر كيف لما تكون امرأة لم يهبها الله ذرية ثم وهبها الله ذرية، أول ما تأتي الذرية تعتني بهم ثم يكبروا قليلا وتبدأ الصعوبات في الحياة، فماذا يحصل؟ تعامل النعمة بالبطر وبالملل! وتجد أنه يشعر في لحظات أنه أفضل له لو ما رُزق هذه النعمة!
مثلها التي تكون بدون زوج وبعد زمن من الدعاء يرزقها ربي زوج ولما تطول الأيام بينها وبين الزوج تقول أنا كنت عند أهلي مرتاحة معززة مكرمة!
هذا كله بسبب عدم الاستهداء، لكن لو علمت أن هناك وجه آخر للنعمة وأنها فتنة واختبار يجعلني أهلًا لبقاء هذه النعمة لا أن أتبطر عليها، لا تثق في نفسك أنه لما تأتيك النعمة ستبقى محافظًا على شكر الله؛ لأن أمامك من الأمثلة والأحوال الشيء الكثير الذي لا يحتاج أن يكون شواهد لأن ترى غيرك يعيش مثل هذا، انظر فقط لغيرك كيف كان يتمنى وأنت كنت حاضر أمنيته ثم تسمعه كيف يبطر على النعمة..
مثلا تشعرين بمشقة لأنك ما تملكي خادمة وعشت كم شهر وأنت تعاني، ثم جاءت الخادمة من بلدها ما تتقن لا لغة ولا شيء وتحتاج منك جهد، أنت أول ما عرفت أنها أتت دخل السرور إلى قلبك، بعد قليل وبعد ساعات محددة تأتيك خيبة الأمل! أين عبادة الاستهداء؟! وطلب الله أن يدلك كيف تتصرف؟! وفقير تسنده وضعيف تقويه، وتقوي إيمانه وتفعل وتفعل، أين طلب الاستهداء بحيث يكون هذا في ميزانك؟!
ß  متى أقوم بعبادة الاستهداء؟
*   لحظة شعورك بالحيرة.
*   لحظة شعورك بالضيق.
*   لحظة شعورك بالتردد.
*   لحظة شعورك أنك أمام اختيار.
أول ما تشعر أنك أمام اختيار لا تأخذ قرارك على أساس ميلك إلى هواك أو إلى خبرتك أو لحساباتك أو لقاعدة معلوماتك أو بياناتك هذا كله كلام ليس لنا علاقة به، نحن نعرف تماما أننا أتتنا لحظة التردد أو أتانا المفرق في الطريقين من أجل أن يكون من الأرض إلى السماء وليس من أجل الحسابات..
أرأيت لما تكون في طريق سريع والمفرق أمامك، هل أذهب يمين أو أسير، ليس هناك مجال أن تحسب هذا الطريق يؤدي إلى أين، ليس لك إلا أن تقول يا رب!
ولذلك نحن نتفق أن عبادة الاستهداء لن تكون فعالة إلا إذا دائما رددت على نفسك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فكأنك تقول: لِمَ أنا في مجلس ويكون هناك زحام؟ حتى أقول يا واسع وسع لي، أو لِمَ أذهب للطواف وأجد نفسي في زحام؟ حتى أطلب لله باسمه الواسع أن يوسع لي، واطلبه أن ييسر لي، ولِمَ آتي عند الجوازات وأجد المسألة معقدة؟ حتى أقول يا رب سهل لي، فهنا تستغيث، وهنا تستعين، وهنا تستعيذ، وهنا تُنيب، وهنا تتوب.. فهذه الأقدار تجري عليك من أجل أن تقوم بعبادة حتى يكون مجمل حياتك عبارة عن عبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
فالمطلوب بدل أن ندخل أنفسنا بهذه الأزمات نبدأ نحن بالاتجاه إلى الله، نبدأ بالفزع إلى الله، وهناك فرق كبير بين أن تكون مضطر للفزع إلى الله وبين أن تكون مختارًا محبًا تعرف وظيفتك، تعرف أن المطلوب منك الآن أن تفزع فتستهديه، والآن تفزع إليه فتستغيث به، وهنا ترجوه وهنا تخاف منه وهنا تطلب منه أن يقبل منك، فتصبح أمام مجموعة من العبادات القلبية التي لا تنفك عنك أبدا، ومن ثمّ تكون حققت هذا المعنى العظيم وهو {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
في نهاية النقاش حول هذه العبادة العظيمة التي لم نستوفيها حقها، فقط إضاءة، نتكلم عن:
ß  الشروط التي تتحقق بها عبادة الاستهداء :
1-               لا تتحقق عبادة الاستهداء وأنت في حالة من الاستغناء أبدا، إنما شرطها الرئيس هو الشعور بالفقر الشديد، فإن العبد لو شعر بحقيقة نفسه وأنه لا يملك أن يحرك لنفسه أو لغيره مقدار ذرة لابد أن يكون حاله أنه فازع إلى الله، يطلب منه أن يدله الصراط المستقيم.
2-               ثم يأتي بعد الفقر الذل، أي أن هذه العبادة لا تكون عبادة كما ينبغي إلا إذا كنت تام الذل والانكسار بين يدي الله -عز وجل-، كأنك تقول لنفسك أنا لا شيء، إنما الأمر كله لك والشأن كله في التدبير لله.
ومن أجل أن يتحقق هذان الأمران ومن أجل أن تُحسِن في عبادة الاستهداء علينا أن نغذي أنفسنا باسم الله الذي سيجمع لك المعاني وهو اسم (القيوم).
هذا الاسم العظيم أنت تحتاجه في هذه العبادة وفي كل العبادات القلبية، لأنك تقول ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ))[14].
ß   ما معنى أن الله قيوم؟
أنه سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت؛ فهو سبحانه وتعالى الذي يقوم على الخلق يرشدهم ويدلهم، ويحفظهم ويؤويهم، ويبعدهم عن الشرور، فهو سبحانه وتعالى القيوم المدبر للأمور.
فمتى شعرت أنه سبحانه وتعالى يدبر وأنه سبحانه وتعالى قائم على هذه النفوس يدفعها ويمنعها وييسر لها، كانت ثقتك كلها به، وفهمت مامعنى قوله تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ}[15] فتكون كل ثقتك بالله أن يدلك على الطريق الذي يرضاه، وهو قائم على الخلق يدبر شؤونهم سبحانه وتعالى وييسر أمورهم، فكان هذا الاسم مناسب جدا أن تفهم وراءه أمرًا مهمًّا.
اتفقنا أن من أجل أن أقوم بعبادة الاستهداء علينا بالفقر والذل، والفقر والذل معناه أنك تؤمن معنى أن الله قيوم، فإذا فهمت هذا فاعلم أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

نأتي الآن إلى هذه القضية الخطيرة التي يتناولها الناس تناولات تزعجهم، وهي أنك الآن تعبد الله بعبادة الاستهداء وتظهر فقرك وذلّك بين يدي الله، وتعلم أن الله قائم على كل نفس بما كسبت ويدبر الشؤون ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فربما لم أكن العبد الذي شاء هدايته؟! أبدا لا تقل هذا الكلام إنما اعلم أن الله مشيئته تابعة لحكمته.
اسمعوا جيدا واحفظوا هذه الكلمات علَّها تكون لي ولكم نور في حياتنا وتنفعها ونحن في قبورنا ويوم نلقى ربنا:
الله -عز وجل- مشيئته تابعة لحكمته سبحانه، وهو الذي وعد خلقه إن تقربوا إليه شبرا تقرب إليهم ذراعا، فلا يمكن أن تظن بالله لثانية واحدة أنك تتقرب منه طالبًا الهداية ولا يعطيك، مستحيل! {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[16]، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[17].      إذن نحن أمام ثلاث مفاهيم متتابعة:
1- إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن اعلم أولًا أن مشيئته تابعة لحكمته.
2- ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى أخبرك عن نفسه أنه من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، فلا يمكن أن تسيء الظن بالله وتظن أنك تطلب منه الهداية وهو لا يهديك، ولا تقول أبدا (ربي ما أراد أن يهديني) هذا الكلام كذب على الله، أنت لو استهديت الله اعلم يقينا أنه يهديك لأنه سبحانه وتعالى يقول (والذين اهتدوا) أي طلبوا الهداية ماذا فعل بهم الله؟ (زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، وفي مقابل أولئك (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
3- أن الله سبحانه وتعالى جعل حولك أسباب الهداية :
*   خلق السماوات والأرض بالحق فجعل كل شيء حولك يدلك على الهداية.
*   أن الله فطرك فطرة مائلة إلى الهداية.
*   أرسل إليك رسولا وأنزل معه كتابا، وهذا الكتاب فيه النور لو أقبلت عليه وطلبت الهداية من طريقه ماذا يحصل؟ يهديك الله.

فهذه كلها اسمها هداية الدلالة، لما تنتفع بهذا كله مع بعضه تأتيك هداية التوفيق.
إذن استهدي الله واعلم أن طريق الله لا يكون إلا لما تخطو أنت الخطوة الأولى في طلب الهداية، في أي شأن كان تطلب الهداية، تبدأ الخطوة الأولى وأنت صادق تريد الهداية لابد أن يهديك الله، لماذا لابد؟ لأن وعده حق سبحانه وتعالى وهو (المؤمن) الذي إذا وعد لا يخلف وعده، فكيف يرسل إليك رسولا ويجعل الكون كله شاهد على صدق هذه الرسالة ويفطرك فطرة تدلك على هذا كله ثم تقبل عليه فيردك؟! مستحيل، لا تسيء الظن بالله. إنما الناس يستخدمون هذه الحجة لأنها توافق هواهم، بمعنى أن الواحد فيهم لا يريد أن يبذل جهده في طلب الهداية، ولا يريد أن يقف بين يدي الله ذليلا منكسرا، ثم يقول ربنا ما هداني! نقول اعلم أن الله من كمال رأفته ورحمته يعامل الخلق بحلمه فلا يعاجل عليهم بالعقوبة علَّهم يتمسكوا بطريق الهدى ويقبلوا في لحظة، فكيف تقول وقفت بين يدي الله طالبا الهدى وما اهتديت؟!

إذن هذه العبادة العظيمة اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل لها أبوابًا ومن أهم أبوابها التي لا ننفك عنها في طلب الهداية هو ما نقرأه في سورة الفاتحة ونقول {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} عليك الآن أن تحققها وقت ما تقرأ هذه الآية، تشعر بتمام ذُلّك وفقرك وعدم استغنائك وتحارب شعور الاستغناء في قلبك، ومهما كان حولك من عوامل تقول أنك في الهداية، لأن من علامات قرب الساعة أن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا.
وأهم سبب في ذلك الثقة في النفس، الشعور أن قلبه لا يتقلب، ولذلك مما يساندك في عبادة الهداية أن تطلب الله في الفاتحة تقول (اهدنا الصراط المستقيم) وأن تكثر كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).

أسأل الله أن يجعلنا من أهل الهداية والنور والطريق المستقيم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 [1]رواه أحمد في مسنده وسنن الترمذي ، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم.
[2] [النحل9]
[3] [يس:77]
[4] [النور:39]
[5] [القصص22]
[6] ]الذاريات56[
[7] رواه مسلم.
[8] رواه مسلم.
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم،  هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه.
[10] رواه مسلم.
[11] رواه البخاري ومسلم.
[12] [العلق7]
[13] [الجن17]
[14] المستدرك على الصحيحين للحاكم،  هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه  
[15] [يونس107]
[16] ]محمد17[
[17] ]الصف5[

الأحد، 19 أكتوبر 2014

تفسير سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, الحمد لله الذي يسر لنا هذا اللقاء وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءًا مباركًا مرحومًا.. اللهم آمين.

 ما مكانة سورة الفاتحة في الدين؟ هي أم الكتاب, يعني الدين كله فيها, فالدين بالإجمال في الفاتحة وبالتفصيل في بقية سور القرآن. نحتاج أن نفهمها بالتفصيل لماذا؟ لأننا نقرأها في كل ركعة في الصلاة، ركن من أركان الصلاة.

"الاستعاذة والبسملة: وقوع الاستعاذة والبسملة لهم علاقة قوية بين بعض، فالاستعاذة من أجل دفع شر الشيطان أن يقع عليك وسوسته أثناء الصلاة، والبسملة من أجل أن تخرج من الشر الثاني الذي هو الاعتماد على النفس.
الاستعاذة : ألوذ بالله وأعتصم به وأستجير بجنابه من شر هذا العدو أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. 
البسملة : وأستعين بالله متبركاً باسمه تبارك وتعالى -لا بحولي ولا بقوتي- أن أفهم ويحضر قلبي حال قراءتي للفاتحة" .

 المستحضر للفاتحة يقع في قلبه أن الله عز وجل يكلمه: ((فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) . إذن في الفاتحة لابد من أجل أن يردّ الله عليك تكون كل آية في الفاتحة حاضر القلب فيها, فلما تنتهي السورة تقول (آمين) يعني اللهم استجب, فأنت كنت تدعو, وكما اتفقنا الله عز وجل لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. فإذا كنت لاهي (آمين) ليس لها معنى؛ لأنك كنت ساهيًا.

 اتفقنا أن سورة الفاتحة هي أم الكتاب, كونها أم الكتاب معناها أن الدين إجمالا موجود في الفاتحة.
الأمر الثاني: لابد أن تتصور وأنت تصلي أن الله تعالى يكلمك فيها, فيكون قلبك حاضرًا ليكلمك الله.
الأمر الثالث: ثمَّ في الفاتحة أنت تطلب من الله بدليل قولك (آمين) فإذا لم يكن قلبك حاضرًا معناها ما استفدت من قراءتك. ليكون قلبك حاضرًا لابد أن تفهم الآيات.. {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ما معنى الحمد؟ يعني يقع في قلبك الثناء على الله. الألف واللام التي في (الحمد) معناه كل أنواع الحمد, تسمى (أل) الاستغراق؛ يعني كل أنواع الحمد لله ما هي إلا لله تعالى, اللام في (لله) يعني يستحقها الله. ما معنى الثناء؟ ماذا يقع في قلبك بمعنى الثناء؟ أولًا الحمد غير الشكر, ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟ الشكر يكون على نعمة وعطية أتتك، أما الحمد فهو أمر آخر مختلف, الحمد أنت تعتقد أن الله كامل الصفات، ثمَّ من كمال صفاته له جميل الإنعام عليك. الشكر يأتي لما تأتي النعمة,

أما الحمد طول الحياة المفروض أن تكون حامداً لما تراه من كمال صفات الله عليك وعلى غيرك, يقع في قلبك أن الله كامل الصفات. إذا اعتقدت أن الله كامل الصفات لابد أن تعتقد أنه وحده كامل الصفات وكل أحد غير الله ناقص الصفات. لا تنسوا أنكم تخرجون من الحج بهذه المعلومة: كل العباد على حد سواء فقراء، والله وحده الغني الحميد إذا تيقنت أن كمال الصفات لله وأن كل أحد غير الله ناقص الصفات ماذا تفعل؟ تتعلق بمن؟ تؤله من؟ .. ما تتعلق إلا بالله وما تعظم غيره؛ لأنك تعلم يقينا أنه لا كامل الصفات إلا الله ولا أحد أجمل عليك الإنعام إلا هو سبحانه وتعالى. الشاهد على ذلك الذي ترى فيه آثار أنه كامل الصفات تربيته لكل العالمين أنه رب كل العالمين, ربهم أوجدهم, أعدهم, أمدهم. لو كنت مسؤولًا أن تدبر شؤون بيتك وشؤون بيت أختك مثلًا, سافرت وأنت مسؤولة عن بيتك وبيت أختك ما تشعري أنك قادرة على إتقان بيتك وبيتها, لو بيتك وبيت أختك الأولى وبيت أختك الثانية والثالثة؟! لا يمكنك! فأنت عبد يصعب عليك تدبير نفسك، فقط بيتك وبيت أهلك, بل أنت نفسك يصعب عليك أحيانًا تدبير نفسك، لابد أن يكون معك مُعين. فسبحان من دبّر كل الخلائق أوجدهم وأعدهم وأمدهم وأعطى كل واحد مصلحته بلغته إلى حده. إذن معنى ذلك الذي يشهد أن الله كامل الصفات وأن العباد ناقصين الصفات تدبير الله العباد.

انظر إلى تدبيرك لا تستطيع تدبير نفسك، وانظر لمن دبر من في السماوات والأرض! لما يأتي الحج وترى أننا لسنا وحدنا المسلمين، وتنظر إلى الناس من مشارق الأرض ومغاربها وما تعرف لغتهم, فهؤلاء كلهم وغيرهم من أهل الكفر يدبرهم الله, يحيي من أراد، يسوق الخير بألطف ما يكون وليس فقط للبشر. { رَبِّ الْعَالَمِينَ }العالمين أتت من العلامة -علامة على الله- كل شيء موجود هو علامة على الله. فالله مربي للإنس والجن ومربي للأرض وما يخرج منها والسماء وما ينزل منها كل هذا تحت تدبير الله, فأنت ترى في الكون تدبير الله الذي يشهد لك أن الله كامل الصفات في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.

 إذن ما معنى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؟ الحمد الثناء على الله لما تراه من كمال صفاته الحمد لله: يعني أنا أثني على الله معتقدة أنه كامل الصفات, ما الذي يشهدك على أن الله كامل الصفات؟ أن الله (رب العالمين) أوجدهم وأعدهم وأمدهم. إذن افتح عينيك وانظر لعجيب تدبير الله الذي تجده في نفسك وتجده في غيرك وتجده في المخلوقات وكيف أن الطفل الصغير أول الولادة عندما يأتي لأمه يقع في قلب الأم المحبة فتعتني به غاية الاعتناء، تكون في تعب والمتوقع أنها تدفعه لكن يوقع الله من تدبيره في قلبها شدة الشفقة وشدة الحب له من أجل أن ترعاه, هذا من عجيب التدبير أن طفل لا يملك لنفسه شيء يسخر الله له عاطفة ومحبة بهذه الصورة, مع أنه لما تنظر إليه لا يبادلك ولا ينفعك ولا يكلمك ولا شيء إنما بمثابة العالة عليك، مع ذلك يوقع الله في قلب الأم التعلق به والمحبة والشفقة من أجل الرعاية. هذا كله من عظيم تدبير الله، يشرح صدور الناس بعضهم لبعض للإعانة، وأحيانا العكس تغلق الصدور, لكي يزيد ثناؤك على الله . انظر إلى عظيم تدبيره في السماء والأرض، انظر إلى ما يقع عليك خاصة وعلى العالمين عامة, من أجل ذلك لا تتصور أن الله خلقنا وتركنا هملا؛ الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا. { رَبِّ الْعَالَمِينَ } أنت تحمد الله وتثني عليه لأنه ربى عباده, { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } وتثني عليه أنه رباهم برحمته. انظري للآيات مرتبطة ببعضها {الْحَمْدُ للّهِ } الذي وصفه أنه {رَبِّ الْعَالَمِينَ}أنت تثني على الله بما تجده من عظيم تدبيره وعظيم تدبيره مبني على الرحمة. { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

 الرحمن الرحيم: اسمان لصفة واحدة والصفة هي الرحمة.
الرحمن: ذو الرحمة الواسعة.
الرحيم: ذو الرحمة الواصلة.
نحن العباد كم من المرات يقع في قلوبنا رحمة لأحد لكن هل كل ما وقع في قلبك رحمة استطعت أن توصلها للمرحوم؟ أحيانًا يقع في قلوبنا رحمة على أحد لكن ما نستطيع نساعده, وأحيانًا رحمتنا ضيقة ما نرحم إلا أولادنا, جيراننا والذين نعرفه، أما غيرهم ما نرحمه. الله تعالى الرحمن ذو الرحمة الواسعة, والرحيم ذو الرحمة الواصلة فلو رحم أحد لابد أن تصله. لكن وصول الرحمة ليس كما تتصور تمطر عليك مطرا ، لذلك الرحيم مناسبة لاسم اللطيف؛ يعني يرحمك بألطف ما يكون شيء ما يخطر على بالك؛ ممر ضيق في الحياة تتصور أن ليس فيه رحمة فيكون هذا الممر الضيق مخرج إلى رحمة الله. لكن كيف تصل؟ بلطفه تعالى, بألطف ما يكون شيء ما تنتظره يكون سبب لرحمته. يقول الله تعالى في موطن آخر: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لماذا اجتمع الرحمن مع صفة الاستواء على العرش؟ ماذا تعتقدون في صفة الاستواء؟ أن الله على العرش استوى، وأن الله عز وجل عالي على خلقه مستوي على عرشه استواء يليق بجلاله بدون كيف المهم استواء يليق بجلاله. العرش أكبر المخلوقات وأوسعها, السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في فلاة والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة؛ فهذه صحراء لو رميت فيها حلقة فالكرسي بالنسبة للعرش مثل لو رميت حلقة في فلاة يصبح هذا من أوسع المخلوقات. لماذا أتت صفة الاستواء على العرش مع صفة الرحمن؟ قال أهل العلم: أوسع الصفات أتت مع أوسع المخلوقات كما أن كرسيه وسع السماوات والأرض والعرش أعظم من الكرسي كذلك الرحمة أوسع الصفات؛ يعني رحمته وسعت كل شيء لا يوجد شيء يخرج من رحمته سبحانه وتعالى. فالله يعامل عباده بالرحمة قبل أن يعاملهم بغضبه بمرات و مرات. ما الفرق بين الرحمن والرحيم ؟ الرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة؛ رحمته وسعت كل شيء لذلك {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال أهل العلم: "أوسع المخلوقات مع أوسع الصفات", أوسع الصفات الرحمة, وأوسع المخلوقات العرش. من أجل ذلك اقترن الرحمن الذي هو اسم من أسماء الله العظيمة التي تدل على الرحمة بأعظم المخلوقات الذي هو العرش.
 إذًا العباد يرحمون، لكن هل رحمتهم واسعة؟ لا, العباد يرحمون لكن هل رحمتهم واصلة؟ لا.

ما الفرق بين الواصلة والواسعة؟ واسعة: أي أنها تسع كلَّ شيء. واصلة: تصل لكل أحد يريد الله أن يرحمه. واتفقنا أن اسم الرحيم يناسب اسم اللطيف؛ لأنَّ اللطيف له معنيين:
1. أنَّه دقّ ولطف علمه، أتى من جهة صفة العلم، دقّ علمه يعني يعلم دقائق ولطائف الأحوال، من أجل ذلك يعلم دقائق حركة قلبك، قال تعالى في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ، {وَمَثْوَاكُمْ}: -نسأل الله من فضله- إما إلى الجنة، أو -نعوذ بالله- إلى النار، مصير الناس إما إلى جنة أو نار على حسب متقلبكم، يعني على حسب تقلب قلوبكم، وفي الحديث: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) إذًا القلوب هي محط نظر الرب.
2. يأتي المعنى الثاني الذي يناسب الرحيم، أنه يلطف بعباده، يوصل لهم الرحمة من حيث لا يحتسبون، يوصل لهم الرحمة من مضائق المسائل، من مضائق المواقف، شيء أنت لا ترى فيه أبدًا أي آثار الرحمة، ثم يأتيك اللُّطف من داخله من مضائق المواقف، شيء أنت لا ترى فيه أبدًا أي آثار الرحمة، فيأتيك اللطف من داخله. إذًا الرحيم ذو الرحمة الواصلة، رحمته تصل إلى العباد بألطف ما يكون من طريق، بل هو إنَّه سبحانه قد يُقدِّر على العبد المكاره من أجل أن يرفعهم إلى ما يحبونه.

مثال: من رحمة الله بعباده أنهم إذا تعلقت قلوبهم بغيره؛ أذاقهم مرَّ التعلق بغيره إلى أن يخرج من قلبه، ويصبح حبه حب طبيعي. قال تعالى: سورة التوبة {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} ، هؤلاء كلهم حب طبيعي، لكن تأتي لحظة يصبحون أحبَّ إليكم، إذا كانوا أحبَّ إليكم؛ {فَتَرَبَّصُواْ}يعني انتظروا الله يخرجها من قلوبكم. مثال آخر: الرُّقية بالنسبة للمريض علاج وسبب، لكن عندما يقع في قلبك التعلُّق بالرقية أو بالراقي من دون الله؛ يصبح هذا الراقي بنفسه سبب لمآسيك، سبب لعذابك. لذلك السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يسترقون، لا يطلبون من أحد الرُّقية، هم يرقون أنفسهم بأنفسهم، نعم لا يوجد إشكال أبدًا أن ترقي نفسك بنفسك، لكنهم لا يطلبون الرقية؛ لأنَّ قلوبهم لا تتعلق بغيره. الذي وقع في هذا انتهى، أصلًا الذي يقع في هذا سابقًا ويتعلق؛ فهذا ربي ما يتركه، يجعل هذا الراقي هو سبب ناره، يجعل هذا الولد جمرة النار، يجعل هذا الزوج جمرة النار، الرُّقية مسألة سهلة، اقرئي الفاتحة سبع مرات، ولا بأس أن يرقيك أحد، لكن لا تتعلق به, فممكن أحد يتبرع إذا رآك مريضًا، ويقرأ عليك، لا تردِّيه، لكن لا تتعقلي إلَّا بالله. من رحمة الله إذا تعلَّق قلبك بغير الله؛ جعل الله الذي تتعلق به هو سبب عذابك، فتبغضه وتدفعه، حتى لا يبقى في قلبك إلا الله. من رحمة الله بعباده أنَّه سبحانه يصرف عنهم كلَّ تعلُّق يتعلَّقون به بغيره، لذلك أهل العلم يقولون: الله -عز وجل- يَغِير على قلب عبده، فيطرد من قلبه أي أحد غيره. فمهما تعلَّقت ومهما تلذذت بالناس؛ في لحظة تنكشف لك ورقة منهم، تتحطم وبعد ذلك تتركهم، وتذهب تنتقل إلى شخص آخر، تقول إن شاء الله التجربة الثانية تكون أحسن، لا يوجد تجربة أبدًا تكون أحسن، كل الناس سواء، كلهم فقراء، لا تجعل في قلبك إلا الله، اطلب من الله أن يقع في قلبك حبّه، وحبّ من ينفعك حبه عند الله، لا ينفعك لنفسك، بل ينفعك عند الله.. إذًا من رحمة الله بعباده الرحمة الواصلة أنَّه يوصل لهم الرحمة بألطف ما يكون، ومن لطفه في هذه الرحمة أنَّه سبحانه وتعالى قد يُقدِّر عليهم المكاره؛ ليجلب لهم المصالح.

تأمّلي الحمل والولادة ، الحياة مثل الحمل والولادة، عندما تأتي امرأة عندها أطفال، وتقول لك: أنا ليس لي طاقة أن أحمل مرة أخرى من المكاره، والتي ليس عندها أطفال تقول لها: لا، هذه المكاره محبوبة، مع أنها مكاره بمعنى المكاره، لكن يخرج في لحظة المكاره فبعد المكاره ما تنتهي كأن شيئًا لم يكن، هذه رحمة الله يأتي لطف الله، تكون في مأزق في المسألة، ثم تخرج إلى الرحمة التي تنسيك المكاره، سبحان من جعل لكلِّ شيء سببًا، وجعل لكلِّ نوع من رحمته صورة في الحياة تتصورها. هكذا رحمة الله، هكذا لطف الله، لو أخذت المسألة منفردة، لو أخذت الوحم منفرد مَكْرَه، لو أخذت الولادة منفردة مَكرها، لكن لو أخذت العملية كلها على بعض؛ تصبح نعمة، تنسين الألم بعد ما تولدين، مباشرة تصبح فرحة، هكذا هي رحمة الله تأتيك، تَخرج من المكاره إلى الرحمة العظيمة التي تُنسي المكاره.

إذًا الله رحمن ذو الرحمة الواسعة، رحيم ذو الرحمة الواصلة يوصلها لكل عبد كما يناسبه, لا تنتظر أن تنزل الرحمة مطرا، الله تعالى في أول سورة الملك يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني يرحمني أيسر ما يكون, لكن أليس الله عز وجل يقول للشيء كن فيكون فلماذا لا تصبح الرحمة "كن فيكون"، وينتهي الموضوع؟ الله عز وجل خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملًا، فلو نزلت عليك الرحمة مرة واحدة؛ لن يتبين الأحسن عمل من الأسوأ، ثم الدرجات العلا في الجنة ستكون لمن! إذن معنى ذلك أن الله –عز وجل– رحمن ذو الرحمة الواسعة التي تشمل كل العباد، قادر على إيصالها لكل العباد، لكن من عظيم رحمته بعباده أنَّه يوصل لكل عبد الرحمة من مكان، من جهة، ومن وضع .

مثال: تأتي امرأة تشتكي لأخرى زوجها أنه كثير الكلام، فتقول الثانية لها: احمدي ربك زوجي لا يتكلم أبدا! فهذه أتاها شيء هي بالنسبة لها بلاء، والثانية أتاها شيء بالنسبة لها بلاء. فهكذا هي البلاءات، أنت تتصور أنه لو أتاك شخص صامت ستكون أحسن، هذا الذي تعرفه عن نفسك دليل على أنك لا تعرف عن نفسك، الآن من تصورك لرحمة الله أن تعلم أن كل ما آتاك من قَدَر هو الذي يناسبك، أنت لا يناسبك إلا هذا، واحد يتكلم لأنه إذا ما تكلم ستتكلمين أنت، فأحسن يكون هو المتكلم. تأتي امرأة تقول أنا عندي دِين، وارتبطت بشخص قليل الدين، ربنا أتى لك بشخص قليل دِين؛ لأنه يناسبك وستصبحين المسؤولة عنه وتشدي نفسك، ولو كان أكثر منك دِين ستكسلين وستعتمدين عليه. إذًا من رحمة الله بالعبد أن يرزق كل عبد ما يناسبه، هذا من عظيم إيصاله سبحانه وتعالى الرحمة للعباد، يعني أنت الآن عندما يكون عندك مشاغل، عندك أحزان؛ لا تتصور أن هذه الأحزان ليست من رحمة الله، بل من رحمة الله الابتلاء بالأحزان؛ لأنك لو لم تحزن ستجد نفسك تنتقد فعل الله، تتكلم على الله، فالأحسن أن تكون ملتهٍ بأحزانك منكسر بين يدي الله؛ لعل هذا الحزن يرفعك عند الله . قد تمر على مواقف شخص يكون مريضًا، فيكون منكسرًا بين يدي الله، وأول ما تأتيه الصحة يعصي الله! فأفضل أن يكون مريضًا.

إذًا كلٌّ منّا الله عز وجل يبتليه بما يناسبه، ويكسر قلبه بالبعد عنه، يعني يبتليك بأقدار حتى تقرِّبك منه، إذًا هذا أعظم معاني الرحمة أن الله يبتلي العباد بأقدار تقرِّبهم منه، لكن ليس كل العباد يتقربون وينتفعون .

وَضَعك الله في أحسن وضع؛ من أجل أن يكون هذا الوضع الذي أنت فيه سبيل للقربى له، شخص أعطاه الله الصحة؛ لأنَّ الصحة هي التي تقرِّبه منه، وآخر أعطاه المرض؛ لأن المرض هو الذي يقرِّبه منه، فذلك الصحة تكسره بين يدي الله شكرًا، وهذا المرض يكسره بين يدي الله ذُلًّا وطلبًا، الله عز وجل عظيم الرحمة، ذو الرحمة الواسعة، رحمته تصل لكل عبد، لكن ليس معنى رحمة الله أن يعطيك هواك، رحمة الله أن يرفعك، يُجْرِي عليك أقدار ترفعك عنده، ليس كل الناس يستقبلون هذه الرحمة كما ينبغي.

عندما تقول {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يرد الله عليك يقول: أثنى عليَّ عبدي ... عندما تثني على الله مرة واحدة، يكون وصفك أنك حمدته، عندما تثني عليه مرتين، تصبح أثنيت عليه، وعندما تثني عليه أكثر من ذلك، وصفك مجدته. فعليك أن تقف عند كل آية وأنت معتقد أن الله يكلمك أنت خاصة، لو كنت في الحرم، ثلاثة مليون يصلون، الله تبارك وتعالى يكلم كل عبد منفصل كلامًا يليق بجلاله، أمر لا تستطيع إدراكه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ماذا تعتقد في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؟ كما هو معلوم الله مالك يوم الدين ومالك كل الأديان, لكن في الدنيا كلنا مشتركين في هذا البلاء العظيم (المُلك) أنت تتصور أنك تملك سمعك، وبصرك، لسانك، تملك مالك وتملك أولادك وبيتك، هذا هو الذي يجعل غشاوة على عينك والصحيح: لو تريد أن تتدبر جيدًا .. هذا البصر في لحظة يُخطف، وهذا السمع في لحظة يُخطف، نسأل الله أن يحفظ ذرياتنا وشبابنا. شخص يركب سيارته وهو بكامل قواه، ثم في لحظة واحدة يفقد هذه القوة كلها بحادث، معنى ذلك أن الإنسان لا ينخدع هذه الخديعة، أنت تتصور أن صحتك جيدة؛ لذلك لا تستعمل "لا حول ولا قوه إلا بالله"، تتصور أنك تملك المال؛ لذلك لا تتصور المفروض أن يقع في قلبك أن هذا المال مال الله، أنت تعلم أن هذه الأموال مجرد أوراق، وانهيار السوق العالمي يفهِّمك أنها مجرد أوراق، والذي دخل الحروب يعلم هذا الشيء أنها أوراق، وأنتم مررتم بمثل هذا أيام غزو العراق للكويت، كان عندهم أوراق في محافظهم ودواليبهم، ثم في اليوم التالي أصبح لا شيء، ليس له قيمة، يعني هذه الأوراق مجرد أوراق، لا بد أن تشعر اتجاهها أنها مجرد أوراق، هذه مشاعر صعبة، أنت مرِّن نفسك على أن تشعر به . مَن مالك الملك على الحقيقة؟ الله عز وجل، ينزع الملك ممن يشاء، يعطيه من يشاء. معنى هذا لا تتعامل مع الأشياء على أنك تملكها ملكًا مطلقًا أنت لا تملك إلا شيئين:
 1. لا تملك إلا ما أكلت فأفنيت
 2. أو ما تصدقت فأبقيت.
 والذي تركته هذا مال للورثة، الذي يأتي لنا الغرور في الحياة أن الله ابتلانا بالملكية، نظن أنفسنا نملك الصحة والعافية، ونملك المال، وهو في الحقيقة هذا المال في لحظة تشعر نفسك أنك لا تستطيع استخدامه, وانهيار سوق السعودية في الأسهم أحد هذه الأدلة، رأيت كيف الناس كان عندهم وعندهم، ومرة واحدة أصبح ليس عنده أي شيء، مالك الملك هو الله عز وجل .

إذًا يوم القيامة يكون سبحانه وتعالى قد جعل العباد سواء من جهة ملكهم، فأنت عندما تعيش الحياة؛ أول شيء لا تتصور نفسك مالكًا. قد ترى شخص غني أمامك، ماذا يقع في قلبك تجاه هذا الغني؟ أنه مالك، اعلم أنه لا يملك الملك إلا الله، من أجل هذا لا تعلِّق قلبك بأحد. 
عندما تسمع أن الله مالك يوم الدين، وتعرف أن ابتلاءنا كله أتى من جهة الملك أستفيد استفادتين :
 أ ) على نفسك: لا تتعامل مع نفسك أنك مالك مطلقًا، بل الذي يملك على الحقيقة هو الله.
ب) على الناس: تجد أمامك شخص عنده مُلْك، ماذا يقع في قلبك اتجاهه؟ في الحقيقة إنما هو عبد مسخر، سخَّره الله على هذا المال، فعندما تريد مال، وتجد غني؛ فلا تتصور أن هذا هو الذي يعطيك، بل حقيقته أنه فقير، اطلب من مالك الملك. عندما تحتاج مال، أو عندما تحتاج حتى مشاعر وأحاسيس، عندما تحتاج أقل ما تحتاج، أو أعلى ما تحتاج، وتجد شخص أمامك يملك الذي تحتاجه ماذا يقع في قلبك؟ أن الله عز وجل مالكه في الحقيقة، وإنما ملَّك الله هذا العبد على هذا الشيء؛ ابتلاءا لك، تتمسك بالذي ملك في الدنيا أم تتمسك بمالك يوم الدين المالك الحقيقي؟ نحن في المواقف نكون متفاوتين, فالملك عندنا أصبح حجاب بينك وبين مالك الملك . يعني شخص يملك أمامك أصبح كأنه حاجر بينك وبين مالك الملك، وهو الصحيح أن الذي في حقيبته ما يملكها إلا الله, عندما يكون عندك دَيْن وشخص يجلس بجانبك، ويفتح حقيبته يريد أن يخرج لك النقود، قلبك يكون متعلق معه, هذه هي المصيبة أنت لا يتعلق قلبك إلا بالله هذا معنى ليس سهل، يحتاج منا إيمانًا حتى نصل لهذه الحالة..

إذن {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ما معناها؟ أنه سبحانه وتعالى مالك ليوم الدين والدنيا، مالك للملك إطلاقًا, لكن لماذا مالك يوم الدين؟ لأن الله ابتلانا في الدنيا بأن كل واحد منا يملك شيئًا، فصار ملكنا للأشياء حاجز بيننا وبين التعلق بأن الله مالك الملك. من يتخطى هذا الحاجز؟ الذي يزيد إيمانه بفقره وبغنى الله، كلما زاد إيمانك بفقرك، كلما زاد تعلقك بالله . لذلك يُشهدك الله عز وجل فقرك، يأتي أحد يقول لك: أنجز لي هذه المعاملة، فترد عليه: والله لا أملك، والله لا أستطيع، وهو لا يصدقك، فيقول لك: أنت شخص في هذا المكان ولا تقدر, وأنت تكون صحيح تعرف أنك لا تستطيع. أو أحيانا يقع في قلبك أنك سوف تعمل لفلان كذا وكذا ثم تبحث عن أوراقه ولا تجدها، تأتي أوراقه إليك، وتنساها، إلى أن الله يُخرجه من عندك وأنت لم تفعل شيئًا؛ لأنك أنت لا تملك لنفسك النفع؛ فكيف تملكه لغيرك؟! لا تملك أن تدفع عن نفسك الضر؛ فكيف تملكه لغيرك؟!

إذًا لابد أن تعلم أن مالك الملك على الحقيقة هو الله. أذكركم بوصية ابن عباس مرة أخرى: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ)) يعني أنت لا تملك شيئًا على الحقيقة إنما مالك الملك هو الله. لو كان هناك خلاف بينك وبين الزوج، أو خلاف بينك وبين الجارة، مَن الذي يملك قلب هذه الجارة أو هذا الزوج؟ ما يملكه إلا الله، لا تطرقي أبواب غير الله، لا تطرقي إلا باب الله؛ لأن باب الناس يجعلك ذليل لهم، لكن باب الله يجعلك صاحب العزة.

كلما زدت إيمانًا، عاملك الله برحمته ولطفه، وساق إليك الخير من حيث لا تحتسب. تريد أن تُقدِّم أوراقك؛ اذهب قَدِّم وقلبك معلق بالله ويائس من كل أحد، تريد أن تذهب للطبيب، اذهب وقلبك معلق بالله.

 الواسطة فيها مخالفة من جهتين: من جهة الشريعة ومن جهة العقيدة، عندما تذهب للواسطة تكون ذليل، نقطة ذُل مع أنه لا يملك شيئًا، ولو كان سببًا شرعيًّا قلنا لا بأس؛ لكنه سبب ممنوع شرعًا.

لا تنسوا وأنتم تقولون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أن الملك ابتلاء ابتلانا الله به؛ ليرى بعد ما نملك نستغني عنه أم أن قلوبنا معلقة به؟ أنت الآن مالك الصحة من أعطاك الصحة؟ ما أعطاك إلا الله، ابتلاك بملكك للصحة تشكر أم تكفر؟ ! إذاً الملك ابتلاء، تذكَّر آية سورة الإنسان {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} أنت لا تملك، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} يعني أنت أصلًا لا شيء، وبعد ذلك صرت سميعًا بصيرًا؛ حتى يبتليك الله بعد ذلك {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} لما ملَّكك السمع والبصر بعد أن لم تكن شيئًا مذكورا ابتلاك هل تكون شاكرًا أم تكون كفورًا؟ هذه مصيبة الملك، العباد يملكون، ويعتقدون أنهم يملكون على الإطلاق، وأنت في الحقيقة لا تملك حتى صحتك.

 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تأتي القضية المهمة، بعد ما أثنيت على الله؛ يأتي الخبر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: يعني أعبدك، ولا أعبد أحدًا غيرك.
{وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: يعني أستعين بك، ولا أستعين بأحد غيرك, في ماذا؟ في عبادتي، بل وفي حياتي كلها .

 أولًا: يعني يعتقد أن ربه عالٍ عليه وهو تحت, فالعبد وصفه ذليل، منكسر. نعبد: طريق معبّد: يعني طريق مذلَّل، العبد منكسر، ذليل لربه، أنت لا تصبح عبد حين تمنُّ على ربك بالعبادة وتقول أنا حجيت، وصليت، وبنيت مسجدًا ... في سورة الطور يقول الله عز وجل {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} وقايتك من عذاب السموم كيف؟ بِمِنَّة الله عز وجل، فلابد أن تتصور حقيقة نفسك. في صحيح البخاري في كتاب الرقاق أورد البخاري هذا الحديث: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ)) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ)) . لا تتصور أنك تدخل الجنة بعملك، فنحن نسعى، نطوف، نفعل كل الذي نقدر عليه بقدر ما نستطيع، ونقارب الصواب والسُّنة، ثم تتصور أن عملك هو الذي يُدخلك الجنة؟! لا، سددوا وقاربوا، فقط افعلوا هذا السبب، ثم أبشروا أن الله يعاملكم باسمه الغفور الشكور، يغفر لك تقصيرك، ويشكر لك قليل من عملك، قليل فقط، لكن ليس قليل وأنت مستهتر، لا تكن ممن اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا.

فالناس ينقسمون إلى قسمين:
 1- ناس كما قال الله في يحيى عليه السلام: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} الذي يأخذ الكتاب بقوة ويأخذ العمل بقوة، يعني يسدد ويقارب ويبشر.
2- والذي يتخذ دينه لهوًا ولعبًا يقول: أنا أحسن من غيري، صليت وحجيت، وأذكر الله أحسن من غيري! لا تمنُّوا على الله بأعمالكم، الله عز وجل يمنّ عليكم أن هداكم، الله عز وجل غني عنكم، غني عن العالمين.

 إذًا ماذا يقع في قلبك؟ أنك أنت المحتاج، أنت العبد الفقير المنكسر الذليل بين يدي الله، نسأل الله أن يشرح صدورنا لهذا المعنى؛ لأن هذه العبودية معنى عالي، يوجد ناس يعيشون حياتهم عبيد لهواهم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فكن عبدًا لله.
كيف عبد لله؟
يعني عبد منكسر ذليل له، عالم بأنه كامل الصفات، وعالم أنه سبحانه وتعالى ما يُصَرِّف عليك إلا ما ينفعك، لا تتصور العبادة بكثرة العمل الصالح، بل بكثرة الذل وقت العمل الصالح. في الحديث عندما قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس وبين الصحابة قال: ((فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ)) مُدَّ أحدهم يعني مقدار حفنة اليد، نحن لو أنفقنا مثل أُحُد ذهبًا ما نبلغ هذه الحفنة منهم، لماذا؟ لأن قلوبهم فيها قمة التذلل والانكسار.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ماذا تحتاج؟ يكون واقع في قلبك الانكسار، الذل، الشعور بالفقر، تشعر أنه حقيقة لا حول لك ولا قوة، تشعر أن أهم شيء يا رب ما يكون بك غضب علي، إذا لم يكن بك عليّ غضب لا أبالي .

إذًا العبد الذليل يكون محور حياته كلها أن الله يرضى عنه، يبذل كل جهوده أن يرضى الله عنه، فيكون ذليلًا منتظر رضاه، إذا ما أصبحت عبدًا لله؛ ستصبح عبدًا لغيره، يعني ستصبح عبد الزوج، عبد الجيران، عبد الأحباب والأصحاب، زملاؤك في المدرسة والمعلمات اللاتي معك، عبد الدينار، عبد الخميلة.. فالشرف لك أن تكون عبدًا لله؛ لأنه سبحانه وتعالى كامل الصفات، أنت لا تستطيع أن تحب أحدًا إلا إذا كان عالي كامل، من أجل هذا لابد أن لا تنسى آية الكرسي {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}، ثم ختُمت بأنه {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، إذًا هو وحده العليّ الذي تتعلَّق به، هو وحده العظيم الذي تُعظِّمه، فإذا علمت أنه عليّ؛ تعلقت به، فصرت منكسرًا له، ذليلًا له، لابد أن ينكسر قلبك قبل أن ينكسر لسانك، لابد تكون ذليل بين يدي الله، راضٍ به .

من رضيَ؛ فله الرضا. كلما زاد انكسار قلبك؛ زادت عطايا الله لك، كيف سينكسر قلبك؟ لا تستطيع أن تكسر قلبك بنفسك، ولا تستطيع أن تتذلل، إلا أن تستعين بالله أن يرزقك الذل، إذًا هذه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

إذًا من أول الكلام: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني الثناء على الله لكمال صفاته، وأعظم ما ترى فيه كمال الصفات أنه رَبى العالمين، رَبى العالمين برحمته سبحانه وتعالى، فهو الرحمن ذو الرحمة الواسعة، الرحيم ذو الرحمة الواصلة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ومالك الدنيا أيضًا، فهو سبحانه وتعالى مالك يوم الدين, تفهم أنه تعالى مالك يوم الدين لما تزول الحواجز, فابتلاك في الدنيا بماذا؟ بملكك، لكن في الحقيقة أنت لا تملك، إنما الذي يملك على الحقيقة هو الله. بعد ما أثنيت على الله، يبدأ الطلب، تقول: إياك نعبد يا رب، ومن أجل أن أعبد، إياك نستعين، يرد الله عليك يقول: (هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) هذه على { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيستجيب الله لك استعانتك .

ثم تأتي الكلمة المهمة: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} جاء الطلب العظيم؛ أنك تطلب من الله الهداية إلى الصراط المستقيم . الهداية الى الصراط فيها أمرين:
1- أن تتعلم هذا الصراط المستقيم؛ أي تتعلم سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويقع منك الإخلاص .
2- وأن تَثْبُتُ على هذا الطريق. الصراط المستقيم هذا كل يوم تحتاج أن تطلبه؛ لأن انحرافك عن الصراط المستقيم سهل، بسرعة، الدنيا تشتتك عن الصراط المستقيم.

إذاً عندما تقول {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}ماذا يجب أن يكون واقع في قلبك؟ يا رب اهدني الصراط المستقيم؛ لأصل إليك بطاعتك، بعبادتك، حتى بتربيتك لأولادك اطلبي الصراط المستقيم من الله في كل أمر يختص بحياتك في الدنيا، أو بحياتك في الآخرة؛ من أجل أن لا تأتي اللحظة التي تقول فيها: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، أنت من هنا اطلب الصراط المستقيم. الله عز وجل لمن تطلبه وقلبك حاضر ماذا يقول لك؟ يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل؛ يعني لا يردك، ولا يخذلك، لكن لابد أن تكون حاضر القلب، وقت الفاتحة لا ينفلت قلبك؛ لأنك تكلم الله، تسأله فيعطيك، فتخيلي على قدر الركعات أنت تقولين {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}, والله عز وجل يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. ماذا يعني الصراط المستقيم؟ يعني أن تسير في أعمال قلبك وفي أعمال جوارحك على ما يرضي الله, ماذا يُرضي الله؟ يرضيه أمرين:
 1) أن تتابع سنه النبي صلى اله عليه وسلم.
 2) وأن يكون عملك طالبًا فيه رضى الله وحده. وحتى يكون عملك فيه متابعة للسنة، وفيه طلب الإخلاص لابد أن تتعلم، إذًا المطلوب منك أمرين
1. كأنك تقول يا رب علمني الصراط المستقيم
2. وثبتني عليه.

 {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ولا تجعلني من المغضوب عليهم ولا الضالين. أما المغضوب عليهم: فهم اللذين تعلموا ولم يعملوا ، كاليهود. وأما الضالين: فهم الذين عملوا من غير علم ، كالنصارى. فكل يوم تجد نفسك كلما دعوت؛ علمك الله عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، علمك الله عنه، علمك عن دينه، رباك، أراك، فأنت بكل ما تملك من قوة قل: اهدنا الصراط المستقيم؛ من أجل هذا العباد من حال نقص إلى حال كمال، يكون إيمانهم ضعيف، ثم يقوى إيمانهم . من العباد من ينزلون إلى تحت، ومنهم كلما زادوا قوة في اهدنا الصراط المستقيم؛ زادهم الله، وزادهم علمًا إلى أن يبلغوا من السن الأربعين، وتأتي هذه المرحلة الفاصلة في الحياة بعد ما يربيهم الله لما يبلغ أربعين عامًا فيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} كلما تقدَّمت إلى الأمام كلما زادك الله فهمًا عنه وعلمًا عنه . لذلك من الفخر أن تبلغ الأربعين وأنت على الإسلام ثابتًا، تقوم تسأل الله أن يُكمِل عليك النعمة إلى ما بعد ذلك.

الإنسان المفترض عندما يصل للأربعين يكون استوى تفكيره، فهِم عن الله، علَّمه الله، فتصبح السنوات التي بعده سنوات زيادة إلى الأعلى، كل الذي قبل الأربعين فيه صعود ونزول، بعد الأربعين المفترض كل الخط إلى الأعلى، من أجل هذا عندما يبلغ العبد الأربعين عامًا يقع قلبه الفخر أن الله ثبته إلى الأربعين، بعد ذلك يبذل جهوده أكثر أن يزداد شكرًا على ما مضى، وأنه نجّاه من أن يكون في فتره الشباب الأول بعيدًا عن الدِّين. الله عز وجل ثبّته على الدين إلى الأربعين هذه نعمة في حدّ ذاتها، بعد الأربعين يا الله أزداد شكرًا على ما مضى، وأزداد عملًا فيما هو مستقبل.